جاء في الباب الخامس والعشرين من مؤلف « الفروق اللغوية» لأبي هلال العسكري «في الفرق بين الزمان والدهر، والأجل والمدة، والسنة والعام وما يجري مع ذلك»، ما يلي:
الفرق بين الدهر والمدة
الدهر جمع أوقات متوالية، مختلفة كانت أوغير مختلفة، ولهذا يقال: الشتاء مدة، ولا يقال: دهر لتساوي أوقاته في برد الهواء وغير ذلك من صفاته. ويقال للسنين الدهر لأن أوقاتها مختلفة في الحر والبرد وغير ذلك، وأيضا من المدة ما يكون أطول من الدهر، ألا تراهم يقولون: هذه الدنيا دهور، ولا يقال: الدنيا مدد، والمدة والأجل متقاربان فكما أن من الأجل ما يكون دهورا وكذلك المدة.
الفرق بين المدة والزمن
اسم الزمان يقع على كل جمع من الأوقات وكذلك المدة، إلا أن أقصر المدة أطول من أقصر الزمن، ولهذا كان معنى قول القائل لآخر إذا سأله أن يمهله: أمهلني زمانا آخر غير معنى قوله: مدة أخرى، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن معنى قوله: مدة أخرى أجل أطول من الزمن، ومما يوضح الفرق بينهما أن المدة أصلها المد وهو للطول، ويقال: مده إذا طوله: إلا أن بينها وبين الطول فرقا، وهو أن المدة لا تقع على أقصر الطول، ولهذا يقال مد الله في عمره، ولا يقال لوقتين: مدة، كما لا يقال لجوهرين إذا ألفا: إنهما خط ممدود، ويقال لذلك: طول، فإذا صح هذا وجب أن يكون قولنا: الزمان مدة، يراد به أنه أطول الأزمنة، كما قلنا للطويل: إنه ممدود، كان مرادنا أنه أطول من غيره، فأما قول القائل: آخر الزمان، فمعناه أنه آخر الأزمنة، لأن الزمان يقع على الواحد والجمع، فاستثقلوا أن يقولوا آخر الأزمنة والأزمان فاكتفوا بزمان.
الفرق بين الزمان والوقت
الزمان أوقات متوالية مختلفة أو غير مختلفة، فالوقت واحد، وهو المقدر بالحركة الواحدة من حركات الفلك، وهو يجري من الزمان مجرى الجزء من الجسم، والشاهد أيضا أنه يقال: زمان قصير وزمان طويل، ولا يقال: وقت قصير.
الفرق بين الوقت والميقات
الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت الشيء، قدره مقدر أو لم يقدره، ولهذا قيل: مواقيت الحج، للمواضع التي قدرت للإحرام، وليس الوقت في الحقيقة غير حركة الفلك، وفي ذلك كلام كثير ليس هذا موضع ذكره.
الفرق بين العام والسنة
العام جمع أيام، والسنة جمع شهور، ألا ترى أنه لما كان يقال: أيام الزنج، قيل: عام الزنج، ولما لم يقل: شهور الزنج، لم يقل: سنة الزنج، ويجوز أن يقال: العام يفيد كونه وقتا لشيء، والسنة لا تفيد ذلك، ولهذا يقال: عام الفيل ولا يقال: سنة الفيل، ويقال في التاريخ: سنة مائة وسنة خمسين، ولا يقال: عام مائة وعام خمسين، إذ ليس وقتا لشيء مما ذكر من هذا العدد، ومع هذا فإن العام هو السنة والسنة هي العام، وإن اقتضى كل واحد منهما ما لا يقتضيه الآخر مما ذكرناه، كما أن الكل هو الجمع والجمع هو الكل، وإن كان الكل إحاطة بالأبعاض والجمع إحاطة بالأجزاء.
الفرق بين السنة والحجة
الحجة تفيد أنها يحج فيها، والحجة: المرة الواحدة من حج يحج، والحجة فعلة مثل الحلسة والقعدة، ثم سميت بها السنة كما يسمى الشيء باسم ما يكون فيه.
الفرق بين الحين والسنة
أن قولنا: «حين» اسم جمع أوقاتا متناهية، سواء كان سنة أو شهورا أو أياما أو ساعات، ولهذا جاء في القرآن لمعان مختلفة، وبينه وبين الدهر فرق، وهو أن الدهر يقتضي أنه أوقات متوالية مختلفة على ما ذكرناه، ولهذا قال الله تعالى حاكيا عن الدهريين:? وما يهلكنا إلا الدهر? [الجاثية/24] أي يهلكنا الدهر باختلاف أحواله، والدهر أيضا لا يكون إلا ساعات قليلة ويكون الحين كذلك.
الفرق بين الدهر والعصر
الدهر ما ذكرناه، والعصر لكل مختلفين معناهما واحد، مثل: الشتاء والصيف، والليلة واليوم، والغداة والسحر، يقال لذلك كله العصر، وقال المبرد في تأويل قوله عز وجل: ? والعصر إن الإنسان لفي خسر? [العصر/ 1-2] قال: العصر هاهنا الوقت قال: ويقولون أهل هذا العصر، كما يقولون أهل هذا الزمان، والعصر اسم للسنين الكثيرة، قال الشاعر: [من المنسرح]
أصبح مني الشباب قد نكُرا
إن بان مني فقد نوى عصُرا.
وتقول: عاصرت فلانا، أي: كنت في عصره، أي: زمن حياته.
الفرق بين الوقت والساعة
الساعة هي الوقت المنقطع من غيره، والوقت اسم الجنس، ولهذا تقول: إن الساعة عندي، ولا تقول الوقت عندي.
الفرق بين البكرة والغداة والمساء والعشاء والعشي والأصيل
الغداة اسم لوقت، والبكرة فعلة من بكر يبكر بكورا، ألا ترى أنه يقال: صلاة الغداة، وصلاة الظهر والعصر، فتضاف إلى الوقت، ولا يقال صلاة البكرة، وإنما يقال: جاء في بكرة، كما تقول: جاء في غدوة، وكلاهما فعلة مثل النقلة، ثم كثر استعمال البكرة حتى جرت على الوقت، وإذا فاء الفيء سمي عشية ثم أصيلا بعد ذلك، ويقال: فاء الفيء إذا زاد على طول الشجرة، ويقال: أتيته عشية أمس، وسآتيه العشية ليومك الذي أنت فيه، وسآتيه عشي غد بغير هاء، وسآتيه بالعشي والغداة، كل عشي وكل غداة، والطفل: وقت غروب الشمس، والعشاء: بعد ذلك، وإذا كان بعيد العصر فهو المساء، ويقال للرجل عند العصر إذا كان يبادر حاجة: قد أمسيت وذلك على المبالغة.
الفرق بين الزمان والحقبة والبرهة
الحقبة اسم للسنة إلا أنها تفيد غير ما تفيده السنة، وذلك أن السنة تفيد أنها جمع شهور، والحقبة تفيد أنها ظرف لأعمال ولأمور تجري فيها، مأخوذة من الحقيبة وهي ضرب من الظروف تتخذ من الأدم يجعل الراكب فيها متاعه وتشد خلف رجله أو سرجه. وأما البرهة فبعض الدهر، ألا ترى أنه يقال: برهة من الدهر، كما يقال: قطعة من الدهر، وقال بعضهم: هي فارسية معربة.
الفرق بين المدة والأجل
الأجل الوقت المضروب لانقضاء الشيء ولا يكون أجلا يجعل جاعل، وما علم أنه يكون في وقت فلا أجل له إلا أن يحكم بأنه يكون فيه، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين: محله وذلك لانقضاء مدة الدين، وأجل الموت: وقت حلوله وذلك لانقضاء مدة الحياة قبله، فأجل الآخرة: الوقت لانقضاء ما تقدم قبلها قبل ابتدائها، ويجوز أن تكون المدة بين الشيئين يجعل جاعل وبغير جعل جاعل، وكل أجل مدة وليس كل مدة أجلا.
الفرق بين النهار واليوم
النهار اسم للضياء المنفسح الظاهر لحصول الشمس بحيث ترى عينها أو معظم ضوئها، وهذا حد النهار وليس هو في الحقيقة اسم للوقت، واليوم اسم لمقدار من الأوقات يكون فيه هذا السنا، ولهذا قال النحويون: إذا قلت: سرت يوما فأنت موقت تريد مبلغ ذلك ومقداره، وإذا قلت: سرت اليوم أو يوم الجمعة، فأنت مؤرخ، فإذا قلت: سرت نهارا أو النهار، فلست بمؤرخ ولا بمؤقت، وإنما المعنى: سرت في الضياء المنفسح، ولهذا يضاف النهار إلى اليوم، فيقال: سرت نهار يوم الجمعة، ولهذا يقال للغلس والسحر: نهار، حتى يستضيء الجو.
الفرق بين الدهر والأبد
الدهر أوقات متوالية مختلفة غير متناهية، [والأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود]، وهو في المستقبل خلاف قط في الماضي. وقوله عز وجل: ?خالدين فيها أبدا? [النساء/57] حقيقة، وقولك: افعل هذا أبدا، مجاز، والمراد المبالغة في إيصال هذا الفعل.
الفرق بين الوقت وإذ
وهما جميعا اسم لشيء واحد أنه تمكن أحدهما ولم يتمكن الآخر أو مضمن بالمضاف إليه لكون البيان غير معناه بحسب ذلك المضاف إليه، والوقت مطلق.
لم يكن قصد أبي هلال الابتعاد عن المعنى اللغوي والديني لكلمة «الزمان» وما يرادفها أو يحاكيها؛ بل كان قصده هو الوقوف على الفوارق اللغوية أصلا. ولقد نورنا في ذلك إلى حد أننا كنا نعتقد أن الدهر أطول من المدة والعكس عنده هو الصحيح. وكنا نعتقد أن الزمان أطول من المدة والعكس عنده هو الأصح.
وكنا نرادف بين العام والسنة والحال بينهما فرق...
إن قصدنا بهذا التعليق هو الارتفاع من الفوارق اللغوية إلى ما يمكن أن نحصله من دلالات فلسفية ورهانات أنطولوجية وميتافيزيقية.
ورغم أن قصده كان التدقيق في «الفوارق» اللغوية إلا أنه أغفل أو أبعد مفاهيم زمنية ذات أهمية قصوى لكل تصور ميتافيزيقي أو أنطولوجي للزمان مثل: الحول والحين والحينونة والهنيهة واللحظة والفينة.. والآن والأوان وفوات الأوان.
إن «فوات الأوان» Nachtraglichkeit مفهوم فرويدي، انبثق من تجارب فرويد حول الذاكرة وعملها وحول الشعور واللاشعور فهو مفهوم يُعيد النظر في تصور ميتافيزيقي «للحضور». وإذا كان هذا الأخير هو السمة المركزية للميتافيزيقيا الغربية، فإن فرويد ومن خلال هذا المفهوم ، يُعيد النظر النقدي في كل هذه الميتافيزيقا.
ترى ما معنى فوات الأوان؟ (Freud) CF !
يتعرض جاك ديريدا لمفهوم «فوات الأوان» عند فرويد في مقال له تحت عنوان: «فرويد ومشهد الكتابة»(2). يرتبط هذا المفهوم بمفهومين آخرين الأول هو الأثر (Trace) والثاني هو الحضور (Présence). ويعني التوقيت القبلي والمسبق (Retardement) و (après coup) كما يعني الزيادة أو الملحق (Le supplémentaire) أو الإضافية. ويفيد من جهة أخرى:
L'appendice :
Le codicille :
Le post- scriptum :
أي ما يأتي بعد الكتابة، وما يحدث فيما بعد، ما يضاف بعد هنيهة..
بهذا المفهوم يتحول الحاضر إلى أثر. حاضر «النص» مثلا الذي لا يمكن تهجيه وفهمه إلا من خلال الملحقة والملحوظة في أسفله. الحاضر إذن ليس أصليا بدئيا إنما هو مكون ومركب بعد حين، الحاضر ليس مطلقا، حيا، ممتلئا هذه هي الفكرة الرائعة التي يعلمنا إياها فرويد في تاريخ الميتافيزيقيا وفلسفة الحضور.
الأثر من حيث التعريف هو غياب الحضور، هو حضور غاب أو حضور بات ماضيا. يتكون انطلاقا من «علامات» الذاكرة. ففي أثلامها تطبع الأحداث وتمحى. الحياة النفسية عبارة عن آلة كاتبة، والشعور واللاشعور عبارة عن نصوص لا حضور لها. إنها دوما سلفا آثار و لم يكن لها أبدا من حضور، من معنى حاضر يتكون ويعاد تكوينه فيما بعد بشكل متأخر. (Nachtraglich).
فوات الأوان مفهوم تحليل نفسي يحاول تأويل التحول الواعي لأفكار اللاشعورية. بحيث لا يمكن تفسير الأحلام بلغة واعية ولا ترجمة اللاشعور إلى ما قبل الشعور أو الشعور، فليس هناك من كتابة قائمة ولا من نص حاضر مسبقا. إن النص اللاشعوري نص غير مكتوب إنما هو مليء بالآثار والاختلافات نص يجمع بين المعنى والقوة في شكل أرشيف دوما مسبقا في إنتاج وإعادة إنتاج.. المعنى.
أما فوات الأوان عند غاستون. باشلار فتحدده اللحظة (l'instant). في كتابه «حدس اللحظة»(3) يبرز لنا سر هذا الزمان في تجربة تكاد تكون صوفية، وهي بكل تأكيد ميتافيزيقية ذات خلفية علمية. الكتاب عبارة عن قراءة في كتاب Siloë لأديب يدعى غ. روبنال Gaston Roupnel. فكرته المحورية والحاسمة هي: «أن الزمان لا واقع له سوى اللحظة». (ص13) (4) بعبارة أخرى يُوجد الزمان مضغوطا ومكثفا في اللحظة وفي الآونة بين عدمين. من هنا فالزمان يموت ويحيا في كل لحظة. وهذه الأخيرة هي دوما أبدا عزلة منفصلة عما يسمى الماضي وما يسمى الآتي. المستقبل لحظات لم تتحقق بعد والماضي لحظات تلاشت من قبل. هكذا تتلاشى الديمومة. وإذن الزمن لحظة وحيدة. أو وعي لهذه الوحدة. واللحظة الحاضرة هي الواقع فمادمنا نعني هذه اللحظة كحاضر، ففيها يقع الواقع، إلا أن الواقع في هذه الحالة ينظر إليه كانفصال لا كاتصال.
إن مناقشة هذين المفهومين لابد فيها من مواجهة بين اللحظة والديمومة. الديمومة (durée) حسب بيرغسون تأتينا عبر التجربة المباشرة والحميمة. وهي معطى مباشر للوعي. عند الفيزيائيين تبدو ذات شكل واحد لا فجوة فيها، وعند الرياضيين فهي اتصال محض. وما اللحظة حسب برغسون إلا قطيعة اصطناعية تساعد العالم في مهامه. كما يساعد الحاضر الاصطناعي الذكاء على التلاؤم مع عالم حيوي. وإذن الحاضر في الواقع ما هو إلا عدم لا يقدر على لَمِ صلات الماضي بالمستقبل كما تستطيع الديمومة القيام بذلك.
أما اللحظة فتكشف لنا أن الديمومة مكونة من لحظات لا تدوم. مثلما هو الخط مكون من نقط لا بعد لها. لذا إذا كانت اللحظة قطيعة وهمية فإننا لا نستطيع التمييز بين الماضي والمستقبل، ولا يمكننا تحديد بداية الماضي ولا بداية المستقبل. هذا فضلا عن كون العقل حين يقوم بعمله المعرفي يقدم نفسه كسلسلة من اللحظات المنفصلة بشكل واضح.
الديمومة فلسفة للممارسة (Action) أما اللحظة فهي فلسفة للفعل (Acte). الأولى ممارسة مستمرة تضع بين القرار والهدف ديمومة واستمرارا في حين أن الثانية هي قرار فوري آني. التطور الخلاق يغفل الحوادث أو الأعراض في حين أن الفعل لابد له من بداية، ولابد له من حادث كمبدأ. «في التطور المبدع، ليس هناك من قانون عام سوى الحوادث أو الأعراض التي هي أصل كل محاولة تطورية». (ص24)
إجمــالا حقيقة الزمان حسب برغسون هي الديمومة، وما اللحظة سوى تجريد لا واقع له، يفرضه الذكاء الذي لا يدرك الصيرورة. ويمكن تجسيد الزمان في هذه الحالة بخط أسود تتوسطه نقطة بيضاء تمثل اللحظة كعدم أو فراغ وهمي. أما بالنسبة لروبنال فحقيقة الزمان هي اللحظة، وما الديمومة سوى بناء للخيال والذاكرة والإحساس، فهو خط مستقيم أبيض تبرز فيه فجأة نقطة سوداء كحادث يمثل الواقع الحقيقي.
إن محاولة الجمع والتوفيق التي حاولها باشلار لم تفلح في مسعاها. لقد سعى إلى منح اللحظة بعدا وجعلها ذرة زمنية تحمل في أحشائها ديمومة ما. ومهما كانت اللحظة منعزلة فلها تاريخها الخاص طي تطورها الداخلي. ومهما كانت بدايتها راجعة إلى حادث خارجي فإن وجودها وموتها يتوقف على حصتها من الزمن. أي من الديمومة. ولقد تصور أن هذه الذرات لا تتلامس فيما بينها أو الأصح لا تذوب في بعضها البعض وما يمنع ذلك هو تجديد لحظاتها وحوادثها. فاللحظة هي تركيب الوجود، علما بأن الفراغ أو العدم يعد أمرا ضروريا لها.
سيميل باشلار في الأخير إلى أطروحة «الزمان ?لحظة» من منظور «ذرية الزمان» إلى «الزمن الرياضي». والدافع إلى هذا الانحياز كان هو نقد إنشتاين للديمومة الموضوعية. نقد حطم «المطلق» الذي يدوم وحافظ على «إطلاقية» اللحظة.
«النسبية» لا تهم اللحظة (l'instant) إنما تهم هُنيهة (Laps) الزمان. فطول الزمان هو النسبي مقارنة بقياسه. زمن رحلة بسرعة الضوء ليس هو زمن دورة الكوكب. ذلك أن اللحظة المحددة تبقى في مذهب إنشتاين مطلقة. ولإدراك هذه الإطلاقية ينظر إلى اللحظة باعتبارها تركيبا لنقطة في الفضاء والزمان. فالوجود فضاء وزمان: هنا/ والآن (hic et nunc) وليس هنا وغدا أو هناك والآن. «فكلما قبلنا بلحم وجمع الكلمتين معا، أخذ الوجود قوته المطلقة» (ص31) وتلك هي الآنية (Simultanéité).
إن الزمان إذن ليس سيولة ولا صيرورة، إنما هو لحظات متقاطعة متتالية. على مستوى الذاكرة لا نشعر بالاستمرارية، لقد كنا ولم ندم، على مستوى الإرادة والانتباه ننتبه للحظة لا للديمومة. مقابل هذه السيكولوجيا، هناك تصورات ميتافيزيقية يمكن الوقوف عليها انطلاقا من هذه الثلاثية: الفضاء- الزمان- الذاكرة. للزمان طابع متقطع منفصل، وللحظة شكل نقطة وعليه فما الديمومة إلا عدد وحدته هي اللحظة. ولا يكون الفضاء والزمان لانهائيين إلا إذا كانا فارغين، بعبارة أخرى ما يبدو متصلا هو العدم (ص38). الفراغ بين لحظة وأخرى ليس زمنا فارغا، ولا زمنا بدون حوادث ولا زمنا متصلا ولا ديمومة ممتدة يمكن قياسها. فالزمن لا شيء إذا كان خاليا من الحوادث، والخلود قبل الخلق لا معنى له. والعدم الذي لا يقاس لا مقدار له.
رب معترض يقول إن من يدافع عن اللحظة والنقطة والانفصال والانقطاع والقفزة كيف يجوز له الحديث عن الساعة وديمومة دقائقها، والدقيقة وديمومة ثوانيها.. كيف يمكنه تجاهل كلمات: دام وتواصل واستمر..؟ وما دمنا نستطيع قياس الديمومة فهذا دليل على واقعيتها!
فما الذي يمنح للزمن صفة الاستمرارية والاتصال؟ لأنه في مقدورنا فيما يبدو أن نُجري قطيعة في الزمان لنشير بها إلى اللحظة المعينة. ولأن مجموع اللحظات المنفصلة في غناها تبدو لنا متصلة
* الهوامش
1 - أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 301 إلى 305.
2- Jacque Derrida. L'écriture et la différence in Freud et la scène de l'écriture. Ed. du seuil. 1967. p.293/340.
3-Gaston Bachelard. L?intuition de l'instant. Stock. 1931/1992/1993.
4 - الأرقام بين قوسين تشير إلى الصفحات داخل الإحالة.
عن العلم الثقافي
29/1/2010
الفرق بين الدهر والمدة
الدهر جمع أوقات متوالية، مختلفة كانت أوغير مختلفة، ولهذا يقال: الشتاء مدة، ولا يقال: دهر لتساوي أوقاته في برد الهواء وغير ذلك من صفاته. ويقال للسنين الدهر لأن أوقاتها مختلفة في الحر والبرد وغير ذلك، وأيضا من المدة ما يكون أطول من الدهر، ألا تراهم يقولون: هذه الدنيا دهور، ولا يقال: الدنيا مدد، والمدة والأجل متقاربان فكما أن من الأجل ما يكون دهورا وكذلك المدة.
الفرق بين المدة والزمن
اسم الزمان يقع على كل جمع من الأوقات وكذلك المدة، إلا أن أقصر المدة أطول من أقصر الزمن، ولهذا كان معنى قول القائل لآخر إذا سأله أن يمهله: أمهلني زمانا آخر غير معنى قوله: مدة أخرى، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن معنى قوله: مدة أخرى أجل أطول من الزمن، ومما يوضح الفرق بينهما أن المدة أصلها المد وهو للطول، ويقال: مده إذا طوله: إلا أن بينها وبين الطول فرقا، وهو أن المدة لا تقع على أقصر الطول، ولهذا يقال مد الله في عمره، ولا يقال لوقتين: مدة، كما لا يقال لجوهرين إذا ألفا: إنهما خط ممدود، ويقال لذلك: طول، فإذا صح هذا وجب أن يكون قولنا: الزمان مدة، يراد به أنه أطول الأزمنة، كما قلنا للطويل: إنه ممدود، كان مرادنا أنه أطول من غيره، فأما قول القائل: آخر الزمان، فمعناه أنه آخر الأزمنة، لأن الزمان يقع على الواحد والجمع، فاستثقلوا أن يقولوا آخر الأزمنة والأزمان فاكتفوا بزمان.
الفرق بين الزمان والوقت
الزمان أوقات متوالية مختلفة أو غير مختلفة، فالوقت واحد، وهو المقدر بالحركة الواحدة من حركات الفلك، وهو يجري من الزمان مجرى الجزء من الجسم، والشاهد أيضا أنه يقال: زمان قصير وزمان طويل، ولا يقال: وقت قصير.
الفرق بين الوقت والميقات
الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت الشيء، قدره مقدر أو لم يقدره، ولهذا قيل: مواقيت الحج، للمواضع التي قدرت للإحرام، وليس الوقت في الحقيقة غير حركة الفلك، وفي ذلك كلام كثير ليس هذا موضع ذكره.
الفرق بين العام والسنة
العام جمع أيام، والسنة جمع شهور، ألا ترى أنه لما كان يقال: أيام الزنج، قيل: عام الزنج، ولما لم يقل: شهور الزنج، لم يقل: سنة الزنج، ويجوز أن يقال: العام يفيد كونه وقتا لشيء، والسنة لا تفيد ذلك، ولهذا يقال: عام الفيل ولا يقال: سنة الفيل، ويقال في التاريخ: سنة مائة وسنة خمسين، ولا يقال: عام مائة وعام خمسين، إذ ليس وقتا لشيء مما ذكر من هذا العدد، ومع هذا فإن العام هو السنة والسنة هي العام، وإن اقتضى كل واحد منهما ما لا يقتضيه الآخر مما ذكرناه، كما أن الكل هو الجمع والجمع هو الكل، وإن كان الكل إحاطة بالأبعاض والجمع إحاطة بالأجزاء.
الفرق بين السنة والحجة
الحجة تفيد أنها يحج فيها، والحجة: المرة الواحدة من حج يحج، والحجة فعلة مثل الحلسة والقعدة، ثم سميت بها السنة كما يسمى الشيء باسم ما يكون فيه.
الفرق بين الحين والسنة
أن قولنا: «حين» اسم جمع أوقاتا متناهية، سواء كان سنة أو شهورا أو أياما أو ساعات، ولهذا جاء في القرآن لمعان مختلفة، وبينه وبين الدهر فرق، وهو أن الدهر يقتضي أنه أوقات متوالية مختلفة على ما ذكرناه، ولهذا قال الله تعالى حاكيا عن الدهريين:? وما يهلكنا إلا الدهر? [الجاثية/24] أي يهلكنا الدهر باختلاف أحواله، والدهر أيضا لا يكون إلا ساعات قليلة ويكون الحين كذلك.
الفرق بين الدهر والعصر
الدهر ما ذكرناه، والعصر لكل مختلفين معناهما واحد، مثل: الشتاء والصيف، والليلة واليوم، والغداة والسحر، يقال لذلك كله العصر، وقال المبرد في تأويل قوله عز وجل: ? والعصر إن الإنسان لفي خسر? [العصر/ 1-2] قال: العصر هاهنا الوقت قال: ويقولون أهل هذا العصر، كما يقولون أهل هذا الزمان، والعصر اسم للسنين الكثيرة، قال الشاعر: [من المنسرح]
أصبح مني الشباب قد نكُرا
إن بان مني فقد نوى عصُرا.
وتقول: عاصرت فلانا، أي: كنت في عصره، أي: زمن حياته.
الفرق بين الوقت والساعة
الساعة هي الوقت المنقطع من غيره، والوقت اسم الجنس، ولهذا تقول: إن الساعة عندي، ولا تقول الوقت عندي.
الفرق بين البكرة والغداة والمساء والعشاء والعشي والأصيل
الغداة اسم لوقت، والبكرة فعلة من بكر يبكر بكورا، ألا ترى أنه يقال: صلاة الغداة، وصلاة الظهر والعصر، فتضاف إلى الوقت، ولا يقال صلاة البكرة، وإنما يقال: جاء في بكرة، كما تقول: جاء في غدوة، وكلاهما فعلة مثل النقلة، ثم كثر استعمال البكرة حتى جرت على الوقت، وإذا فاء الفيء سمي عشية ثم أصيلا بعد ذلك، ويقال: فاء الفيء إذا زاد على طول الشجرة، ويقال: أتيته عشية أمس، وسآتيه العشية ليومك الذي أنت فيه، وسآتيه عشي غد بغير هاء، وسآتيه بالعشي والغداة، كل عشي وكل غداة، والطفل: وقت غروب الشمس، والعشاء: بعد ذلك، وإذا كان بعيد العصر فهو المساء، ويقال للرجل عند العصر إذا كان يبادر حاجة: قد أمسيت وذلك على المبالغة.
الفرق بين الزمان والحقبة والبرهة
الحقبة اسم للسنة إلا أنها تفيد غير ما تفيده السنة، وذلك أن السنة تفيد أنها جمع شهور، والحقبة تفيد أنها ظرف لأعمال ولأمور تجري فيها، مأخوذة من الحقيبة وهي ضرب من الظروف تتخذ من الأدم يجعل الراكب فيها متاعه وتشد خلف رجله أو سرجه. وأما البرهة فبعض الدهر، ألا ترى أنه يقال: برهة من الدهر، كما يقال: قطعة من الدهر، وقال بعضهم: هي فارسية معربة.
الفرق بين المدة والأجل
الأجل الوقت المضروب لانقضاء الشيء ولا يكون أجلا يجعل جاعل، وما علم أنه يكون في وقت فلا أجل له إلا أن يحكم بأنه يكون فيه، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين: محله وذلك لانقضاء مدة الدين، وأجل الموت: وقت حلوله وذلك لانقضاء مدة الحياة قبله، فأجل الآخرة: الوقت لانقضاء ما تقدم قبلها قبل ابتدائها، ويجوز أن تكون المدة بين الشيئين يجعل جاعل وبغير جعل جاعل، وكل أجل مدة وليس كل مدة أجلا.
الفرق بين النهار واليوم
النهار اسم للضياء المنفسح الظاهر لحصول الشمس بحيث ترى عينها أو معظم ضوئها، وهذا حد النهار وليس هو في الحقيقة اسم للوقت، واليوم اسم لمقدار من الأوقات يكون فيه هذا السنا، ولهذا قال النحويون: إذا قلت: سرت يوما فأنت موقت تريد مبلغ ذلك ومقداره، وإذا قلت: سرت اليوم أو يوم الجمعة، فأنت مؤرخ، فإذا قلت: سرت نهارا أو النهار، فلست بمؤرخ ولا بمؤقت، وإنما المعنى: سرت في الضياء المنفسح، ولهذا يضاف النهار إلى اليوم، فيقال: سرت نهار يوم الجمعة، ولهذا يقال للغلس والسحر: نهار، حتى يستضيء الجو.
الفرق بين الدهر والأبد
الدهر أوقات متوالية مختلفة غير متناهية، [والأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود]، وهو في المستقبل خلاف قط في الماضي. وقوله عز وجل: ?خالدين فيها أبدا? [النساء/57] حقيقة، وقولك: افعل هذا أبدا، مجاز، والمراد المبالغة في إيصال هذا الفعل.
الفرق بين الوقت وإذ
وهما جميعا اسم لشيء واحد أنه تمكن أحدهما ولم يتمكن الآخر أو مضمن بالمضاف إليه لكون البيان غير معناه بحسب ذلك المضاف إليه، والوقت مطلق.
لم يكن قصد أبي هلال الابتعاد عن المعنى اللغوي والديني لكلمة «الزمان» وما يرادفها أو يحاكيها؛ بل كان قصده هو الوقوف على الفوارق اللغوية أصلا. ولقد نورنا في ذلك إلى حد أننا كنا نعتقد أن الدهر أطول من المدة والعكس عنده هو الصحيح. وكنا نعتقد أن الزمان أطول من المدة والعكس عنده هو الأصح.
وكنا نرادف بين العام والسنة والحال بينهما فرق...
إن قصدنا بهذا التعليق هو الارتفاع من الفوارق اللغوية إلى ما يمكن أن نحصله من دلالات فلسفية ورهانات أنطولوجية وميتافيزيقية.
ورغم أن قصده كان التدقيق في «الفوارق» اللغوية إلا أنه أغفل أو أبعد مفاهيم زمنية ذات أهمية قصوى لكل تصور ميتافيزيقي أو أنطولوجي للزمان مثل: الحول والحين والحينونة والهنيهة واللحظة والفينة.. والآن والأوان وفوات الأوان.
إن «فوات الأوان» Nachtraglichkeit مفهوم فرويدي، انبثق من تجارب فرويد حول الذاكرة وعملها وحول الشعور واللاشعور فهو مفهوم يُعيد النظر في تصور ميتافيزيقي «للحضور». وإذا كان هذا الأخير هو السمة المركزية للميتافيزيقيا الغربية، فإن فرويد ومن خلال هذا المفهوم ، يُعيد النظر النقدي في كل هذه الميتافيزيقا.
ترى ما معنى فوات الأوان؟ (Freud) CF !
يتعرض جاك ديريدا لمفهوم «فوات الأوان» عند فرويد في مقال له تحت عنوان: «فرويد ومشهد الكتابة»(2). يرتبط هذا المفهوم بمفهومين آخرين الأول هو الأثر (Trace) والثاني هو الحضور (Présence). ويعني التوقيت القبلي والمسبق (Retardement) و (après coup) كما يعني الزيادة أو الملحق (Le supplémentaire) أو الإضافية. ويفيد من جهة أخرى:
L'appendice :
Le codicille :
Le post- scriptum :
أي ما يأتي بعد الكتابة، وما يحدث فيما بعد، ما يضاف بعد هنيهة..
بهذا المفهوم يتحول الحاضر إلى أثر. حاضر «النص» مثلا الذي لا يمكن تهجيه وفهمه إلا من خلال الملحقة والملحوظة في أسفله. الحاضر إذن ليس أصليا بدئيا إنما هو مكون ومركب بعد حين، الحاضر ليس مطلقا، حيا، ممتلئا هذه هي الفكرة الرائعة التي يعلمنا إياها فرويد في تاريخ الميتافيزيقيا وفلسفة الحضور.
الأثر من حيث التعريف هو غياب الحضور، هو حضور غاب أو حضور بات ماضيا. يتكون انطلاقا من «علامات» الذاكرة. ففي أثلامها تطبع الأحداث وتمحى. الحياة النفسية عبارة عن آلة كاتبة، والشعور واللاشعور عبارة عن نصوص لا حضور لها. إنها دوما سلفا آثار و لم يكن لها أبدا من حضور، من معنى حاضر يتكون ويعاد تكوينه فيما بعد بشكل متأخر. (Nachtraglich).
فوات الأوان مفهوم تحليل نفسي يحاول تأويل التحول الواعي لأفكار اللاشعورية. بحيث لا يمكن تفسير الأحلام بلغة واعية ولا ترجمة اللاشعور إلى ما قبل الشعور أو الشعور، فليس هناك من كتابة قائمة ولا من نص حاضر مسبقا. إن النص اللاشعوري نص غير مكتوب إنما هو مليء بالآثار والاختلافات نص يجمع بين المعنى والقوة في شكل أرشيف دوما مسبقا في إنتاج وإعادة إنتاج.. المعنى.
أما فوات الأوان عند غاستون. باشلار فتحدده اللحظة (l'instant). في كتابه «حدس اللحظة»(3) يبرز لنا سر هذا الزمان في تجربة تكاد تكون صوفية، وهي بكل تأكيد ميتافيزيقية ذات خلفية علمية. الكتاب عبارة عن قراءة في كتاب Siloë لأديب يدعى غ. روبنال Gaston Roupnel. فكرته المحورية والحاسمة هي: «أن الزمان لا واقع له سوى اللحظة». (ص13) (4) بعبارة أخرى يُوجد الزمان مضغوطا ومكثفا في اللحظة وفي الآونة بين عدمين. من هنا فالزمان يموت ويحيا في كل لحظة. وهذه الأخيرة هي دوما أبدا عزلة منفصلة عما يسمى الماضي وما يسمى الآتي. المستقبل لحظات لم تتحقق بعد والماضي لحظات تلاشت من قبل. هكذا تتلاشى الديمومة. وإذن الزمن لحظة وحيدة. أو وعي لهذه الوحدة. واللحظة الحاضرة هي الواقع فمادمنا نعني هذه اللحظة كحاضر، ففيها يقع الواقع، إلا أن الواقع في هذه الحالة ينظر إليه كانفصال لا كاتصال.
إن مناقشة هذين المفهومين لابد فيها من مواجهة بين اللحظة والديمومة. الديمومة (durée) حسب بيرغسون تأتينا عبر التجربة المباشرة والحميمة. وهي معطى مباشر للوعي. عند الفيزيائيين تبدو ذات شكل واحد لا فجوة فيها، وعند الرياضيين فهي اتصال محض. وما اللحظة حسب برغسون إلا قطيعة اصطناعية تساعد العالم في مهامه. كما يساعد الحاضر الاصطناعي الذكاء على التلاؤم مع عالم حيوي. وإذن الحاضر في الواقع ما هو إلا عدم لا يقدر على لَمِ صلات الماضي بالمستقبل كما تستطيع الديمومة القيام بذلك.
أما اللحظة فتكشف لنا أن الديمومة مكونة من لحظات لا تدوم. مثلما هو الخط مكون من نقط لا بعد لها. لذا إذا كانت اللحظة قطيعة وهمية فإننا لا نستطيع التمييز بين الماضي والمستقبل، ولا يمكننا تحديد بداية الماضي ولا بداية المستقبل. هذا فضلا عن كون العقل حين يقوم بعمله المعرفي يقدم نفسه كسلسلة من اللحظات المنفصلة بشكل واضح.
الديمومة فلسفة للممارسة (Action) أما اللحظة فهي فلسفة للفعل (Acte). الأولى ممارسة مستمرة تضع بين القرار والهدف ديمومة واستمرارا في حين أن الثانية هي قرار فوري آني. التطور الخلاق يغفل الحوادث أو الأعراض في حين أن الفعل لابد له من بداية، ولابد له من حادث كمبدأ. «في التطور المبدع، ليس هناك من قانون عام سوى الحوادث أو الأعراض التي هي أصل كل محاولة تطورية». (ص24)
إجمــالا حقيقة الزمان حسب برغسون هي الديمومة، وما اللحظة سوى تجريد لا واقع له، يفرضه الذكاء الذي لا يدرك الصيرورة. ويمكن تجسيد الزمان في هذه الحالة بخط أسود تتوسطه نقطة بيضاء تمثل اللحظة كعدم أو فراغ وهمي. أما بالنسبة لروبنال فحقيقة الزمان هي اللحظة، وما الديمومة سوى بناء للخيال والذاكرة والإحساس، فهو خط مستقيم أبيض تبرز فيه فجأة نقطة سوداء كحادث يمثل الواقع الحقيقي.
إن محاولة الجمع والتوفيق التي حاولها باشلار لم تفلح في مسعاها. لقد سعى إلى منح اللحظة بعدا وجعلها ذرة زمنية تحمل في أحشائها ديمومة ما. ومهما كانت اللحظة منعزلة فلها تاريخها الخاص طي تطورها الداخلي. ومهما كانت بدايتها راجعة إلى حادث خارجي فإن وجودها وموتها يتوقف على حصتها من الزمن. أي من الديمومة. ولقد تصور أن هذه الذرات لا تتلامس فيما بينها أو الأصح لا تذوب في بعضها البعض وما يمنع ذلك هو تجديد لحظاتها وحوادثها. فاللحظة هي تركيب الوجود، علما بأن الفراغ أو العدم يعد أمرا ضروريا لها.
سيميل باشلار في الأخير إلى أطروحة «الزمان ?لحظة» من منظور «ذرية الزمان» إلى «الزمن الرياضي». والدافع إلى هذا الانحياز كان هو نقد إنشتاين للديمومة الموضوعية. نقد حطم «المطلق» الذي يدوم وحافظ على «إطلاقية» اللحظة.
«النسبية» لا تهم اللحظة (l'instant) إنما تهم هُنيهة (Laps) الزمان. فطول الزمان هو النسبي مقارنة بقياسه. زمن رحلة بسرعة الضوء ليس هو زمن دورة الكوكب. ذلك أن اللحظة المحددة تبقى في مذهب إنشتاين مطلقة. ولإدراك هذه الإطلاقية ينظر إلى اللحظة باعتبارها تركيبا لنقطة في الفضاء والزمان. فالوجود فضاء وزمان: هنا/ والآن (hic et nunc) وليس هنا وغدا أو هناك والآن. «فكلما قبلنا بلحم وجمع الكلمتين معا، أخذ الوجود قوته المطلقة» (ص31) وتلك هي الآنية (Simultanéité).
إن الزمان إذن ليس سيولة ولا صيرورة، إنما هو لحظات متقاطعة متتالية. على مستوى الذاكرة لا نشعر بالاستمرارية، لقد كنا ولم ندم، على مستوى الإرادة والانتباه ننتبه للحظة لا للديمومة. مقابل هذه السيكولوجيا، هناك تصورات ميتافيزيقية يمكن الوقوف عليها انطلاقا من هذه الثلاثية: الفضاء- الزمان- الذاكرة. للزمان طابع متقطع منفصل، وللحظة شكل نقطة وعليه فما الديمومة إلا عدد وحدته هي اللحظة. ولا يكون الفضاء والزمان لانهائيين إلا إذا كانا فارغين، بعبارة أخرى ما يبدو متصلا هو العدم (ص38). الفراغ بين لحظة وأخرى ليس زمنا فارغا، ولا زمنا بدون حوادث ولا زمنا متصلا ولا ديمومة ممتدة يمكن قياسها. فالزمن لا شيء إذا كان خاليا من الحوادث، والخلود قبل الخلق لا معنى له. والعدم الذي لا يقاس لا مقدار له.
رب معترض يقول إن من يدافع عن اللحظة والنقطة والانفصال والانقطاع والقفزة كيف يجوز له الحديث عن الساعة وديمومة دقائقها، والدقيقة وديمومة ثوانيها.. كيف يمكنه تجاهل كلمات: دام وتواصل واستمر..؟ وما دمنا نستطيع قياس الديمومة فهذا دليل على واقعيتها!
فما الذي يمنح للزمن صفة الاستمرارية والاتصال؟ لأنه في مقدورنا فيما يبدو أن نُجري قطيعة في الزمان لنشير بها إلى اللحظة المعينة. ولأن مجموع اللحظات المنفصلة في غناها تبدو لنا متصلة
* الهوامش
1 - أبو هلال العسكري: الفروق اللغوية دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 301 إلى 305.
2- Jacque Derrida. L'écriture et la différence in Freud et la scène de l'écriture. Ed. du seuil. 1967. p.293/340.
3-Gaston Bachelard. L?intuition de l'instant. Stock. 1931/1992/1993.
4 - الأرقام بين قوسين تشير إلى الصفحات داخل الإحالة.
عن العلم الثقافي
29/1/2010