د. عادل الأسطة - مرايا الإنجليز في الرواية الفلسطينية

1 من 2

أعادتني رواية جمال أبو غيدا " تلاع الريح " إلى لازمة رئيسة في أدبنا كنت درستها في العام ١٩٩٨ ، وتابعتها في نصوص سلمان ناطور ، وهي صورة الإنجليز التي بدت في معظمها سلبية ، بسبب الكتابة عن العلاقة معهم في فترة الانتداب ، وما جرته سياستهم ، في حينه ، من كوارث عانينا منها وما زلنا نعاني.
وباستثناء فدوى طوقان وجبرا اللذين كتبا عن نماذج إنجليزية عرفاها في بريطانيا ، فبدت صورتهم إيجابية أو إنسانية ، فإن الصورة ظلت سلبية عموما.
في أدبيات القرن الحادي والعشرين لم تتلاش الكتابة عن الإنجليز ، فقد ظلوا يحضرون كلما استرجع الروائيون حقبة الانتداب وما نجم عنها ، أو كلما كتبوا عن بيئات زارها الإنجليز لاحقا كبيئة القدس.
أصدر عزام توفيق أبو السعود في العام ٢٠٠٨ روايته " صبري " وحفلت بالكتابة عن الإنجليز ، وفي العام ٢٠١٥ نشر ربعي المدهون روايته " مصائر " ولم تخل من نموذج إنجليزي وإن مهجن ، وبعده بعام نشر جميل السلحوت روايته " رولا " التي جرت أكثر أحداثها في القدس وحضرت فيها شخصية ( استيفاني ) ، وفي العام نفسه ٢٠١٦ صدرت رواية عاطف أبو سيف " الحاجة كريستينا " وكان للإنجليز أيضا فيها حضور.
كتب أبو السعود عن فلسطينيين وإنجليز نشأت بينهم علاقات تجارية وإنسانية وتزاوروا وتحابوا واستقبل الإنجليز فيها الفلسطينيين في بيوتهم وخرجوا معهم في نزهات ، بل وبالغوا في كرمهم . لم يكن الإنجليز هنا جنودا وعساكر وضباطا ينتدبون فلسطين ويقمعون أبناءها وينحازون لصالح المستوطنين اليهود ويساعدونهم بتهريب السلاح وغض النظر عن المهاجرين غير الشرعيين - إن كان هناك أصلا مهاجرون شرعيون . كان الإنجليز هنا أفرادا عاديين زاروا القدس وعادوا إلى بلادهم وفيها توطدت الصداقة مع المقدسي صبري وعائلته ، وحين تزوج أقام حفل زفافه في لندن في قصر العائلة.
وكتب ربعي المدهون عن فلسطينية أرمنية من عكا اسمها ايفانا اردكيان أحبت ، في زمن الانتداب ، طبيبا ضابطا بريطانيا وتزوجت منه ، رغم رفض أهلها ومقاطعتهم لها ، وأنجبت منه جولي التي ستتزوج لاحقا من الفلسطيني وليد دهمان ، وهربت ايفانا معه إلى لندن . لقد عشقت ايفانا جون ولم يعد في نظرها بريطانيا مستعمرا كريها ، ولا طبيبا ضابطا ، بل الشاب الوحيد الذي أوقعها من أول ابتسامة " هي التي كان شبان ساحة عبود ، وحارة الشيخ عبدالله والفاخورة ، وزملاؤها في مدرسة " تراسنطة " ، ينثرون ابتساماتهم الصباحية تحت قدميها .... كانت مستعدة لأن تفعل كل شيء لكي ترتبط بجون إلى الأبد ، حتى لو اندلعت حرب كبرى بين بريطانيا العظمى وساحة عبود ، وتورط فيها أرمن عكا كلهم " - أي انجليزي ساحر جون هذا ؟ وأي ايفانا فلسطينية هذه الايفانا أيضا ؟ ، علما بأن المرء قد يعرف حكايات عشاق قد يدفعهم جنون العشق إلى فعل ما فعلته ايفانا ، وقد يقرأ في كتب التراث قصصا على هذه الشاكلة ، ومثل هذه القصص قصة زوجة الخليفة الأموي التي وقعت في حب الشاعر وضاح اليمن التي كتب عنها الروائي الياس خوري في روايته " أولاد الغيتو: اسمي آدم " ، إن صحت القصة ولم تختلق.
وكتب جميل السلحوت عن فتاة إنجليزية زارت القدس وأقامت علاقة مع مقدسي من العشائر المحيطة بالمدينة ولم تنته العلاقة بالنجاح ، فثمة عالمان مختلفان ولا ندري كيف ستكون نظرتها لو التقت ببرجوازي فلسطيني منفتح من أبناء المدينه؟
كانت ( استيفاني ) شابة غربية منفتحة وشبقة ، راقت لها القدس وراق لها طعامها الشعبي وفحولة العربي ، ولم ترق لها عادات العشيرة وتقاليدها وخضوع الشاب لسطوة أهله.
أما عاطف أبو سيف فكتب عن علاقات صداقة نجمت بين جورج الصحفي الإنجليزي وعوني الصحفي اليافاوي.
عانت فضة ابنة عوني في طفولتها من مرض أعيا علاجه الأطباء في يافا ، فأبدى جورج استعداده لمعالجتها في بريطانيا ، ولم يمانع الأب في سفر ابنته ، وحين حدثت النكبة وتفرق الفلسطينيون وتشتتوا وفقدت فضة عائلتها تبناها جورج رسميا وظلت تقيم في كنفه إلى أن توفي فجأة ، وهنا اختلفت علاقة أخواته معها ، فقررن إعادتها من حيث أتت غير آبهات بمصيرها.
" جورج الذي يعيش في لندن ويمضي معظم وقته في يافا ، بل إنه يعيش هنا ، تخرج من جامعة أكسفورد متخصصا في الدراسات الشرقية ثم قرر أن يعيش في مكان ما من المنطقة العربية " أراد أن يكمل تاريخ عائلته ، فجده أحب فتاة عربية مسيحية من الناصرة ، ولم يكتب لعلاقتهما النجاح ، وأخوه الأكبر ادموند ، الذي اختفت كتيبته ١٦٢ خلال معركة غزة الثانية التي وقعت في نيسان ١٩١٧ ، دفن في مقبرة الجيش الإنجليزي في غزة ، فأراد جورج بعد خمسة وعشرين عاما زيارة قبر أخيه وإكمال قصة جده ، فقد يحب فتاة عربية ويتزوجها ، جورج هذا طيب القلب . لقد عرض على صديقه مساعدته في معالجة فضة وهكذا سافرت إلى لندن معه.
النماذج الإنجليزية التي كتب عنها الروائيون لم تظهر في أية رواية فلسطينية ، كتبت قبل العام ١٩٤٨ ، على قلة الروايات التي صدرت في حينه ، أما بعد ١٩٤٨ فلم تظهر ، فيما قرأته ، نماذج على شاكلتها حتى في قصص جبرا القصيرة " عرق وقصص أخرى " ١٩٥٦ . وظل الأمر كذلك حتى قرأنا سيرتي جبرا " البئر الأولى " ( ١٩٨٦ ) وفدوى " رحلة جبلية ... رحلة صعبة" (١٩٨٥).
والسؤال هو : لماذا لم تظهر مثل هذه النماذج قبل العام ١٩٤٨ ، حتى في رواية اسحق موسى الحسيني الذي درس في لندن وكتب عن العمالقة رامزا إلى الإنجليز ، روايته " مذكرات دجاجة " ( ١٩٤٣ ) ؟ ألأن الفلسطينيين في حينه لم يروا إلا سياسة الانتداب التي أفقدتهم وطنهم؟
والسؤال هو:
- ما الصورة التي ظهرت للإنجليز في رواية أبو غيدا؟

2 من 2

في تخيل " تخيل المتخيل " يعتمد جمال أبو غيدا على مصادر ومراجع عديدة لإنجاز روايته التي تصلح لدراسة مرايا الذات والآخر بامتياز .
والرواية التي يتراوح زمنها الروائي ما بين ١٩١٤ تقريبا و٢٠٠٠ وترتد إلى الماضي العربي السحيق ، تقدم لنا تصور ثلاثة أطراف تقريبا لذاتنا وذاتها هي:
- تصور المؤلف الافتراضي / الضمني لكتاب " البرهان الفصيح والقول الصحيح في أخبار تلاع الريح " وهو الإمام أبو الحسن محمد بن تاج الدين بن زين الدين التلاعي الشهير بابن تاج الدين ، واعتنى بالكتاب وحققه : ماجد الفرهود.
- تصور المؤلف الافتراضي / الضمني لكتاب " وقت للحرب ... وقت للسلم " وهو السير ( الكساندر جيبسون نايجل ) ، وقد ترجمت الكتاب من الإنجليزية إلى العربية يمنى فيصل النذيرات
- تصور المؤلف الافتراضي / الضمني للرواية ، وهي يمنى فيصل النذيرات التي حكت عن تجربتها وحياتها وعلاقتها بالكتابين.
ووراء هؤلاء المؤلفين الثلاثة يقف الكاتب الحقيقي وهو الروائي جمال أبو غيدا صاحب رواية " خابية الحنين " ومترجم العديد من الكتب التي ألفها إنجليز عن فلسطين ، وإذا ما أخذنا بما يذهب إليه المنهج الوضعي عن العلاقة بين المؤلف ونصه ووحدتها وصعوبة التفريق بينهما فيمكن القول إن صورة الإنجليز في الرواية وتصورهم الآخرين صادرة عن جمال أبو غيدا نفسه ، وهي صورة لها مرجعياتها وقد ذكر الروائي أكثرها.
ما سأقف أمامه هنا هو الصورة التي يقدمها المؤلف الضمني وهو يمنى النذيرات في مقدمتها لترجمتها كتاب ( نايجل ) ، ثم الصورة التي يقدمها هو للإنجليز وللعرب في كتابه المفترض " وقت للحرب .. وقت للسلم " .
في المقدمة تكتب يمنى عن حياة ( نايجل ) الذي ولد في القاهرة في العام ١٨٩٥ لأبوين بريطانيين حيث كان أبوه يعمل أمينا مساعدا في المتحف المصري وكان الأخ الأكبر لأخ وأختين ودرس في مدارس الرهبنة اليسوعية وكان يتقن اللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية إتقانا تاما . التقى بلورانس العرب وكان لهما نشاط استخباري وعملا ضمن الفرق البريطانية التي كانت تجوب منطقة الحجاز لمساعدة بريطانيا في امتلاك ما يمكن امتلاكه من تركة الرجل المريض.
كان ( نايجل ) " يعمل بهدوء وبعيدا عن أضواء القاهرة وبغداد والقدس .... ولعب دورا في غاية الخطورة في تشكيل ملامح الدولة الوليدة التي سميت بمشيخة تلاع الريح . وكان كمعظم مجايليه من الآثاريين والجغرافيين والسياسيين والرحالة الإنجليز الذين عملوا وأقاموا في الشرق وافتتنوا به ، والذين بقي افتتناهم وشغفهم بالمنطقة محكوما بما يحملونه من أفكار توراتية وانجيلية نمطية ، كانت تملي عليهم تصوراتهم وآراءهم بهذا الشرق بكل ما فيه ... " . هذه هي الصورة التي تقدمها يمنى للإنجليزي ، فما الصورة التي نستشفها له من خلال تأليف كتابه المفترض " وقت للحرب ... وقت للسلم"؟.
يبدو أن إظهار هذه الصورة يتطلب مساحة كبيرة ، فالكتاب كله والذي شغل نصف الرواية تقريبا يحفل بالكتابة عن ذات السارد الإنجليزية وآخر هذه الذات من عرب وأتراك وغيرهم ممن يرد ذكرهم.
إن تصوره لذاته باعتباره بريطانيا ، وبالتأكيد لبريطانيا التي يمثلها ، يبدو إيجابيا بالمطلق فبريطانيا " لا تتهاون أبدا في الشؤون التي تخص سلامة مواطنيها ، لا مواطنيها وحسب ، بل ورعاياها من السكان الأصليين في الهند وأفريقيا وغيرها من أراضي الإمبراطورية " و السياسة البريطانية تسعى لإنصاف المظلومين أينما كانوا ، وبصرف النظر عن عرقهم أو لونهم أو دينهم. ( ١٧٠ / ١٧١ ).
وبريطانيا تختلف عن الشرق وحكامه من رؤساء عشائر ، فالاميرالاي نجاتي باشا أحد قادة القوات المصرية يستقبل ( نايجل ) ويتحدث إليه " بلطف وتهذيب بالغين ،وهو يثني على علاقات سيده محمد علي بالحكومة البريطانية وبرعاياها في كل مكان ، وبأنه يعتذر عن الإزعاج المتمثل في إخراجي من بيتي ، لكن وكما يقولون في الشرق " للضرورة أحكام " وقد قالها بتورية لا يسهل تجاوزها ، لكنه كان كذابا أشر ، كمعظم الشرقيين الذين تعاملت معم " . ولنلاحظ عبارته " كمعظم الشرقيين الذين تعاملت معهم " وهي عبارة دالة بما فيه الكفاية ، فإذا ما نظرنا إلى رأيه في كثير من الأسماء العربية التي ذكرها وأبدى رأيه فيها رأينا أنها تبدو شخصيات مدعاة للسخرية والضحك والتهكم أيضا ، من الشيخ كامل القصاب إلى الشيخ هزاع إلى زعماء القبائل ، ولسوف يلخص ( نايجل ) الذي أبرز لنفسه صورة الصبور الحكيم في تعامله مع الشرقيين الأوغاد القتلة الميالين للثأر والحقودين والذين يعيشون في الماضي وينتمون للقبيلة ، لسوف يلخص في نهاية الرواية رأيه في هذا الشرق البائس الذي لن ينجح أحد في توحيده على النحو الآتي:
" كذلك كانت أيامي في هذه التلاع الغارقة بأساطيرها وخرافات أهلها وخزعبلاتهم ، التي لا تنتهي عن الشياطين والأفاعي الثنائية الرأس ، والجنيات والجدين اللذين ستظل ذكراهما مؤبدة في هذه البلاد ، بسبب الدماء التي أهرقت وما زالت تهرق على شرفهما ، على أيدي أحفادهما البررة.."
واللافت هو أن هذا الكولونيل ينظر إلى الأتراك أنهم اتبعوا في حكمهم العالم العربي على أساس مبدأ " فرق تسد " ، وهو خلاف ما هو شائع لدينا إذ أننا نعرف أن الإنجليز هم من اتبعوا هذه السياسة في أثناء انتدابهم على فلسطين ، فهل أسقط ما اتبعته بريطانيا في سياستها على الدولة العثمانية؟
الإجابة عموما تتطلب التقصي .
الجمعة والسبت
٤ و ٥ كانون الأول ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى