ما قام به إيرفينغ لا ينفصل عما قام به سيرفانتس وما قام به آخرون، ففي النهاية لا تكتب الرواية بالحقائق وإن كانت تستهدف الكشف عنها، وإنما هي حرفة تحتاج إلى كم محترم من الخداع والتدليس.
لماذا يلجأ الروائي إلى التمويه والتبرؤ من قصته ونسبتها إلى مخطوط قديم؟ هل لأن الحكاية تحتاج لتكون مغرية إلى هالة من العتاقة ومن القدم؟ أم لأن المخطوط يوحي بحقيقة ما كانت ضائعة ولم يقم الروائي سوى بالكشف عنها في فصول سرديته؟ لماذا تقوم روايات عديدة على لعبة البحث عن أوراق قديمة أو اكتشاف أخرى منسية أو مهملة، أو الوقوف على جذاذات دفينة بلغات عتيقة؟
منذ اختار سيرفانتس ابتداع شخصية سيدي احمد بنغالي ومخطوطه الذي ضم حكاية الفارس الجوال، تواترت التفاصيل الروائية القادمة من عوالم الموت إلى الحياة من جديد، لتنبهق من قعر الآثار الدارسة والأقبية المظلمة، والسفن الغارقة، والمدافن الموحشة، أسفار تسلط الضوء على ما جرى، ذلك ما نجده في “سمرقند” لأمين معلوف، و”اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، و”المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا وآخرين.
ويمكن أن أحصي على الأقل في السياق المغربي عشرة عناوين تعتمد كلها على لغز الذخيرة المضمومة في كتاب قديم لتشيد معمار حكاية تتصل بما يجري هنا والآن، لعل أشهرها رواية عبدالرحيم حبيبي “تغريبة العبدي” ورواية “سرقسطة” للميلودي شغموم.
في أواخر القرن التاسع عشر لجأ الكاتب والدبلوماسي الأميركي “واشنطن إيرفينغ” صاحب الكتاب الأكثر إكزوتيكية وشهرة عن قصر الحمراء، إلى اختلاق حيلة مضللة بالتزامن مع انتهائه من كتاب يؤرخ لمدينة نيويورك، حيث نشر في الصحافة مقالا يتحدث عن اكتشافه لمخطوط كتاب تاريخي عن نيويورك ألفه شخص اختفى في ظروف غامضة اسمه نكروبوكر، اقتناه من صاحب المنزل الذي كان قطن فيه الكاتب المختفي.
هذه الحكاية الدعائية جعلت صاحبنا يبيع أرقاما فلكية من مؤلفه عن تاريخ نيويورك، وضمنت له شهرة واسعة كمعد وناشر للكتاب، كما أن تجواله عبر ربوع أوروبا وإقامته الطويلة بإسبانيا كمبعوث دبلوماسي جعلاه ينسج حكايات عديدة عن مخطوطات ومرويات قديمة مكنت رواياته المليئة بالتلفيقات التاريخية من الانتشار بوصفها نابعة عن خبرة كبيرة، في الوقت الذي لم يكن فيه إلا مؤلفا واسع الخيال ومحتالا وملفقا بارعا.
ما قام به إيرفينغ لا ينفصل عما قام به سيرفانتس وما قام به آخرون، ففي النهاية لا تكتب الرواية بالحقائق وإن كانت تستهدف الكشف عنها، وإنما هي حرفة تحتاج إلى كم محترم من الخداع والتدليس، فالحقيقة الوحيدة المتخايلة في الأفق هي الموت القادم الذي يخفي كل التفاصيل الحياتية العابرة، وللتخفيف من هيمنته وجبروته العاتي يبحث الروائي عما ينتشل الحياة وأوهامها من الاندثار الأبدي في شكل أوراق منسية تتجاوز معبر القبر واعدة بولادات متجددة.
* العرب
لماذا يلجأ الروائي إلى التمويه والتبرؤ من قصته ونسبتها إلى مخطوط قديم؟ هل لأن الحكاية تحتاج لتكون مغرية إلى هالة من العتاقة ومن القدم؟ أم لأن المخطوط يوحي بحقيقة ما كانت ضائعة ولم يقم الروائي سوى بالكشف عنها في فصول سرديته؟ لماذا تقوم روايات عديدة على لعبة البحث عن أوراق قديمة أو اكتشاف أخرى منسية أو مهملة، أو الوقوف على جذاذات دفينة بلغات عتيقة؟
منذ اختار سيرفانتس ابتداع شخصية سيدي احمد بنغالي ومخطوطه الذي ضم حكاية الفارس الجوال، تواترت التفاصيل الروائية القادمة من عوالم الموت إلى الحياة من جديد، لتنبهق من قعر الآثار الدارسة والأقبية المظلمة، والسفن الغارقة، والمدافن الموحشة، أسفار تسلط الضوء على ما جرى، ذلك ما نجده في “سمرقند” لأمين معلوف، و”اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، و”المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا وآخرين.
ويمكن أن أحصي على الأقل في السياق المغربي عشرة عناوين تعتمد كلها على لغز الذخيرة المضمومة في كتاب قديم لتشيد معمار حكاية تتصل بما يجري هنا والآن، لعل أشهرها رواية عبدالرحيم حبيبي “تغريبة العبدي” ورواية “سرقسطة” للميلودي شغموم.
في أواخر القرن التاسع عشر لجأ الكاتب والدبلوماسي الأميركي “واشنطن إيرفينغ” صاحب الكتاب الأكثر إكزوتيكية وشهرة عن قصر الحمراء، إلى اختلاق حيلة مضللة بالتزامن مع انتهائه من كتاب يؤرخ لمدينة نيويورك، حيث نشر في الصحافة مقالا يتحدث عن اكتشافه لمخطوط كتاب تاريخي عن نيويورك ألفه شخص اختفى في ظروف غامضة اسمه نكروبوكر، اقتناه من صاحب المنزل الذي كان قطن فيه الكاتب المختفي.
هذه الحكاية الدعائية جعلت صاحبنا يبيع أرقاما فلكية من مؤلفه عن تاريخ نيويورك، وضمنت له شهرة واسعة كمعد وناشر للكتاب، كما أن تجواله عبر ربوع أوروبا وإقامته الطويلة بإسبانيا كمبعوث دبلوماسي جعلاه ينسج حكايات عديدة عن مخطوطات ومرويات قديمة مكنت رواياته المليئة بالتلفيقات التاريخية من الانتشار بوصفها نابعة عن خبرة كبيرة، في الوقت الذي لم يكن فيه إلا مؤلفا واسع الخيال ومحتالا وملفقا بارعا.
ما قام به إيرفينغ لا ينفصل عما قام به سيرفانتس وما قام به آخرون، ففي النهاية لا تكتب الرواية بالحقائق وإن كانت تستهدف الكشف عنها، وإنما هي حرفة تحتاج إلى كم محترم من الخداع والتدليس، فالحقيقة الوحيدة المتخايلة في الأفق هي الموت القادم الذي يخفي كل التفاصيل الحياتية العابرة، وللتخفيف من هيمنته وجبروته العاتي يبحث الروائي عما ينتشل الحياة وأوهامها من الاندثار الأبدي في شكل أوراق منسية تتجاوز معبر القبر واعدة بولادات متجددة.
* العرب