حيفا ... ساطعة الانوار ليلا ...... حبيبات الماء تتناثر عاليا من وقع إرتطام الموج بصخرها العنيد.... وبين الضوء والموج، تخفي في ثناياها غربة هائلة من المرارة والقهر،يعيشها افراد زحفوا إليها فجراً سعيا وراء لقمة العيش...
تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل،ولم ينهي محمود عمله في المطعم ،.... التنظيف آخر الطقوس اليومية للعمل الشاق والطويل،تركه صاحب المطعم وغادر ،فبقي وحده يجفف الارض بعد مسحهاعلى وقع إجترتر أحلامه التي تراوده كل مساء،ليضيف إلى رصيده يوما جديدا،ويستزيد في أحلامه أملا عتيدا.
إقترب من مدخل الباب الرئيسي بجرادته التي أنهكت ذراعيه......،لمح قدميّ فتاة ظهرت أمامه فجأة ، رفع هامته...فإذا بفتاة يافعة بدى عليها الانكسار،وقلص البرد جسدها النحيل... أوجس منها خيفة وقال بلغة العمل التي إعتاد عليها :-
هل تريدين خدمة ؟؟
لم تجب ...تقدم نحو الباب بعد أن خالطه شك في أن تكون هذه الفتاة جزء من عصابة أو مجموعة عربدة ...نظر يمينا ويساراً...لا أحد سوى ضوء السيارات المسرعة ...عاد إليها وكرر السؤال ولكن بصيغة أخرى :-
هل أنت بحاجة لطعام ؟؟
بقيت على صمتها
هل تريدين فنجان قهوة ؟؟
هزت رأسها رافضة
فقال :- إذا ماذا تريدين ؟؟؟
إنتظر قليلا قبل أن تحرك لسانها وتقول :-
أريد أن أنام ..... أشعر بالنعاس.....
أجابها بإستهجان :- ولكن هذا ليس فندقا !!
قالت :- أرجوك ...يصعب علي العودة للبيت ...ساعدني في تأمين مكان أبيت فيه حتى الصباح ........
فكر قليلا وقال :- حسنٌ ...إنتظري لحظة حتى أغلق المطعم .............
شرع في إغلاق المطعم وهو يحدث نفسه ......هل أوقعت نفسي في ورطة؟؟....كيف أسمح لفتاة يهودية أن تنام في غرفتي دون ان أعرف عنها أي شيء؟؟ ترى ماذا يخبأ لي المجهول ؟!
أنهى إحكام الاقفال ،وقال لها :- إتبعيني .....
سار هو بخطى متثاقلة ،وسارت هي خلفه منكمشة ...دقائق إنعطف قاطعا الشارع العريض،ودخل زقاقا يفصل بين أبنية قديمة وصعد الدرج الحجري،وما أن وصل إلى نهايته حتى إستل مفتاحا وحرك مفتاح الباب ودخل شقته المعتمة وأذن لها بالدخول قائلا :- لا تخافي .......إدخلي ... سأشعل النور حالا...
أضيئت الشقة القديمة المكونة من ممر ضيق وغرفة ومطبخ متواضع....شرع بلملمة أغراضه المبعثرة ووضعها في صندوقه الخشبي دون ترتيب،وأجلس ضيفته على سريره العتيق ،وقال :-
تفضلي ..... بيت ممتاز اليس كذلك ؟؟
لم تجب.....
.قال :- سأصنع لك فنجان قهوة ....دقائق وأعود...
دخل المطبخ الصغير ،وبدأت اصوات الأواني تكسر صمت الليل،وهي ما زالت تحوم بناظريها في أرجاء غرفته،وتتحسس بيدها غطائه الخشن ووسادته البالية....إرتعدت عندما سقطت عليها كلماته القربية وهو يقول:-
تفضلي......
تناولت فنجان القهوة،بينما جلس هو أرضا ينظر إليها وقد إحتظنت راحتيها فنجانها الساخن طلبا للدفىء....نهض سريعا يبحث عن مدفئة إشتراها قبل مدة من سوق الأدوات المستعملة في ثنايا بيته....وجدها وأشعلها وقربها منها،وخلع عن نفسه معطفه الثقيل ووضعه على أكتافها وجلس مكانه وقال :-
قولي لي الآن ... من أنت ؟؟
قالت:- أنا من منطقة عكا ....... خرجت مع أصدقاء لي فخانوني....وتركوني تائهة في شوارع حيفا .... هذه حكايتي
نهض وقال :- لابد انك متعبة الآن......... وأنا كذلك ....يجب ان نأخذ قسطا من الراحة... سأنام أنا في الممر .......أما أنت فبإمكانك ان تنامي على هذا السرير....
حمل غطائه الخشن وفرشته الرقيقة من زاوية الغرفة وتابع قائلا:-
ليلة طيبة ....بإمكانك إغلاق الغرفة عليك بإحكام...
وخرج إلى الممر الضيق ... أطفأ النوروإفترش أرضه وتوسد نعله الثقيل ولف جسده المتعب بالغطاء الخشن تتقاذفه حالة بين القلق والنعاس ،فغلبه الأخير على وقع الإنهاك الشديد من العمل ،فسلم امره لله ونام ...
******
خيوط الشمس الربيعية الخجولة تسللت إليه من النافذة الصغيرة تداعب وجنتيه ،....نهض بسرعة من فراشه بعد أن عادت إليه ملامح ليلته الفائتة رويدا رويدا،وتوجه فورا إلى المطبخ... غسل وجه وأشعل عيني طباخ الغاز،عين حملت آنية الماء ، وعين إبريق الشاي،....فتح خزانته الحديدية فوجد فيها طبقا يحوي شرائح من المعجنات المحلاة،فحمله مع ابريق الشاي الذي نضج،ودخل عليها الغرفة بعد إستأذان،ليجد ضيفته ما زالت على جلستها........
بادرها بالقول:-
صباح الخير ......لعلك لم تنامي قط؟؟
ابتسمت....
قال:- ألم تشعري بالإطمئنان..... حسنٌ إنهضي وإغسلي وجهك بالماء الدافىء،وتعالي نحتسي كوبا من الشاي قبل الذهاب للعمل.........
تحركت حيث أشار إليها وعادت بعد دقائق فناولها كوبا من الشاي وثلاث شرائح من المعجنات،بينما إكتفى هو بواحدة....
قالت:- وأنت ؟؟
قال:- تكفيني واحدة ..
قالت :- أنا سمعت ان العرب كرماء ..
قال:- ألم تسمعي عن نخوتهم وشهامتهم ؟؟
حركت شفتيها معبرة عن عدم معرفتها بذلك
فسألها:- إلى أين ستذهبين الآن ؟؟
قالت :- سأحاول العودة إلى البيت، ولكن .........
صمتت
فقال :- ولكن ماذا ؟؟
حركت وجهها جانبا ثم طأطات رأسها ،فأدرك ما تخجل ان تقوله............
فقال :- لا تمليكن مالا أليس كذلك....... لا بأس كم هي أجرة الحافلة إلى منطقتكم ؟؟
قالت :- ثلاثون شيكلا.........
فتح محفظته وإستل خمسين شيكلا وقال لهل :- تفضلي ..
قالت بإستهجان :- خمسون شيكلا ........ هذا كثير
قال :- لا عليك .......إستقلي تكسي إن أرتدت ... لننهض الآن... لقد تأخرت عن العمل
******
المساء صاخب في المطعم ... محمود يقدم أطباقا من ألوان الطعام للزبائن، ويتنقل بين طاولة وأخرى...فجأة سمع صوتا نسائيا يقول :- هذا هو .........
إلتفت نحو الصوت ......... يا إلهي انها هي تتجه نحوه وتمد شاهدها ويسير خلفها رجلين وإمراة...بلع ريقه وقال في نفسه :- هل أوقعتني في ورطة؟؟؟
وصلته مع من معها ،فمد رجل طويل عريض يده مصافحا محمود ،ثم قال له :- اين معلمك؟؟؟
أشار محمود حيث يكون صاحب العمل،فتوجهوا حيث أشار،وعينه تراقبهم ،وهي تبادله النظر والإبتسام حتى دخلوا غرفة المدير،فأحس محمود بشيء من الإطمئنان قليلا،وعاد لتلبية طلبات الزبائن،دقائق أرسل المدير في طلب محمود في الحال ،فلبى ودخل غرفة المديرفرآه يبتسم
وقال له :-أنا فخور بك .........لقد فعلت شيئا حسنا....... وهذا والد الفتاة أحضر لك مكافئة....
أجاب محمود :- لم أفعل ذلك من أجل مكافئة ......
قال والد الفتاة :- إن لكل عمل جزاء ....وعملك أيضا له جزاء ...خذ هذه
قال محمود وهو يرد المبلغ الذي مده والد الفتاة :- لقد فعلت ما فعلت بواعز من خلقي وضميري ...وجزائي في ذلك على الله ...
تدخل المدير ليضع حدا للجدال قائلا :- إذهب انت يا محمود إلى عملك الآن .........
فإنصاع لذلك ،وتابع المدير حديثه مع والد الفتاة قائلا :- أعطني المبلغ ،وأنا سأتكفل في إضافته لراتبه نهاية الشهر ،وينتهي الامر ....
فضحك الجميع..........
******
بعد عدة ايام من الإجازة أمضاها محمود مع أهله ،حمل نفسه فجرا عائدا إلى العمل،فإستقل تلك الحافلة التي تنقل العمال إلى حيفا، وبعد أن سارت الحافلة مسافة خمسة وعشرين كيلومترا تقريبا مقتربة من الخط الفاصل بين الضفة ومناطق عام 48،...إعترض جنود الحاجز المتقدم السائق وأوقفوا الحافلة ....عندئذ قال السائق من يملك تصريحا للمرور فليبقى ،ومن لا يملك فلينزل ووليتلف من خلف الجبل وسنكون بإنتظاره في المكان المعتاد ... ترجل محمود وعدة شبان مستغلين إنهماك الجنود بتفتيش الحافلة الامامية ،وساروا تحت ستارة العتمة يلتفون حول الجبل لتجاوز الحاجز ،الظلام الدامس والخوف والقلق والصمت المطبق إلا من صوت نعالهم التي لا ترى أين تستقر، كان حال تسللهم وإلتفافهم خلف الجبل....... دقائق بدأو يشعرون انهم تجاوزا المحنة، وأنهم أصبحوا داخل حدود ما يسمى الخط الاخضر... تسارعت خطواتهم وهم يرون ضوء الحافة التي تنتظرهم ...فجأة ...إنبعث في وجوههم ضوء ساطع كاد أن يخطف أبصارهم...تلاه صوت قوي صارخ قائلا .....لا تتحركوا ...من يحاول الهرب سنطلق النار ...
وقفوا جميعا بعد أن أدركوا أنهم وقعوا في فخ الإعتقال...........
******
كان ضحى ذلك اليوم مختلفا في المعتقل ...جميعهم مكبلين ومعصوبي الأعين... وقد تم إجلاسهم أرضا متباعدين ممنوعين من الكلام أو السؤال....... حالة من إنتظار المجهول ....الأبواب تفتح وتغلق ،فيخرج منها ضباط وجنود وعناصر شرطة .... علت الشمس إلى كبد السماء.... تقدم أحد لجنود ...نادى بلغة ثقيلة... محمود ...نهض محمود على عجل رغم قيده وعصبة عينه...إقتاده ذلك الجندي بعد ان رفع الغطاء عن عينيه من مدخل إلى آخر حتى وصل تلك الغرفة،فأدخله وأغلق الباب ليجد محمود نفسه أمام ضابط شرطة منهمك في الكتابة ...رفع ذلك الضابط عينيه حيث محمود فقال ...:- ما إسمك ؟؟
بهت محمود وهو يدقق النظر في وجه الضابط ،كذلك فعل الضابط ...انه والد الفتاة .. صمت وتفكيرعميقين... أحس محمود فجأة انه قاب قوسين او أدنى من الإفراج....تدارك الضابط الموقف وعاد سريعا إلى روتينه محاولا التغطية على حقيقة الامر وعاود السؤال بحدة :- قلت لك ما إسمك ؟؟
أجاب : إسمي محمود ......
قال الضابط :- لماذا تدخل البلاد دون تصريح ؟؟
رد محمود :- لو أعطوني تصريحا لحملته ...
الضابط :- إذا لماذا أنت قادم إلى هنا بعدما علمت انه غير مرغوب فيك ؟؟
محمود :- لولا حاجتي للعمل ما حضرت ........
قال الضابط :- إنك إرتكبت مخالفة يحاسب عليها القانون ... تعالى وقع هنا ..
محمود :- لا أريد التوقيع على شيء
الضابط :- حسنٌ ...ستحول غدا أنت ورفاقك إلى المحكمة،وسيقول القضاء فيكم كلمته ...
ضغط الجرس ،فدخل الجندي، فقال الضابط خذه إلى الزنزانة ..........
******
قاعة المحكمة تقتصر على القاضي والسكرتيرة والمترجم والإدعاء و محام وأفراد من الشرطة والضابط ومحمود ورفاقه الخمسة....بدأ الإدعاء بتلاوة التهم المنسوبة "للمتهمين"،وسرد أسمائهم فردا فردا مطالبا في نهاية مرافعته ردعهم بالحبس الفعلي والغرامة ليكونوا عبرة لغيرهم...لان في مخالفتهم يضيف الإدعاء مساس بأمن الجمهور ومصالحه ...وشكرا ختم المرافعة.
التفت القاضي إلى محمود ورفاقه قائلا:- لكون المحاكمة تكون في مثل هذه الاحالات سريعة فقد أوكلت لكم المحكمة محام سيقوم بالدفاع عنكم ....تفضل مخاطبا المحامي
تقدم المحامي الذي لم يراه محمود إلا اللحظة وقال بإيجاز :- إن الستة هؤلاء لا يوجد لهم سوابق ،وأرجو من المحكمة الأخذ بعين الاعتبار ذلك الامر......
وقبل ان يتنحى المحامي ويغادر رفع محمود يده طالبا السماح له بالحديث ...
التفت اليه القاضي وقال :- ماذا تريد ؟؟
أجاب محمود:- أما أنا فسأكتفي بسؤال واحد أوجهه لأحد الحاضرين في المحكمة إن أجاب بصدق سيكون ذلك تفنيدا لقول الإدعاء.......
قال القاضي :- من يكون ذلك الشخص ؟؟
محمود:- سأدع له المجال يقدم نفسه بنفسه.... ساتركه يحدثكم ويشرح لكم كيف قمت أنا بعمل يناقض قول الإدعاء ، وهذا الشخص جاء وحاول ان يقدم لي مكافئة ،لكني رفضت لأنني عملت بأخلاقي..........
الضابط متضايق ومحرج من حديث محمود الذي لا زال يطارده بالنظرات والحديث،حتى ساد الصمت الثقيل ...
قال القاضي :- من المقصود ؟؟؟..... إنتبه أيها المتهم محمود ...هذه محكمة وليست مكانا لحل الألغاز ... أن كان عندك حديث آخر فتكلم ......... وإلا فأنا مضطر لرفع الجلسة للمداولة ..............
فجاء نداء المترجم برفع الجلسة المنقذ للضابط من الوضع المحرج الذي كاد أن يحشر فيه ....
*******
بناء على ما تقدم ،قررت المحكمة الحكم على الشبان الستة بالسجن الفعلي لمدة ستة اشهر لكل منهم....كانت هذه آخر عبارات القاضي ،فهرع بعدها أفراد الشرطة لإقتياد الشباب الستة وإخراجهم من المحكمة إلى السيارات في الخارج تمهيداً لنقلهم إلى السجن لتنفيذ العقوبة التي أصدرها القاضي ...أحد عناصر الشرطة صرخ مخاطبا محمود وهو يحمل الأغلال الحديدية:- تعالى إلى هنا ..........
رفض محمود الذي يشعر بالقهر والغضب .........
صرخ الشرطي ثانية :- تعال مد يدك
أصر محمود على الرفض ،فحدث جدال حاد مصحوب بتهديد من قبل عناصر الشرطة الذين تجمهروا على وقع ذلك الجدال بإستعمال القوة،تصادف ذلك مع خروج الضابط والد الفتاة من المحكمة متوجها إلى سيارته ،وهو يحمل رزما من الملفات والأوراق فقال :- ماذا هناك ؟؟
أجابه الشرطي :- إنه يتمرد على القيد .....
فأجابه الضابط وعيون محمود تلسعه :- قيدوه بهدوء
تجاوزت الساعة منتصف الليل بقليل،ولم ينهي محمود عمله في المطعم ،.... التنظيف آخر الطقوس اليومية للعمل الشاق والطويل،تركه صاحب المطعم وغادر ،فبقي وحده يجفف الارض بعد مسحهاعلى وقع إجترتر أحلامه التي تراوده كل مساء،ليضيف إلى رصيده يوما جديدا،ويستزيد في أحلامه أملا عتيدا.
إقترب من مدخل الباب الرئيسي بجرادته التي أنهكت ذراعيه......،لمح قدميّ فتاة ظهرت أمامه فجأة ، رفع هامته...فإذا بفتاة يافعة بدى عليها الانكسار،وقلص البرد جسدها النحيل... أوجس منها خيفة وقال بلغة العمل التي إعتاد عليها :-
هل تريدين خدمة ؟؟
لم تجب ...تقدم نحو الباب بعد أن خالطه شك في أن تكون هذه الفتاة جزء من عصابة أو مجموعة عربدة ...نظر يمينا ويساراً...لا أحد سوى ضوء السيارات المسرعة ...عاد إليها وكرر السؤال ولكن بصيغة أخرى :-
هل أنت بحاجة لطعام ؟؟
بقيت على صمتها
هل تريدين فنجان قهوة ؟؟
هزت رأسها رافضة
فقال :- إذا ماذا تريدين ؟؟؟
إنتظر قليلا قبل أن تحرك لسانها وتقول :-
أريد أن أنام ..... أشعر بالنعاس.....
أجابها بإستهجان :- ولكن هذا ليس فندقا !!
قالت :- أرجوك ...يصعب علي العودة للبيت ...ساعدني في تأمين مكان أبيت فيه حتى الصباح ........
فكر قليلا وقال :- حسنٌ ...إنتظري لحظة حتى أغلق المطعم .............
شرع في إغلاق المطعم وهو يحدث نفسه ......هل أوقعت نفسي في ورطة؟؟....كيف أسمح لفتاة يهودية أن تنام في غرفتي دون ان أعرف عنها أي شيء؟؟ ترى ماذا يخبأ لي المجهول ؟!
أنهى إحكام الاقفال ،وقال لها :- إتبعيني .....
سار هو بخطى متثاقلة ،وسارت هي خلفه منكمشة ...دقائق إنعطف قاطعا الشارع العريض،ودخل زقاقا يفصل بين أبنية قديمة وصعد الدرج الحجري،وما أن وصل إلى نهايته حتى إستل مفتاحا وحرك مفتاح الباب ودخل شقته المعتمة وأذن لها بالدخول قائلا :- لا تخافي .......إدخلي ... سأشعل النور حالا...
أضيئت الشقة القديمة المكونة من ممر ضيق وغرفة ومطبخ متواضع....شرع بلملمة أغراضه المبعثرة ووضعها في صندوقه الخشبي دون ترتيب،وأجلس ضيفته على سريره العتيق ،وقال :-
تفضلي ..... بيت ممتاز اليس كذلك ؟؟
لم تجب.....
.قال :- سأصنع لك فنجان قهوة ....دقائق وأعود...
دخل المطبخ الصغير ،وبدأت اصوات الأواني تكسر صمت الليل،وهي ما زالت تحوم بناظريها في أرجاء غرفته،وتتحسس بيدها غطائه الخشن ووسادته البالية....إرتعدت عندما سقطت عليها كلماته القربية وهو يقول:-
تفضلي......
تناولت فنجان القهوة،بينما جلس هو أرضا ينظر إليها وقد إحتظنت راحتيها فنجانها الساخن طلبا للدفىء....نهض سريعا يبحث عن مدفئة إشتراها قبل مدة من سوق الأدوات المستعملة في ثنايا بيته....وجدها وأشعلها وقربها منها،وخلع عن نفسه معطفه الثقيل ووضعه على أكتافها وجلس مكانه وقال :-
قولي لي الآن ... من أنت ؟؟
قالت:- أنا من منطقة عكا ....... خرجت مع أصدقاء لي فخانوني....وتركوني تائهة في شوارع حيفا .... هذه حكايتي
نهض وقال :- لابد انك متعبة الآن......... وأنا كذلك ....يجب ان نأخذ قسطا من الراحة... سأنام أنا في الممر .......أما أنت فبإمكانك ان تنامي على هذا السرير....
حمل غطائه الخشن وفرشته الرقيقة من زاوية الغرفة وتابع قائلا:-
ليلة طيبة ....بإمكانك إغلاق الغرفة عليك بإحكام...
وخرج إلى الممر الضيق ... أطفأ النوروإفترش أرضه وتوسد نعله الثقيل ولف جسده المتعب بالغطاء الخشن تتقاذفه حالة بين القلق والنعاس ،فغلبه الأخير على وقع الإنهاك الشديد من العمل ،فسلم امره لله ونام ...
******
خيوط الشمس الربيعية الخجولة تسللت إليه من النافذة الصغيرة تداعب وجنتيه ،....نهض بسرعة من فراشه بعد أن عادت إليه ملامح ليلته الفائتة رويدا رويدا،وتوجه فورا إلى المطبخ... غسل وجه وأشعل عيني طباخ الغاز،عين حملت آنية الماء ، وعين إبريق الشاي،....فتح خزانته الحديدية فوجد فيها طبقا يحوي شرائح من المعجنات المحلاة،فحمله مع ابريق الشاي الذي نضج،ودخل عليها الغرفة بعد إستأذان،ليجد ضيفته ما زالت على جلستها........
بادرها بالقول:-
صباح الخير ......لعلك لم تنامي قط؟؟
ابتسمت....
قال:- ألم تشعري بالإطمئنان..... حسنٌ إنهضي وإغسلي وجهك بالماء الدافىء،وتعالي نحتسي كوبا من الشاي قبل الذهاب للعمل.........
تحركت حيث أشار إليها وعادت بعد دقائق فناولها كوبا من الشاي وثلاث شرائح من المعجنات،بينما إكتفى هو بواحدة....
قالت:- وأنت ؟؟
قال:- تكفيني واحدة ..
قالت :- أنا سمعت ان العرب كرماء ..
قال:- ألم تسمعي عن نخوتهم وشهامتهم ؟؟
حركت شفتيها معبرة عن عدم معرفتها بذلك
فسألها:- إلى أين ستذهبين الآن ؟؟
قالت :- سأحاول العودة إلى البيت، ولكن .........
صمتت
فقال :- ولكن ماذا ؟؟
حركت وجهها جانبا ثم طأطات رأسها ،فأدرك ما تخجل ان تقوله............
فقال :- لا تمليكن مالا أليس كذلك....... لا بأس كم هي أجرة الحافلة إلى منطقتكم ؟؟
قالت :- ثلاثون شيكلا.........
فتح محفظته وإستل خمسين شيكلا وقال لهل :- تفضلي ..
قالت بإستهجان :- خمسون شيكلا ........ هذا كثير
قال :- لا عليك .......إستقلي تكسي إن أرتدت ... لننهض الآن... لقد تأخرت عن العمل
******
المساء صاخب في المطعم ... محمود يقدم أطباقا من ألوان الطعام للزبائن، ويتنقل بين طاولة وأخرى...فجأة سمع صوتا نسائيا يقول :- هذا هو .........
إلتفت نحو الصوت ......... يا إلهي انها هي تتجه نحوه وتمد شاهدها ويسير خلفها رجلين وإمراة...بلع ريقه وقال في نفسه :- هل أوقعتني في ورطة؟؟؟
وصلته مع من معها ،فمد رجل طويل عريض يده مصافحا محمود ،ثم قال له :- اين معلمك؟؟؟
أشار محمود حيث يكون صاحب العمل،فتوجهوا حيث أشار،وعينه تراقبهم ،وهي تبادله النظر والإبتسام حتى دخلوا غرفة المدير،فأحس محمود بشيء من الإطمئنان قليلا،وعاد لتلبية طلبات الزبائن،دقائق أرسل المدير في طلب محمود في الحال ،فلبى ودخل غرفة المديرفرآه يبتسم
وقال له :-أنا فخور بك .........لقد فعلت شيئا حسنا....... وهذا والد الفتاة أحضر لك مكافئة....
أجاب محمود :- لم أفعل ذلك من أجل مكافئة ......
قال والد الفتاة :- إن لكل عمل جزاء ....وعملك أيضا له جزاء ...خذ هذه
قال محمود وهو يرد المبلغ الذي مده والد الفتاة :- لقد فعلت ما فعلت بواعز من خلقي وضميري ...وجزائي في ذلك على الله ...
تدخل المدير ليضع حدا للجدال قائلا :- إذهب انت يا محمود إلى عملك الآن .........
فإنصاع لذلك ،وتابع المدير حديثه مع والد الفتاة قائلا :- أعطني المبلغ ،وأنا سأتكفل في إضافته لراتبه نهاية الشهر ،وينتهي الامر ....
فضحك الجميع..........
******
بعد عدة ايام من الإجازة أمضاها محمود مع أهله ،حمل نفسه فجرا عائدا إلى العمل،فإستقل تلك الحافلة التي تنقل العمال إلى حيفا، وبعد أن سارت الحافلة مسافة خمسة وعشرين كيلومترا تقريبا مقتربة من الخط الفاصل بين الضفة ومناطق عام 48،...إعترض جنود الحاجز المتقدم السائق وأوقفوا الحافلة ....عندئذ قال السائق من يملك تصريحا للمرور فليبقى ،ومن لا يملك فلينزل ووليتلف من خلف الجبل وسنكون بإنتظاره في المكان المعتاد ... ترجل محمود وعدة شبان مستغلين إنهماك الجنود بتفتيش الحافلة الامامية ،وساروا تحت ستارة العتمة يلتفون حول الجبل لتجاوز الحاجز ،الظلام الدامس والخوف والقلق والصمت المطبق إلا من صوت نعالهم التي لا ترى أين تستقر، كان حال تسللهم وإلتفافهم خلف الجبل....... دقائق بدأو يشعرون انهم تجاوزا المحنة، وأنهم أصبحوا داخل حدود ما يسمى الخط الاخضر... تسارعت خطواتهم وهم يرون ضوء الحافة التي تنتظرهم ...فجأة ...إنبعث في وجوههم ضوء ساطع كاد أن يخطف أبصارهم...تلاه صوت قوي صارخ قائلا .....لا تتحركوا ...من يحاول الهرب سنطلق النار ...
وقفوا جميعا بعد أن أدركوا أنهم وقعوا في فخ الإعتقال...........
******
كان ضحى ذلك اليوم مختلفا في المعتقل ...جميعهم مكبلين ومعصوبي الأعين... وقد تم إجلاسهم أرضا متباعدين ممنوعين من الكلام أو السؤال....... حالة من إنتظار المجهول ....الأبواب تفتح وتغلق ،فيخرج منها ضباط وجنود وعناصر شرطة .... علت الشمس إلى كبد السماء.... تقدم أحد لجنود ...نادى بلغة ثقيلة... محمود ...نهض محمود على عجل رغم قيده وعصبة عينه...إقتاده ذلك الجندي بعد ان رفع الغطاء عن عينيه من مدخل إلى آخر حتى وصل تلك الغرفة،فأدخله وأغلق الباب ليجد محمود نفسه أمام ضابط شرطة منهمك في الكتابة ...رفع ذلك الضابط عينيه حيث محمود فقال ...:- ما إسمك ؟؟
بهت محمود وهو يدقق النظر في وجه الضابط ،كذلك فعل الضابط ...انه والد الفتاة .. صمت وتفكيرعميقين... أحس محمود فجأة انه قاب قوسين او أدنى من الإفراج....تدارك الضابط الموقف وعاد سريعا إلى روتينه محاولا التغطية على حقيقة الامر وعاود السؤال بحدة :- قلت لك ما إسمك ؟؟
أجاب : إسمي محمود ......
قال الضابط :- لماذا تدخل البلاد دون تصريح ؟؟
رد محمود :- لو أعطوني تصريحا لحملته ...
الضابط :- إذا لماذا أنت قادم إلى هنا بعدما علمت انه غير مرغوب فيك ؟؟
محمود :- لولا حاجتي للعمل ما حضرت ........
قال الضابط :- إنك إرتكبت مخالفة يحاسب عليها القانون ... تعالى وقع هنا ..
محمود :- لا أريد التوقيع على شيء
الضابط :- حسنٌ ...ستحول غدا أنت ورفاقك إلى المحكمة،وسيقول القضاء فيكم كلمته ...
ضغط الجرس ،فدخل الجندي، فقال الضابط خذه إلى الزنزانة ..........
******
قاعة المحكمة تقتصر على القاضي والسكرتيرة والمترجم والإدعاء و محام وأفراد من الشرطة والضابط ومحمود ورفاقه الخمسة....بدأ الإدعاء بتلاوة التهم المنسوبة "للمتهمين"،وسرد أسمائهم فردا فردا مطالبا في نهاية مرافعته ردعهم بالحبس الفعلي والغرامة ليكونوا عبرة لغيرهم...لان في مخالفتهم يضيف الإدعاء مساس بأمن الجمهور ومصالحه ...وشكرا ختم المرافعة.
التفت القاضي إلى محمود ورفاقه قائلا:- لكون المحاكمة تكون في مثل هذه الاحالات سريعة فقد أوكلت لكم المحكمة محام سيقوم بالدفاع عنكم ....تفضل مخاطبا المحامي
تقدم المحامي الذي لم يراه محمود إلا اللحظة وقال بإيجاز :- إن الستة هؤلاء لا يوجد لهم سوابق ،وأرجو من المحكمة الأخذ بعين الاعتبار ذلك الامر......
وقبل ان يتنحى المحامي ويغادر رفع محمود يده طالبا السماح له بالحديث ...
التفت اليه القاضي وقال :- ماذا تريد ؟؟
أجاب محمود:- أما أنا فسأكتفي بسؤال واحد أوجهه لأحد الحاضرين في المحكمة إن أجاب بصدق سيكون ذلك تفنيدا لقول الإدعاء.......
قال القاضي :- من يكون ذلك الشخص ؟؟
محمود:- سأدع له المجال يقدم نفسه بنفسه.... ساتركه يحدثكم ويشرح لكم كيف قمت أنا بعمل يناقض قول الإدعاء ، وهذا الشخص جاء وحاول ان يقدم لي مكافئة ،لكني رفضت لأنني عملت بأخلاقي..........
الضابط متضايق ومحرج من حديث محمود الذي لا زال يطارده بالنظرات والحديث،حتى ساد الصمت الثقيل ...
قال القاضي :- من المقصود ؟؟؟..... إنتبه أيها المتهم محمود ...هذه محكمة وليست مكانا لحل الألغاز ... أن كان عندك حديث آخر فتكلم ......... وإلا فأنا مضطر لرفع الجلسة للمداولة ..............
فجاء نداء المترجم برفع الجلسة المنقذ للضابط من الوضع المحرج الذي كاد أن يحشر فيه ....
*******
بناء على ما تقدم ،قررت المحكمة الحكم على الشبان الستة بالسجن الفعلي لمدة ستة اشهر لكل منهم....كانت هذه آخر عبارات القاضي ،فهرع بعدها أفراد الشرطة لإقتياد الشباب الستة وإخراجهم من المحكمة إلى السيارات في الخارج تمهيداً لنقلهم إلى السجن لتنفيذ العقوبة التي أصدرها القاضي ...أحد عناصر الشرطة صرخ مخاطبا محمود وهو يحمل الأغلال الحديدية:- تعالى إلى هنا ..........
رفض محمود الذي يشعر بالقهر والغضب .........
صرخ الشرطي ثانية :- تعال مد يدك
أصر محمود على الرفض ،فحدث جدال حاد مصحوب بتهديد من قبل عناصر الشرطة الذين تجمهروا على وقع ذلك الجدال بإستعمال القوة،تصادف ذلك مع خروج الضابط والد الفتاة من المحكمة متوجها إلى سيارته ،وهو يحمل رزما من الملفات والأوراق فقال :- ماذا هناك ؟؟
أجابه الشرطي :- إنه يتمرد على القيد .....
فأجابه الضابط وعيون محمود تلسعه :- قيدوه بهدوء