المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة والقول بأن العقل يكتشف نفسه في الطبيعة ومن خلال التعامل معها ثابتان أساسيان في بنية الفكر الغربي، اليوناني الأوروبي. فلننظر إلى ما عليه الحال بالنسبة لـ (العقل العربي)؟
إذا نحن أردنا أن نبدأ الحديث عن (العقل العربي) فإنه سيكون علينا أن نلاحظ أولاً أن ما يميز (العقل العربي) بوصفه عقل الثقافة العربية الاسلامية، هو أن العلاقات داخله تتمحور حول ثلاثة أقطاب: الله، الانسان، الطبيعة. وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقة حول قطبين إثنين فقط، وجب أن نضع في أحدهما الله، وفي الآخر الانسان. أما الطبيعة فلا بد، في هذه الحالة، من تسجيل غيابها النسبي. ليس هذا وحسب، بل يمكن القول إن الدور الذي تقوم به فكرة الله في الفكر اليوناني ـ الأوروبي، تقوم به الطبيعة في الفكر العربي، دور الوسيط أو القنطرة: في الفكر اليوناني ـ الأوروبي توظف فكرة الله من أجل تبرير مطابقة قوانين العقل لقوانين الطبيعة، وبالتالي من أجل إضفاء المصداقية على المعرفة العقلية، أي جعلها يقينية. وبعبارة أخرى أن فكرة الله تقوم هنا بدور (المعين) للعقل البشري على اكتشاف نظام الطبيعة واكتناه أسرارها. أما في (العقل العربي) كما تشكل داخل الثقافة العربية الاسلامية، فالطبيعة هي التي تقوم بدور (المعين) للعقل البشري على اكتشاف الله وتبين حقيقته. هنا في الثقافة العربية الاسلامية يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها: الله. وهناك في الثقافة اليونانية ـ الأوروبية يتخذ العقل من الله وسيلة لفهم الطبيعة أو على الأقل ضامناً لصحة فهمه لها. هذا إذا لم يستغن عنه بالمرة، أو لم يوحد بينهما.
بإمكاننا أن ننطلق من هذا النوع من المقارنة بين البنية الميتافيزيقية للعقل اليوناني ـ الأوروبي والبنية الميتافيزيقية لـ (العقل العربي) فنضع النتائج أولاً ثم نعرض للبرهنة عليها أو محاولة تبريرها بعد ذلك، وسنكون قد اختصرنا الطريق. ولكن ذلك سيتم حتماً على حساب المعرفة بالطريق أي على حساب موضوعنا نفسه. أن هدفنا ليس المقارنة في ذاتها ولا تكريس نوع من الفروض أو (النتائج). كلا، إن ما نهدف إليه أساساً هو التعرف على (العقل العربي) من خلال القيام برحلة في (أروقة) الثقافة التي أنتجته وساهم هو في إنتاجها وتشكيلها، فالتعرف على الشيء من داخله أفضل بكثير من الوقوف عند وصفه من خارجه، خصوصاً عندما يصدر الباحث عن نظرة نقدية. هذا ولا بد من التأكيد هنا من جديد على أن ما يهمنا أساساً ليس العقل كبنية ميتافيزيقية بل العقل كأداة للإنتاج النظري، كـ (منظومة من القواعد).. قواعد النشاط الذهني. فكيف يمكن فهم هذه الأداة ـ المنظومة إذا لم نتتبعها في عملها ومن خلال طريقتها في العمل والإنتاج؟
إذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة والمعاصرة يرتبط بـ (إدراك الأسباب) أي بالمعرفة، فإن معنى (العقل) في اللغة العربية، وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساساً بالسلوك والأخلاق. نجد هذا واضحاً في مختلف الدلالات التي يعطيها القاموس العربي لمادة (ع. ق. ل)، حيث يكاد يكون الارتباط بين تلك الدلالات وبين السلوك الأخلاقي عاما ًوضرورياً.
نعم، لقد امتد مفهوم (العقل) في الثقافة اليونانية ـ الأوروبية إلى ميدان الأخلاق، وبكيفية خاصة منذ الرواقيين الذين رأوا الحكمة كل الحكمة، في العيش وفق الطبيعة، أي وفق (اللوغوس) أو (العقل الكلي)، ومن هنا دشن الرواقيون، بل فصلوا، القول في (أخلاق العقل)، الأخلاق التي ترتكز على فكرة الواجب. وبإمكاننا أن نؤكد منذ الآن أن مفهوم (العقل) في الفكر العربي سيمتد هو الآخر إلى ميدان المعرفة. ولكن فرق كبير بين الاتجاه من المعرفة إلى الأخلاق والاتجاه من الأخلاق إلى المعرفة. في الحالة الأولى، وهي حالة الفكر اليوناني ـ الأوروبي، تتأسس الأخلاق على المعرفة، أما في الحالة الثانية حالة الفكر العربي، فتتأسس المعرفة على الأخلاق. إن المعرفة هنا، في حالة الفكر العربي، ليست اكتشافاً للعلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، ليست عملية يكتشف العقل نفسه من خلالها في الطبيعة، بل هي التمييز في موضوعات المعرفة (حسية كانت أو اجتماعية) بين الحسن والقبيح، بين الخير والشر. ومهمة العقل ووظيفته، بل وعلامة وجوده، هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.
نجد هذا الجانب الأخلاقي، القيمي، ليس فقط في الكلمات التي جذرها (ع. ق. ل) بل أيضاً في جميع الكلمات التي ترتبط معها بنوع من القرابة في المعنى مثل ذهن، نُهَى، حجَا، فكر، فُؤَاد...
أما إذا استشرنا الكتاب العربي المبين، القرآن الحكيم، فإننا سنجد هذا المعنى القيمي المرتبط بكلمة (عقل) وما في معناها، يعبر في الأغلب الأعم عن التمييز بين الخير والشر، بين الهداية والضلال. ولعل مما له مغزاه في هذا الصدد أن القرآن لا يستعمل مادة (ع. ق. ل) في صيغة الاسلام. فلفظة (العقل) لم ترد قط في القرآن، وإنما وردت هذه المادة في صيغة الفعل في معظم الحالات: فالقرآن يؤنب المشركين لكونهم لا يميزون بين الحق والباطل ـ بالمعنى الأخلاقي: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) الأعراف/ آية 179. وهكذا فالقلب والعقل هنا بمعنى واحد، ولا يفقهون يفسرها: (الغافلون). والمعنى القيمي واضح في الكلمتين معاً.
نعم، يمكن أن نلمس من خلال الدلالات المختلفة لكلمة (عقل) والكلمات الأخرى التي في معناها ما يمكن ربطه بالنظام والتنظيم، ولكن حتى في هذه الحالة يظل الجانب القيمي حاضراً دوماً. فالنظام والتنظيم في المجال التداولي للكلمات العربية المذكورة متجه دوماً إلى السلوك البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها. ومن هنا يمكن القول أن (العقل) في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوماً بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة... أما في التصور الذي تنقله اللغات الأوروبية فالعقل مرتبط دوماً بالموضوع، فهو إما نظام الوجود، وإما إدراك هذا النظام، أو القوة المدركة.
إن المعطيات السابقة تجعلنا، من الناحية المبدئية على الأقل، في وضع يسمح لنا بالقول أن (العقل العربي) تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء. ونحن نقصد بالنظرة المعيارية ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزاً. وهذا في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها. إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضفيه عليه الشخص (والمجتمع والثقافة) صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية: تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه.
ولعل هذا نفسه هو ما أبرزه النقاد القدماء أمثال الجاحظ والشهرستاني ممن تعرضوا للمقارنة بين العرب والعجم في مجال الفكر والثقافة.
يقول الجاحظ في نص مشهور: ((... إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة ومشاورة ومعاونة وعن طول تفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم (لنلاحظ أن هذا غير ممكن إلا إذا اتجه التفكير اتجاهاً موضوعياً). وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا اجالة فكر ولا استعانة.
إن الجاحظ الذي ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب ورد هجمات الشعوبية، ربما لم يكن منتبهاً إلى أنه يسلبهم القدرة على (التعقل) بمعنى الاستدلال والمحاكمة العقلية. أن (العقل العربي)، حسب الجاحظ، قوامه البداهة والارتجال، وهو يريد بذلك سرعة (الفهم) وعدم التردد في إصدار الأحكام. وهذا معناه تحكم النظرة المعيارية التي تؤسسها ردود أفعال آنية، وذلك في مقابل النظرة الموضوعية التي قوامها (المعاناة والمكابدة واجالة النظر) والتي يجعلها الجاحظ من خواص (العقل) عند العجم من فرس ويونان.
ويأتي الشهرستاني ـ وقد هدأ الصراع مع الشعوبية ـ ليقف موقفاً (محايداً)، موقف المؤرخ للفكر من منظور فلسفي يعتمد المقارنة فعلاً، ولكن مع نظرة تحليلية أعمق. يقول الشهرستاني إن العرب ـ والهنود ـ أكثر ميلهم إلى (تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية)، أما العجم (الروم والفرس) فـ (أكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية الجسمانية). ويؤكد الشهرستاني نفس الحكم في مكان آخر من نفس الكتاب حيث يضع (الفطرة) و (الطبع) موضع (الأمور الروحانية) و (الاكتساب) و (الجهد) مكان (الأمور الجسمانية).
يطرح علينا الشهرستاني مقارنة تقوم على التعارض: فتقرير خواص الأشياء، في مقابل تقرير طبائعها، معناه التعامل مع الشيء من خلال صفاته وخصائصه المميزة له عن غيره، لا من خلال طبيعته أي ما يشكل قوامه الداخلي: بنيته ونظام العلاقات فيه. هذا ولا بد من التذكير هنا بأن كلمة (طبائع) في الاصطلاح القديم تفيد في آن واحد نظام السببية الثابت (نوع من الضرورة) والتركيب الماهوي للشيء. وبالمثل فـ (الحكم بأحكام الماهيات والحقائق) يعني الحكم على الشيء من خلال أهم صفاته بالنسبة لمن يقوم بالحكم، الشيء الذي تكفي فيه النظرة الإجمالية التي تقوم على (البديهة والارتجال...)، والحكم الذي من هذا النوع حكم قيمي ولا بد. وعلى النقيض من ذلك تماماً (الحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية) (أي الحواس والتجربة) التي يربطها الشهرستاني بـ (الاكتساب والجهد) اللذين يضعهما مقابل (الفطرة والارتجال). وإذا نحن استعدنا الحقل المعرفي الذي كان يتحدث داخله الشهرستاني عرفنا أن (الحكم بأحكام الكميات والكيفيات) يعني بيان ما منه يتركب الشيء، أي النظر غليه نظرة موضوعية. لنضف أخيراً أن النظرة الموضوعية هذه تختلف عن النظرة الذاتية من حيث إنها تعتمد الاستدلال والبرهان لا الحدس والوجدان.
لقد انطلقنا في تلمس بعض العناصر التي تشكل، أو تساهم في تشكيل، خصوصية (العقل العربي) من اللغة التي تحتفظ لنا بها المعاجم، لغة عرب الجاهلية، وأكدنا ذلك من خلال طرح مضمون آيات من القرآن، وهو كتاب عربي ينطق بلغة العرب، عرب الجاهلية، كما كانت في عهد النبي. وعندما تحدث الجاحظ والشهرستاني عن (العقل العربي) فإنما كانا يتحدثان عن (عقل) عرب الجاهلية أساساً. نحن إذن لم نخرج عن (العصر الجاهلي) بكل ما يتحدد به هذا العصر من عناصر بيئية: جغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فهل يجوز لنا تعميم خصائص (العقل العربي) في العصر الجاهلي على العصور الاسلامية التالية؟
إذا نحن أردنا أن نبدأ الحديث عن (العقل العربي) فإنه سيكون علينا أن نلاحظ أولاً أن ما يميز (العقل العربي) بوصفه عقل الثقافة العربية الاسلامية، هو أن العلاقات داخله تتمحور حول ثلاثة أقطاب: الله، الانسان، الطبيعة. وإذا أردنا تكثيف هذه العلاقة حول قطبين إثنين فقط، وجب أن نضع في أحدهما الله، وفي الآخر الانسان. أما الطبيعة فلا بد، في هذه الحالة، من تسجيل غيابها النسبي. ليس هذا وحسب، بل يمكن القول إن الدور الذي تقوم به فكرة الله في الفكر اليوناني ـ الأوروبي، تقوم به الطبيعة في الفكر العربي، دور الوسيط أو القنطرة: في الفكر اليوناني ـ الأوروبي توظف فكرة الله من أجل تبرير مطابقة قوانين العقل لقوانين الطبيعة، وبالتالي من أجل إضفاء المصداقية على المعرفة العقلية، أي جعلها يقينية. وبعبارة أخرى أن فكرة الله تقوم هنا بدور (المعين) للعقل البشري على اكتشاف نظام الطبيعة واكتناه أسرارها. أما في (العقل العربي) كما تشكل داخل الثقافة العربية الاسلامية، فالطبيعة هي التي تقوم بدور (المعين) للعقل البشري على اكتشاف الله وتبين حقيقته. هنا في الثقافة العربية الاسلامية يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها: الله. وهناك في الثقافة اليونانية ـ الأوروبية يتخذ العقل من الله وسيلة لفهم الطبيعة أو على الأقل ضامناً لصحة فهمه لها. هذا إذا لم يستغن عنه بالمرة، أو لم يوحد بينهما.
بإمكاننا أن ننطلق من هذا النوع من المقارنة بين البنية الميتافيزيقية للعقل اليوناني ـ الأوروبي والبنية الميتافيزيقية لـ (العقل العربي) فنضع النتائج أولاً ثم نعرض للبرهنة عليها أو محاولة تبريرها بعد ذلك، وسنكون قد اختصرنا الطريق. ولكن ذلك سيتم حتماً على حساب المعرفة بالطريق أي على حساب موضوعنا نفسه. أن هدفنا ليس المقارنة في ذاتها ولا تكريس نوع من الفروض أو (النتائج). كلا، إن ما نهدف إليه أساساً هو التعرف على (العقل العربي) من خلال القيام برحلة في (أروقة) الثقافة التي أنتجته وساهم هو في إنتاجها وتشكيلها، فالتعرف على الشيء من داخله أفضل بكثير من الوقوف عند وصفه من خارجه، خصوصاً عندما يصدر الباحث عن نظرة نقدية. هذا ولا بد من التأكيد هنا من جديد على أن ما يهمنا أساساً ليس العقل كبنية ميتافيزيقية بل العقل كأداة للإنتاج النظري، كـ (منظومة من القواعد).. قواعد النشاط الذهني. فكيف يمكن فهم هذه الأداة ـ المنظومة إذا لم نتتبعها في عملها ومن خلال طريقتها في العمل والإنتاج؟
إذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة والمعاصرة يرتبط بـ (إدراك الأسباب) أي بالمعرفة، فإن معنى (العقل) في اللغة العربية، وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساساً بالسلوك والأخلاق. نجد هذا واضحاً في مختلف الدلالات التي يعطيها القاموس العربي لمادة (ع. ق. ل)، حيث يكاد يكون الارتباط بين تلك الدلالات وبين السلوك الأخلاقي عاما ًوضرورياً.
نعم، لقد امتد مفهوم (العقل) في الثقافة اليونانية ـ الأوروبية إلى ميدان الأخلاق، وبكيفية خاصة منذ الرواقيين الذين رأوا الحكمة كل الحكمة، في العيش وفق الطبيعة، أي وفق (اللوغوس) أو (العقل الكلي)، ومن هنا دشن الرواقيون، بل فصلوا، القول في (أخلاق العقل)، الأخلاق التي ترتكز على فكرة الواجب. وبإمكاننا أن نؤكد منذ الآن أن مفهوم (العقل) في الفكر العربي سيمتد هو الآخر إلى ميدان المعرفة. ولكن فرق كبير بين الاتجاه من المعرفة إلى الأخلاق والاتجاه من الأخلاق إلى المعرفة. في الحالة الأولى، وهي حالة الفكر اليوناني ـ الأوروبي، تتأسس الأخلاق على المعرفة، أما في الحالة الثانية حالة الفكر العربي، فتتأسس المعرفة على الأخلاق. إن المعرفة هنا، في حالة الفكر العربي، ليست اكتشافاً للعلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، ليست عملية يكتشف العقل نفسه من خلالها في الطبيعة، بل هي التمييز في موضوعات المعرفة (حسية كانت أو اجتماعية) بين الحسن والقبيح، بين الخير والشر. ومهمة العقل ووظيفته، بل وعلامة وجوده، هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.
نجد هذا الجانب الأخلاقي، القيمي، ليس فقط في الكلمات التي جذرها (ع. ق. ل) بل أيضاً في جميع الكلمات التي ترتبط معها بنوع من القرابة في المعنى مثل ذهن، نُهَى، حجَا، فكر، فُؤَاد...
أما إذا استشرنا الكتاب العربي المبين، القرآن الحكيم، فإننا سنجد هذا المعنى القيمي المرتبط بكلمة (عقل) وما في معناها، يعبر في الأغلب الأعم عن التمييز بين الخير والشر، بين الهداية والضلال. ولعل مما له مغزاه في هذا الصدد أن القرآن لا يستعمل مادة (ع. ق. ل) في صيغة الاسلام. فلفظة (العقل) لم ترد قط في القرآن، وإنما وردت هذه المادة في صيغة الفعل في معظم الحالات: فالقرآن يؤنب المشركين لكونهم لا يميزون بين الحق والباطل ـ بالمعنى الأخلاقي: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) الأعراف/ آية 179. وهكذا فالقلب والعقل هنا بمعنى واحد، ولا يفقهون يفسرها: (الغافلون). والمعنى القيمي واضح في الكلمتين معاً.
نعم، يمكن أن نلمس من خلال الدلالات المختلفة لكلمة (عقل) والكلمات الأخرى التي في معناها ما يمكن ربطه بالنظام والتنظيم، ولكن حتى في هذه الحالة يظل الجانب القيمي حاضراً دوماً. فالنظام والتنظيم في المجال التداولي للكلمات العربية المذكورة متجه دوماً إلى السلوك البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها. ومن هنا يمكن القول أن (العقل) في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوماً بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة... أما في التصور الذي تنقله اللغات الأوروبية فالعقل مرتبط دوماً بالموضوع، فهو إما نظام الوجود، وإما إدراك هذا النظام، أو القوة المدركة.
إن المعطيات السابقة تجعلنا، من الناحية المبدئية على الأقل، في وضع يسمح لنا بالقول أن (العقل العربي) تحكمه النظرة المعيارية إلى الأشياء. ونحن نقصد بالنظرة المعيارية ذلك الاتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزاً. وهذا في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها. إن النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضفيه عليه الشخص (والمجتمع والثقافة) صاحب تلك النظرة. أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية: تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه.
ولعل هذا نفسه هو ما أبرزه النقاد القدماء أمثال الجاحظ والشهرستاني ممن تعرضوا للمقارنة بين العرب والعجم في مجال الفكر والثقافة.
يقول الجاحظ في نص مشهور: ((... إلا أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة ومشاورة ومعاونة وعن طول تفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم الثاني حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم (لنلاحظ أن هذا غير ممكن إلا إذا اتجه التفكير اتجاهاً موضوعياً). وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا اجالة فكر ولا استعانة.
إن الجاحظ الذي ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب ورد هجمات الشعوبية، ربما لم يكن منتبهاً إلى أنه يسلبهم القدرة على (التعقل) بمعنى الاستدلال والمحاكمة العقلية. أن (العقل العربي)، حسب الجاحظ، قوامه البداهة والارتجال، وهو يريد بذلك سرعة (الفهم) وعدم التردد في إصدار الأحكام. وهذا معناه تحكم النظرة المعيارية التي تؤسسها ردود أفعال آنية، وذلك في مقابل النظرة الموضوعية التي قوامها (المعاناة والمكابدة واجالة النظر) والتي يجعلها الجاحظ من خواص (العقل) عند العجم من فرس ويونان.
ويأتي الشهرستاني ـ وقد هدأ الصراع مع الشعوبية ـ ليقف موقفاً (محايداً)، موقف المؤرخ للفكر من منظور فلسفي يعتمد المقارنة فعلاً، ولكن مع نظرة تحليلية أعمق. يقول الشهرستاني إن العرب ـ والهنود ـ أكثر ميلهم إلى (تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية)، أما العجم (الروم والفرس) فـ (أكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية الجسمانية). ويؤكد الشهرستاني نفس الحكم في مكان آخر من نفس الكتاب حيث يضع (الفطرة) و (الطبع) موضع (الأمور الروحانية) و (الاكتساب) و (الجهد) مكان (الأمور الجسمانية).
يطرح علينا الشهرستاني مقارنة تقوم على التعارض: فتقرير خواص الأشياء، في مقابل تقرير طبائعها، معناه التعامل مع الشيء من خلال صفاته وخصائصه المميزة له عن غيره، لا من خلال طبيعته أي ما يشكل قوامه الداخلي: بنيته ونظام العلاقات فيه. هذا ولا بد من التذكير هنا بأن كلمة (طبائع) في الاصطلاح القديم تفيد في آن واحد نظام السببية الثابت (نوع من الضرورة) والتركيب الماهوي للشيء. وبالمثل فـ (الحكم بأحكام الماهيات والحقائق) يعني الحكم على الشيء من خلال أهم صفاته بالنسبة لمن يقوم بالحكم، الشيء الذي تكفي فيه النظرة الإجمالية التي تقوم على (البديهة والارتجال...)، والحكم الذي من هذا النوع حكم قيمي ولا بد. وعلى النقيض من ذلك تماماً (الحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية) (أي الحواس والتجربة) التي يربطها الشهرستاني بـ (الاكتساب والجهد) اللذين يضعهما مقابل (الفطرة والارتجال). وإذا نحن استعدنا الحقل المعرفي الذي كان يتحدث داخله الشهرستاني عرفنا أن (الحكم بأحكام الكميات والكيفيات) يعني بيان ما منه يتركب الشيء، أي النظر غليه نظرة موضوعية. لنضف أخيراً أن النظرة الموضوعية هذه تختلف عن النظرة الذاتية من حيث إنها تعتمد الاستدلال والبرهان لا الحدس والوجدان.
لقد انطلقنا في تلمس بعض العناصر التي تشكل، أو تساهم في تشكيل، خصوصية (العقل العربي) من اللغة التي تحتفظ لنا بها المعاجم، لغة عرب الجاهلية، وأكدنا ذلك من خلال طرح مضمون آيات من القرآن، وهو كتاب عربي ينطق بلغة العرب، عرب الجاهلية، كما كانت في عهد النبي. وعندما تحدث الجاحظ والشهرستاني عن (العقل العربي) فإنما كانا يتحدثان عن (عقل) عرب الجاهلية أساساً. نحن إذن لم نخرج عن (العصر الجاهلي) بكل ما يتحدد به هذا العصر من عناصر بيئية: جغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية. فهل يجوز لنا تعميم خصائص (العقل العربي) في العصر الجاهلي على العصور الاسلامية التالية؟