إن حلقات العلم متداخلة تتمسك كل حلقة بأختها في تنسيق بديع، وتقوِّي كل واحدة منها نظيرتها قوة تماسك وتعاضد، وتُوصِل كل حلقة للتي بعدها، فهل كان لجاليليو أن يظهر ما لم يظهر كوبرنيكس، وهل كان للأخير يظهر لو لم يكن ابن رشد، وهل يمكن أن نتصور ابن رشد دون وجود المعلم الأول أرسطو.
لعله لم تحظ أمة بما حظيت به الأمة العربية من تراث تزهو به في مختلف المجالات وفي عديد العلوم والثقافة بمفهومها الواسع؛ فلقد تحصّلت الأمة العربية على عقول فذة تزهو بها عبر الأجيال، والثابت لدي أن انخراط عديد من الأقوام، ومختلف من الأعراق في تكوين هذه الثقافة كان له أكبر الأثر في الثراء الهائل لتراثنا، حيث استفادت الثقافة العربية من جميع الثقافات التي وصلها الإسلام، وأصبحت ثقافات تلك الأمم المكونة للحضارة العربية روافد تصب في نهر الثقافة العربية الواسع.
إذًا ليس غريبا ولا عجيبا، أن تجد من الأسماء التي نزهو بها في تراث ثقافتتا العربية ليست أسماء عربية، كما هو الشأن -على سبيل المثال- في سيبويه العالم النحوي الكبير، الذي ينتسب إلى بلاد فارس، والذي من ترجمات اسمه: "التفاحي" نسبة إلى التفاح الذي كان شكل بشرته، أو ذو الثلاثين رائحة حيث تميز اللغوي الكبير بحرصه الشديد على التعطر. وعلى شاكلة أول من وضع كتاب في النحو العربي، الكثيرُ ممن أثروا الثقافة العربية وهم ينتمون لأعراق غير عربية، وليس هناك في مثل ذلك من شيء يؤخذ على الثقافة أو التراث.
إننا نزعم أن ما حدث مع الثقافة العربية والتراث العربي، قد حدث مع ثقافات مختلفة أخرى، وإن كانت النسب متفاوتة، ولعل أكثر النماذج وضوحا في عصرنا الراهن، هي الحضارة والثقافة الأمريكية؛ تلك التي ستصبح خلال بضعة قرون تراثا أمريكيا تتناقله الأجيال، وتزهو به، فالواضح كل الوضوح أن الثقافة الأمريكية يقوم على تكوينها الآن العديد من الأعراق والمختلف من الحضارات، حيث تسعى الدولة الأكبر في العالم اليوم إلى إغراء كل العلماء، ومعظم الأدباء والمثقفين، بل أيضا والرياضيين - هذه الفئة التي لم تكن مستهدفة أو مساهمة في الحضارات والتراث للأمم السابقة - للمجيء والعيش والإقامة بالولايات المتحدة الأمريكية للاستفادة من علمهم وثقافتهم وقدراتهم، لتستمر الحضارات - في مثال واضح- في الاستفادة من أبناء الحضارات الأخرى، ولتستمر الدول والأمم الساعية لإقامة حضارة بالحرص كل الحرص على الاستفادة من العقول الفذة؛ والقدرات المتنوعة، والطاقات الكبيرة.
تمر الأيام وتعقبها الأشهر والسنوات والقرون، فإذا بكل قوم يفخرون بما تركه أسلافهم من ميراث، وإذا بالتراث يظل محل بحث ودرس، وإذا بالعلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة، قد أصبحوا قِيَمًا يعتز بها ويتباهى أبناء قومهم، ومن ينتسبون لعرقهم، مدللين على قدرة هذه الأمة أو هذا الشعب أو هذا العرق على الإتيان بمثلهم ليساهموا في صنع الحضارة الإنسانية، التي هي ليست نصرا في معارك بل ارتقاء بالإنسان والإنسانية.
ولعل أفضل من يعبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير نجم عصر التنوير الأوروبي - إن جاز الوصف - "فولتير" الذي يرى أن لوحة فنان أو قصيدة شاعر أو نظرة تأمل لفيلسوف هي أهم وأعظم للتطور والفكر الإنساني من كل انتصارات القادة العسكريين.
ولعل جبران خليل جبران أديبنا وفيلسوفنا العربي الكبير يتفق مع الفيلسوف الفرنسي الشهير في إشارته لمثل هذا في قصيدته الشهيرة المواكب حينما ذكر:
وقل نسينا فخارَ الفاتحينَ وما
ننسى المجانين حتى يغمر الغمرُ
قد كان في قلب ذي القرنين مجزرةٌ
وفي حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ
ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ
وفي انكساراتِ هذا الفوزُ والظفرُ
إنها إشارة إلى أن المشاعر والأحاسيس وما يتتبعها من تجربة إنسانية صادقة ووصف بديع راق أهم مئات المرات من تلك الانتصارات التي يحققها قائد عسكري، أو زعيم أو ملك، ذلك الذي أشار إليه فولتير بأن لوحة بديعة أو قصيدة متقنة أهم لفرنسا من كل ما حققه لويس الرابع عشر من انتصارات.
وإذا كان في عصرنا الحديث تسارعت كل من التشيك وألمانيا والنمسا للفوز بانتساب الأديب الفذ "كافكا" صاحب الرواية الشهيرة "المسخ" إليها، فإن ذلك أيضا ينسحب على الكثير من العقول التي ذخرت بها الثقافة العربية، فبعد العديد من القرون نجد تشابكا في الانتماء، وتقاسما في الفخر؛ ولعل المعلم الثاني - حيث أن أرسطو هو المعلم الأول – "الفارابي"؛ الذي ولد في مدينة فاراب - تلك المدينة المهجورة حاليا والتي تقع في دولة كازاخستان، كان أحد هؤلاء الفلاسفة العرب الذين تنازع على شرف انتمائه لهم كل من القومية الفارسية والقومية التركية، ذلك الذي يعكس قيمة الرجل ومكانته.
فالفارابي الذي ولد في ولد عام 260 هـ/874 م كان شخصية موسوعية ولم يكن يجهل قدراته، ولا مكانته، بل كان يعتز بهما اعتزازا كبيرا، ولعل موقفه مع سيف الدولة الحمداني حينما حضر إليه لأول مرة كاشفا بشكل كبير على اعتزاز الفيلسوف بذاته؛ وذلك حينما سمح له سيف الدولة بالجلوس؛ ليسأله الفارابي : أأجلس حيث أنا أم حيث أنت؟ فأجابه سيف الدولة: حيث أنت؛ فأخذ طريقه إلى حيث يجلس سيف الدولة الحمداني مزاحما إياه في موضعه، وهنا تحدث أحد القادة العسكريين - وكان مملوكا - يتحدث لغة غير العربية يفهمها سيف الدولة الحمداني؛ بأن هذا السلوك من الفارابي سلوكا وقحا، فكان رد سيف الدولة عليه: أنه إما أن يثبت أنه أهل لما قام به من فعل، وإلا تقطع رأسه.
لعله لم تحظ أمة بما حظيت به الأمة العربية من تراث تزهو به في مختلف المجالات وفي عديد العلوم والثقافة بمفهومها الواسع؛ فلقد تحصّلت الأمة العربية على عقول فذة تزهو بها عبر الأجيال، والثابت لدي أن انخراط عديد من الأقوام، ومختلف من الأعراق في تكوين هذه الثقافة كان له أكبر الأثر في الثراء الهائل لتراثنا، حيث استفادت الثقافة العربية من جميع الثقافات التي وصلها الإسلام، وأصبحت ثقافات تلك الأمم المكونة للحضارة العربية روافد تصب في نهر الثقافة العربية الواسع.
إذًا ليس غريبا ولا عجيبا، أن تجد من الأسماء التي نزهو بها في تراث ثقافتتا العربية ليست أسماء عربية، كما هو الشأن -على سبيل المثال- في سيبويه العالم النحوي الكبير، الذي ينتسب إلى بلاد فارس، والذي من ترجمات اسمه: "التفاحي" نسبة إلى التفاح الذي كان شكل بشرته، أو ذو الثلاثين رائحة حيث تميز اللغوي الكبير بحرصه الشديد على التعطر. وعلى شاكلة أول من وضع كتاب في النحو العربي، الكثيرُ ممن أثروا الثقافة العربية وهم ينتمون لأعراق غير عربية، وليس هناك في مثل ذلك من شيء يؤخذ على الثقافة أو التراث.
إننا نزعم أن ما حدث مع الثقافة العربية والتراث العربي، قد حدث مع ثقافات مختلفة أخرى، وإن كانت النسب متفاوتة، ولعل أكثر النماذج وضوحا في عصرنا الراهن، هي الحضارة والثقافة الأمريكية؛ تلك التي ستصبح خلال بضعة قرون تراثا أمريكيا تتناقله الأجيال، وتزهو به، فالواضح كل الوضوح أن الثقافة الأمريكية يقوم على تكوينها الآن العديد من الأعراق والمختلف من الحضارات، حيث تسعى الدولة الأكبر في العالم اليوم إلى إغراء كل العلماء، ومعظم الأدباء والمثقفين، بل أيضا والرياضيين - هذه الفئة التي لم تكن مستهدفة أو مساهمة في الحضارات والتراث للأمم السابقة - للمجيء والعيش والإقامة بالولايات المتحدة الأمريكية للاستفادة من علمهم وثقافتهم وقدراتهم، لتستمر الحضارات - في مثال واضح- في الاستفادة من أبناء الحضارات الأخرى، ولتستمر الدول والأمم الساعية لإقامة حضارة بالحرص كل الحرص على الاستفادة من العقول الفذة؛ والقدرات المتنوعة، والطاقات الكبيرة.
تمر الأيام وتعقبها الأشهر والسنوات والقرون، فإذا بكل قوم يفخرون بما تركه أسلافهم من ميراث، وإذا بالتراث يظل محل بحث ودرس، وإذا بالعلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة، قد أصبحوا قِيَمًا يعتز بها ويتباهى أبناء قومهم، ومن ينتسبون لعرقهم، مدللين على قدرة هذه الأمة أو هذا الشعب أو هذا العرق على الإتيان بمثلهم ليساهموا في صنع الحضارة الإنسانية، التي هي ليست نصرا في معارك بل ارتقاء بالإنسان والإنسانية.
ولعل أفضل من يعبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير نجم عصر التنوير الأوروبي - إن جاز الوصف - "فولتير" الذي يرى أن لوحة فنان أو قصيدة شاعر أو نظرة تأمل لفيلسوف هي أهم وأعظم للتطور والفكر الإنساني من كل انتصارات القادة العسكريين.
ولعل جبران خليل جبران أديبنا وفيلسوفنا العربي الكبير يتفق مع الفيلسوف الفرنسي الشهير في إشارته لمثل هذا في قصيدته الشهيرة المواكب حينما ذكر:
وقل نسينا فخارَ الفاتحينَ وما
ننسى المجانين حتى يغمر الغمرُ
قد كان في قلب ذي القرنين مجزرةٌ
وفي حشاشةِ قيسِ هيكلٌ وقرُ
ففي انتصارات هذا غلبةٌ خفيتْ
وفي انكساراتِ هذا الفوزُ والظفرُ
إنها إشارة إلى أن المشاعر والأحاسيس وما يتتبعها من تجربة إنسانية صادقة ووصف بديع راق أهم مئات المرات من تلك الانتصارات التي يحققها قائد عسكري، أو زعيم أو ملك، ذلك الذي أشار إليه فولتير بأن لوحة بديعة أو قصيدة متقنة أهم لفرنسا من كل ما حققه لويس الرابع عشر من انتصارات.
وإذا كان في عصرنا الحديث تسارعت كل من التشيك وألمانيا والنمسا للفوز بانتساب الأديب الفذ "كافكا" صاحب الرواية الشهيرة "المسخ" إليها، فإن ذلك أيضا ينسحب على الكثير من العقول التي ذخرت بها الثقافة العربية، فبعد العديد من القرون نجد تشابكا في الانتماء، وتقاسما في الفخر؛ ولعل المعلم الثاني - حيث أن أرسطو هو المعلم الأول – "الفارابي"؛ الذي ولد في مدينة فاراب - تلك المدينة المهجورة حاليا والتي تقع في دولة كازاخستان، كان أحد هؤلاء الفلاسفة العرب الذين تنازع على شرف انتمائه لهم كل من القومية الفارسية والقومية التركية، ذلك الذي يعكس قيمة الرجل ومكانته.
فالفارابي الذي ولد في ولد عام 260 هـ/874 م كان شخصية موسوعية ولم يكن يجهل قدراته، ولا مكانته، بل كان يعتز بهما اعتزازا كبيرا، ولعل موقفه مع سيف الدولة الحمداني حينما حضر إليه لأول مرة كاشفا بشكل كبير على اعتزاز الفيلسوف بذاته؛ وذلك حينما سمح له سيف الدولة بالجلوس؛ ليسأله الفارابي : أأجلس حيث أنا أم حيث أنت؟ فأجابه سيف الدولة: حيث أنت؛ فأخذ طريقه إلى حيث يجلس سيف الدولة الحمداني مزاحما إياه في موضعه، وهنا تحدث أحد القادة العسكريين - وكان مملوكا - يتحدث لغة غير العربية يفهمها سيف الدولة الحمداني؛ بأن هذا السلوك من الفارابي سلوكا وقحا، فكان رد سيف الدولة عليه: أنه إما أن يثبت أنه أهل لما قام به من فعل، وإلا تقطع رأسه.