إذا أردتَ أن ترى لمحة من مستقبل مدينتي هذه، فاذهب إلى أقرب محطة للترام. سيارة الأجرة تخبرك بالثقافة الشعبية، والحافلة تخبرك بمستوى الرضا عن الحياة. القطار يخبرك بأخلاق الناس، والميكروباص يخبرك بوقاحة بكل تفاصيل الواقع. لكن المستقبل لا يخبرك به إلا الترام العجوز.
كنتُ قد ضِقتُ بشوارع المدينة وضاقت بي، حين قررتُ أن أستبدل الترام بكل وسائل المواصلات الأخرى. الترام العزيز الذي لا يعطله الزحام ولا يعوقه المطر. الترام القديم الذي ما زال يتهادى في طريقه عبر تلك المحطات. هذه العربة بالذات ربما رأت وجه جدي في شبابه، كما ترى الآن وجوه تلك الشياطين الصغيرة التي لا تكف عن التقافز والصراخ.
متى أصبح أطفال المدارس هكذا بالضبط؟ لا أعرف لأنني لم أكن من ركاب الترام حين بدأ الوباء. شيء ما في نظرات الأطفال تغيَّر بشكل جذري. شيء يظهر كأوضح ما يكون حين تطفو تلك الابتسامات الوقحة فوق ملامحهم الباهتة. هل رأيتَ من قبل ضبعًا يبتسم؟ بالطبع تعرفها، فالضباع قد خُلقت بتلك الابتسامة محفورة في ملامحها لا تفارقها. ويبدو أن الوضع لا يختلف كثيرًا عند تلك الضباع البشرية الضئيلة.
لماذا يفضلون الترام؟ بالطبع لنفس السبب الذي تفضل من أجله الضباع التسكع قرب قطعان آكلات العشب: البحث عن لقمة سهلة. في الترام يتاح لهم الوقوف، والتجمع، والحركة، والتنقل، والأهم: انتقاء الضحايا، ودراستها، ومراقبتها.
في العادة يختارون الركاب الوحيدين الذين لا تبدو عليهم علامات القدرة على الدفاع عن أنفسهم. وبالطبع يتناسب حجم الهجوم مع حجم عجز الفريسة عن الدفاع. فالطلاب الأجانب مثلًا (أصحاب الملامح الآسيوية منهم بالذات) أهداف ممتعة للغاية، لكنهم قد يأتون بردود أفعال غير متوقعة، لذا يكتفون في الهجوم عليهم - في الغالب - بالنظرات والغمزات، لكن الضحايا لا يملكون جميعًا نفس الحظ الجيد.
لن أستطيع أبدًا نسيان ذلك اليوم. كنتُ في العربة الوسطى حين سمعت الصياح في العربة الأخيرة. كان الترام قد وصل إلى محطته الأخيرة – محطة الرمل – وكان الركاب مُتحلِّقين حول باب العربة. على رصيف المحطة - أمام باب العربة تمامًا - تكوَّمَ رجل وامرأة في سن أبي وأمي تقريبا. السيدة بالذات كان لها هيئة أمي من بعيد. كان الزوجان يحاولان النهوض وسط حلقة المشاهدين، وبدا أن محصل التذاكر صاحب النظارة والشارب الكثيف - والملامح التي أعرفها جيدًا ولا أعرف السبب - هو الوحيد الذي كان يفعل شيئًا ما. على يمينه وقف زميلان له – بنفس الزي الأزرق المميز – يراقبان ما يحدث، وأمامه وقف الأولاد يستقبلون صياحه ببرود تام.
- "مين اللي زقُّهم كدا؟"، صرخ فيهم المحصل وهو يمسك واحدًا منهم من ياقة قميصه.
- "والله ما نعرف. إحنا مالنا يا عم؟"، أجابه الولد بخشونة.
- "سيبهم يا جابر دي عيال ما اتربِّتش. يلا يا ابني انت وهو امشوا من هنا"، قالها أحد المحصلين لكن المُحصِّل (جابر) لم يسمعه فيما يبدو، لأنه التفت ليساعد الزوجين على القيام وهو يسأل الزوج عن الفاعل.
- "معرفش مين فيهم. زقُّونا من ضهرنا وإحنا نازلين. أنا ومراتي."، قالها الزوج وهو ينفض التراب بيده عن ملابس زوجته التي كانت تجمع حبات عقدها المنثورة على الأرض وهي تتمتم باكية: "قلت لك مش عايزه أروح السينما.. قلت لك مش عايزه.."
النتيجة أن أحدًا لم يرَ مَن فعلها، أو رأى وآثر الصمت لأنهم عيال. لكنني حينها لم أكن أفعل أي شيء سوى مراقبة وجوههم. وكنت أرى شبح ابتسامة ظافرة كريهة في عيني ذلك الولد صاحب الوجه الشاحب الطويل. الابتسامة التي أخفاها عن عين المحصل (جابر) ، لكن ليس عن عيني أنا.
فكرتُ للحظة أن أخبر المحصل الذي كاد أن يُخلي سبيل الأولاد. لكن بم سأخبره؟ لم يكن لديَّ دليل. لم يكن لديَّ وقت. لم يكن لديَّ ما يُقال.
لم أشعر بنفسي إلا بعد أن وجَّهتُ لكمةً لفك الولد تألمَت لها عظام كفي نفسها. لم أشعر بشيء إلا عندما بدأ الركاب بالتصايح، وبدأ المحصلون في المحطة بالتجمهر.
"ليه.. حرام.. عيال.." كانت آخر الكلمات التي ميزتها في صياحهم قبل أن أتبادل نظرة خاطفة مع المحصل (جابر) ثم أنطلق بأقصى سرعتي في شوارع المدينة الرمادية.
* * *
أعرف أنهم سيعودون. أعرف أنهم قادمون لا محالة. لكنني سأكون في انتظارهم. أعرف أنني وحدي لكنني أعرف أن المحصل (جابر) سيحتاج إليَّ كما سأحتاج إليه. أعرف أن ما سأفعله قد يجعلني مطلوبًا – ويا للسخرية – للعدالة! لكنني أعرف شيئًا ما عن العدالة الحقيقية، عدالة أن يشعر هؤلاء الشياطين بشيء من الخوف. أعرف أنهم سيبحثون عني لكن هذا هو عين ما أريد.
فليبحث من يشاء عن ذلك الراكب الأسطوري الذي يرتدي المعطف الأسود الطويل بغطاء الرأس الذي يخفي عينيه ونصف وجهه. فليبحث عني الولد ذو الوجه الشاحب الطويل والابتسامة الكريهة، الآن أو في اليوم الذي يصير فيه من عتاة مجرمي المدينة. كيف أعرف مستقبله؟ ألم أقل لك؟ إذا أردتَ أن ترى المستقبل فاذهب إلى أقرب محطة للترام، اذهب ولا تخشَ العيال. فهم يعرفون أن المحصل (جابر) يعرف وجه كل واحد منهم، كما يعرفون أنني أتنقل الآن بين عربات الترام، وأنتظرهم.
كنتُ قد ضِقتُ بشوارع المدينة وضاقت بي، حين قررتُ أن أستبدل الترام بكل وسائل المواصلات الأخرى. الترام العزيز الذي لا يعطله الزحام ولا يعوقه المطر. الترام القديم الذي ما زال يتهادى في طريقه عبر تلك المحطات. هذه العربة بالذات ربما رأت وجه جدي في شبابه، كما ترى الآن وجوه تلك الشياطين الصغيرة التي لا تكف عن التقافز والصراخ.
متى أصبح أطفال المدارس هكذا بالضبط؟ لا أعرف لأنني لم أكن من ركاب الترام حين بدأ الوباء. شيء ما في نظرات الأطفال تغيَّر بشكل جذري. شيء يظهر كأوضح ما يكون حين تطفو تلك الابتسامات الوقحة فوق ملامحهم الباهتة. هل رأيتَ من قبل ضبعًا يبتسم؟ بالطبع تعرفها، فالضباع قد خُلقت بتلك الابتسامة محفورة في ملامحها لا تفارقها. ويبدو أن الوضع لا يختلف كثيرًا عند تلك الضباع البشرية الضئيلة.
لماذا يفضلون الترام؟ بالطبع لنفس السبب الذي تفضل من أجله الضباع التسكع قرب قطعان آكلات العشب: البحث عن لقمة سهلة. في الترام يتاح لهم الوقوف، والتجمع، والحركة، والتنقل، والأهم: انتقاء الضحايا، ودراستها، ومراقبتها.
في العادة يختارون الركاب الوحيدين الذين لا تبدو عليهم علامات القدرة على الدفاع عن أنفسهم. وبالطبع يتناسب حجم الهجوم مع حجم عجز الفريسة عن الدفاع. فالطلاب الأجانب مثلًا (أصحاب الملامح الآسيوية منهم بالذات) أهداف ممتعة للغاية، لكنهم قد يأتون بردود أفعال غير متوقعة، لذا يكتفون في الهجوم عليهم - في الغالب - بالنظرات والغمزات، لكن الضحايا لا يملكون جميعًا نفس الحظ الجيد.
لن أستطيع أبدًا نسيان ذلك اليوم. كنتُ في العربة الوسطى حين سمعت الصياح في العربة الأخيرة. كان الترام قد وصل إلى محطته الأخيرة – محطة الرمل – وكان الركاب مُتحلِّقين حول باب العربة. على رصيف المحطة - أمام باب العربة تمامًا - تكوَّمَ رجل وامرأة في سن أبي وأمي تقريبا. السيدة بالذات كان لها هيئة أمي من بعيد. كان الزوجان يحاولان النهوض وسط حلقة المشاهدين، وبدا أن محصل التذاكر صاحب النظارة والشارب الكثيف - والملامح التي أعرفها جيدًا ولا أعرف السبب - هو الوحيد الذي كان يفعل شيئًا ما. على يمينه وقف زميلان له – بنفس الزي الأزرق المميز – يراقبان ما يحدث، وأمامه وقف الأولاد يستقبلون صياحه ببرود تام.
- "مين اللي زقُّهم كدا؟"، صرخ فيهم المحصل وهو يمسك واحدًا منهم من ياقة قميصه.
- "والله ما نعرف. إحنا مالنا يا عم؟"، أجابه الولد بخشونة.
- "سيبهم يا جابر دي عيال ما اتربِّتش. يلا يا ابني انت وهو امشوا من هنا"، قالها أحد المحصلين لكن المُحصِّل (جابر) لم يسمعه فيما يبدو، لأنه التفت ليساعد الزوجين على القيام وهو يسأل الزوج عن الفاعل.
- "معرفش مين فيهم. زقُّونا من ضهرنا وإحنا نازلين. أنا ومراتي."، قالها الزوج وهو ينفض التراب بيده عن ملابس زوجته التي كانت تجمع حبات عقدها المنثورة على الأرض وهي تتمتم باكية: "قلت لك مش عايزه أروح السينما.. قلت لك مش عايزه.."
النتيجة أن أحدًا لم يرَ مَن فعلها، أو رأى وآثر الصمت لأنهم عيال. لكنني حينها لم أكن أفعل أي شيء سوى مراقبة وجوههم. وكنت أرى شبح ابتسامة ظافرة كريهة في عيني ذلك الولد صاحب الوجه الشاحب الطويل. الابتسامة التي أخفاها عن عين المحصل (جابر) ، لكن ليس عن عيني أنا.
فكرتُ للحظة أن أخبر المحصل الذي كاد أن يُخلي سبيل الأولاد. لكن بم سأخبره؟ لم يكن لديَّ دليل. لم يكن لديَّ وقت. لم يكن لديَّ ما يُقال.
لم أشعر بنفسي إلا بعد أن وجَّهتُ لكمةً لفك الولد تألمَت لها عظام كفي نفسها. لم أشعر بشيء إلا عندما بدأ الركاب بالتصايح، وبدأ المحصلون في المحطة بالتجمهر.
"ليه.. حرام.. عيال.." كانت آخر الكلمات التي ميزتها في صياحهم قبل أن أتبادل نظرة خاطفة مع المحصل (جابر) ثم أنطلق بأقصى سرعتي في شوارع المدينة الرمادية.
* * *
أعرف أنهم سيعودون. أعرف أنهم قادمون لا محالة. لكنني سأكون في انتظارهم. أعرف أنني وحدي لكنني أعرف أن المحصل (جابر) سيحتاج إليَّ كما سأحتاج إليه. أعرف أن ما سأفعله قد يجعلني مطلوبًا – ويا للسخرية – للعدالة! لكنني أعرف شيئًا ما عن العدالة الحقيقية، عدالة أن يشعر هؤلاء الشياطين بشيء من الخوف. أعرف أنهم سيبحثون عني لكن هذا هو عين ما أريد.
فليبحث من يشاء عن ذلك الراكب الأسطوري الذي يرتدي المعطف الأسود الطويل بغطاء الرأس الذي يخفي عينيه ونصف وجهه. فليبحث عني الولد ذو الوجه الشاحب الطويل والابتسامة الكريهة، الآن أو في اليوم الذي يصير فيه من عتاة مجرمي المدينة. كيف أعرف مستقبله؟ ألم أقل لك؟ إذا أردتَ أن ترى المستقبل فاذهب إلى أقرب محطة للترام، اذهب ولا تخشَ العيال. فهم يعرفون أن المحصل (جابر) يعرف وجه كل واحد منهم، كما يعرفون أنني أتنقل الآن بين عربات الترام، وأنتظرهم.