منذر فالح الغزالي - جمالية اللغة في الأسلوب التقليدي قراءة في قصة قاب قوسين أو أدنى من الجحيم للكاتب العراقي المغترب: د. مديح الصادق

قابَ قوسينِ أو أدنى من جهنَّم..قصّة قصيرة.
بقلم مديح الصادق

قد لا يكون هو المقصود بابتسامة عريضة كشفت عن صفَّين من اللؤلؤ ناصعين، وأفصحت عن مُحيَّا فتاة في العشرين اكتملت أنوثتها بصدر ناهد، وقامة ممشوقة، بخصر إسطواني كشفت عنه قليلا برفعها طرف القميص، وأنزلت البنطال الضيق حدَّ الوركين، ومالت جانبا بجلستها، بوضع مثير تقابله في المقعد الآخر في عربة مترو الأنفاق، يومين في الأسبوع عليه أن يمر برحلة من بيته للجامعة النائية أطراف تورونتو، خليط بشري منوع الألسن والأجناس والأشكال والأعمار، بمختلف الأزياء أو بدونها في بعض الأحايين، في كل محطة يستقبل جيلا بعد أن يغادره جيل؛ لكنها لم تغادر المقعد كأن همَّها أن تعد المحطات، وظل مبسمُها شاغلا صاحبنا الذي على مضض غالب الاتزان، بسذاجة تظاهر أنه لم يلق لها أي اهتمام، بأطراف أنامله عدَّل ربطة العنق ودبوسها الذهبي، حدّق في زجاج النافذة المقابل مستطلعا تناسق ألوان بدلته والقميص والرباط، على تسريحة شعره مرَّر مشابك الكفين، لم يَغزُهُ صلع بعد، ولمَّا يزل غالبا على بياضه السواد رغم وداعه الخمسين مما ورطه في مراهنات الأصدقاء على أنه يصبغ الشعر؛ وبعدها يكسب الرهان عندما يُصار إلى زوجته الاحتكام.
على استحياء، بطرف عينه اليمنى، نظرة على عجل، مزيج من الخجل والخوف من ألا يكون هو المقصود، فتفسد عنده نشوة رجولية مثل زرع فارقه الغيث، وقاربت تذروه الرياح، حتى لاحت تباشير مِزنة من بعيد، فعاودته الحياة، أو نهر جفت منابعه فانتابه اليأس، استطلع هيئتها من جديد, البسمة لم تفارق ثغرها, اتقد البريق بعينين واسعتين, سواداوين, رموش طويلة، تقاسيم وجهها السومرية اهتزت طربا، ارتفعت قليلا مقدمة أنفها الأخنس فزادها على ما هي عليه من عذوبة وجمال، كم هو غريب جنسكنَّ- أيَّتها النساء- حين تبتسمنَ! فإما هي رقصة انتصار على الأشلاء، أو هو خلق جديد لكون جديد جميل. أيقن الآن أنها له، لا منافس في الساحة على الإطلاق، فمَن حوله كهول يمارسون لعبة التجوال يومياً عبر محطات الأنفاق، وطلاب من كلا الجنسين أخلدوا للنوم فهم متعبون من يوم دراسي طويل، ليسوا بحاجة للحبّ وقد أُتخموا منه كما الطعام والشراب، في أي زمان أو مكان شاؤوه، دون خشية من رقيب، أو صولجان عقاب.
حقيبة حمَّلتها كتباً، كراريس، مطبوعات، مستلزمات لهو، علب طعام، عدة المكياج والعطور، عن كاهلها ألقت بها على المقعد المجاور، بللت شفتيها الحادَّتين برشفة ماء، رفعت سروالها قليلا للأعلى كي تكشف- عن عمد- عن ساقين مكتنزين أخفا بياضهما شتاء قد مرَّ قارس البرد، ثقيل الثلج، فتحت الإزرار الثاني من القميص كاشفة نصف الصدر، أدارت عجيزتها للخلف نصف استدارة وهي تنظر بنصف عينها لقامتها الرشيقة خلال الزجاج، بدلال امرأة شرقية هزَّت رأسها إلى الجانبين بغية انسدال شعرها الفاحم الطويل على الكتفين. ياللهول، كم غريب هو هذا الكون! أليست تلك (أميرة) الطالبة العربية الأصل؟ قبل ساعات في الحرم الجامعي كانت في أقصى درجات الاحتشام، في المظهر واللباس والكلام، صوتها الرخيم المُستحي بعاطفة وانسياب تقرأ قصائد (السياب) حتى أبكت الحضور في غربة الخليج، لابد إذاً أن هناك مَن يعد عليها الخطى هناك، وحينما يشعر المرء بانعتاقه من قيود الرقباء فإنه قد يفعل ما يظن أنه هو الصواب، أهي على موعد مع (البوي فريند) كما يسمونه في تلك البلاد؟ أم أنها تكسب رزقها من مهنة ليست في مصاف العيوب على النساء في بلد تحكمه النساء؟
لا تطلق العنان للظنون- يا حضرة الأستاذ الشاعر الفنان- فمثلك أولى أن يكون منفتحا مستقبلا لحاجات الجديد من الأجيال، ألم تكتب يوما أن غدا أحسن من أمس؟ أم أن تقدم السن، وكثرة الأهوال أنساك ما تشرَّبَه منك الذين على يديك تتلمذوا من فكر علمي؟ (أميرة) ليست من هذا الصنف أو ذاك، والدليل القاطع اهتمامها الفريد بك، لاحَقَتك اليوم طول الطريق، أمَامَك استعرضت كل ما بوسعها من مغريات النساء، النساء المحنَّكات في صيد الرجال، غير طامعة منك في مال أو جاه، ليست مبالية لفارق السن الكبير، مع علمها المسبق أن لك زوجة وعيالا، فقد تكون نزوة عابرة أو وَهماً بأن الحب الصادق يمكن أن يقفز فوق فوارق السن ولا يبالي بارتباط الآخر بزوج، وقد تكون حاجة لسد نقص عاطفي؛ فاستهواها حضن رجل متَّزن يعوضها حنان أب أو أخ أو صديق، أو زوج جفَّت عنده منابع الحب والوفاء، أيَّ حب كان؛ فهو بالنتيجة حب، وهل هناك في الكون زاد يعين المرء على البقاء حيّاً كما شعوره بأنه محاط بالحب؟
خطوتين باتجاهه تقدمت، ثالثة، تمايَلت بدلال، ابتسامتها أوسع من ذي قبل، كاد قلبه يقفز من جنبيه، تورَّدت وجنتاه، ساقاه بعضهما البعض تضربان، ارتعشت شفتاه، نعم إنه هو الحب، هكذا يفعل العشّاق عندما تشتعل شرارة الحب، اللحظة هذي جيدا يعرفها، فيها له شعر جميل كان من وحي الخيال؛ لكنه اليوم غارق لا محالة في عباب9 هذا البحر. أغمض الجفنين خلف نظارة سوداء، قادمة هي إليه، ستأخذه بالأحضان كما يفعل هنا الناس، في المُغطّى والمكشوف من المساحات، بعد الحَضْن على خدّه ستطبع قبلة أول الأمر، ثم يلتهم الحريق الشفتين وكل المشتملات، ولتفعل ما تشاء، ممَّ خائف أنت؟ أمِن قوم يُقبِّل بعضهم البعض في الشارع، في المقهى، في الباص، في البار، وحيث يقضون الحاجات، وبعد ذلك يعملون بجدٍّ، ويُبدعون؟ أم أن خيال زوجتك التي خاصمت فراشك مذ عامين بادعاء اعتلال الصحة أو كبر السن مازال مطاردا إيَّاك حيثما فررت، مُنغصاً عليك أهنأ اللحظات، لا، لا؛ ليس الأمر كذاك، فأنت لم تتخلص بعدُ من عقدة الخوف من حديث منفرد مع النساء.
لا تخَفْ من أحد في هذه البلاد، حتى من نفسك لا تخف، كثير منا يفعل في الخفاء ما ينهى عنه على منابر الخطباء، أما إن شاء أن يكون عسيرا معك الحساب مَن بيده القضاء فلا تتوجس، لقد أفتى كل أنبيائه بأنه غفور رحيم، هلمي- أيتها الفاتنة- هلمي، بعطرك، بكل مالديك من سحر، هلمي فالساعة قد دنت ولا مكان بقلبي مطلقا للخوف، تحت أقدامك أحرق أعوامي الخمسين، أقلع ما غزا مفرقي من أبيض الشعر، وكلكامش هذا ليذهب للجحيم فقد عثرت اليوم على السر الذي أفنى عمره- دون جدوى- في البحث عنه، الليلة أكتب ملحمة للأجيال بأن الحبّ بعد الخمسين هُو بعينه سرّ الخلود.
عن قرب لامسته، ساقا على ساق، تحول الظن إلى يقين، ليس ككل مرة من شاعرٍ خيال، أو من محموم هذيان، أيعقل أنها ساعة موت أم ولادة حين تفقد اتصالك بالأشياء، وتعتريك ارتعاشة الخريف، أم أن كارثة على الطريق؟ فما من كارثة إلا وكان الأساس فيها لحظة الضعف، فتبّاً للضعف. على نهج المُتحضِّرين للأمام مدَّ الشفتين مستقبلا أنفس القبلات، أنفاسه تكاد تشعل النار في العربات، ثقيلة مرت الثواني وهو لها على أحر من جمر بالانتظار، فتحَ الذراعين مستقبلا حضنها الدافئ ليضغط على ظهرها الضغط المتحضر الخفيف، منها يستمد القوة والعزم كما استمد العظماء ذلك من خيِّرات النساء، وهل في العالم سر عجيب مثل قوة حب تمنحه امرأة مَن تحب وتهوى بسخاء؟ توقف القطار، أعلن المذياع نهاية المحطات، احتكت الأجساد بالأجساد، والحديد بالحديد، حقيبة أوراقه تدحرجت بين فخذيه، نظارته السوداء على الأرض، على وسعهما فتح المقلتين، ألا لعنة الله على القطارات فهي تفسد الأحلام.
__________________
القراءة، بقلم منذر فالح الغزالي
إن السؤال الأول الذي يواجه القارئ، حين يفكر في كتابة رؤية نقدية عن منجزٍ أدبي ما هو: ما السمة المهيمنة على النص؟
ما هو سر، أو أسرار الجمال في الأسلوب، التي تجعل من نصٍّ ما نصاً أدبيا؟
والقارئ لقصة "قاب قوسين أو أدنى من الجحيم" للأديب العراقي المغترب د. مديح صادق يلاحظ منذ البداية هيمنة اللغة وسلطتها على النص في جميع مفاصله، وبالتالي لا يضنيه الأمر فيدرك محورية اللغة في تحديد نمط السرد، كذلك في إغناء مكونات السرد القصصي من بنية السرد، والراوي، والبنية الدلالية... فتأخذه اللغة بتيارها، وتصير القراء للنص، بسماته وخصائصه وروافعه الجمالية، تنطلق وتنتهي، أو تدور كلها حول مركزية اللغة.
واللغة في قصة قاب قوسين، كان لها دورٌ أسلوبيٌّ وبنيويٌّ في السرد، و الأسطر التالية ستكون توضيحاً لهذه الفرضية.

أولاً: تحليل بنية السرد
تنقسم بنية السرد في القصة إلى نمطين: نمط تقليدي، ونمط حداثي. وهذا التقسيم هو تقسيم منهجي بحت، بغية الدراسة فقط، ولا يملك أسلوب عن أسلوب آخر أي تفضيل. فكم من قصص خالدة اعتمد كاتبها بنية سردية تقليدية، وكم من نصوص أخرى صارت من عيون القصص العالمية، كانت بنيتها السردية بنيةً حداثيّة.
العنوان:
المكتوب يُقرأ من عنوانه، إذا كانت هذه المقولة تنطبق على الواقع في شيء، فإنها تنطبق أشد الانطباق على هذا النص بالذات، وعلى محور قراءتنا له على وجه الخصوص.
قاب قوسين أو أدنى... تناص كامل من الآية القرآنية "فكان قاب قوسين أو أدنى..." سورة النجم، الآية التاسعة.
فإذا كان العنوان هو العتبة الأولى التي تكشف بنية النص، فإن العنوان هنا يكشف البنية اللغوية بالذات، حين يواجه النصُّ القارئَ بجزءٍ من آيةٍ قرآنية، فإنه، أي القارئ، سيضع، مباشرةً، تصوراً عن طبيعة اللغة التي ستشكل بنية النص من جهة، ومن جهة أخرى، سوف تخطر بباله تخميناتٍ محدّدة عن طبيعة الموضوع الذي يتحدث عنه العنوان.

نمط السرد التقليدي:
يهيمن فيه الراوي العالم بكل شيء، وزمن الحدث زمنٌ خطّيٌّ، بالإضافة إلى بنيته اللغوية المعتمدة على البلاغة التقليدية من تشبيهاتٍ واستعارات، وتبتعد عن الترميز والمجاز قدر المستطاع.
1. الراوي العالم بكل شيء:
منذ الكلمة الأولى يبدأ الراوي بسرد الأحداث عن بطل القصة، بأسلوب يوهمنا بالحيادية وعدم التدخل: "قد لا يكون هو المقصود بابتسامة عريضة كشفت عن صفين من اللؤلؤ ناصعين". وتمضي القصة منذ هذا المدخل السريع حتى الخاتمة المفارقة على هذا المنوال: راوٍ يتخفى بالحيادية، يسرد حكاية بطل القصة.
2. الزمن الخطي
تمضي أحداث القصة، أو بنى الكاتب حبكة نصه بناءً تقليديّاً، من المدخل، أو المقدمة، حيث يبدأ بالتعريف بشخوص القصة، ويفرش المكان والزمان لتلقّي الحكاية، ثم يتصاعد الحدث حتى يصل إلى الذروة، فيتأزم الصراع في انتظار الحل، أو الخاتمة التي تفجّر الاحتقان وتنهي الحكاية، في زمنٍ خطّيٍّ متصاعدٍ في اتجاهٍ واحد يوازي أو يشابه الزمن الطبيعي، إمعاناً في الواقعية.
أما المونولوجات، أو النجوى الداخلية التي تقاسمت النص مع السرد الوصفي، فأرى أنها لا تمثل تكسيراً لخطّيّة الزمن، إذ اقتصر دورها على إضافة الصفات النفسية لشخصية القصة الرئيسية، لا تتعود بالأحداث، أو تتقدم بها، فيمكن اعتبارها مجرد محطات وصفية في السرد.

3. البنية الدلالية، موضوع القصة:
موضوع القصة هو الحب، او توق بطل النص إلى الحبيبة، وقصة حب لاهبة، تطفئ لهيب مشاعر حرمان، أشار إليه الكاتب من خلال الخاتمة المفاجئة، التي كشفت أن الحبكة كلها، والأحداث التي مرّت، ما هي إلا حلم طويل، راود بطل النص، في رحلة قطار اعتيادية، والحلم هو تعويض لا واعٍ عما لا نحققه في الحياة الواعية.
ثالثا، : اللغة، عماد النص وأساسه
ينبغي الإشارة بادئ ذي بدء بأن اللغة القصصية تختلف عن لغة باقي الأجناس الأدبية، والصنوف الكتابية؛ لكنّ هذا لا يلغي أن تتقاطع لغة القص، في بعض ملامحها مع لغة الشعر مثلاً، أو أن يستفيد القاص من خواص اللغة الشعرية في بنية نصه السردي، إذا كان ذلك يخدم النص. غير أنه ينبغي التأكيد على أن هذا التقاطع أو تلك الاستفادة لا تعني إلغاء الجنس الأصلي، أو الهيمنة عليه.
النص ينتمي إلى تيار الواقعية الاجتماعية، من حيث إنه يعالج قضية اجتماعية، من الواقع المعيش، وقد استخدم الكاتب بنية سرد تقليدية براوٍ عالم، يضفي على الحكاية المزيد من الواقعية، ويوهمنا بواقعية الحدث المتخيل، وواقعية الشخوص.
وقد توسل بلعبة الإيهام في بنية النص بلغة تقليدية، من حيث الابتعاد عن المجاز، والترميز، فهو يدخل إلى الهدف مباشرة.
وإمعانا في الإيهام جعل الراوي يتحدث بلغة رصينة فيها من الجزالة ما يكفي لإضفاء طابع الصدق على الراوي الموكلة إليه مهمة إقناع القارئ بصدق الأحداث؛ لهذا كثرت التشبيهات التقليدية التامة، والاستعارات، وهيمنت على النص السردي لغة بيانية غنية بأساليب البلاغة.
وغلب على النص السرد الوصفي، على حساب الحوار أو العرض، فكان النص موزعاً بين لوحات وصفية تمتاز بمسحةٍ شاعرية رومنسية مؤثرة، وكانت لغة الوصف لغة شفافة، غنية بالمحسنات البلاغية كما أسلفنا، أعطت للنص مسحة كلاسيكية، وأضفت على الراوي رصانة ومصداقية: "بوضع مثير تقابله في المقعد الآخر في عربة مترو الأنفاق، يومين في الأسبوع عليه أن يمر برحلة من بيته للجامعة النائية أطراف تورونتو، خليط بشري منوع الألسن والأجناس والأشكال والأعمار، بمختلف الأزياء أو بدونها في بعض الأحايين، في كل محطة يستقبل جيلا بعد أن يغادره جيل"
وترق اللغة وتشفّ حين يصف لنا المرأة التي أحبها البطل، هنا تكتسي العبارات غلالة من الجمال والرقّة، وتميل مفرداته إلى العذوبة والأنوثة: ’"عن كاهلها ألقت بها على المقعد المجاور، بللت شفتيها الحادَّتين برشفة ماء، رفعت سروالها قليلا للأعلى كي تكشف- عن عمد- عن ساقين مكتنزين أخفا بياضهما شتاء قد مرَّ قارس البرد، ثقيل الثلج، فتحت الإزرار الثاني من القميص كاشفة نصف الصدر، أدارت عجيزتها للخلف نصف استدارة وهي تنظر بنصف عينها لقامتها الرشيقة خلال الزجاج، بدلال امرأة شرقية هزَّت رأسها إلى الجانبين بغية انسدال شعرها الفاحم الطويل على الكتفين."
الشخصية هي المحرّك الأساسي للحدث القصصي، وبالتالي فوصف الشخصية هو العمود الفقري للقصة، وقد كان الكاتب من الذكاء أن جعل للمونولوج أو النجوى الداخلية مكانة بارزة في النص، بحيث اقتصر دوره، تقريباً، على وصف شخصية البطل بشكلٍ غير مباشر.
والشخصية في النص القصصي –أو الروائي- ليس وجوداً واقعياً، بل هو مفهوم تخييلي وصفي تشير إليه اللغة والألفاظ في القصة، تولّد بدورها الدلالة في ذهن القارئ: "لا تخَفْ من أحد في هذه البلاد، حتى من نفسك لا تخف، كثير منا يفعل في الخفاء ما ينهى عنه على منابر الخطباء، أما إن شاء أن يكون عسيرا معك الحساب مَن بيده القضاء فلا تتوجس، لقد أفتى كل أنبيائه بأنه غفور رحيم"
ويظهر من الوصف أنه متماشياً مع الحالة الملائمة لطبيعة الشخصية من جهة، ومن طبيعة الحدث من جهةٍ أخرى: "ممَّ خائف أنت؟ أمِن قوم يُقبِّل بعضهم البعض في الشارع، في المقهى، في الباص، في البار، وحيث يقضون الحاجات، وبعد ذلك يعملون بجدٍّ، ويُبدعون؟ أم أن خيال زوجتك التي خاصمت فراشك مذ عامين بادعاء اعتلال الصحة أو كبر السن مازال مطاردا إيَّاك حيثما فررت، مُنغصاً عليك أهنأ اللحظات، لا، لا؛ ليس الأمر كذاك، فأنت لم تتخلص بعدُ من عقدة الخوف من حديث منفرد مع النساء."
وأخيرأ:
إذا كانت لغة النص لغة فصيحة غاية في الفصاحة، وبليغة، بالمعنى التقليدي للبلاغة العربية، وظفها الكاتب توظيفاً حسناً في إضفاء سمة الحيادية على الراوي؛ فإنها لم تخل من التقاطع مع اللغة الشعرية، من جهة الانزياح اللغوي. لغة النص ملأى بالانزياحات، فقد تعمّد الكاتب على خلخلة الشكل النمطي للجملة، وغيّر في مواضع الكلمات، ليعطي تفجيراً إضافياً للغة، وتلويناً جمالياً يضاف إلى كمّ البلاغة الهائل الذي اغتنت به لغته... "بوضع مثير تقابله في المقعد الآخر .... حقيبة حمَّلتها كتباً... بدلال امرأة شرقية هزَّت رأسها... خطوتين باتجاهه تقدمت..."

منذر فالح الغزالي
بون في 25/11/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...