(١-٧)
الغَوْثيةُ .. ووَصْفُ القُطْبِ
قال الغوثُ الأعظمُ، المستوحشُ من غير الله، المستأنسُ بالله: قال اللهُ تعالى: ياغوثَ الأعظم. قلتُ: لبيك يا رَبَّ الغوث. قال:
كُلُّ طَوْرٍ بين الناسوت والملكوت
فهو شريعةٌ
وكُلُّ طَوْرٍ بين الملكوت والجبروت
فهو طريقةٌ
وكُلُّ طَوْرٍ بين الجبروت واللاهوت
فهو حقيقةٌ
يا غوث الأعظم، ما ظهرتُ فى شىءٍ كظهورى فى الإنسان.
يا غوث الأعظم، مَنْ قصَّر عن سفرى فى الباطن، ابتُلى بسفر الظاهر ولم يزدد منى إلا بُعداً .. ومَنْ أراد العبارة بعد الوصول، فقد أشرك .. ومَنْ رآنى استغنى عن السؤال فى كل حال، ومَنْ لم يرنى لم ينفعه السؤال، لأنه محجوب بالمقال.
يا غوث الأعظم، المحبة حجابٌ بين المحب والمحبوب، فإذا فنى المحبُّ عن المحبة، وُصل بالمحبوب.
يا غوث الأعظم، نَمْ عندى لا كنوم العَوَام، تَرَنى! فقلتُ: يا رب كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات وخمود النفس عن الشهوات، وخمود القلب عن الخطرات، وخمود الروح عن اللحظات، وفناء ذاتك فى الذات.
يا غوث الأعظم، قُلْ لأصحابك وأحبابك، مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر! فإذا تَمَّ فقرُهم فلا ثَمَّ إلاَّ أَنَا.
■ ■ ■
تظهر فى هذه العبارات السابقة، المختارة من (غوثية) الإمام عبدالقادر الجيلانى، طبيعة النصوص الصوفية التى أسميها «فصوص النصوص» لأنها تمثل بالنسبة إلى بقية النصوص ما يمثله الفصُّ بالنسبة للخاتم.. ولهذه (النصوص الفصوص) سمات وخصائص، أهمها وأبرزها الإيجاز الشديد فى المفردات المستعملة وتركيز المعنى الواسع فى أقل عدد من الكلمات، تأكيداً للقدرة على توليد الدلالات فى نفس المتلقى، قارئاً للنص كان أم سامعاً.
فالإيجازُ اللفظى يقترن دوماً بالطاقة الإيحائية للمفردات والكلمات الاصطلاحية التى تصير فى النص كأنها رموز تشير إلى معانٍ أوسع بكثير مما تعبِّر عنه المفردة أو الكلمة بذاتها، أو فى سياقٍ آخر. وهو ما نراه مثلاً فى العبارة الأخيرة، التى تخرج فيها كلمة (الفقر) من معناها العام المتداول، لتكون معادلاً للطريق الصوفى كله، بناءً على أن العبادة الحقة لله هى (الافتقار إلى الله) وعلى أن الصوفى فى حقيقة حاله، هو (الفقير إلى الله)..
ثم تأخذنا العبارة إلى معنى دقيق، هو أن هذا «الفقر» مراتب، هى على الترتيب: الافتقار إلى الله، الإمعان فى الشعور بهذا الافتقار، افتقاد الشعور بالافتقار ذاته، ونسيان (الفقير) لحاله مع تعلقه بالمحبوب الأعلى الذى لا يتحقق الوصال معه إلا بتجاوز أى شعور بما سواه، وهنا يتم المعنى العميق للفقر، ويصل الصوفى إلى أعتاب مولاه.
وقد رأيت أن أبدأ هذه النصوص (الفصوص) السبعة بمختارات من أعمال الإمام عبدالقادر الجيلانى، لأنه ممن لا يختلف أحدٌ على مكانته.. فهو عند الصوفية واحدٌ من الأقطاب الأربعة الكبار الذين أسسوا أوسع الطرق الصوفية انتشاراً (الجيلانى، الرفاعى، البدوى، الدسوقى)..
وهو فقيه من أعلام المذهب الحنبلى، وله عند الحنابلة مكانة متميزة. بل إن أشهر فقهاء الحنابلة، الإمام ابن تيمية، كان يمتدح الإمام عبدالقادر الجيلانى ويقدِّره تقديراً عظيماً، ويدعوه: شيخ الإسلام. وقد وضع ابن تيمية شرحاً على كتابه «فتوح الغيب» وهو كتاب فى التصوف! مع أن ابن تيمية اشتهر بعدائه للصوفية.. لكن الرجل فى واقع الأمر، كان يعادى المتصوفة ذوى المنازع الفلسفية، ولا يعادى التصوف ذاته، بدليل أن له كتاباً فى التصوف عنوانه: رسالة الصوفية والفقراء.
ولد الإمام محيى الدين عبدالقادر الجيلانى فى جيلان، ببلاد فارس (إيران) ولذلك انتسب إليها. وقد كانت عادة الناس فى الزمن القديم، أن يقولوا للرجل إذا كان مولده بجيلان (جيلانى) وإذا كان نسبه يعود إلى واحدٍ من أهل جيلان، يقال له (جيلى) تمييزاً للمنسوب إلى البلد عن المنسوب إلى واحدٍ من أهلها.
وقد رحل الإمام الجيلانى فى شبابه المبكر نحو بغداد، وظل بها حتى وفاته سنة ٥٦١ هجرية، بعدما نال فى زمانه (وبعد وفاته) شهرة كبيرة، جعلت كثيرين من المؤرِّخين يخصِّصون كتباً كاملة للتأريخ لحياته الحافلة.. وقد أحصيتُ فى كتابى (التراث المجهول) خمسة وعشرين كتاباً فى سيرة الإمام الجيلانى، منها:
غبطة الناظر من ترجمة الشيخ عبدالقادر، لابن حجر العسقلانى- روضة الناظر فى مناقب الغوث عبدالقادر، للفيروزآبادى صاحب القاموس – بهجة الأسرار فى ترجمة الشيخ عبدالقادر وذريته الأطهار، للشطنوفى.. إلى جانب ما لا حصر له من أخبار ووقائع أوردها عنه كبار مؤرِّخى الإسلام فى مدوَّناتهم التاريخية الكبيرة.
وللإمام الجيلانى كتاب شهير فى الفقه هو «الغنية لطالبى طريق الحق» وله مجالس جُمعت فى ثلاثة كتب: فتوح الغيب (مطبوع) الفتح الربانى والفيض الرحمانى (مطبوع) جلاء الخاطر فى الباطن والظاهر (مخطوط).. وله أشعار كانت متفرقة حتى جمعتها فى ديوان كان النصف الثانى من رسالتى للدكتوراه، وقد أضفتُ إليها مقالاته الرمزية، التى منها «الغوثية» التى رأينا مختارات منها فى بداية هذه المقالة.. ومنها أيضاً، المختارات التالية:
ياغوث الأعظم، ما بَعُدَ عنى أحدٌ بالمعاصى، ولا قَرُبَ منى أحدٌ بالطاعات.. أهل المعاصى محجوبون بالمعاصى، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات، ولى وراءهم قومٌ ليس لهم غَمُّ المعاصى ولا هَمُّ الطاعات!
ياغوث الأعظم، أهل الطاعة يذَّكَّرون النعيم، وأهل العصيان يذكرون الرحيم. وأنا قريبٌ إلى العاصى إذا فرغ من العصيان، وبعيدٌ عن المطيع إذا فرغ من الطاعات.
ياغوث الأعظم، إذا عرفت ظاهر العشق فعليك بالفناء عن العشق، لأن العشق حجاب بين العاشق والمعشوق.. وإذا أردت أن تدخل حَرَمى، فلا تلتفت بالملك وبالملكوت وبالجبروت، لأن الملك شيطان العالم، والملكوت شيطان العارف، والجبروت شيطان الواقف. فمن رضى بواحدٍ منها، فهو عندى من المطرودين.
ياغوث الأعظم، كمال المعراج (مازاغ البصر وما طغى) ولا صلاة لمن لا معراج له عندى .
■ ■ ■
وقد نُسبت هذه الرسالة المسماة بالغوثية، إلى صوفى آخر شهير، هو محيى الدين بن عربى. لكن نسبتها للإمام الجيلانى أقرب إلى الصحة، خاصة أنها تقترب فى لغتها من نصوص أخرى ثابتة النسبة للإمام الجيلانى، منها نص «وصف القطب» الذى سنقدم منه مختارات أخرى بعد قليل.
والغوثية، عند الصوفية، مصطلح خاص يعبِّر عن إحدى صفات القطب (الغوث) الذى يغيث الله به الخلق، ويقبل شفاعته فيهم، ولذلك عَدَّ الصوفية النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الأصل لغوث المسلمين فى الدنيا والآخرة. أما الكاملون من الأولياء، فهم وارثون لهذا المقام عند النبى.. ونصُّ الغوثية الذى مَرَّت علينا فقراتٌ منه، هو نوعٌ من النصوص المسماة فى اصطلاح الصوفية (الخطاب الفهوانى) ومعنى الفهوانية مشتقٌ هنا من قولهم:
فاه الرجل، إذا تكلم.. لكنها فى حقيقة أمرها كلام إلهى يتجلى على قلب الصوفى فى لحظات الكشف والفيض. ومنها (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النِّفَّرى، وبعض قصائد الشاعر الصوفى الأشهر: ابن الفارض.
وبطبيعة الحال، فإن الفقرات المختارة من (الغوثية) فيما سبق، تحتاج إلى شرح طويل لا يسمح به المقام هنا. وما المراد بهذه المقالات شرح مقاصد النصوص الصوفية، بقدر ما نريد التعريف بها والإشارة إليها كمخزون أدبى هائل فى تراثنا، نَسِيَه المعاصرون وأهملوه، فحرموا أنفسهم من آيات بيانية ناصعة.. ولسوف نختتم هذه المقالة بمختارات من كلام الإمام الجيلانى فى (وصف القطب) ونلحق به بعضاً من نصوصه الأخرى:
■ ■ ■
أنَّى للواصف أن يبلغ وصف القطب، ولا مسلكٌ فى الحقيقة إلا وله فيه مأخذٌ مكين، ولا درجة فى الولاية إلا وله فيها موطن ثابت، ولا مقام فى النهاية إلا وله فيه قدمٌ راسخ، ولا منازلة فى المشاهدة إلا وله فيها مشربٌ هنى، ولا معراج إلى مراقى الحضرة إلا وله فيه مسرىً علىٌّ، ولا أمرٌ فى كونيْ الملك والملكوت إلا وله فيه كشف خارق، ولا سرٌّ فى عالميْ الغيب والشهادة إلا وله فيه مطالعة، ولا مظهر لوجودٍ إلا وله فيه مشاركةٌ ، ولا فعل لقوىٍّ إلا وله فيه مباطنة، ولا نور إلا وله فيه قبسٌ، ولا معرفة إلا وله فيها نَفَسٌ.. ولا مكرمةٌ إلا وهو إليها مخطوب، ولا مرتبةٌ إلا وهو إليها مجذوبٌ.
لا مرمى فوق مرماه، ولا مغشى فوق مغشاه، ولا وجود أتمُّ من وجوده، ولا شهود أظهرُ من شهوده، ولا اقتفاء للشرع أشدُّ من اقتفائه.. إلا أنه كائنٌ بائنٌ، متصلٌ، أرضىٌّ سماوىٌّ، قُدسىٌّ غيبـىٌّ.. مستترٌ باتصاله.. بارزٌ بانفعاله.
ولولا أن جُملته وتفصيله، وأوله وآخره، منطوٍ فى حواشى تمكين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممزوج رحيقه بتنسيم نسمات رعايته.. لخرق سهمُ القدرة سياجَ الحكمة! ولو خلق الله لهذا الأمر الذى أُشير إليه لساناً، لسمعتم ورأيتم عجباً:
ما فى الصبابة منهلٌ مستعذب ... إلا ولى فيه الألذُّ الأطيب
■ ■ ■
ولهذا النص السابق قصةٌ مذكورة فى المخطوطات التى حفظته من الضياع، ملخصها الآتى: قال المؤدب الحاسب، كنتُ كثيراً ما أود أن أسأل الشيخ عبد القادر الجيلانى عن شىءٍ من صفات القطب، فدخلتُ إلى مجلسه وهو يتكلم، فلما جلست قطع كلامه وقال: أنَّى للواصف.. إلخ.
وحين انتهت مقالة الإمام الجيلانى فى وصف القطب، أنشد مباشرةً من خاطره، ومن دون تمهيد، القصيدة التى ذكرنا مطلعها (مافى الصبابة..) وهى قصيدة طويلة مذكورة بالكامل فى ديوانه.
وبعد.. فإن للإمام عبد القادر الجيلانى كثيراً من النصوص الفصوص، الأخرى، التى يضيق المجال هنا عن الإشارة إليها وتقديم فقرات منها، لكننى أود أن أختتم هذه السطور بواحدة من مقالاته الخمس القصيرة عن (الحلاج) فقد اشتهر عن الإمام الجيلانى أنه قال: «عَثَرَ الحلاج، ولم يكن فى زمانه مَنْ يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذتُ بيده..» وفى هذه المقالة القصيرة التى اخترتها للقراء، يقول الإمام الجيلانى عن الحلاج:
طار واحدٌ من العارفين، إلى أفق الدعوى، بأجنحة «أنا الحق» فلما رأى روض الأبدية خالياً من الحسيس والأنيس، صَفَّر بغير لغته تعريضاً لحتفه، فظهر عليه عُقاب الملك من مكمن (إن الله غنىٌّ عن العالمين) وأنشب فى إهابه مخلب (كل نفسٍ ذائقة الموت) وقال له شرع سليمان الزمان: لِمَ تكلمت بغير لغتك؟ لِمَ ترنَّمت بلحنٍ غير معهود من مثلك؟ اُدخلْ الآن فى قفص وجودك، وارجعْ من طريق عِزَّة القِدَمِ إلى مضيق ذِلَّةِ الحدوث، وقُلْ بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد .
■ ■ ■
إشارة أخيرة : عبارة «حسب الواحد إفراد الواحد» قالها الحسين بن منصور الحلاج، يوم مقتله مصلوباً فى بغداد سنة ٣٠٩ هجرية.. وإلى لقاءٍ قادم، مع نصٍّ صوفى آخر من فصوص النصوص، يوم الأربعاء القادم.
الغَوْثيةُ .. ووَصْفُ القُطْبِ
قال الغوثُ الأعظمُ، المستوحشُ من غير الله، المستأنسُ بالله: قال اللهُ تعالى: ياغوثَ الأعظم. قلتُ: لبيك يا رَبَّ الغوث. قال:
كُلُّ طَوْرٍ بين الناسوت والملكوت
فهو شريعةٌ
وكُلُّ طَوْرٍ بين الملكوت والجبروت
فهو طريقةٌ
وكُلُّ طَوْرٍ بين الجبروت واللاهوت
فهو حقيقةٌ
يا غوث الأعظم، ما ظهرتُ فى شىءٍ كظهورى فى الإنسان.
يا غوث الأعظم، مَنْ قصَّر عن سفرى فى الباطن، ابتُلى بسفر الظاهر ولم يزدد منى إلا بُعداً .. ومَنْ أراد العبارة بعد الوصول، فقد أشرك .. ومَنْ رآنى استغنى عن السؤال فى كل حال، ومَنْ لم يرنى لم ينفعه السؤال، لأنه محجوب بالمقال.
يا غوث الأعظم، المحبة حجابٌ بين المحب والمحبوب، فإذا فنى المحبُّ عن المحبة، وُصل بالمحبوب.
يا غوث الأعظم، نَمْ عندى لا كنوم العَوَام، تَرَنى! فقلتُ: يا رب كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات وخمود النفس عن الشهوات، وخمود القلب عن الخطرات، وخمود الروح عن اللحظات، وفناء ذاتك فى الذات.
يا غوث الأعظم، قُلْ لأصحابك وأحبابك، مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر! فإذا تَمَّ فقرُهم فلا ثَمَّ إلاَّ أَنَا.
■ ■ ■
تظهر فى هذه العبارات السابقة، المختارة من (غوثية) الإمام عبدالقادر الجيلانى، طبيعة النصوص الصوفية التى أسميها «فصوص النصوص» لأنها تمثل بالنسبة إلى بقية النصوص ما يمثله الفصُّ بالنسبة للخاتم.. ولهذه (النصوص الفصوص) سمات وخصائص، أهمها وأبرزها الإيجاز الشديد فى المفردات المستعملة وتركيز المعنى الواسع فى أقل عدد من الكلمات، تأكيداً للقدرة على توليد الدلالات فى نفس المتلقى، قارئاً للنص كان أم سامعاً.
فالإيجازُ اللفظى يقترن دوماً بالطاقة الإيحائية للمفردات والكلمات الاصطلاحية التى تصير فى النص كأنها رموز تشير إلى معانٍ أوسع بكثير مما تعبِّر عنه المفردة أو الكلمة بذاتها، أو فى سياقٍ آخر. وهو ما نراه مثلاً فى العبارة الأخيرة، التى تخرج فيها كلمة (الفقر) من معناها العام المتداول، لتكون معادلاً للطريق الصوفى كله، بناءً على أن العبادة الحقة لله هى (الافتقار إلى الله) وعلى أن الصوفى فى حقيقة حاله، هو (الفقير إلى الله)..
ثم تأخذنا العبارة إلى معنى دقيق، هو أن هذا «الفقر» مراتب، هى على الترتيب: الافتقار إلى الله، الإمعان فى الشعور بهذا الافتقار، افتقاد الشعور بالافتقار ذاته، ونسيان (الفقير) لحاله مع تعلقه بالمحبوب الأعلى الذى لا يتحقق الوصال معه إلا بتجاوز أى شعور بما سواه، وهنا يتم المعنى العميق للفقر، ويصل الصوفى إلى أعتاب مولاه.
وقد رأيت أن أبدأ هذه النصوص (الفصوص) السبعة بمختارات من أعمال الإمام عبدالقادر الجيلانى، لأنه ممن لا يختلف أحدٌ على مكانته.. فهو عند الصوفية واحدٌ من الأقطاب الأربعة الكبار الذين أسسوا أوسع الطرق الصوفية انتشاراً (الجيلانى، الرفاعى، البدوى، الدسوقى)..
وهو فقيه من أعلام المذهب الحنبلى، وله عند الحنابلة مكانة متميزة. بل إن أشهر فقهاء الحنابلة، الإمام ابن تيمية، كان يمتدح الإمام عبدالقادر الجيلانى ويقدِّره تقديراً عظيماً، ويدعوه: شيخ الإسلام. وقد وضع ابن تيمية شرحاً على كتابه «فتوح الغيب» وهو كتاب فى التصوف! مع أن ابن تيمية اشتهر بعدائه للصوفية.. لكن الرجل فى واقع الأمر، كان يعادى المتصوفة ذوى المنازع الفلسفية، ولا يعادى التصوف ذاته، بدليل أن له كتاباً فى التصوف عنوانه: رسالة الصوفية والفقراء.
ولد الإمام محيى الدين عبدالقادر الجيلانى فى جيلان، ببلاد فارس (إيران) ولذلك انتسب إليها. وقد كانت عادة الناس فى الزمن القديم، أن يقولوا للرجل إذا كان مولده بجيلان (جيلانى) وإذا كان نسبه يعود إلى واحدٍ من أهل جيلان، يقال له (جيلى) تمييزاً للمنسوب إلى البلد عن المنسوب إلى واحدٍ من أهلها.
وقد رحل الإمام الجيلانى فى شبابه المبكر نحو بغداد، وظل بها حتى وفاته سنة ٥٦١ هجرية، بعدما نال فى زمانه (وبعد وفاته) شهرة كبيرة، جعلت كثيرين من المؤرِّخين يخصِّصون كتباً كاملة للتأريخ لحياته الحافلة.. وقد أحصيتُ فى كتابى (التراث المجهول) خمسة وعشرين كتاباً فى سيرة الإمام الجيلانى، منها:
غبطة الناظر من ترجمة الشيخ عبدالقادر، لابن حجر العسقلانى- روضة الناظر فى مناقب الغوث عبدالقادر، للفيروزآبادى صاحب القاموس – بهجة الأسرار فى ترجمة الشيخ عبدالقادر وذريته الأطهار، للشطنوفى.. إلى جانب ما لا حصر له من أخبار ووقائع أوردها عنه كبار مؤرِّخى الإسلام فى مدوَّناتهم التاريخية الكبيرة.
وللإمام الجيلانى كتاب شهير فى الفقه هو «الغنية لطالبى طريق الحق» وله مجالس جُمعت فى ثلاثة كتب: فتوح الغيب (مطبوع) الفتح الربانى والفيض الرحمانى (مطبوع) جلاء الخاطر فى الباطن والظاهر (مخطوط).. وله أشعار كانت متفرقة حتى جمعتها فى ديوان كان النصف الثانى من رسالتى للدكتوراه، وقد أضفتُ إليها مقالاته الرمزية، التى منها «الغوثية» التى رأينا مختارات منها فى بداية هذه المقالة.. ومنها أيضاً، المختارات التالية:
ياغوث الأعظم، ما بَعُدَ عنى أحدٌ بالمعاصى، ولا قَرُبَ منى أحدٌ بالطاعات.. أهل المعاصى محجوبون بالمعاصى، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات، ولى وراءهم قومٌ ليس لهم غَمُّ المعاصى ولا هَمُّ الطاعات!
ياغوث الأعظم، أهل الطاعة يذَّكَّرون النعيم، وأهل العصيان يذكرون الرحيم. وأنا قريبٌ إلى العاصى إذا فرغ من العصيان، وبعيدٌ عن المطيع إذا فرغ من الطاعات.
ياغوث الأعظم، إذا عرفت ظاهر العشق فعليك بالفناء عن العشق، لأن العشق حجاب بين العاشق والمعشوق.. وإذا أردت أن تدخل حَرَمى، فلا تلتفت بالملك وبالملكوت وبالجبروت، لأن الملك شيطان العالم، والملكوت شيطان العارف، والجبروت شيطان الواقف. فمن رضى بواحدٍ منها، فهو عندى من المطرودين.
ياغوث الأعظم، كمال المعراج (مازاغ البصر وما طغى) ولا صلاة لمن لا معراج له عندى .
■ ■ ■
وقد نُسبت هذه الرسالة المسماة بالغوثية، إلى صوفى آخر شهير، هو محيى الدين بن عربى. لكن نسبتها للإمام الجيلانى أقرب إلى الصحة، خاصة أنها تقترب فى لغتها من نصوص أخرى ثابتة النسبة للإمام الجيلانى، منها نص «وصف القطب» الذى سنقدم منه مختارات أخرى بعد قليل.
والغوثية، عند الصوفية، مصطلح خاص يعبِّر عن إحدى صفات القطب (الغوث) الذى يغيث الله به الخلق، ويقبل شفاعته فيهم، ولذلك عَدَّ الصوفية النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الأصل لغوث المسلمين فى الدنيا والآخرة. أما الكاملون من الأولياء، فهم وارثون لهذا المقام عند النبى.. ونصُّ الغوثية الذى مَرَّت علينا فقراتٌ منه، هو نوعٌ من النصوص المسماة فى اصطلاح الصوفية (الخطاب الفهوانى) ومعنى الفهوانية مشتقٌ هنا من قولهم:
فاه الرجل، إذا تكلم.. لكنها فى حقيقة أمرها كلام إلهى يتجلى على قلب الصوفى فى لحظات الكشف والفيض. ومنها (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النِّفَّرى، وبعض قصائد الشاعر الصوفى الأشهر: ابن الفارض.
وبطبيعة الحال، فإن الفقرات المختارة من (الغوثية) فيما سبق، تحتاج إلى شرح طويل لا يسمح به المقام هنا. وما المراد بهذه المقالات شرح مقاصد النصوص الصوفية، بقدر ما نريد التعريف بها والإشارة إليها كمخزون أدبى هائل فى تراثنا، نَسِيَه المعاصرون وأهملوه، فحرموا أنفسهم من آيات بيانية ناصعة.. ولسوف نختتم هذه المقالة بمختارات من كلام الإمام الجيلانى فى (وصف القطب) ونلحق به بعضاً من نصوصه الأخرى:
■ ■ ■
أنَّى للواصف أن يبلغ وصف القطب، ولا مسلكٌ فى الحقيقة إلا وله فيه مأخذٌ مكين، ولا درجة فى الولاية إلا وله فيها موطن ثابت، ولا مقام فى النهاية إلا وله فيه قدمٌ راسخ، ولا منازلة فى المشاهدة إلا وله فيها مشربٌ هنى، ولا معراج إلى مراقى الحضرة إلا وله فيه مسرىً علىٌّ، ولا أمرٌ فى كونيْ الملك والملكوت إلا وله فيه كشف خارق، ولا سرٌّ فى عالميْ الغيب والشهادة إلا وله فيه مطالعة، ولا مظهر لوجودٍ إلا وله فيه مشاركةٌ ، ولا فعل لقوىٍّ إلا وله فيه مباطنة، ولا نور إلا وله فيه قبسٌ، ولا معرفة إلا وله فيها نَفَسٌ.. ولا مكرمةٌ إلا وهو إليها مخطوب، ولا مرتبةٌ إلا وهو إليها مجذوبٌ.
لا مرمى فوق مرماه، ولا مغشى فوق مغشاه، ولا وجود أتمُّ من وجوده، ولا شهود أظهرُ من شهوده، ولا اقتفاء للشرع أشدُّ من اقتفائه.. إلا أنه كائنٌ بائنٌ، متصلٌ، أرضىٌّ سماوىٌّ، قُدسىٌّ غيبـىٌّ.. مستترٌ باتصاله.. بارزٌ بانفعاله.
ولولا أن جُملته وتفصيله، وأوله وآخره، منطوٍ فى حواشى تمكين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممزوج رحيقه بتنسيم نسمات رعايته.. لخرق سهمُ القدرة سياجَ الحكمة! ولو خلق الله لهذا الأمر الذى أُشير إليه لساناً، لسمعتم ورأيتم عجباً:
ما فى الصبابة منهلٌ مستعذب ... إلا ولى فيه الألذُّ الأطيب
■ ■ ■
ولهذا النص السابق قصةٌ مذكورة فى المخطوطات التى حفظته من الضياع، ملخصها الآتى: قال المؤدب الحاسب، كنتُ كثيراً ما أود أن أسأل الشيخ عبد القادر الجيلانى عن شىءٍ من صفات القطب، فدخلتُ إلى مجلسه وهو يتكلم، فلما جلست قطع كلامه وقال: أنَّى للواصف.. إلخ.
وحين انتهت مقالة الإمام الجيلانى فى وصف القطب، أنشد مباشرةً من خاطره، ومن دون تمهيد، القصيدة التى ذكرنا مطلعها (مافى الصبابة..) وهى قصيدة طويلة مذكورة بالكامل فى ديوانه.
وبعد.. فإن للإمام عبد القادر الجيلانى كثيراً من النصوص الفصوص، الأخرى، التى يضيق المجال هنا عن الإشارة إليها وتقديم فقرات منها، لكننى أود أن أختتم هذه السطور بواحدة من مقالاته الخمس القصيرة عن (الحلاج) فقد اشتهر عن الإمام الجيلانى أنه قال: «عَثَرَ الحلاج، ولم يكن فى زمانه مَنْ يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذتُ بيده..» وفى هذه المقالة القصيرة التى اخترتها للقراء، يقول الإمام الجيلانى عن الحلاج:
طار واحدٌ من العارفين، إلى أفق الدعوى، بأجنحة «أنا الحق» فلما رأى روض الأبدية خالياً من الحسيس والأنيس، صَفَّر بغير لغته تعريضاً لحتفه، فظهر عليه عُقاب الملك من مكمن (إن الله غنىٌّ عن العالمين) وأنشب فى إهابه مخلب (كل نفسٍ ذائقة الموت) وقال له شرع سليمان الزمان: لِمَ تكلمت بغير لغتك؟ لِمَ ترنَّمت بلحنٍ غير معهود من مثلك؟ اُدخلْ الآن فى قفص وجودك، وارجعْ من طريق عِزَّة القِدَمِ إلى مضيق ذِلَّةِ الحدوث، وقُلْ بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد .
■ ■ ■
إشارة أخيرة : عبارة «حسب الواحد إفراد الواحد» قالها الحسين بن منصور الحلاج، يوم مقتله مصلوباً فى بغداد سنة ٣٠٩ هجرية.. وإلى لقاءٍ قادم، مع نصٍّ صوفى آخر من فصوص النصوص، يوم الأربعاء القادم.