محمد خضير - مئوية الأدب العراقي

بغداد آب 1972
"مرت الساعات لا تشبهنا إلا قليلا
أهو الطفل الذي
يسبق النومَ إلى اليقظة والذئبُ الذي يسمع صوته
أهي بغداد التي نذهبُ فيها لأقاصي الذاكره
قاطعين الطرق المزدحمه
كاسرين الجمجمه؟"
(عبد الرحمن طهمازي: صباح التعارضات)

طُبعت أول ببليوغرافيا وطنية كاملة للمطبوعات العراقية في دار الرشيد ببغداد، بجزأين، الأول في العام 1978 والثاني في العام 1979، وبجهد فردي من الباحث المكتبي عبد الجبار عبد الرحمن الذي فهرس مؤلفات الكتاب العراقيين المطبوعة بين العامين 1856 و1972. وهو العمل الببليوغرافي الثاني بعد (معجم المؤلفين العراقيين) لكوركيس عواد الصادر في ثلاثة أجزاء العام 1969، وقد استدرك الفهرس الثاني على العمل الأول نواقصه وأضاف إليه ما تكدس في المكتبة الوطنية من ودائع المؤلفين، وما انصب فيها من كدح العقول خلال مئة وستة عشر عاماً، فأحصى خمسة عشر ألف عنوان من مختلف الصنوف.
وكان نصيبي من الفهرس المئوي الكبير أن أُدرجت (المملكة السوداء) مجموعة قصصي الأولى في قسم الآداب مع مجموعات (زقاق الفئران) لنزار عباس، و(أبرياء) لزعيم الطائي و(ضمير الماء) لحسب الله يحيى و(الشمس في الجهة اليسرى) لجهاد مجيد وآخرين و(12 قصة) لكتاب بصريين، وروايات (الوشم) لعبد الرحمن الربيعي و( القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي و(السابقون واللاحقون) لسميرة المانع و(الحبل) لإسماعيل فهد اسماعيل و(شقة في شارع أبي نؤاس) لبرهان الخطيب وثلاثية شمران الياسري، ومسرحيات (خشب ومخمل) لعبد الملك نوري و(أبو تمام) لمالك المطلبي و(ثانية يجئ الحسين) لمحمد علي الخفاجي، إضافة إلى دواوين (خلجات) للجواهري و(أعاصير) لبدر شاكر السياب و(الطائر الخشبي) لحسب الشيخ جعفر و(الأخضر بن يوسف) لسعدي يوسف و(اعترافات مالك بن الريب) ليوسف الصائغ و(حوار عبر الأبعاد الثلاثة) لبلند الحيدري. وجلّ هذه الكتب جنتها المكتبة الوطنية من مطابع بغداد الحكومية والأهلية عدا قليلاً مما حولها من المدن، في العام 1972.
بهذه المؤلفات وغيرها ختم العام 1972 عصراً من عصور بغداد المتقلبة، وافتتح مرحلة مستقرة جديدة من مراحل السياسة والاقتصاد أبرز حوادثها (تأميم النفط، والجبهة الوطنية) وأكبر تجلياتها الثقافية (تأسيس اتحاد الأدباء، ومهرجان المربد الثاني للشعر العربي في البصرة، ومهرجان الشعر الكردي الأول في كركوك).
حدث هذا وذاك بعد بلوج وجه العاصمة وبرئها من أدواء الماضي القريب والبعيد، واختتام أقوى موجات النزوح الأدبي من المحافظات (موجة أدباء كركوك والنجف خاصة) واندماجها بموجة الجيل الستيني المتمركزة في مواقعها الصحفية والشوارعية. فكان حرياً بالمفهرسين أن يكونوا شهوداً صادقين على هذا المخاض الذي اعترم العام 1972 وأن يذكّروا بالتراث الفكري العظيم الذي صاحب نزوح أدباء الأطراف إلى مركز الاشعاع والتجلي، قصداً أو من دون قصد.
وبين هؤلاء المستقرين والنازحين كلهم، وهذه الحوادث جميعاً، يكون الزائر الطارئ الذي قدِمَ إلى بغداد في أيام مستقطعة من العمل أو الخمول أو التمدْيُن، ليستطعم مرقة الفاصولياء الجافة مع طبق الأرز في مطعم حداد في الرشيد، أو تاجريان في السعدون، وثالث في حافظ القاضي، ورابع في باب المعظم، ويشهد عرضاً سينمائياً مسائياً، قد عاد إلى بيته البعيد من العاصمة برزمة صحف ومجلات وكتب، بعد أن استذاق كأس ماء لا أروق منه ولا أحلى بين كؤوس الماء المسقاة في لحظة عذاب حقيقية تعرّض لها ظلماً في حياته، وسار في ظلال أروقة الرشيد ساعات أو ركب حافلاته الحمر رواحاً وغدواً، من دون ملال أو تعب. أما من سُقي كأس جعة باردة في ظهيرة آب، في حانة بشارع الخيام، فقد عاد بذكرى أغنية كانت تدور مع دوران الكؤوس في حانة القدر الخيامية، من دون ريب أو ضلال.
وعلى هذه الحال من التسكع والتسلع عدتُ بالنسخ الأولى من (المملكة السوداء) إلى البصرة، بغلاف عامر العبيدي (الأسود والأخضر تطرزه خطوط خيول بيض) قبل دخولها الببليوغرافيا الوطنية، شاهدة على نفحة باردة في صميم الحلم البغدادي اللافح. وليست العودة بعد سنين واسترجاع طعم تلك الزيارة القصيرة إلا تلبية لنداء ظلّ يتردد خارجاً من شروخ "الجمجمة المكسورة في أقاصي الذاكرة" لا قدرة لي على تجاهله.
حقاً كانت سقيا كأس ماء بارد في مطعم بغدادي وقت الظهيرة نعمة لا تساويها إلا نعمة نشر مقال في صحيفة من صحف الطليعة البغدادية، أو قصة في مجلة (الكلمة) القادمة من النجف إلى بغداد ارتياداً لمخاض الأدب الجديد. لكن نشر مجموعة كاملة من القصص كان ذروة العطش الأدبي المروي بأقصى ما تتشهاه ذات عذرية قروية تخشى الانتهاك السلعي (النقدي) في مركز التصدع والشروخ. بل هو قمة الرغبة المستلقية على سكة حديد العراق بطول 2272 كيلو متراً حول جمجمة بغداد، وكان افتضاضها وتبني مولودها أمراً محتماً على أيدي الجيل "الثوري المعقد" المسمى بجيل الستينات، القابع في وسط السكة. ولدت المجموعة البكر في حضن هذا المخلوق المركب من الرؤوس التروتسكية والوجودية والماركوزية والصوفية الأدونيسية، وعايشت جمالياته الثورية الشبقة بعذرية واقعية لافحة بالرغبات والأمنيات المكبوحة. كان الصدع كبيراً أشبه بجمال نائم في حضن طقس العاصمة الهجين. وقد استعذبت شخصيات (المملكة) هذه الرحلة إلى قلب الطقس المائج بالأصوات والرغبات بصحبة راعيها رغم خوفها وترددها.
كانت مهمة (المملكة السوداء) صعبة وشائكة، عليها الانتقال من حانة مهدي عيسى الصقر التي كتب فيها (مجرمون طيبون) إلى حانة سركون بولص وإخوانه التي تعج بالغجر وزبائنهم أشباه الموتى، ثم الخروج في نهاية الليل في سيارة يقودها مؤيد الراوي بلا مقود أو كابح في شوارع بغداد. وكان الحفل ينتهي عادة بمباراة يلقي فيها سحرة القصة القصيرة عصيهم يلتقف بعضها بعضاً قبل الاعتراف بمعجزات "الأنبياء" الجدد. فأية قصة تتطلب كتابتها هذا القدر من السحر والدوار في سرعة الانتقال من حانة إلى أخرى، ومن قطار بطئ إلى عربة تنطلق في شوارع الليل بلا كوابح، ما لم تكن قصة منفلتة عن الخط الجمالي القديم وكاسرة لحدود الواقعيات العذرية؟
حقاً كان استقبالي النسخة الأولى من (المملكة) محفوفاً بهذه الهواجس والتهويلات أو الأوهام. اقتنيتُ نسختي من بائع صحف في الحيدرخانة، ذات ظهيرة من آب 1972، وهرعت لائذاً بفندقي في منطقة المربعة كي لا يدركني شبح المخلوق الستيني المركب الرؤوس، وكانت ليلتي يومذاك في الفندق "زنجية" رطبة بلا نجوم على حد تعبير المعري. كانت ليلة تدقيق الكتاب المطبوع في مطبعة الحرية، واكتشاف الأخطاء المطبعية في صفوف الحروف الكبيرة في كل صفحة تقريباً، فلياً في شعر غولة كث دهين، أثقل مهمتي القصيرة في بغداد، وزادني ارتياباً في واقعيتي العذرية. كان اكتشاف الأخطاء صدمة لم تحتملها سجيتي فألقتني أمام شعور حقيقي بالانتحار.
في بداية المساء ساومني خادم الفندق على امرأة تشاركني الفراش، ثم اعتراني بعد انصرافه خوف من مرض جلدي سار أفرزته رطوبة الغرفة (المبردة بالكولر) وتلميحات الخادم الجنسية الداعرة. وسرعان ما خالطني شعور بالاغتراب الخيامي عند سماعي صوت أم كلثوم يتسلل من فتحة قرب السقف في الجدار المقابل للسرير ظلت مضاءة حتى الصباح.
شاهد الخادم نسخة (المملكة) مفتوحة على الأخطاء، وجلس على حافة السرير ليقلبها بأصابع نحيلة مرتجفة، ثم رفع رأسه مبتسماً في وجهي ابتسامة صفراء. أشعرني القارئ السمسار بقرف التداول السري لقصص نساء مجهولات والاطلاع على عالمهن المستور في النزل والفنادق، كما أشعرتني أغنية أم كلثوم بهجرانهن وحرمانهن وراء الجدران.
كانت ليلة الأخطاء المطبعية تلك تجسيداً لنوعين من الإغواء المتفرعن، يسوقان القصة على امتداد مئات الكيلومترات من سكة البلاد المتفرعة حول الجمجمة المتصدعة (رغم التئامها) ثم يلقيانها في تيه المحاولات الناقصة. الأول يلتزم بعذريته الواقعية رغم افتضاحه، والآخر يبرز مثل غول يلتهم رؤوسه العديدة، جائع لا يرتوي من التجارب والطقوس الشبقة.
إزاء هذا الاختبار الفاصل في ليلة آب الرطبة، وفي ليالي الوحدة والشك والتوهم خلال السنين التالية، ظل شعور يناديني بالعودة إلى صفاء الكأس الأولى التي سُقيتها في المطعم البغدادي في ظهيرة آب 1972، لمقاومة الإغواء الفرعوني الذي يتلاعب بكتابة القصة في كل حين.




-------------------------------
جريدة الصباح
25/8/2014


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...