منير مزليني - قراءة في رواية " منّه موال " للروائية التونسية فتحية الهاشمي.. من لذة النص إلى نص اللذة

فتحية الهاشمي، كاتبة تونسية تملك في رصيدها الإبداعي إلى جانب كتابتها الأخرى ثلاث روايات ؛ (الأقحوان المصلوب على الشفاه) صادرة سنة 2002، (حافية الروح) صادرة سنة 2005، ثم رواية (منّه موّال) الصادرة حديثا سنة 2007 والتي نخصها بهذه القراءة محاولين الولوج إلى عالمها الفنطازي والسباحة في فضائها الإبداعي علنا نقبض على لحظة من لحظاتها الهاربة ونلامس شيئا من ألوان أطيافها القزحية الساحرة .

" منّه موّال " أو بالأصح " منّه وموّال " اسمان غريبان تمازجا في روح واحدة ليشكلا عنوان الرواية وينسجا من روحيهما أحداثها المتشابكة والغريبة، فيخلقان عالما سحريا يغوص عميقا في أغوار الخرافة الشعبية وفسيفساء الفنطازيا ؛ عالم تلخصه قرية أو مدينة صغيرة ساحلية أطبقت عليها الشعوذة والخرافة ونسجت من خيال أهلها حكايات عجيبة وعادات وتقاليد نقعت إلى الأذقان في ماء الخرافة والهذيان . إلا أن هذه الخرافة وهذا الهذيان نسجا بوعي إبداعي متمرس، فكانت الرواية تهذي لتقول لا تقول لتهذي .
" ربما كنت منّه :"
لكن الأصدق : أمي هي منّة .
تلك الأنثى شمسية التقاطيع طفولية الملامح نصفها من شمع ونصفها الآخر قدّ من صخر وأقحوان تضطجع على قارعة الفرح
بكفها .
تغفو مروج اللّوز والسّكّر
تلك المشرقة من ألف جرح وجرح بجمالها المتوحش ...
مازال صوت أحاجيها يحملنا إلى منتهى الدهشة شفتها العاشقة وهي تحكي لنا حكاية (الهواشم) منذ قطرة الدم الأولى التي ضمخت أرض كربلاء وحتى تقطعت بهم السبل . ""
ثم تستمر الراوية في هذا البوح الشعري الآخذ إلى أن تقول :
" إذا كانت منّه أمي، لا بد وأن يكون موّال أبي :"
جناحي المتعب، وجهه الأسمر - تميمة المتدثرين بعوراتهم - دموعهم قناديل الأمنيات الحزينة - بأكفهم تعرّش عناقيد العنب - وإنني صليت ساعة بعثي - كي يظل شرنقة للتماثيل ... ""
إلى هنا لم تبدأ الرواية بعد، فما تراها تقول ؟
ما تقول منّة
بعد مقدمة تشويقية وبوح شعري أخاذ ومحلق، تصبنا الروائية مباشرة أمام مدينة تنام على صدر الجبل قبالة البحر تعلو قمتها قبة الشيخ الولي القادري . وفيما يرزح رجالها في المقاهي الشعبية يتسامرون ويتجادلون، تصعد نساؤهم إلى قمة الجبل زائرات سيدي الشيخ والولي القادري يلبون نداء الرغبة الملحة الممزوجة برائحة اللذة الشبقة والخرافة التي تملأ عقولهن المخدرة .
وتدور الحكاية حول امرأة تجوب الغابة ليلا في كامل عريها لتختلي بمن تخلف من رجالهم الشجعان فتقيم معه علاقة لا تنسى ... (الحنش) أحد الفحول الذين جابوا أغوارها يجلس في المقهى وعيون حاسديه تحولق حوله تستمع بشغف وهو يعيد عليهم حكايته واصفا لهم جمالها الآخذ وشبقها المتوحش القاتل.. (حنش) رغم قوته وجبروته إلا أنه أضحى ضعيفا تحت ضمتها الآسرة القوية.. فيسيل لعاب بقية الرجال، الكل يشتهي اللقاء بها لولا رعشة الخوف التي تسكنهم وتثقل خطواتهم إليها .
فتظل منّه الجنية تبعث بصوت نايها (القصبة) الحنون المليء بالرغبة والشيق وكأنها تنادي الحبيب، وتظل تبعث بذلك الصوت والموال طول الليل مع أمواج البحر ونسماتها المنعشة السالبة إلى أن تلتقي بموال فيأسره نداؤها ويجذبه نحوها فتحضنه بسحرها وتأسره بجمالها ثم بتصرفاتها الجنية الغريبة فيسكن معها القفار مخليا زوجته وأبناءه فلا يستطيع العودة إليهم وكأنه مكبل بالسلاسل رغم طلاقته، إنه أسيرها، أسير جنونها وعبقها فلا يستطيع الفكاك منها .
فتأخذه إليها ثم تكشف له أسرارها ثم أسرار البلدة وأهلها فينكشف زيفهم وكذبهم وتلاعب سيدي الشيخ القائم على الزاوية واحتياله على أهل المدينة السذج المسحورين بالخرافة والشبق .
تبدو هذه المدينة -القرية في الرواية ملعونة مهددة بغضب البحر وظلمة السماء الحالكة وهدير الرياح القوية التي تكاد تقلعها من جذورها وتعريهم .
إنها مدينة ملعونة أو كما تقول منّه مخاطبة حبيبها موّال : " أنظر ! حبيبي (يهدّر) ... البحر حبيبي، إنه عكس هذه المدينة العاهرة، التي تفتح مقهاها، أبوابها، بيوتها، (................) في كل الأوقات.. "
منّه هذه البعبع (فضيحة النساء) الجنية التي سحرت موّال زين رجال القرية وأخذته عن زوجته وأبنائه،، سحرته بلحنها الجذاب الذي ظلت ترسل به إلى أهل القرية طوال الوقت فانجذب إليه موّال وغاب معه إلى المجهول.. " ما بال اللّحن ينبعث حزينا، مستفزا ... ما بال جسد موّال لا يقاوم انجذابه إلى الجسد المتفصد أنوثة ووجدا ... ما بال ذاكرتها تتفتح بعينيه السوداوين المحدقتين في الفراغ ... ما بال حنينها أصبح جارفا ونداء جدّتها يملأ الوادي يستحث الغائبين على العودة ... "
لم تكن منّه امرأة عادية ولا حتى جنية من نسيج خيال الخرافة.. منه هي الرمز الغامض، نداء الأم المفقودة، والروح التي تحفر بعيدا في بؤرة الانتماء المرتقب ... منّه هي الحلم الصعب، والحقيقة الخطيرة المتماهية التي تشير إليها الرواية ولا تفضحها ... " ها هو اللحن الشبقي المشوب بالحزن، تفوح منه رائحة الغربة لوهلة ظن أن منّة كذبة من صنع خياله المريض ولكن (القصبة المصنوعة من قرن الغزال) أعادت إليه يقينه ".. منّة اللغز الذي بزغ في ظلمة الأحداث، لتكون المنقذ والمهلك في آن واحد ... أنقذت موّال حينما جذبته إليها وكشفت له أسرارها، وأهلكت أهل تلك القرية الملعونة الموعودة بطوفان البحر وغضب الرياح لما اقترفته أيديهم من فحش ودجل ونسيان.. أناس غرقوا في الرذيلة والخرافة، محمومة أجسادهم بالشبق ومذهولة عقولهم بالوهم .
فكل أجواء الرواية تدور حول هاجس الجنس إلى درجة الهوس، فلا تكاد تخلو عبارة من إيحاء جنسي صادم ؛ إنها لغة الجسد بامتياز رغم الفلك الخرافي التي تسبح فيه ! ولنفتح جزافا على الصفحة 109 لنقرأ : " همّ بالوقوف أسرعت نحوه كي تمنعه من ذلك، متفادية النظر إلى اللحاف المنحرف عن النصف المختفي تحته، رفعت طرفه بسرعة، وتنهدت وهو يستقر مكانه، دلقت القارورة حتى فاض السائل على جنبات اللحاف أمسك بيدها من الرّسغ، ضغط عليها، تأوهت.. "
( منّة موّال) رواية تزاوجت فيها اللغة الفصحى بالعامية (اللهجة التونسية) وفيها أخذت اللغة الفصيحة دور السرد فيما احتكرت اللهجة العامية الحوار.. فكانت الفصحى شفافة وجريئة حدّ الصدمة إلا أنها لم تتخلى عن سلاستها وشعريتها، فكانت لغة منسابة كالشلال صورت الأحداث من الداخل فتسربت إلى أعماق النفوس وجابت أغوارها وتحدثت بمكوناتها وغرائزها، فكانت لغة بوح أكثر مما هي لغة وصف، وأخذت من خلالها الشخوص نصيبا كبيرا من الحكي والقول دون اضطرارها المرور عبر الراوي فكانت تتحدث بطلاقة وحرية وكأنها تحدث نفسها وهي التقنية التي سمحت للروائية من أن تعبر بشفافية وامتياز عما يجوب بداخل شخوص هذه الرواية وفي الوقت نفسه تشّد المتلقي إليها بإزاحة الواسطة، فهي لغة مفتوحة منفرجة غير متكتمة، لغة متحركة تنتقل بخفة وتنساب كالماء من تحت العشب القشيب .
ولو طلقت العنان لخبالي وسمحت بجموحه معتمدا في ذلك على بعض الدلالات اللغوية من مثل كلمة الشتات والإيحاءات التصويرية لقلت إن هذه الرواية تسلط الضوء على مجتمع منبوذ أصابته لعنة الشتات والتشرد جراء ما كسبت أيديهم من فحش ورذيلة ونقض للعهد والميثاق الذي أوثقوا به أنفسهم، وتخليهم عن الأم - الحلم . وهو الأمر الذي ينطبق بشكل صارخ على المجتمع اليهودي الذي أصابته لعنة الشتات والتشرد في بطحاء الأرض عبر أزمنة مختلفة، لكن يبقى هذا مجرد جموح خيال وطيش هذيان حركه بريق الحدس ولمعان الإحساس .
أما الرواية كنص فهي على مستوى كبير من الإبداع والخيال المجنح، تأخذك إلى هناك، إلى الحلم، إلى السباحة في بحر الخيال، والغوص في أعماق النفس البشرية الغريبة المجهولة . إنها رواية المتعة في غرائبيتها، رواية اللذة بجرأتها وانفتاحها إلى درجة أن المتلقي يبقى مندهشا واقفا أمام عتبات بابها المشرع على مصرعيه لكل القراءات والاحتمالات الممكنة وغير الممكنة . إنه حقا نص اللذة والمتعة كما هو متعة النص ولذته











تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...