عبد المنعم عجب الفيا - أصداء السيرة الذاتية في أدب الطيب صالح أو البحث عن الفردوس الضائع

لا جدال أن النص الأدبي ليس سجلا لسيرة الكاتب ولا ينبغي له أن يكون . ولكن هذا لا يعني أن النص الأدبي مقطوع من شجرة . فطالما أن الكتابة هي نشاط حر للكاتب ، والكاتب إنسان من لحم ودم والإنسان كما هو معلوم ابن بيئته ، فالنص الأدبي لدى التحليل الأخير هو محصلة لتفاعلات الكاتب الذاتية في جدله مع المحيط التاريخي والاجتماعي الذي يتحرك ويكتب فيه .
ولذلك فان القصد من هذه الكلمة ، ليس إثبات أن مصطفي سعيد مثلا أو غيره من شخوص الطيب صالح هو الطيب صالح نفسه . وإنما القصد هو التأكيد على أن تجارب الكاتب وذكرياته وعلاقته الاجتماعية وميوله الفكرية والفنية ، تشكل المادة الخام التي يستمد منها الكاتب رؤاه وعوالمه القصصية والروائية . وذلك في محاولة للرد على بعض النظريات الحداثوية في الأدب التي تذهب في مسعاها لعزل النص الأدبي عن كاتبه إلى حد التضحيـة بالكاتـب والإعلان عن ( موت المؤلف ) إمعانا في نفي الغائية والقصدية وكل ما هو مشترك عن الكتابة الأدبية كما ذهب إلى ذلك الأديب والناقد الفرنسي رولان بارت .
وبمناسبة رولان بارت هذه أحكي هنا موقف يحكي عن تهافت مثل هذه النظريات الأدبية . فقد كان الروائي الفرنسي آلان روب غرييه يعد من رواد ما عرف في الخمسينات والستينات في أوربا ( الرواية الجديدة ) التي كان يظن بأنها تطبيق لما يسمى ( بموت المؤلف ) حيث تتم التضحية بكل ما له معنى وبكل التجارب المشتركة لبنى البشر ويجرد السرد الروائي من تأثير العنصر الإنساني وتصور الأشياء والأحداث كأنها تحدث بمعزل عن إرادة الفرد . حتى الشخصيات ينظر إليها كأشياء وأدوات وأفعال وليست كذوات فاعلة .
ففي حوار أجرى مع آلن روب غرييه ونشرته مجلة ( الكرمل ) في عددها رقم 30/1988م أنكر كل ما قيل عن حكاية موت المؤلف والرواية الجديدة وقال أن الأمر لا يعدو أن يكون خدعة سببها رولان بارت وشارك هو نفسه فيها . ويمضي قائلا : " أنني لم أكتب يوما أي شئ إلا عن نفسي " حتى أشـهر رواياته ( الغيرة ) التي كانت مادة لهواة النقد الحداثوى يقول عنها : " البيت الموصوف بدقة هو نفسه إلى حد ما ، ذلك الذي أقمت فيه في فورد دوفرانس ، والرواية كلها
تجربة حقيقية عشتها . ولكنى كنت الجار لا الزوج ،.. فالعناصر الواقعية تضاف إلى الأخرى المتخيلة وتتحول إلى شئ مختلف تماما " .
وهذا الروائي جابريل غارسيا ماركيز أشهر روائي يفوز بجائزة نوبل في الآداب منذ تأسيسها قال في حوار أجرى معه عقب فوزه بالجائزة سنة 1982م ، عندما وصفت طريقته في الكتابة بالواقعية السحرية ، أنه لم يكتب سطر واحد لا يستند إلى واقع . فأول سطر في ( مائة عام من العزلة ) تجربة حدثت له هو شخصيا حيث يقول : " .. عندما كنت طفلا صغيرا قلت لجدي أنني لم أر الثلج أبدا ، فأصطحبني إلى معسكر شركة الموز الأمريكية وأمر بفتح صندوق من الفاكهة المثلجة جعلني أضع يدي فيه ، فانبثقت رواية ( مائة عام من العزلة ) من هذه الصورة " حيث تبدأ الرواية بهذه الجملة : " عندما كان يقف الكولونيل أوريليانو بوينديا أمام فريق الإعدام تذكر عصر ذلك اليوم ، قبل سنين طويلة ، حينما أصطحبه والده لاكتشاف الثلج .. " ويقول ماركيز أيضا أن رواية ( الأوراق الذابلة ) انبثقت من مشاهدته لرجل عجوز كان يصحب حفيده إلى مأتم . وأن رواية ( قصة موت معلن ) قصة حقيقية وقعت أحداثها سنة 1951م وأنه لم يكتبها إلا في سنة 1981م وأن بعض شخصياتها هم أقربائه وأصدقائه .
أما الطيب صالح فقد أعرب أكثر من مرة عن أثر البيئة القروية التي عاش فيها طفولته في أدبه حيث يقول أن : " هذه البيئة هي التي خلقت عالمي الروائي " وهو يعلق أهمية خاصة على مرحلة الطفولة في صياغة عوالمه الإبداعية إلى حد القول : " .. أعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه ، والإبداع نفسه ربما فيه البحث عن هذه الطفولة ، والأدب برمته بحث عن فردوس ضائع .. كان عالم الطفولة بالنسبة إلى فردوسا ، كان هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ وأحسست فيه بسعادة كاملة 000 الحسرة الكبرى في حياتي ، أن طفولتي في القرية لن تعود مرة ثانية ااا " .
ويقول عندما تركت قريتي وسافرت إلى لندن . ساوروني طويلا هذا الإحساس ، الإحساس بأنني خلية زرعت في مدينة كبيرة زراعة اصطناعية . لذلك لم أحس إطلاقا بالراحة النفسية التي كنت أحس بها في قريتي .. وكل ما تقدم بي العمر وأطلعت وسافرت أكتشف إلى حد تصل أهمية تلك البيئة . ولعلني في رواية " ضو البيت " لامست هذا الإحساس عبر الحوار الذي جرى بين الطاهر ود الرواسى ومحيميد " . فحين عاد محيميد إلى القرية قال له الطاهر ود الرواسى ماذا جاء بك إلى هذا البلد الفقر . لأن الطاهر ود الرواسى تعامل مع القرية كواقع يعايشه ، ويرى أن تلك القرية تفتقر إلى الخدمات الأساسية التي توجد بالمدن . لذا فهي بالنسبة له بلد فقر . لكن الأمر يختلف مع محيميد الذي هاجر وأغترب وزار بلادا أخرى وعاد إلى القرية ليكتشف مدى أهميتها .
لذلك فأنه يقول أن الغرض من كتابة رواية " عرس الزين " أصلا كان هو أن يرد الجميل لهذا العالم الذي أحبه : " كان الغرض الاحتفاء بمجتمع أعرفه وعشت فيه والشخصيات فيه أهلي كما عرفتهم إلى حد كبير . بيد أن في هذا العمل طبعا عنصر الفن المتعمد ، أي الدفع بالشخصية إلى أقصي مدى ممكن ، أقصي حدود تحملها " .

وعبارة الفن المتعمد هنا تعنينا بصفة خاصة إذ تنطوي على الغائبة والقصدية في الكتابة الأدبية التي أشرنا إليها في مستهل هذا الحديث ، كما تفصح في ذات الوقت عن رؤية الطيب صالح للعلاقة بين الفن والواقع .
وفي إشارة لطيفة إلى العلاقة بين الواقع والفن ، يقول الطيب صالح في إحدى محاضراته ، أنه في زيارة له إلى قريتهم في شمال السودان ، أجتمع حوله أهله وقالوا : " سمعنا أنك بقيت كاتب كبير ، نريد أن تسمعنا شيئا مما تكتب " . فنادي على أحد التلاميذ وطلب منه أن يقرأ عليهم شيئا من رواية ( عرس الزين ) . وبعد أن قرأ عليهم شيئا من ذلك ، قالوا له مستغربين : والله يا هو دا كلامنا ذاتو لكن فيهو شوية لولوة . فقال لهم : هذه اللولوة هي التي يسمونها الفن ا .
لذلك كثيرا ما يسئل الطيب صالح عن علاقته بشخوص رواياته وبالتحديد عن علاقته بمصطفى سعيد بطل رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) . وعندما سئل ذات مرة هل : توجد في حياته ملامح من سيرة مصطفى سعيد ؟ أجاب بتواضعه المعهود : " لا أظن أنني أكتب لأقص على الناس قصة حياتي ، وهى على كل حال قصة عادية لا تصلح لذلك ولكنى أحاول أن أعبر عن آرائي في قالب فني متعمد " .
إلا أنه في كتاب " على الدرب – مع الطيب صالح .. ملامح من سيرة ذاتية " الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1997 ، يكشف الطيب صالح لأول مرة عن تفاصيل في حياته فيها شئ من ملامح شخصية مصطفى سعيد وفيها شئ عن بعض مشاهداته وتجاربه التي وجد الطريق للتعبير عنها في بعض رواياته الأخرى مثل عرس الزين ، وبندر شاه . فقد وضع الطيب صالح في كتاب ( على الدرب ) النقاط فوق الحروف وكشف عن فلسفته في التعامل مع الوقائع والأحداث وتحويلها إلى مواد قصصية حيث يقول : " تجدني دائما أقول أنني أعتمد على إنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهما .. هذا يلائمني تماما .. بمعني آخر تكفيني جملة سمعتها عرضا في الشارع لاستوحى منها فكرة للكتابة – جملة واحدة أسمعها قد تثير في نفسي أصداء لا حدود لها " .
ويعد عالم الطفولة من أهم المراحل التي تزخر بالأحداث وإنصاف الحقائق التي تفجر في نفس الكاتب أصداء لا حدود لها للكتابة الأدبية . ومن ذكريات الطفولة التي ألقت بظلالها على صياغة رواياته ، وصول الوابور ( الباخرة النهرية ) إلى قريتهم لأول مرة إذ يقول : " لقد أثر في هذا المشهد كثيرا وظل راسخا في أعماق الذاكرة منذ أيام الطفولة .. كان مشهدا مهيبا بالنسبة لنا أطفال ذلك الزمان ، وقد وصفته في روايتي : موسم الهجرة إلى الشمال ، وضو البيت".
ومن المظاهر الاجتماعية التي انعكست على أجواء بعض رواياته ظاهرة نزول عرب الكبابيش الموسمي من شمال كردفان على مهابط ديار الشايقية والبديرية على النيل . ففي سياق حديثه عن الثراء الثقافي في المنطقة يقول : " وما أضفى على هذه المنطقة ثراء ثقافيا أن عرب الكبابيش كانوا يزورونها بين الفينة والأخرى ، وهؤلاء عرب اقحاح كانوا يبحثون عن الكلاء والماء لابلهم وشراء التمر والذرة . وفي غدوهم ورواحهم اختلطوا بالناس ونظرا لأنهم من العرب الفصحاء فقد أدخلوا فصاحتهم في كلام الناس " .
ويواصل قائلا : " .. حين يصلون المنطقة كانوا يدخلون على قراها حيوية شديدة . لأن أفراحهم وطريقتهم في الغناء مختلفة ، عما اعتدنا عليه . كنا نطلق على رقصهم اسم ( الجابودي ) – يقصد الجراري – يقف الرجال في حلقة الرقص ويحمحمون بأصوات مكتومة حم – حم – حم ثم تدخل بناتهن البدويات إلى دائرة الرقص ويرقصنا رقصا بديعا – كان المشهد بالنسبة لنا قمة في الإثارة والنشوة .. وبعض هؤلاء استقروا في المنطقة ، وقد تعرضت لهذه الفئة في رواية ( عرس الزين ) ونجده يطلق على هؤلاء العرب في رواية ( عرس الزين ) اسم عرب القوز ومنهم ( حليمة ) التي هام بها الزين حبا وتزوجها في نهاية الأمر ابن القاضي . وحواء بنت العريبي أم الطاهر ود الرواسى الوارد ذكرهـا فـي روايـة ( مريود ) .
ومما جاء في رواية عرس الزين ، في ذكر هؤلاء العرب : " استيقظت البلد يوما على صياح الزين : أنا مكتول في فريق القوز . وكان ليلاه هذه المرة فتاة من البدو الذين يقيمون على أطراف النيل في شمال السودان ، يفدون من أرض الكبابيش ودار حمر ومضارب الهواوير والمريصاب في كردفان . يشح الماء في أراضيهم في بعض المواسم فيفدون على النيل بإبلهم وأغنامهم للري .. لا يتزاوجون مع السكان الأصليين ، فهم يعتبرون أنفسهم عربا خلصا وأهل البلد يعتبرونهم بدوا أجلافا .. ولكن الزين كسر هذا الحاجز .. " .
أما حواء بنت العريبي والدة الطاهر ود الرواسى أحد أهم الشخصيات في روايات الطيب صالح فقد ورد في ذكرها " .. قالوا كانت في ود حامد امرأة صاعقة الحسن تدعى حواء بنت العريبي هبطت من ديار الكبابيش مع أبويها في سنوات قحط وجدب فماتا عنها ، وبقيت وحدها ، تمشط وتغزل وتعمل في دور الميسورين في البلد . ووصفوا أن وجهها كان كفلق الصباح ، وشعرها أسود كالليل مسدل فوق ظهرها إلى عجيزتها ، وأنها كانت فرعاء لفاء ، طويلة روموش العينين ، أسيلة الخدين ، كأن في فمها مشتار عسل ، وأنها مع ذلك شديدة الذكاء قوية العين ، مهذارا ، حلوة الحديث ، متبرجة في حديثها شيئا من تفحش وتغنج . فأرادها الكثيرون ومنهم بعض ثراة أهل البلد فتمنعت واعتصمت ولم تقبل منهم طالب حلال أو حرام " قالوا ولم يعلق قلبها دون الناس جميعا إلا بدرويش يدعى بلال تزوجته وقيل لم يجتمع بها إلا ليلة واحدة ثم استأذن شيخه وخرج سائحا في الأرض . فحبلت وأنجبت الطاهر الذي عرف بالطاهر ود الرواسى .
وفي ( موسم الهجرة إلى الشمال ) تجد أيضا الذكريات تعد مصدرا هاما لأنصاف الحقائق التي يقول الكاتب أنها تشكل عالمه الروائي ومن ذلك ذكريات وصوله لندن لأول مرة . يقول : " عندما جئت إلى لندن في فبراير 1953م وجدتها تعيش تحت وطأة شتاء من أفظع الشتاءات التي عرفتها إنجلترا .. كان بردا قارسا ، ما زلت حين أتذكره تصطك أسناني .. أظن أن هذا الزمهرير الداخلي الذي سبق أن أحسسته ، ظهر واضحا في رواية موسم الهجرة " .
ولعله من هذا الزمهرير الداخلي استوحي الكاتب وصف المشهد الذي يسبق لحظة قتل مصطفى سعيد لجين مورس حيث يقول : " ذات مساء داكن في شهر فبراير ، درجة الحرارة عشر درجات تحت الصفر .. المساء مثل الصباح ، مثل الليل داكن مكفهر ، لم تشرق الشمس طيلة أثنين وعشرين يوما . المدينة كلها حقل جليد ، الجليد في الشوارع ، في الحدائق عند مداخل البيوت ، الماء تجمد في أنابيبه والنفس يخرج بخارا من الأفواه .. فـي ليلـة مثـل هـذه تحدث الأعمـال الجسيمة .. هذه ليلة الحساب " .
وأظن بعد هذه الحيثيات التمهيدية يحق لنا أن نتساءل عن إنصاف الحقائق التي صاغ منها الطيب صالح شخصية مصطفى سعيد ؟؟ وبعبارة أخرى ، إلى أي مدى ساهمت حياة الطيب صالح وتجاربه ومشاهداته في تشكيل بعض ملامح مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال ؟؟
بعد معايشة طويلة للرواية وبعد الاطلاع على بعض ملامح سيرة الطيب صالح التي كشف عنها لأول مرة في كتاب " على الدرب .. مع الطيب صالح – ملامح من سيرة ذاتية " ، تبين لي أن الطيب صالح قد أضفى بعضا من ملامح سيرته على حياة بطل موسم الهجرة ، لاسيما تكوينه الفكري وميوله الأدبية والفنية وبعض علاقاته الاجتماعية . ومن ذلك أن مصطفى سعيد كان يساريا ينتمي إلى مدرسة الاشتراكية الفابية . كان يحاضر ويكتب عن الاقتصاد المبني على العدالة والمساواة والاشتراكية . وأقام شهرته على دعوته الإنسانية في الاقتصاد . كان من الأثيريين عند اليسار الإنجليزي وجمعته صداقات عديدة مع بعض اللوردات والأساتذة المرموقين في جامعة أكسفورد . وكان الراوي قد أشار في بداية تعرفه على مصطفى سعيد في أول الرواية إشارة لطيفة إلى انتماء مصطفى سعيد إلى اليسار الاشتراكي حين وصفه وهو خارج من داره بقوله : " مضى مبتعدا ورأسه يميل قليلا إلى اليسار " .
هذا الجانب في شخصية بطل موسم الهجرة هو في الحقيقة ، إسقاط من الطيب صالح لجانب من سيرته الذاتية على شخصية بطله . فعن انتمائه إلى الاشتراكية وعلاقته باليسار الإنجليزي بعد مجيئه إلى لندن ، يقول الطيب في كتاب على الدرب .. " بعد الاطلاع على مجريات الحياة السياسية في إنجلترا وجدت نفسي أميل للاشتراكية العمالية وقرأت كثيرا عن الفابيين . وكان مدرسة لندن للاقتصاد التي أنشأها حزب العمال توجد قرب مقر هيئة الإذاعة البريطانية وتابعت محاضرات في تلك المدرسة ، الجامعة التي كانت تمثل الفكر الاشتراكي ودرست هنالك العلوم السياسية . وكان يحاضر في المدرسة أساتذة مرموقون من مفكرى ومنظرى حزب العمال مثل البروفسير هارولد لاسكى " .
والفابية التي يقول الطيب أنه انتمي إليها ، كما هو معروف ، حركة اشتراكية بريطانية من روادها روبرت أوين وتدعو إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي بالوسائل الإصلاحية وليس عن طريق الصراع الطبقي كما كانت تدعو إليه الماركسية . ومن أبرز أعضاء هذه المدرسة الاشتراكية من الأدباء الإنجليز ، برنارددشو ، وأوسكار وايلد وهـ . ج . ويلز .
وعن أسباب ميله لاشتراكية حزب العمال والاشتراكية الفابيية ، يقول الطيب صالح : " حين جئت لندن تولى المحافظون الحكم بعد حكومة العمال التي انتخبت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي قامت بإدخال تغييرات كبيرة . فقد أنشأ العمال دولة شبه اشتراكية أطلق عليها الإنجليز دولة الرفاهية ورغم عودة المحافظين إلى الحكم فإنهم تمسكوا بالتغييرات الجوهرية التي قام بها العمال مثل قضية التأمين الصحي وحقوق التقاعد وتحسين وضعية العمال وما إلى ذلك . كان هنالك ما أسموه بالإجماع الوطنـي بين الحزبيـن الكبيريـن حـول هـذه القضايـا الكبرى " .
وبجانب علاقاته بالأوساط الاشتراكية واليسارية يقول الطيب صالح : " إنه لمزيد من الاندماج في المجتمع الإنجليزي ، تعرف بمساعدة أحد أساتذته ويدعى مستر هتشكن وكان يعمل عميدا لمعهد بخت الرضا للتربية بالسودان ، على أحد أندية الكويكرز " . ويقول أن ترددي على نادي الكويكرز كان بداية اندماج حقيقي في مجتمع الإنجليز وربما تأقلمت أكثر مما ينبغي وساعدني صديقي صلاح أحمد محمد صالح كثيرا على ذلك " . ويقول : " أن أعضاء أندية الكويكرز من أطيب البشر ومعروف عنهم أخلاقهم الفاضلة وهم يعتنقون مذهبا مسيحيا قريبا جدا من الإسلام لأنهم وحدانيون وليس لهم كنيسة . ويقول أنهم كانوا أصدقاء للسودان والسودانيين ، ويعتقد أن جمال محمد أحمد هو الذي عرفهم بالسودان وكذلك محمد عمر بشير . ومن هؤلاء الإنجليز الكويكرز مستر هولت أستاذ التاريخ بأكسفورد والمدرس السابق بالسودان وكذلك مستر قريفث عميد معهد التربية ( ببخـت الرضا ) والأستاذ بأكسفورد .
ومثلما ربطت الطيب صالح علاقات مع جماعة الكويكرز كان مصطفى سعيد أيضا على علاقة مع هذه الجماعة وكان يتردد على أنديتها ويختار صديقاته من بينها . ويقول : " جلبت .. النساء من فتيات جيش الخلاص وجمعيات الكويكرز ومجتمعات الفابيانيين " . ومن فتيات اليسار الاشتراكي اللائى ربطتهن في الرواية ، علاقة مع مصطفى سعيد شيلا غرنيود والتي يقول عنها : " قروية من ضواحي هل .. كانت ذكية تؤمن بأن المستقبل للطبقة العاملة وإنه سيجيء يوم تنعدم فيه الفروق ويصير الناس كلهم أخوة " . كما يبدو أن إيزابيلا سيمور كانت تنتمي إلى جماعات الكويكرز .
وليس بالضرورة أن يكون ما حدث لمصطفى سعيد في مغامراته وغزواته النسائية حدث للطيب صالح . ولكن مع ذلك فقد أقر الطيب صالح في سيرته الذاتية في كتاب ( على الدرب ) بعلاقاته النسائية بقوله : " كان من بين ضروريات التأقلم أن يتخذ الشخص صديقه وذلك لمساعدته في الاندماج والتعرف على البلد لأن النظام الرجالي لدينا لم يكن مألوفا للإنجليز ، فإذا أردت الذهاب إلى السينما والمسرح أو المطعم لابد أن تذهب مع صديقتك .. " .
لم يكتف الطيب صالح بإضفاء انتماءاته الفكرية والسياسية وعلاقاته الاجتماعية على شخصية بطل موسم الهجرة إلى الشمال بل أضفى عليه أيضا ميوله الأدبية واهتماماته الفنية . ومن الميول الأدبية التي تركت أثرها في تكوين شخصية مصطفى سعيد ، إعجابه بأشعار أبى نواس ومسرحيات شكسبير . وقد ظهر ذلك واضحا في ترديد مصطفى سعيد لأشعار أبى نواس وحديثه عنـه فـي
الندوات والمحاضرات : " آن همند .. كانت صيدا سهلا قابلتها أثر محاضرة ألقيتها في أكسفورد عن أبى نواس ، قلت لهم أن عمر الخيام لا يساوى شيئا إلى جانب أبى نواس ، قرأت لهم من شعر النواسى في الخمر بطريقة خطابية مضحكة وقلت في المحاضرة أن أبا نواس كان متصوفا وإنه جعل من الخمر رمزا حمله جميع أشواقه الروحية وأن توقه إلى الخمر في شعره كان في الوقع توقا إلى الفناء في ذات الله " .

ويفسر الطيب صالح انعكاس إعجابه بشعر أبى نواس في فنه بقوله : " حين أشير إلى أبى نواس أو أبى العلا في أعمالي ، هذا يشكل حوارا بين الكاتب والأدب وما أحدثه الآخرون من شعراء وكتاب وفنانين في نفسي " .
أما عن إعجابه بمسرح شكسبير فيقول الطيب : " كنت ميالا للمسرح وتعرفت جيدا خلال تلك الفترة على المسرح الإنجليزي ، خاصة مسرح شكسبير ، شاهدت جميع مسرحياته . ورغم إننا قرأنا شكسبير أثناء الدراسة في السودان لكن لم نكن نعرفه بعمق كما حدث لاحقا .. لم تقتصر متابعاتي للمسرح على مسرح شكسبير بل ترددت كذلك على مسرحيات تشيكوف ومسرح برخت الألماني وجان آنوى الفرنسي " . وقد أنعكس حب الطيب صالح لمسرح شكسبير على مصطفى سعيد الذي يشبه نفسه في الرواية بعطيل ، بطل مسرحية ( عطيل ) لشكسبير ويقول : " أنا عطيل عربي أفريقي " وأحيانا أخرى يقول : " أنا لست عطيلا ، عطيل كان أكذوبة " .
وفي إشارة إلى ثقافته الواسعة يقول الطيب صالح : " في تلك الفترة قرأت كتبا كثيرة في الأدب والفن والتاريخ والاجتماع ، فقد كانت لندن مركز ثقافيـا مشعا " . وقد تجلت هذه الثقافة الواسعة على أسماء الكتب والعناوين التي كانت تزخر بها مكتبة مصطفى سعيد والتي جاء وصفها بالفصل قبل الأخير مـن الرواية . ولعل أبلغ مشهد يصور ازدهار الحياة الثقافية في لندن آنذاك والتي شكلت شخصية الطيب صالح ، قول مصطفى سعيد في الفصل الثاني من الرواية . " ثلاثون عاما .. كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ، وطير الوقوق يغنى للربيع كل عام . ثلاثون عاما وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بتهوفن وباخ ، والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . ومسرحيات برنارددشو تمثل في الرويال كورت والهيماركت . كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ومسرح البرنس أف ويلز يفيض بالشباب والألق " .

_________
* نشرت بجريدة الخرطوم بالقاهرة 1999
** نشرت بسودانيزاولاين سنة 2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...