تمهيد
بعد استقلال المغرب سنة 1956، شرع المثقفون في العمل على تحديد ورسم معالم الهويَّة المغربية بكلّ مكوناتها الثقافية المتنوعة والممتدة جغرافياً وتاريخياً على عدة محطات ومناطق ومسارات. فكان رهان علماء الاجتماع مثلاً هو إعادة تشكيل هويَّة المجتمع المغربي وتحليل بنياته ورصد تفاعلها ونبضها وتواجدها ضمن منظومة اقتصادية كان لا بدَّ من تفكيكها ونقد مرتكزاتها وعوامل بنائها. في خضم هذا الرهان الموضوعي اعتباراً للسياق التاريخي الذي تولد فيه، وأيضاً الصعب بفعل مواجهته لإشكاليات سياسية وإيديولوجية وثقافية عدة، سيقوم بعض السوسيولوجيين المغاربة بشتى مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية وتكوينهم الأكاديمي بعدة دراسات وأبحاث مهمة، وسيسعون بالتالي من خلالها إلى تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية. نذكر من بينهم في هذا الإطار بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي نظراً لأنَّ بداية تأسيس عملهما المشترك سيكون مباشرة بعد عودة عبد الكبير الخطيبي من فرنسا وتقلده مهمة إدارة معهد علم الاجتماع.
ـ بول باسكون
وُلد السوسيولوجي بول باسكون بمدينة فاس المغربية بتاريخ 13 أبريل 1932 من أبوين فرنسيين، كان يتقن، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، اللغة العربية والأمازيغية. في 21 ابريل من سنة 1985 تعرض هو وزميله الباحث أحمد عريف إلى حادثة سير مميتة في موريتانيا بينما كانا يقومان بمهمة علمية هناك. هذا الموت بقي غامضاً وما زال يطرح عدة علامات استفهام إلى الآن، خاصة أنَّه في يناير 1976 وفي قلب الصحراء سبق أن فقد بول باسكون ابنيه: نادين وجيل. هاتان الحالتان ينبغي أيضاً الإشارة إليهما وفق سياق محدد وهو سياق يرتبط في المغرب بما يُسمَّى في تلك الفترة "سنوات الجمر والرصاص".
قام بول باسكون طيلة مسيرته العلمية الغنية بعدة دراسات وأبحاث مهمة تندرج بشكل محدد ضمن ما يُسمَّى "السوسيولوجيا القروية". يقول عالم الاجتماع المغربي عبد الرحيم العطري في هذا الشأن:
"منذ البدء يؤكد بول باسكون على أنَّ المعرفة جعلت من أجل تغيير العالم، وعليه فالسوسيولوجيا القروية لن تكون غير معرفة تهفو إلى التغيير لكن عن طريق الدرس والتحليل، فهي ذات أهمية علمية وعملية في الآن نفسه، بما تتيحه من توسيع للنقاش العلمي حول المجتمع القروي، وما تنتهي إليه أيضاً من خلاصات تفيد في تجاوز الوضع التنموي الإشكالي لمجتمع يتعرَّض لكثير من الإقصاء والتهميش. لهذا يقول بول باسكون إنَّ السوسيولوجيا القروية هي علم للواجبات التي لا بدَّ أن تبصم ممارسها بكثير من الملامح التي تحدد البورتريه المحتمل لعالم الاجتماع. كما يوضح أنَّ الغاية القصوى للسوسيولوجيا القروية تظلُّ هي معرفة المجتمع القروي بما تعنيه هذه المعرفة من تحليل ودرس لأدقِّ التفاصيل، وبالطبع فالوصول إلى هذا المطمح العلمي يقتضي الالتزام إلى درجة الأرثوذوكسية بمجموعة من القواعد السوسيولوجية، فعلم الاجتماع من حيث هو تفكير في المجتمع يستلزم التباعد، أي يستلزم تحقيق الحد الأدنى من القطيعة تجاه الذات وتجاه الجماعة، فالموضوعية عند بول باسكون تُعدًّ شرطاً غير قابل للتفاوض في رحاب السوسيولوجيا، فهي الضمانة الممكنة لأصالة ونزاهة المنجز السوسيولوجي".[1]
هذه الموضوعية التي يتكلم عنها بول باسكون هي بشكل أو بآخر نوع من التخلص من الذات بكلِّ إفرازاتها ومكوناتها الإيديولوجية والفكرية والعقائدية. علم الاجتماع علم يستخدم مناهج علمية رصينة ويسعى إلى بلوغ معرفة صحيحة لا تشوبها شوائب تغليب فكر معيَّن على حساب آخر أو طبقة اجتماعية على حساب طبقة اجتماعية أخرى، ولكنه بحث نحو تحليل سليم وجاد من أجل بلوغ نتائج سليمة ودقيقة. هذه النزاهة التي رسمها بول باسكون في مجمل أبحاثه ودراساته القيّمة ستتواصل ضمن مشروع مهم وضخم وصعب سيدشنه مع باحثين آخرين من ضمنهم عبد الكبير الخطيبي. ويتجلى هذا المشروع في محاولة تخليص السوسيولوجيا المغربيَّة من النزعة الاستعماريَّة.
ـ عبد الكبير الخطيبي
اكتشف عبد الكبير الخطيبي علم الاجتماع عندما كان تلميذاً في سلك الثانوي من خلال كتيب (دليل) أرماند كيفليي le manuel d’Armand Cuvillier (1887-1973). بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون العريقة سنة 1964، عاد عبد الكبير الخطيبي إلى المغرب في السنة نفسها حيث تمَّ توظيفه أستاذاً باحثاً في جامعة محمد الخامس بالرباط. يقول عبد الكبير الخطيبي:
"كانت رغبتي هي المساهمة في توضيح مشروع مجتمع ما بعد كولونيالي في طور التحديث. في جميع الأحوال كان مشروعاً سياسياً. كيف نصبح علماء اجتماع؟ بمعنى محللين يقومون بتحليل موضوع جماعي بمجتمع معين في مرحلة تاريخية محددة؟ ممارسة هذا النوع من المعرفة لا يرتبط فقط بالمعرفة الأكاديمية، بل لا بدَّ لعالم اجتماع مبتدئ من التوفُّر على صفات خاصة منها الحساسية المحايثة للموضوع الجماعي بتشكلاته المتنوعة، مثل: القاعدة الشعبية ونظم التصنيف والتسلسل الهرمي ثم التراث والتقاليد التي تؤثر في الفرد...، مجموعة من المعالم والإطارات وأشكال الحياة التي تطبع النسيج الاجتماعي أو تمزقه".[2]
قام عبد الكبير الخطيبي بتجريب عدَّة مناهج في مجال العلوم الاجتماعية من بينها: البحث الميداني وتحليل المضمون. وتنبغي الإشارة كذلك إلى دور السيميولوجيا في تقوية مناهجه من خلال الأبحاث والدراسات التي أنجزها في مجال علم الاجتماع.
ـ بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي، ورهان تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية:
عاد عبد الكبير الخطيبي من فرنسا، كما سلف الذكر سنة 1964، وبالمصادفة هي السنة نفسها التي سيحصل فيها بول باسكون على الجنسية المغربية.
سيساهم الخطيبي إلى جانب باسكون - الإنسان الرائع والمفكر الشجاع كما يصفه الخطيبي- في مشروع تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية، وأيضاً في تكوين نخبة من الباحثين المتميزين مثل: عبد الله حمودي وأحمد زوكاري وعبد الله حرزني.[3] ومع تعيين الخطيبي مديراً لمعهد السوسيولوجيا سنة 1966 وهو مازال شاباً، سيكبر التحدي وسيساهم الباحثان الخطيبي وباسكون ومعها باحثون آخرون في تأسيس ورسم معالم البحث السوسيولوجي المغربي والتشجيع بالتالي على الخوض في مواضيع مهمة منها: الشباب المنتمي إلى القرى المغربية والطبقات الاجتماعية والتخلف والتغيرات الاجتماعية والمثاقفة والفساد داخل الإدارة المغربية والمجتمع المدني، وغيرها من المواضيع التي تصبُّ في توجُّه يساري بالمعنى السياسي كما يشير إلى ذلك الخطيبي.[4]
مثل هذه الدراسات وغيرها كان ينشر البعض منها في مجلة متميزة هي المجلة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب التي تمَّ تأسيسها سنة 1933. ومنذ سنة 1966 سيكلف عبد الكبير الخطيبي بمهمة التنسيق في هيئة تحرير المجلة التي كانت تضم باحثين ينتمون إلى مختلف التخصصات في مجال العلوم الإنسانية. وأفرزت المجلة ثلاثة أجيال مهمَّة من القراء تتشكل من الأساتذة والباحثين والطلبة، وأصبحت تمثل بالتالي مرجعاً مهماً للباحثين.[5]
يعتمد علم الاجتماع، من بين ما يعتمد عليه، على الملاحظة والاستماع وعلى الفكر التحليلي النقدي. وفي هذا الإطار فالعلم والسياسة مجالان مرتبطان بقوة كما يقول الخطيبي.[6] ومن خلال الأبحاث والدراسات التي باشروها، اكتشف عبد الكبير الخطيبي وبول باسكون ومعهم كريكوري لا زاريفGrigori Lazarev أنَّ لمشاريعهم حدوداً فاصلة لا يمكن تجازوها. وهذا ما أشار إليه عبد الكبير الخطيبي في وجود عائق جوهري يتمثل في مجتمع يعاني من القمع والكبت ممَّا يخلق لديه مقاومة قويَّة لكل أشكال التحليل والنقد.[7]
وهل المجتمع وحده هو من كان غير مستعد لاستقبال مختلف الدراسات في ميدان علم الاجتماع؟ لا شك أنَّ النظام المخزني كان منزعجاً هو أيضاً من مثل هذه الدراسات والأبحاث التي تنبه إلى سوء توزيع الثروات مثلاً والفقر وسيطرة جماعة من الإقطاعيين على الأراضي الفلاحية وغيرها من المواضيع المهمة.
ـ إغلاق معهد السوسيولوجيا:
كان لأحداث ماي 1968 بفرنسا وقع سلبي على السوسيولوجيا المغربية وعلى مشروع تخليصها من النزعة الاستعمارية. فقد قامت الدولة، كما يحكي الخطيبي، بتشكيل لجنة مهمتها تتبع آثار هذه الأحداث على الجامعة المغربية. هكذا إذن ستصطدم طموحات باسكون والخطيبي المتعددة بقرار سياسي من أعلى سلطة في الدولة المغربية يتمثل في إغلاق معهد السوسيولوجيا سنة 1970. تقول الكاتبة المغربية زكية داود في هذا الشأن:
"سيتم إغلاق معهد علم الاجتماع سنة 1969 ليتمَّ في البداية استبداله بمعهد العلوم الاجتماعية التطبيقية قبل زواله بصفة نهائية. كان هناك شك من لدن السلطة أنَّه (المعهد) يقوم بتكوين أرواح شريرة. المغرب الحديث لا يحتاج إلى طيور الشؤم التي هي علماء الاجتماع. بعد إغلاق المعهد، استبدل علم الاجتماع بعلم اللاهوت."[8]
من جهته، لم يغفل الخطيبي الحديث أيضاً عن حيثيات إغلاق معهد علم الاجتماع سنة 1970 وليس 1969 كما اعتقدت زكية داود. وبمرارة واضحة وحسرة شديدة لا تخلوان من سخرية، يؤكد عبد الكبير الخطيبي أنَّ هذا المعهد كان يضمُّ طلبة هادئين جداً، ولم يكونوا مهتمين لا بإضرابات ولا بسياسة. فقط كان همُّهم الوحيد هو الحصول على شهادة بعد نهاية التكوين.[9] وإذا كان عبد الكبير الخطيبي يتحسَّر بشدة على إغلاق معهد السوسيولوجيا فإنَّه يتحسَّر أيضاً على فقدان بول باسكون باعتباره صاحب دور ريادي في تأسيس علم اجتماع ما بعد مرحلة الاستعمار Sociologie post-coloniale.
كانت العلاقة التي تربط عبد الكبير الخطيبي ببول باسكون قوية، سواء على المستوى المهني والبحث في مجال العلوم الاجتماعية أم على المستوى الإنساني، حيث ما زال الخطيبي يتذكر بتأثر بالغ وفاة رفيق دربه في حادثة سير مؤلمة في الصحراء سنة 1985، علماً أنَّه سبق أن فقد نجليه: نادين وجيل أيضاً في الصحراء في شهر من سنة 1976. يسرد الخطيبي هذين الحادثين المنفصلين، ولكن باستفهام شديد يخفي الكثير من الكلام، وكأنَّه ما زال لم يستوعب موت صديقه ونجليه في المكان نفسه تقريباً. وما زالت صورة بول باسكون تتراءى أمامه رغم هذا الغياب الطويل. يصفه الخطيبي بالرجل الكتوم وصاحب الإحساس القوي والنظرات الحزينة وأيضاً الابتسامة الحصيفة.[10]
إذا كان الخطيبي يدعو إلى كتابة سيرة ذاتية حول صديقه المغربي بول باسكون، فإنَّ أسئلة أخرى تفرض نفسها، ويمكن اختزالها في الآتي:
ألم يحن الوقت لإنجاز تقييم علمي للتجربة القصيرة لمعهد السوسيولوجيا؟ ولمَ لا يعاد فتحه من جديد، بل وتشييد معاهد تهدف إلى التنوير والمعرفة الصحيحة في مختلف المجالات المعرفية؟
أوَلم يكن لإغلاقه وخنق كلِّ أشكال التفكير الصحيح والبحث الرصين تداعيات أخرى تمثلت في تنامي الفكر الظلامي، خاصَّة بعد استبدال مادة علم الاجتماع أو الفلسفة بمادة الفكر الإسلامي والدراسات الإسلامية في النظام التعليمي المغربي في تلك الفترة كما تقول الكاتبة المغربية زكية داود؟
المراجع:
ـ العطري عبد الرحيم. "بول باسكون الراحل خطأ: عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه"، صحيفة الحوار المتمدن، العدد 1475، 28 فبراير 2006
- Abdelkébir, Khatibi. Le Scribe et son Ombre, Paris, Éditions de La Différence, 2008.
[1] العطري عبد الرحيم. "بول باسكون الراحل خطأ: عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه"، صحيفة الحوار المتمدن، العدد 1475، 28 فبراير 2006
[2] Abdelkébir, Khatibi .Le Scribe et son Ombre, Paris, Éditions de La Différence, 2008, pp.32-33.
[3] Ibid, p.31.
[4] Ibid, p p.31-32.
[5] Ibid, p.32.
[6] Ibid, p .34.
[7] Ibid, p.34.
[8] Ibid, p. 34.
[9] Ibid, p. 35.
[10] Ibid, p.36.
بعد استقلال المغرب سنة 1956، شرع المثقفون في العمل على تحديد ورسم معالم الهويَّة المغربية بكلّ مكوناتها الثقافية المتنوعة والممتدة جغرافياً وتاريخياً على عدة محطات ومناطق ومسارات. فكان رهان علماء الاجتماع مثلاً هو إعادة تشكيل هويَّة المجتمع المغربي وتحليل بنياته ورصد تفاعلها ونبضها وتواجدها ضمن منظومة اقتصادية كان لا بدَّ من تفكيكها ونقد مرتكزاتها وعوامل بنائها. في خضم هذا الرهان الموضوعي اعتباراً للسياق التاريخي الذي تولد فيه، وأيضاً الصعب بفعل مواجهته لإشكاليات سياسية وإيديولوجية وثقافية عدة، سيقوم بعض السوسيولوجيين المغاربة بشتى مرجعياتهم الفكرية والإيديولوجية وتكوينهم الأكاديمي بعدة دراسات وأبحاث مهمة، وسيسعون بالتالي من خلالها إلى تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية. نذكر من بينهم في هذا الإطار بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي نظراً لأنَّ بداية تأسيس عملهما المشترك سيكون مباشرة بعد عودة عبد الكبير الخطيبي من فرنسا وتقلده مهمة إدارة معهد علم الاجتماع.
ـ بول باسكون
وُلد السوسيولوجي بول باسكون بمدينة فاس المغربية بتاريخ 13 أبريل 1932 من أبوين فرنسيين، كان يتقن، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، اللغة العربية والأمازيغية. في 21 ابريل من سنة 1985 تعرض هو وزميله الباحث أحمد عريف إلى حادثة سير مميتة في موريتانيا بينما كانا يقومان بمهمة علمية هناك. هذا الموت بقي غامضاً وما زال يطرح عدة علامات استفهام إلى الآن، خاصة أنَّه في يناير 1976 وفي قلب الصحراء سبق أن فقد بول باسكون ابنيه: نادين وجيل. هاتان الحالتان ينبغي أيضاً الإشارة إليهما وفق سياق محدد وهو سياق يرتبط في المغرب بما يُسمَّى في تلك الفترة "سنوات الجمر والرصاص".
قام بول باسكون طيلة مسيرته العلمية الغنية بعدة دراسات وأبحاث مهمة تندرج بشكل محدد ضمن ما يُسمَّى "السوسيولوجيا القروية". يقول عالم الاجتماع المغربي عبد الرحيم العطري في هذا الشأن:
"منذ البدء يؤكد بول باسكون على أنَّ المعرفة جعلت من أجل تغيير العالم، وعليه فالسوسيولوجيا القروية لن تكون غير معرفة تهفو إلى التغيير لكن عن طريق الدرس والتحليل، فهي ذات أهمية علمية وعملية في الآن نفسه، بما تتيحه من توسيع للنقاش العلمي حول المجتمع القروي، وما تنتهي إليه أيضاً من خلاصات تفيد في تجاوز الوضع التنموي الإشكالي لمجتمع يتعرَّض لكثير من الإقصاء والتهميش. لهذا يقول بول باسكون إنَّ السوسيولوجيا القروية هي علم للواجبات التي لا بدَّ أن تبصم ممارسها بكثير من الملامح التي تحدد البورتريه المحتمل لعالم الاجتماع. كما يوضح أنَّ الغاية القصوى للسوسيولوجيا القروية تظلُّ هي معرفة المجتمع القروي بما تعنيه هذه المعرفة من تحليل ودرس لأدقِّ التفاصيل، وبالطبع فالوصول إلى هذا المطمح العلمي يقتضي الالتزام إلى درجة الأرثوذوكسية بمجموعة من القواعد السوسيولوجية، فعلم الاجتماع من حيث هو تفكير في المجتمع يستلزم التباعد، أي يستلزم تحقيق الحد الأدنى من القطيعة تجاه الذات وتجاه الجماعة، فالموضوعية عند بول باسكون تُعدًّ شرطاً غير قابل للتفاوض في رحاب السوسيولوجيا، فهي الضمانة الممكنة لأصالة ونزاهة المنجز السوسيولوجي".[1]
هذه الموضوعية التي يتكلم عنها بول باسكون هي بشكل أو بآخر نوع من التخلص من الذات بكلِّ إفرازاتها ومكوناتها الإيديولوجية والفكرية والعقائدية. علم الاجتماع علم يستخدم مناهج علمية رصينة ويسعى إلى بلوغ معرفة صحيحة لا تشوبها شوائب تغليب فكر معيَّن على حساب آخر أو طبقة اجتماعية على حساب طبقة اجتماعية أخرى، ولكنه بحث نحو تحليل سليم وجاد من أجل بلوغ نتائج سليمة ودقيقة. هذه النزاهة التي رسمها بول باسكون في مجمل أبحاثه ودراساته القيّمة ستتواصل ضمن مشروع مهم وضخم وصعب سيدشنه مع باحثين آخرين من ضمنهم عبد الكبير الخطيبي. ويتجلى هذا المشروع في محاولة تخليص السوسيولوجيا المغربيَّة من النزعة الاستعماريَّة.
ـ عبد الكبير الخطيبي
اكتشف عبد الكبير الخطيبي علم الاجتماع عندما كان تلميذاً في سلك الثانوي من خلال كتيب (دليل) أرماند كيفليي le manuel d’Armand Cuvillier (1887-1973). بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون العريقة سنة 1964، عاد عبد الكبير الخطيبي إلى المغرب في السنة نفسها حيث تمَّ توظيفه أستاذاً باحثاً في جامعة محمد الخامس بالرباط. يقول عبد الكبير الخطيبي:
"كانت رغبتي هي المساهمة في توضيح مشروع مجتمع ما بعد كولونيالي في طور التحديث. في جميع الأحوال كان مشروعاً سياسياً. كيف نصبح علماء اجتماع؟ بمعنى محللين يقومون بتحليل موضوع جماعي بمجتمع معين في مرحلة تاريخية محددة؟ ممارسة هذا النوع من المعرفة لا يرتبط فقط بالمعرفة الأكاديمية، بل لا بدَّ لعالم اجتماع مبتدئ من التوفُّر على صفات خاصة منها الحساسية المحايثة للموضوع الجماعي بتشكلاته المتنوعة، مثل: القاعدة الشعبية ونظم التصنيف والتسلسل الهرمي ثم التراث والتقاليد التي تؤثر في الفرد...، مجموعة من المعالم والإطارات وأشكال الحياة التي تطبع النسيج الاجتماعي أو تمزقه".[2]
قام عبد الكبير الخطيبي بتجريب عدَّة مناهج في مجال العلوم الاجتماعية من بينها: البحث الميداني وتحليل المضمون. وتنبغي الإشارة كذلك إلى دور السيميولوجيا في تقوية مناهجه من خلال الأبحاث والدراسات التي أنجزها في مجال علم الاجتماع.
ـ بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي، ورهان تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية:
عاد عبد الكبير الخطيبي من فرنسا، كما سلف الذكر سنة 1964، وبالمصادفة هي السنة نفسها التي سيحصل فيها بول باسكون على الجنسية المغربية.
سيساهم الخطيبي إلى جانب باسكون - الإنسان الرائع والمفكر الشجاع كما يصفه الخطيبي- في مشروع تخليص السوسيولوجيا المغربية من النزعة الاستعمارية، وأيضاً في تكوين نخبة من الباحثين المتميزين مثل: عبد الله حمودي وأحمد زوكاري وعبد الله حرزني.[3] ومع تعيين الخطيبي مديراً لمعهد السوسيولوجيا سنة 1966 وهو مازال شاباً، سيكبر التحدي وسيساهم الباحثان الخطيبي وباسكون ومعها باحثون آخرون في تأسيس ورسم معالم البحث السوسيولوجي المغربي والتشجيع بالتالي على الخوض في مواضيع مهمة منها: الشباب المنتمي إلى القرى المغربية والطبقات الاجتماعية والتخلف والتغيرات الاجتماعية والمثاقفة والفساد داخل الإدارة المغربية والمجتمع المدني، وغيرها من المواضيع التي تصبُّ في توجُّه يساري بالمعنى السياسي كما يشير إلى ذلك الخطيبي.[4]
مثل هذه الدراسات وغيرها كان ينشر البعض منها في مجلة متميزة هي المجلة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب التي تمَّ تأسيسها سنة 1933. ومنذ سنة 1966 سيكلف عبد الكبير الخطيبي بمهمة التنسيق في هيئة تحرير المجلة التي كانت تضم باحثين ينتمون إلى مختلف التخصصات في مجال العلوم الإنسانية. وأفرزت المجلة ثلاثة أجيال مهمَّة من القراء تتشكل من الأساتذة والباحثين والطلبة، وأصبحت تمثل بالتالي مرجعاً مهماً للباحثين.[5]
يعتمد علم الاجتماع، من بين ما يعتمد عليه، على الملاحظة والاستماع وعلى الفكر التحليلي النقدي. وفي هذا الإطار فالعلم والسياسة مجالان مرتبطان بقوة كما يقول الخطيبي.[6] ومن خلال الأبحاث والدراسات التي باشروها، اكتشف عبد الكبير الخطيبي وبول باسكون ومعهم كريكوري لا زاريفGrigori Lazarev أنَّ لمشاريعهم حدوداً فاصلة لا يمكن تجازوها. وهذا ما أشار إليه عبد الكبير الخطيبي في وجود عائق جوهري يتمثل في مجتمع يعاني من القمع والكبت ممَّا يخلق لديه مقاومة قويَّة لكل أشكال التحليل والنقد.[7]
وهل المجتمع وحده هو من كان غير مستعد لاستقبال مختلف الدراسات في ميدان علم الاجتماع؟ لا شك أنَّ النظام المخزني كان منزعجاً هو أيضاً من مثل هذه الدراسات والأبحاث التي تنبه إلى سوء توزيع الثروات مثلاً والفقر وسيطرة جماعة من الإقطاعيين على الأراضي الفلاحية وغيرها من المواضيع المهمة.
ـ إغلاق معهد السوسيولوجيا:
كان لأحداث ماي 1968 بفرنسا وقع سلبي على السوسيولوجيا المغربية وعلى مشروع تخليصها من النزعة الاستعمارية. فقد قامت الدولة، كما يحكي الخطيبي، بتشكيل لجنة مهمتها تتبع آثار هذه الأحداث على الجامعة المغربية. هكذا إذن ستصطدم طموحات باسكون والخطيبي المتعددة بقرار سياسي من أعلى سلطة في الدولة المغربية يتمثل في إغلاق معهد السوسيولوجيا سنة 1970. تقول الكاتبة المغربية زكية داود في هذا الشأن:
"سيتم إغلاق معهد علم الاجتماع سنة 1969 ليتمَّ في البداية استبداله بمعهد العلوم الاجتماعية التطبيقية قبل زواله بصفة نهائية. كان هناك شك من لدن السلطة أنَّه (المعهد) يقوم بتكوين أرواح شريرة. المغرب الحديث لا يحتاج إلى طيور الشؤم التي هي علماء الاجتماع. بعد إغلاق المعهد، استبدل علم الاجتماع بعلم اللاهوت."[8]
من جهته، لم يغفل الخطيبي الحديث أيضاً عن حيثيات إغلاق معهد علم الاجتماع سنة 1970 وليس 1969 كما اعتقدت زكية داود. وبمرارة واضحة وحسرة شديدة لا تخلوان من سخرية، يؤكد عبد الكبير الخطيبي أنَّ هذا المعهد كان يضمُّ طلبة هادئين جداً، ولم يكونوا مهتمين لا بإضرابات ولا بسياسة. فقط كان همُّهم الوحيد هو الحصول على شهادة بعد نهاية التكوين.[9] وإذا كان عبد الكبير الخطيبي يتحسَّر بشدة على إغلاق معهد السوسيولوجيا فإنَّه يتحسَّر أيضاً على فقدان بول باسكون باعتباره صاحب دور ريادي في تأسيس علم اجتماع ما بعد مرحلة الاستعمار Sociologie post-coloniale.
كانت العلاقة التي تربط عبد الكبير الخطيبي ببول باسكون قوية، سواء على المستوى المهني والبحث في مجال العلوم الاجتماعية أم على المستوى الإنساني، حيث ما زال الخطيبي يتذكر بتأثر بالغ وفاة رفيق دربه في حادثة سير مؤلمة في الصحراء سنة 1985، علماً أنَّه سبق أن فقد نجليه: نادين وجيل أيضاً في الصحراء في شهر من سنة 1976. يسرد الخطيبي هذين الحادثين المنفصلين، ولكن باستفهام شديد يخفي الكثير من الكلام، وكأنَّه ما زال لم يستوعب موت صديقه ونجليه في المكان نفسه تقريباً. وما زالت صورة بول باسكون تتراءى أمامه رغم هذا الغياب الطويل. يصفه الخطيبي بالرجل الكتوم وصاحب الإحساس القوي والنظرات الحزينة وأيضاً الابتسامة الحصيفة.[10]
إذا كان الخطيبي يدعو إلى كتابة سيرة ذاتية حول صديقه المغربي بول باسكون، فإنَّ أسئلة أخرى تفرض نفسها، ويمكن اختزالها في الآتي:
ألم يحن الوقت لإنجاز تقييم علمي للتجربة القصيرة لمعهد السوسيولوجيا؟ ولمَ لا يعاد فتحه من جديد، بل وتشييد معاهد تهدف إلى التنوير والمعرفة الصحيحة في مختلف المجالات المعرفية؟
أوَلم يكن لإغلاقه وخنق كلِّ أشكال التفكير الصحيح والبحث الرصين تداعيات أخرى تمثلت في تنامي الفكر الظلامي، خاصَّة بعد استبدال مادة علم الاجتماع أو الفلسفة بمادة الفكر الإسلامي والدراسات الإسلامية في النظام التعليمي المغربي في تلك الفترة كما تقول الكاتبة المغربية زكية داود؟
المراجع:
ـ العطري عبد الرحيم. "بول باسكون الراحل خطأ: عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه"، صحيفة الحوار المتمدن، العدد 1475، 28 فبراير 2006
- Abdelkébir, Khatibi. Le Scribe et son Ombre, Paris, Éditions de La Différence, 2008.
[1] العطري عبد الرحيم. "بول باسكون الراحل خطأ: عالم الاجتماع هو ذاك الذي تأتي الفضيحة عن طريقه"، صحيفة الحوار المتمدن، العدد 1475، 28 فبراير 2006
[2] Abdelkébir, Khatibi .Le Scribe et son Ombre, Paris, Éditions de La Différence, 2008, pp.32-33.
[3] Ibid, p.31.
[4] Ibid, p p.31-32.
[5] Ibid, p.32.
[6] Ibid, p .34.
[7] Ibid, p.34.
[8] Ibid, p. 34.
[9] Ibid, p. 35.
[10] Ibid, p.36.