ندرة الكتّاب الساخرين في مجتمع ما لا تنبئ عن حياة جدية، وحراك فاعل، وربما كان العكس صحيحاً، ذلك لأن السخرية سواء تجلت في كاريكاتور لغوي أو مرسوم بالخطوط الصامتة مقاومة جوهرية وتعبير عن عصيان بلغ ذروته. هذا ما قاله علماء نفس واجتماع ومؤرخون، وفي مقدمتهم جورج لوكاتش الذي دافع عن السخرية باعتبارها أقصى درجات الممانعة في زمن القطعنة والامتثال، وكان الشاعر والكاتب بول فاليري قد قال ذات يوم إن الحمقى وحدهم من يظنون أن السخرية ليست من الجد في شيء، ذلك لأنها ذروة الجدية لكن على الطريقة التي عبر عنها أسلافنا، وهي أن شر البلية ما يضحك، ورغم متوالية البلايا والرزايا التي نعيشها انحسرت السخرية، خصوصاً بعد أن غاب أو استقال من مهنة الكتابة هؤلاء الذين طالما أبكونا من شدة الضحك أو أضحكونا من فرط البكاء.
والواقع الذي نعيشه الآن تليق به السخرية بكل أنماطها، بدءاً من النكتة القائمة على المفارقة الذهنية حتى الكتابة السياسية مروراً بالمسرح، وإذا صدق أو صح تعريف الفيلسوف برغسون للضحك إلى انه انقطاع مفاجئ لمتوالية من الحركات أو الأفعال، كانزلاق رجل وقور يمشي مرفوع الرأس بقشرة موز أمام المارة.. فإن هذه الأيام التي نموتها أكثر مما نحياها تعتبر بعدة مقاييس مجالاً حيوياً لمثل هذه الانزلاقات. فالمنطق في إجازة قد تطول، والعقل يعاني من بطالة يحسده عليها القلب المفعم بالشجن. وما من شيء يمكن رصده الآن والتعبير عنه بأساليب كالتي عبر بها القدماء، والواقع بلا عقلانية ومباغتاته الصادمة تجاوز مسرح العبث الفرنسي. وقد تبدو مسرحيات يوجين يونسكو وآرابال وبيكت مجرد دعابات ازاء هذا الذي يدور على خشبة المسرح السياسي الدولي.. لكن استغراقنا في الأحداث يحجب عنا طرافتها ولا بد أن يمضي بعض الوقت كي نستطيع رؤية اللوحة التي تتفلطح أنوفنا على سطحها كما تتفلطح أنوف الأطفال على واجهات محلات الحلوى.
إن السخرية هي في نهاية المطاف محاولة لتسفيه ظواهر تبدو من السطح جدية، وأحياناً تنال السخرية الموظفة جيداً من الديكتاتور وتنزع عنه الهالة الوهمية، وتحوله إلى كائن مضحك أكثر مما هو كائن مخيف، وبخلاف كل أشكال التعبير الأخرى، فإن السخرية تزدهر في الكبت كما تزدهر في الحرية، ويمكن لمن يلوذ بها أن يتستر خلفها، درءاً للأذى. فهي توحي أكثر مما تقول على نحو مباشر، وبذلك فهي تحترم عقل المتلقي، ولا تنوب عنه في التحليل والتفكير، لأنها تترك لخياله حرية التأويل.
كيف يمكن لعاقل أن يتعامل بجدية مع هذه المشاهد السوريالية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فالسيرك لم يعد حكراً على محترفي ترويض الحيوانات، إنه مفتوح على مدار الساعة بالمجان للجميع.. ما دامت هناك أسود تنبح وقطط تزأر وصراصير لا تكف عن الصهيل!!
ومما يقوله العلماء عن السخرية إضافة إلى دورها التاريخي في المقاومة وتسفيه الأباطرة العراة هو أنها تطيل العمر.
فالضحكة العميقة تعادل المشي خمسة أميال. لكن الزفير المحتقن في الصدور وهذا الاختناق بكل ما ينشر ويذاع يصيب الإنسان بحالة من فقدان الوزن. فلا يضحك ولا يبكي.. لكن صمته يصبح ثرثاراً لو وجد من يصغي إليه ويحاول ترجمته.
والواقع الذي نعيشه الآن تليق به السخرية بكل أنماطها، بدءاً من النكتة القائمة على المفارقة الذهنية حتى الكتابة السياسية مروراً بالمسرح، وإذا صدق أو صح تعريف الفيلسوف برغسون للضحك إلى انه انقطاع مفاجئ لمتوالية من الحركات أو الأفعال، كانزلاق رجل وقور يمشي مرفوع الرأس بقشرة موز أمام المارة.. فإن هذه الأيام التي نموتها أكثر مما نحياها تعتبر بعدة مقاييس مجالاً حيوياً لمثل هذه الانزلاقات. فالمنطق في إجازة قد تطول، والعقل يعاني من بطالة يحسده عليها القلب المفعم بالشجن. وما من شيء يمكن رصده الآن والتعبير عنه بأساليب كالتي عبر بها القدماء، والواقع بلا عقلانية ومباغتاته الصادمة تجاوز مسرح العبث الفرنسي. وقد تبدو مسرحيات يوجين يونسكو وآرابال وبيكت مجرد دعابات ازاء هذا الذي يدور على خشبة المسرح السياسي الدولي.. لكن استغراقنا في الأحداث يحجب عنا طرافتها ولا بد أن يمضي بعض الوقت كي نستطيع رؤية اللوحة التي تتفلطح أنوفنا على سطحها كما تتفلطح أنوف الأطفال على واجهات محلات الحلوى.
إن السخرية هي في نهاية المطاف محاولة لتسفيه ظواهر تبدو من السطح جدية، وأحياناً تنال السخرية الموظفة جيداً من الديكتاتور وتنزع عنه الهالة الوهمية، وتحوله إلى كائن مضحك أكثر مما هو كائن مخيف، وبخلاف كل أشكال التعبير الأخرى، فإن السخرية تزدهر في الكبت كما تزدهر في الحرية، ويمكن لمن يلوذ بها أن يتستر خلفها، درءاً للأذى. فهي توحي أكثر مما تقول على نحو مباشر، وبذلك فهي تحترم عقل المتلقي، ولا تنوب عنه في التحليل والتفكير، لأنها تترك لخياله حرية التأويل.
كيف يمكن لعاقل أن يتعامل بجدية مع هذه المشاهد السوريالية سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فالسيرك لم يعد حكراً على محترفي ترويض الحيوانات، إنه مفتوح على مدار الساعة بالمجان للجميع.. ما دامت هناك أسود تنبح وقطط تزأر وصراصير لا تكف عن الصهيل!!
ومما يقوله العلماء عن السخرية إضافة إلى دورها التاريخي في المقاومة وتسفيه الأباطرة العراة هو أنها تطيل العمر.
فالضحكة العميقة تعادل المشي خمسة أميال. لكن الزفير المحتقن في الصدور وهذا الاختناق بكل ما ينشر ويذاع يصيب الإنسان بحالة من فقدان الوزن. فلا يضحك ولا يبكي.. لكن صمته يصبح ثرثاراً لو وجد من يصغي إليه ويحاول ترجمته.