( القاهرة - 1992)
فى يوم الأربعاء 9 ديسمبر[ مثل هذا اليوم] من ذلك العام. مات صاحب "قنديل أم هاشم".. مات يحيي حقي.. بعدما عاش الحياة بجمالها، وحلوها، ومرها، وحزنها، وفرحها. لقد عاش الرجل وهو يدرك سر البقاء - بعد رحلة عمر وصلت إلى 87 عاماً - والسر عرفه وأراد أن نعرفه.. وهو أن الحياة أبسط من أن نجعلها ساحة للمعارك. وساحة للنفاق. وساحة للفساد. وساحة للقبح. وساحة للظلم، وسوء الأخلاق. سر الحياة عند يحيى حقى.. كان عنوانه الصدق، والمحبة والجمال، والابتسامة، والخير. والحق، والعدل.. وحُسن الاستقامة.. وأن تبقي قبل كل شئ - وبعد كل شئ - إنسان مع نفسك.. ومع الغير!
***
( المعادي - 1939 )
- نهارك سعيد يا «مدموازيل»
- تخجل الفتاة البريئة ولا ترد.. يعاود الشاب الذى تجاوز الثلاثين من عمره، تحيته للفتاة التى تجلس أمامه، على كرسى وثير، تحت مظلة، وسط أشجار نادى المعادى الهادئ فى ذلك الزمن البعيد. وبعد فترة من الصمت الذى تبعه خجل واضح على وجهها ردت قائلة: نهارك سعيد، هنا ظهرت ملامح البهجة على ملامح هذا الشاب جميل الوجه. هادئ الطبع. صادق النفس. قصير القامة الذى يدعى «يحيى حقى محمد حقى» وشهرته الأدبية «يحيى حقى» الذى أصبح فيما بعد علامة بارزة فى شأن الأدب المصرى. أما الفتاة التى ألقى عليها تحية الصباح، والتى التقاها - بالصدفة - فى النادى، فهى السيدة "نبيلة عبد اللطيف سعودى" - والدها كان محامياً كبيراً، وعضو مجلس الأمة فى ذلك الوقت - بعد اللقاء الأول بينهما، وبعد قصة حب خاطفة، وسريعة، قرر الزواج منها، ولكن قبل أن توافق العروس على الزواج قال لها: أرجو أن تعرفى أننى قصير القامة! ابتسمت ولم ترد. عاود كلامه قائلاً: وأنت طويلة القامة! ضحكت ولم ترد. وفى إحدى المرات وهما فى النادى، استدعى أحد «الجرسونات» وكان طويلًا وفارع القامة، ووقف بجواره، ونظر إلى حبيبته، وقال لها: "انظرى جيداً، واتخذى قرارك، هذا الذى أفعله هو تطبيق عملى، حتى ترى على الواقع، كم أنا قصير، وأظن أن شكلنا فى حفل الزفاف قد يكون محل سخرية من البعض"! ردت وهى تضحك: "إن كنت قصير القامة، فأنت جميل الروح.. وهذا منك يكفينى". رد وهو يشير للجرسون بالانصراف. إذن: توكلنا على الله.
***
( روما - 1938 )
كان يحيى حقى فى ذلك الوقت عائدًا من رحلته الدبلوماسية التى تجول فيها من جدة إلى تركيا وروما، ثم استقر بصفة مؤقتة فى وزارة الخارجية بالقاهرة. هذا الاستقرار المؤقت، جعله يفكر فى الزواج، وبعدما وافقت الفتاة التى خفق قلبه لها ووافقت على الزواج منه رغم قصر قامته - كما كان يقول هو من باب خفة الدم وروح الدعابة التى اشتهر بها - قرر الذهاب إلى أبيها. وفى أسابيع تم تحديد موعد الفرح، لكن كانت هناك مشكلة ظهرت فى الأفق، ألا وهى.. كيف سيقف العريس بجوار عروسه؟ وكيف سيجلس بجوارها فى «الكوشة» وفارق الطول بينهما كان واضحاً! المشكلة تحولت إلى أزمة.. واجتمع أفراد الأسرة. الكل يفكر. الكل يناقش. الكل مندهش. والكل فى الوقت نفسه يضحك.
وأثناء ذلك طرأت فكرة أمامهم وهى أن يأتوا، بكتب ضخمة الحجم - مثل الموسوعة البريطانية- وتم وضع أكثر من كتاب موسوعى ضخم الحجم تحت كرسى العريس، ليتساوى فى طوله مع عروسه، ونجحت الفكرة، وتزوج يحيى حقى من حبيبته «نبيلة عبداللطيف» ويشاء القدر ألا تعيش حبيبته وزوجته، إلا 10 شهور فقط بعد زواجهما!
***
(المعادي - 1940)
لقد باغتها المرض، وهى فى أسعد أيام حياتها وبعد شهور وحتى يكون القدر رحيمًا به وهو يفقدها كان الله قد رزقه منها بابنة أطلق عليها اسم «نهى» وبعد 30 يومًا بالتمام والكمال، زار ملك الموت الفيلا رقم 3 فى شارع 6 بالمعادى، ليسحب روح الزوجة، وتموت وتترك ابنة عمرها أيام، وزوج لم يعش معها إلا شهوراً.. وكأنها -حسب قوله فيما بعد- سحابة جميلة فى الأفق مرت عليه ورحلت إلى غير رجعة!
***
(القاهرة - 2017)
الطفلة فى ذلك الزمان هي الآن السيدة «نهى يحيى حقى» التى قالت فى حديث لى معها: كان أبى حالة خاصة فى حياتى، فأنا - كما تعلم - ابنته الوحيدة. وبعد وفاة أمى، رأت جدتى لأمى، أن مكانى هو بيتها فلقد خطف الموت ابنتها فى عز فرحتها، وكانت الصدمة لها قاسية جداً، ووافق أبى، لأنه أيضًا كان مصدومًا بالوفاة الخاطفة التى حلت على زوجته، وبالتالى وافق على أن تتولى جدتى تربيتى وسافر هو إلى فرنسا لمواصلة عمله الدبلوماسى، لكن كان يزور مصر من أجلى كل عام، فكنت أذهب اليه عندما كبرت قليلاً، ويأتى هو فى بيت جدى. رأيت فيه الدعابة والروح الطيبة، والبساطة، والتواضع وحب الناس، كان فى شخصيته حالة غريبة شعرت بها عندما كبرت.. وهى حبه الشديد للبسطاء، وكنت دائماً أسأله.. أنت لم تعش مع الفقراء، ولا مع الفلاحين، ولا مع عامة الناس.. كيف لك وأنت كذلك أن يكون شعورك بهم هكذا؟ يرد: "كانت لى فرصة طيبة، عندما جاء عملى بالأقاليم فى دمنهور والإسكندرية، وأسيوط، حيث عملت فى النيابة العامة وهذا حقق لى مساحة جيدة للوقوف على مشاعر الناس الفقراء، وأحلامهم، وكنت أجلس اليهم بالساعات نتحدث، ونفكر ونضحك، ونناقش، وهذا جعلنى أقترب منهم جداً، وأشعر بما يشعرون به.
***
تكمل السيدة نهي: كانت أمي - كما كانت تقول لى جدتي دائما - امرأة مرحة وذات بسمة هادئة ويظهر على ملامحها الطيبة، والوداعة، والهدوء، ولها منظر جميل، وشكل بهى. وعندما تزوجها أبى عاش مع جدى فى منزله ثلاثة أشهر فقط فى سعادة وحب وهدوء. بعد ذلك داهمها المرض على غير موعد. مرض مؤلم غريب، عجيب. وبدأ بسحب النور من عينها اليسرى. ويومًا بعد يوم، حل الظلام على تلك العين، ثم انتقل إلى العين الأخرى. وبعدها بشهور بدأ مرض آخر يهاجمها وهو التهاب"عضلة القلب" والذى لم يكن له علاج وقتها، إلا البنسلين. ولم يكن موجودًا إلا فى معسكرات الجيش البريطانى فقط، واستطاع أبى - بحكم عمله فى الخارجية - الحصول عليه بكميات كبيرة، لكن دون جدوى.. وما هى إلا أيام حتى ولدت أنا. ثم ماتت. وبعدها كتب أبى مقالاً عنها نشر فى مجلة الثقافة عنوانه «الموت.. إلى نبيلة»!
***
( باريس - 1950 )
بعد وفاتها سافر إلى أوروبا. فالوفاة كانت قاسية جدًا عليه، لكنه احتمل ذلك، وصبر عليه، ورفض الزواج لمدة عشر سنوات بعد رحيلها. وفى عام 1954 تزوج من الفنانة التشكيلية الفرنسية «جان ميرى» التى تعرف عليها،
فى فرنسا خلال عمله فى الخارجية.. وفى ذلك الوقت كان يتردد على المراسم والمتاحف، وبعد عامين من الصداقة بينهما نقل من باريس إلى أنقرة التى ظل بها مدة عامين كاملين، ثم قامت ثورة 23 يوليو 1952، بعدها نقل كوزير مفوض فى ليبيا، فى هذه الفترة، كان يعيش فى صراع مع نفسه بين رغبته فى الزواج من السيدة «جان» وبين مستقبله السياسى والدبلوماسى. ودار هذا الصراع بداخله واشتد، لكنه حسمه فى عام 1954 عندما قرر الاستقالة من عمله السياسى من أجل الزواج، والحب والحياة. قلت للابنة: يستقيل من أجل الزواج وهو من هو دبلوماسى بدرجة وزير؟! ردت ضاحكة: بل استقال من أجل الحب. والحقيقة كانت السيدة «جان» تستحق أن يترك من أجلها كل شىء، فهى سيدة رائعة، وكان هو كزوج حالة متفردة ومتميزة. فهو حالة من الهدوء. والتعاون. والرقى معها، لذلك لم تتحمل فراقه وبعد رحيله بعام بالضبط رحلت هى الأخرى.. ولقد حزنتُ عليها كثيراً، لأنها كانت مثل أمى التى لم أرها. ثم سكتت وكأنها تتذكر لحظات طرأت على ذهنها ثم قالت: بعد رحيله وجدتها تقول:"يا نهى..أنا لا أريد البقاء على قيد الحياة..يحيى.. مات.. فلماذا.. ولمن أعيش؟" وما هى إلا شهور حتى وافتها المنية. ورحلت عن دنيانا، رغم أنها كانت محبة للحياة جداً، وأذكر أنها أصيبت بمرض قاس فى حياة أبى، لكنها نجحت وتفوقت وهزمت المرض حبًا فى الحياة..وحباً فى أبي!
خيري حسن
ديسمبر- 2020
فى يوم الأربعاء 9 ديسمبر[ مثل هذا اليوم] من ذلك العام. مات صاحب "قنديل أم هاشم".. مات يحيي حقي.. بعدما عاش الحياة بجمالها، وحلوها، ومرها، وحزنها، وفرحها. لقد عاش الرجل وهو يدرك سر البقاء - بعد رحلة عمر وصلت إلى 87 عاماً - والسر عرفه وأراد أن نعرفه.. وهو أن الحياة أبسط من أن نجعلها ساحة للمعارك. وساحة للنفاق. وساحة للفساد. وساحة للقبح. وساحة للظلم، وسوء الأخلاق. سر الحياة عند يحيى حقى.. كان عنوانه الصدق، والمحبة والجمال، والابتسامة، والخير. والحق، والعدل.. وحُسن الاستقامة.. وأن تبقي قبل كل شئ - وبعد كل شئ - إنسان مع نفسك.. ومع الغير!
***
( المعادي - 1939 )
- نهارك سعيد يا «مدموازيل»
- تخجل الفتاة البريئة ولا ترد.. يعاود الشاب الذى تجاوز الثلاثين من عمره، تحيته للفتاة التى تجلس أمامه، على كرسى وثير، تحت مظلة، وسط أشجار نادى المعادى الهادئ فى ذلك الزمن البعيد. وبعد فترة من الصمت الذى تبعه خجل واضح على وجهها ردت قائلة: نهارك سعيد، هنا ظهرت ملامح البهجة على ملامح هذا الشاب جميل الوجه. هادئ الطبع. صادق النفس. قصير القامة الذى يدعى «يحيى حقى محمد حقى» وشهرته الأدبية «يحيى حقى» الذى أصبح فيما بعد علامة بارزة فى شأن الأدب المصرى. أما الفتاة التى ألقى عليها تحية الصباح، والتى التقاها - بالصدفة - فى النادى، فهى السيدة "نبيلة عبد اللطيف سعودى" - والدها كان محامياً كبيراً، وعضو مجلس الأمة فى ذلك الوقت - بعد اللقاء الأول بينهما، وبعد قصة حب خاطفة، وسريعة، قرر الزواج منها، ولكن قبل أن توافق العروس على الزواج قال لها: أرجو أن تعرفى أننى قصير القامة! ابتسمت ولم ترد. عاود كلامه قائلاً: وأنت طويلة القامة! ضحكت ولم ترد. وفى إحدى المرات وهما فى النادى، استدعى أحد «الجرسونات» وكان طويلًا وفارع القامة، ووقف بجواره، ونظر إلى حبيبته، وقال لها: "انظرى جيداً، واتخذى قرارك، هذا الذى أفعله هو تطبيق عملى، حتى ترى على الواقع، كم أنا قصير، وأظن أن شكلنا فى حفل الزفاف قد يكون محل سخرية من البعض"! ردت وهى تضحك: "إن كنت قصير القامة، فأنت جميل الروح.. وهذا منك يكفينى". رد وهو يشير للجرسون بالانصراف. إذن: توكلنا على الله.
***
( روما - 1938 )
كان يحيى حقى فى ذلك الوقت عائدًا من رحلته الدبلوماسية التى تجول فيها من جدة إلى تركيا وروما، ثم استقر بصفة مؤقتة فى وزارة الخارجية بالقاهرة. هذا الاستقرار المؤقت، جعله يفكر فى الزواج، وبعدما وافقت الفتاة التى خفق قلبه لها ووافقت على الزواج منه رغم قصر قامته - كما كان يقول هو من باب خفة الدم وروح الدعابة التى اشتهر بها - قرر الذهاب إلى أبيها. وفى أسابيع تم تحديد موعد الفرح، لكن كانت هناك مشكلة ظهرت فى الأفق، ألا وهى.. كيف سيقف العريس بجوار عروسه؟ وكيف سيجلس بجوارها فى «الكوشة» وفارق الطول بينهما كان واضحاً! المشكلة تحولت إلى أزمة.. واجتمع أفراد الأسرة. الكل يفكر. الكل يناقش. الكل مندهش. والكل فى الوقت نفسه يضحك.
وأثناء ذلك طرأت فكرة أمامهم وهى أن يأتوا، بكتب ضخمة الحجم - مثل الموسوعة البريطانية- وتم وضع أكثر من كتاب موسوعى ضخم الحجم تحت كرسى العريس، ليتساوى فى طوله مع عروسه، ونجحت الفكرة، وتزوج يحيى حقى من حبيبته «نبيلة عبداللطيف» ويشاء القدر ألا تعيش حبيبته وزوجته، إلا 10 شهور فقط بعد زواجهما!
***
(المعادي - 1940)
لقد باغتها المرض، وهى فى أسعد أيام حياتها وبعد شهور وحتى يكون القدر رحيمًا به وهو يفقدها كان الله قد رزقه منها بابنة أطلق عليها اسم «نهى» وبعد 30 يومًا بالتمام والكمال، زار ملك الموت الفيلا رقم 3 فى شارع 6 بالمعادى، ليسحب روح الزوجة، وتموت وتترك ابنة عمرها أيام، وزوج لم يعش معها إلا شهوراً.. وكأنها -حسب قوله فيما بعد- سحابة جميلة فى الأفق مرت عليه ورحلت إلى غير رجعة!
***
(القاهرة - 2017)
الطفلة فى ذلك الزمان هي الآن السيدة «نهى يحيى حقى» التى قالت فى حديث لى معها: كان أبى حالة خاصة فى حياتى، فأنا - كما تعلم - ابنته الوحيدة. وبعد وفاة أمى، رأت جدتى لأمى، أن مكانى هو بيتها فلقد خطف الموت ابنتها فى عز فرحتها، وكانت الصدمة لها قاسية جداً، ووافق أبى، لأنه أيضًا كان مصدومًا بالوفاة الخاطفة التى حلت على زوجته، وبالتالى وافق على أن تتولى جدتى تربيتى وسافر هو إلى فرنسا لمواصلة عمله الدبلوماسى، لكن كان يزور مصر من أجلى كل عام، فكنت أذهب اليه عندما كبرت قليلاً، ويأتى هو فى بيت جدى. رأيت فيه الدعابة والروح الطيبة، والبساطة، والتواضع وحب الناس، كان فى شخصيته حالة غريبة شعرت بها عندما كبرت.. وهى حبه الشديد للبسطاء، وكنت دائماً أسأله.. أنت لم تعش مع الفقراء، ولا مع الفلاحين، ولا مع عامة الناس.. كيف لك وأنت كذلك أن يكون شعورك بهم هكذا؟ يرد: "كانت لى فرصة طيبة، عندما جاء عملى بالأقاليم فى دمنهور والإسكندرية، وأسيوط، حيث عملت فى النيابة العامة وهذا حقق لى مساحة جيدة للوقوف على مشاعر الناس الفقراء، وأحلامهم، وكنت أجلس اليهم بالساعات نتحدث، ونفكر ونضحك، ونناقش، وهذا جعلنى أقترب منهم جداً، وأشعر بما يشعرون به.
***
تكمل السيدة نهي: كانت أمي - كما كانت تقول لى جدتي دائما - امرأة مرحة وذات بسمة هادئة ويظهر على ملامحها الطيبة، والوداعة، والهدوء، ولها منظر جميل، وشكل بهى. وعندما تزوجها أبى عاش مع جدى فى منزله ثلاثة أشهر فقط فى سعادة وحب وهدوء. بعد ذلك داهمها المرض على غير موعد. مرض مؤلم غريب، عجيب. وبدأ بسحب النور من عينها اليسرى. ويومًا بعد يوم، حل الظلام على تلك العين، ثم انتقل إلى العين الأخرى. وبعدها بشهور بدأ مرض آخر يهاجمها وهو التهاب"عضلة القلب" والذى لم يكن له علاج وقتها، إلا البنسلين. ولم يكن موجودًا إلا فى معسكرات الجيش البريطانى فقط، واستطاع أبى - بحكم عمله فى الخارجية - الحصول عليه بكميات كبيرة، لكن دون جدوى.. وما هى إلا أيام حتى ولدت أنا. ثم ماتت. وبعدها كتب أبى مقالاً عنها نشر فى مجلة الثقافة عنوانه «الموت.. إلى نبيلة»!
***
( باريس - 1950 )
بعد وفاتها سافر إلى أوروبا. فالوفاة كانت قاسية جدًا عليه، لكنه احتمل ذلك، وصبر عليه، ورفض الزواج لمدة عشر سنوات بعد رحيلها. وفى عام 1954 تزوج من الفنانة التشكيلية الفرنسية «جان ميرى» التى تعرف عليها،
فى فرنسا خلال عمله فى الخارجية.. وفى ذلك الوقت كان يتردد على المراسم والمتاحف، وبعد عامين من الصداقة بينهما نقل من باريس إلى أنقرة التى ظل بها مدة عامين كاملين، ثم قامت ثورة 23 يوليو 1952، بعدها نقل كوزير مفوض فى ليبيا، فى هذه الفترة، كان يعيش فى صراع مع نفسه بين رغبته فى الزواج من السيدة «جان» وبين مستقبله السياسى والدبلوماسى. ودار هذا الصراع بداخله واشتد، لكنه حسمه فى عام 1954 عندما قرر الاستقالة من عمله السياسى من أجل الزواج، والحب والحياة. قلت للابنة: يستقيل من أجل الزواج وهو من هو دبلوماسى بدرجة وزير؟! ردت ضاحكة: بل استقال من أجل الحب. والحقيقة كانت السيدة «جان» تستحق أن يترك من أجلها كل شىء، فهى سيدة رائعة، وكان هو كزوج حالة متفردة ومتميزة. فهو حالة من الهدوء. والتعاون. والرقى معها، لذلك لم تتحمل فراقه وبعد رحيله بعام بالضبط رحلت هى الأخرى.. ولقد حزنتُ عليها كثيراً، لأنها كانت مثل أمى التى لم أرها. ثم سكتت وكأنها تتذكر لحظات طرأت على ذهنها ثم قالت: بعد رحيله وجدتها تقول:"يا نهى..أنا لا أريد البقاء على قيد الحياة..يحيى.. مات.. فلماذا.. ولمن أعيش؟" وما هى إلا شهور حتى وافتها المنية. ورحلت عن دنيانا، رغم أنها كانت محبة للحياة جداً، وأذكر أنها أصيبت بمرض قاس فى حياة أبى، لكنها نجحت وتفوقت وهزمت المرض حبًا فى الحياة..وحباً فى أبي!
خيري حسن
ديسمبر- 2020
