تدبّ في الدّربِ كعادتها ، تستقبل أشعة الشمس ، تعانق تباشير الصّباح ، كما تستقبل الحقول الخُضر والحيطان هذه الطقوس عند كُلّ اشراق .
سألت أكثر من مرةٍ عجائز الدّرب : متى هبطت هذه المرأة إلى قريتنا ..؟
لكن ردودهم كانت ناقصة ، وإجاباتهم غير مقنعةٍ ، لا أحد يعرف لمجيئها موعدا ، سوى أنّهم اتفقوا جميعا ، على أنّ " بائعة الترمس " زائرة القرية وصيفتها الدائمة جزء من هذا المكان ، لا يمكن تجاهله أو اقصائه.
قالت لي الخالة حسنية بائعة الجاز ذات مساء : إنّها كانت بنتا صغيرة ، تشتري البوح من أم عماد .
اطالع المرأة في مشيتها ، واتفحص في خبثٍ وغفلة تقاطيع وجهها الذي حافظَ على استدارتهِ ، كما حافظَ على نضارتهِ ، على الرّغم من تلاعب الدَّهر بهِ ، وأنفها الشّامخ في كبرياءٍ رغم توددها وسكينتها ، وأعجب لصلابةِ عودها الفاره، وقوامها الممشوق المعتدل الذي اخفى نحافتها الشديدة ، ووجهها المُشرب بحمرتهِ ، يقاوم بضراوةٍ أيادي الأيام الممتدة بالسوءِ، وفوق هذا وذاك خُضرة عينيها الصافيتان في اتساعٍ ساحر، والشريط الأزرق الممتد من أسفلِ شفتها السفلى ، ليتدلى في استقامةٍ حتى نهايةِ ذقنها العريض، الشيء الذي يستفزّ عينيّ فلا أرفعهما عنها .
كان جمالها الخلاب بالرغمِ من رقةِ حالها ، يكشف بالتأكيد عن أصالةٍ من نوعٍ فريد لم أعرفه من قبل ، أمدّ يدي اتناول قرطاس " الترمس " ، تشيعني عندئذٍ بابتسامةٍ خفيفةٍ ما أعذبها ، وتغمز يدي بحباتِ الترمس في تلطفٍ ، وهي تقول : دول فوق البيعة ..
دائما ما يشدني شيء ما تجاه المرأة ، فهي في سكونها مسالمة تقضي يومها أسفل الجدران أو تفترش ناصية الدّربِ ، تبيع الترمس صيف شتاء ، وفي أحيانٍ ما تجوب الحقول القريبة من بيوتِ القرية ، خاصة في مواسمِ الحصاد والدريس ، وجنى القطن ، وجمع الثوم والبصل ، تصطحب جوالها الواسع معها ، تبيع رواد الحقول " الترمس " مقابل حفناتٍ القمح ، وكيزان الذرة ورؤوس الثوم وقبضات القطن .
كثيرا ما ادخرت حصيلتها بجوارِ شجرة التوت الكبيرة ، التي تبسط فروعها الكثيفة عند مدخلِ حقلنا ، هناك تضع الجوال وما يحويه ، وتعود من حيث أتت في ثقةٍ ، توصيني بكلماتٍ مقتضبة بحراسةِ المكان حتى ترجع ، تمرر يدها فوق جبينها العريض، تزيح عنه قطرات عرقه النافر ، في تلك الأثناء تصبح أياديها سخية أكثر من ذي قبل ، تهبني في كرمٍ فضلة " الترمس " المتبقية في قاعِ " المقطف" بعد انتهاء جولاتها بين الحقولِ ، تجلس إلى جواري في صمتٍ ، بعد أن اخرجت منديلا نظيفا تجفف عرقها المُنساب فوقَ أنفها الطويل ، تستعيد أنفاسها قليلا ، ثم تُلقي إليّ بابتسامةٍ هزيلة تكشف سنها اللامع العريض ، ثم تشرع في لملمةِ أعراضها، قبل أن تطلب مني المساعدة على حملها .
في تلك الأثناء ورغم ندرة الحديث بيننا ، أدرك أن شيئا وراء هذه المرأة الغامضة ، نظراتها الثلجية ، وابتسامتها الفاترة التي ترسلها على جهدٍ ، وصمتها المبالغ فيهِ ، يجعل منها شخصا آخر مميزا ، تختلف عن باقي الفلاحات .
تنقضي أيام المحصول ، لتعود "بائعة الترمس "ثانية إلى دروبنا ، تنادي بصوتها المبحوح : يلا البوح .. يلا البوح..
يتقاطر في إثرها الصغار ، الذين انتظروا مقدمها ، تضج ّ البيوت ببكاء البعض ، لقد جاءت وآن لهم أن يبتاعوا منها ، في أحيانٍ كثيرة تصبح مصدر إزعاج للأمهاتِ ، اللاتي لا يجدن مهربا من نداءاتها المتكررة ، وضيق ذات اليد إلا تأديب المتمرد ، لكن وعلى كُلّ حال ، فثائرة الصغار لا تهدأ حتى يبتاعوا بأي ثمنٍ ، خاصة والمرأة لا تشترط النقد في بيعها ، فبامكان الصغير منهم أن يعطيها في مقابل حفنة الترمس ، القمح والذرة والبلح المحمص أو الملوخية الناشفة ، فهذه السلع تعتبر مربحة لها مقارنة بالنقدِ.
تعودت كباقي الصغار صوتها وحضورها الدائم ، وبمرورِ الوقت تنامت بيننا مشاعر الارتياح ، لكنّها على العمومِ لم تصل لدرجةِ الانسجام التام ، أُلفة أزاحت ما في نفسها من ريبةٍ تجاهي ، وابعدت هواجس بداخلي أيضا حول هويةِ المرأة الغامضة ، لا تزال في نفسي بقايا سؤالاتٍ تبحثُ عن إجابةٍ ، فكُل ما يُقال لا يرضيني، سألت عجوز وهي تعضّ حبات الترمس بجذور ِ أسنانها المتآكلة ، قالت لي غير مكترثةٍ : أم عماد دي من زمان قوي .. هي غريبة محدش يعرف لها بلد..
بت ليلتي اسأل نفسي واجيبها بلا فائدة ، وما إن بزغت شمس النهار ، حتى اقبلت ، اتخذت لنفسها مجلسا معتادا ، بعد قليلٍ تحلّق الصّغار من حولها ، تتلقى تحية الصّباح من النّساءِ والرِّجالِ بوجهٍ طليق، وابتسامة تشبه برودة البكور ، معلقة فوق شفتيها ، لكنّها في هذه المرة لم تكن كباقي المرات ، بدت مضطربة ، تدور عينيها في الوجوه من حولها ، كأنها غريبة عن المكان لا تعرف أهله ، ما إن تبدأ في بيعها حتى تميل برأسها في تحفزٍ ، تطالع الطريق وترصد حركة القادم من بعيدٍ ، ثم تعود سيرتها الأولى، سريعا سريعا انتهت من محتويات " المقطف " باعت " الترمس " ، وما زاد من حيرتي أني لم اسمع هذا الصّباح فصالا مع نساءِ الدّربِ ، ولا عباراتها المحفوظة : هاتي شوية .. يعني هو أنا سارقة البوح يا ولاد .. حرام عليكم كل حاجة غالية نار ..
حتى صوت نداءها وسيرها بين البيوت اختفى تماما ، وكلماتها التي تتغنى بها ، التي وإن خرجت ضعيفة مهتزة ، لكنّها من ملامحِ الصّباح الجديد،لأولِ مرةٍ اشاهدها مذعورة وجلة ، تضطرب يدها وعينها تلاحق حركة المكان ، تُرى ماذا وراء أم عماد ..؟!
مضت لحالها ، انتظرت مجيئها في اليوم التالي ، ورغبة تؤزني على سؤالها عن سببٍ انزعاجها ، لكنّها لم تأت ، وصوتها لم يعد يسمع أيضا ، استغرب الناس هذا العرض الطارئ ، تسائل الجميع مثلي : أين المرأة ؟
مضت الأيام ليلوح في الأفق شيء من أثرها ، امتلأت الحقول بسيرتها تلوكها الحنوك ، سيرة الثرية ابنة الذوات ،التي هربت منذ زمنٍ بعيد بعد أن هجرت أهلها الأغنياء ، هجرت العز والنعيم حين فرضوا عليها الزواج من ابن عمها الذي لا تحبه، هربت مع حب عمرها الذي اختارته لقلبها ، آثرت الابتعاد عن دنياهم ، تنقلت بين القرى والمدن ، حتى استقرت في قرية مجاورة لقريتنا ، عاشت "أم عماد " بين الناس دهرا ، وبين ضلوعها احتضنت ماضيهاالمجهول .
قال لي صديق من قريتها : لقد جاءت العربات الفارهة في جنحِ الظلام محملة بالرجال تبحث عنها ، ولكنهم وجدوا غرفتها خاوية ، لقد هربت " أم عماد " لمكانٍ غير معلوم ٍ ، واصلت سيرها ثانية ، لتقطع الأيادي التي امتدت لتعيدها إلى ماضيها .
سألت أكثر من مرةٍ عجائز الدّرب : متى هبطت هذه المرأة إلى قريتنا ..؟
لكن ردودهم كانت ناقصة ، وإجاباتهم غير مقنعةٍ ، لا أحد يعرف لمجيئها موعدا ، سوى أنّهم اتفقوا جميعا ، على أنّ " بائعة الترمس " زائرة القرية وصيفتها الدائمة جزء من هذا المكان ، لا يمكن تجاهله أو اقصائه.
قالت لي الخالة حسنية بائعة الجاز ذات مساء : إنّها كانت بنتا صغيرة ، تشتري البوح من أم عماد .
اطالع المرأة في مشيتها ، واتفحص في خبثٍ وغفلة تقاطيع وجهها الذي حافظَ على استدارتهِ ، كما حافظَ على نضارتهِ ، على الرّغم من تلاعب الدَّهر بهِ ، وأنفها الشّامخ في كبرياءٍ رغم توددها وسكينتها ، وأعجب لصلابةِ عودها الفاره، وقوامها الممشوق المعتدل الذي اخفى نحافتها الشديدة ، ووجهها المُشرب بحمرتهِ ، يقاوم بضراوةٍ أيادي الأيام الممتدة بالسوءِ، وفوق هذا وذاك خُضرة عينيها الصافيتان في اتساعٍ ساحر، والشريط الأزرق الممتد من أسفلِ شفتها السفلى ، ليتدلى في استقامةٍ حتى نهايةِ ذقنها العريض، الشيء الذي يستفزّ عينيّ فلا أرفعهما عنها .
كان جمالها الخلاب بالرغمِ من رقةِ حالها ، يكشف بالتأكيد عن أصالةٍ من نوعٍ فريد لم أعرفه من قبل ، أمدّ يدي اتناول قرطاس " الترمس " ، تشيعني عندئذٍ بابتسامةٍ خفيفةٍ ما أعذبها ، وتغمز يدي بحباتِ الترمس في تلطفٍ ، وهي تقول : دول فوق البيعة ..
دائما ما يشدني شيء ما تجاه المرأة ، فهي في سكونها مسالمة تقضي يومها أسفل الجدران أو تفترش ناصية الدّربِ ، تبيع الترمس صيف شتاء ، وفي أحيانٍ ما تجوب الحقول القريبة من بيوتِ القرية ، خاصة في مواسمِ الحصاد والدريس ، وجنى القطن ، وجمع الثوم والبصل ، تصطحب جوالها الواسع معها ، تبيع رواد الحقول " الترمس " مقابل حفناتٍ القمح ، وكيزان الذرة ورؤوس الثوم وقبضات القطن .
كثيرا ما ادخرت حصيلتها بجوارِ شجرة التوت الكبيرة ، التي تبسط فروعها الكثيفة عند مدخلِ حقلنا ، هناك تضع الجوال وما يحويه ، وتعود من حيث أتت في ثقةٍ ، توصيني بكلماتٍ مقتضبة بحراسةِ المكان حتى ترجع ، تمرر يدها فوق جبينها العريض، تزيح عنه قطرات عرقه النافر ، في تلك الأثناء تصبح أياديها سخية أكثر من ذي قبل ، تهبني في كرمٍ فضلة " الترمس " المتبقية في قاعِ " المقطف" بعد انتهاء جولاتها بين الحقولِ ، تجلس إلى جواري في صمتٍ ، بعد أن اخرجت منديلا نظيفا تجفف عرقها المُنساب فوقَ أنفها الطويل ، تستعيد أنفاسها قليلا ، ثم تُلقي إليّ بابتسامةٍ هزيلة تكشف سنها اللامع العريض ، ثم تشرع في لملمةِ أعراضها، قبل أن تطلب مني المساعدة على حملها .
في تلك الأثناء ورغم ندرة الحديث بيننا ، أدرك أن شيئا وراء هذه المرأة الغامضة ، نظراتها الثلجية ، وابتسامتها الفاترة التي ترسلها على جهدٍ ، وصمتها المبالغ فيهِ ، يجعل منها شخصا آخر مميزا ، تختلف عن باقي الفلاحات .
تنقضي أيام المحصول ، لتعود "بائعة الترمس "ثانية إلى دروبنا ، تنادي بصوتها المبحوح : يلا البوح .. يلا البوح..
يتقاطر في إثرها الصغار ، الذين انتظروا مقدمها ، تضج ّ البيوت ببكاء البعض ، لقد جاءت وآن لهم أن يبتاعوا منها ، في أحيانٍ كثيرة تصبح مصدر إزعاج للأمهاتِ ، اللاتي لا يجدن مهربا من نداءاتها المتكررة ، وضيق ذات اليد إلا تأديب المتمرد ، لكن وعلى كُلّ حال ، فثائرة الصغار لا تهدأ حتى يبتاعوا بأي ثمنٍ ، خاصة والمرأة لا تشترط النقد في بيعها ، فبامكان الصغير منهم أن يعطيها في مقابل حفنة الترمس ، القمح والذرة والبلح المحمص أو الملوخية الناشفة ، فهذه السلع تعتبر مربحة لها مقارنة بالنقدِ.
تعودت كباقي الصغار صوتها وحضورها الدائم ، وبمرورِ الوقت تنامت بيننا مشاعر الارتياح ، لكنّها على العمومِ لم تصل لدرجةِ الانسجام التام ، أُلفة أزاحت ما في نفسها من ريبةٍ تجاهي ، وابعدت هواجس بداخلي أيضا حول هويةِ المرأة الغامضة ، لا تزال في نفسي بقايا سؤالاتٍ تبحثُ عن إجابةٍ ، فكُل ما يُقال لا يرضيني، سألت عجوز وهي تعضّ حبات الترمس بجذور ِ أسنانها المتآكلة ، قالت لي غير مكترثةٍ : أم عماد دي من زمان قوي .. هي غريبة محدش يعرف لها بلد..
بت ليلتي اسأل نفسي واجيبها بلا فائدة ، وما إن بزغت شمس النهار ، حتى اقبلت ، اتخذت لنفسها مجلسا معتادا ، بعد قليلٍ تحلّق الصّغار من حولها ، تتلقى تحية الصّباح من النّساءِ والرِّجالِ بوجهٍ طليق، وابتسامة تشبه برودة البكور ، معلقة فوق شفتيها ، لكنّها في هذه المرة لم تكن كباقي المرات ، بدت مضطربة ، تدور عينيها في الوجوه من حولها ، كأنها غريبة عن المكان لا تعرف أهله ، ما إن تبدأ في بيعها حتى تميل برأسها في تحفزٍ ، تطالع الطريق وترصد حركة القادم من بعيدٍ ، ثم تعود سيرتها الأولى، سريعا سريعا انتهت من محتويات " المقطف " باعت " الترمس " ، وما زاد من حيرتي أني لم اسمع هذا الصّباح فصالا مع نساءِ الدّربِ ، ولا عباراتها المحفوظة : هاتي شوية .. يعني هو أنا سارقة البوح يا ولاد .. حرام عليكم كل حاجة غالية نار ..
حتى صوت نداءها وسيرها بين البيوت اختفى تماما ، وكلماتها التي تتغنى بها ، التي وإن خرجت ضعيفة مهتزة ، لكنّها من ملامحِ الصّباح الجديد،لأولِ مرةٍ اشاهدها مذعورة وجلة ، تضطرب يدها وعينها تلاحق حركة المكان ، تُرى ماذا وراء أم عماد ..؟!
مضت لحالها ، انتظرت مجيئها في اليوم التالي ، ورغبة تؤزني على سؤالها عن سببٍ انزعاجها ، لكنّها لم تأت ، وصوتها لم يعد يسمع أيضا ، استغرب الناس هذا العرض الطارئ ، تسائل الجميع مثلي : أين المرأة ؟
مضت الأيام ليلوح في الأفق شيء من أثرها ، امتلأت الحقول بسيرتها تلوكها الحنوك ، سيرة الثرية ابنة الذوات ،التي هربت منذ زمنٍ بعيد بعد أن هجرت أهلها الأغنياء ، هجرت العز والنعيم حين فرضوا عليها الزواج من ابن عمها الذي لا تحبه، هربت مع حب عمرها الذي اختارته لقلبها ، آثرت الابتعاد عن دنياهم ، تنقلت بين القرى والمدن ، حتى استقرت في قرية مجاورة لقريتنا ، عاشت "أم عماد " بين الناس دهرا ، وبين ضلوعها احتضنت ماضيهاالمجهول .
قال لي صديق من قريتها : لقد جاءت العربات الفارهة في جنحِ الظلام محملة بالرجال تبحث عنها ، ولكنهم وجدوا غرفتها خاوية ، لقد هربت " أم عماد " لمكانٍ غير معلوم ٍ ، واصلت سيرها ثانية ، لتقطع الأيادي التي امتدت لتعيدها إلى ماضيها .