الأحد الماضي زرتُ رام الله. كانت وزارة الثقافة اتصلت بي لإنجاز عمل ما، فلبّيت دعوتها. أنا لا أقاطع الوزارة منذ تأسيسها، على الرغم من أنني لم أكن يوماً (أوسلوياً). ويوم عاد العائدون وأنجزوا كتباً استلهموا فيها تجربة العودة، وكتبوا عمّا جرى، وعبّروا في نصوصهم، عن خيبتهم. أنجزت سلسلة دراسات نشرتها في "الأيام" و"البلاد" و"دفاتر ثقافية"، وكان أكثرها تحت عنوان: "أدب السِّلم.. أدب الخيبة"، وقد جمعتها في كتاب نشرَتْه وزارة الثقافة، وكتب له مقدمة الشاعر أحمد دحبور، وكان عنوانه: "أدب المقاومة.. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998). وكان جريئاً حين أقدم على نشره، وحين أصدره سُئل في أمره. هكذا قال لي. وتواصلت معه ومع علي الخليلي ومع محمود شقير وآخرين أيضاً. وهكذا أخذت أتردد على وزارة الثقافة، فلماذا إذاً لا ألبّ دعوتها الآن؟
الأحد الماضي، زرتُ رام الله. لم أستقل سيارة أجرة، لقد استقللت حافلة كبيرة (الباص)، وهكذا، حين اقتربت من المدينة تمكنت من رؤيتها، كما لم أتمكن من رؤيتها حين أستقل سيارة (تكسي). آخر مرّة زرتُ فيها رام الله كانت في 11/3/2009. زرتها على عجل لزيارة قبر الشاعر محمود درويش، ولم ألتفت جيداً الى المدينة. كأنني لم أرها يومها. وأنا في الحافلة رأيتُ أحياء المدينة التي لا أعرف أسماءها جيداً، أحياءها الجديدة التي أقيمت بعد (أوسلو). هل كنت في رام الله، أم أنني كنت في مدينة أوروبية أو أمريكية كبيرة، فيها عمارات ذات طوابق؟ الأحياء منتشرة على سفوح الجبال. هنا وهناك. كأنها مبعثرة. هل كنتُ قبل خمسة عشر عاماً أرى بنايات كهذه في رام الله؟
الأحد الماضي وأنا أشاهد البنايات التي ارتفعت، وأنا أشاهدها مبعثرة على سفح هذا الجبل أو ذاك، تذكرت قصيدة محمود درويش "في رام الله"، التي أهداها لسليمان النجاب، وظهرت في ديوان الشاعر الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (2009)، وتذكرت السطر الوارد فيها، وقد ضمنته غير مقال من مقالاتي السابقة، وهو: "مدن تُبنى على عجل".
كان درويش أقام في رام الله منذ العام 1996، ولم يكن له فيها ذكريات. وحين خاطب النجاب وأوضح له علاقته برام الله، خاطبه قائلاً: لا أمس لي فيها سواك. وحين كتب عن المدينة لم يقل إنها مدينته هو، بل قال إنها مدينة سليمان النجاب. هل كان ثمة حضور له فيها؟ هل كان ثمة أمس له فيها؟ ينهي درويش قصيدته بالأسطر التالية:
"لي أمس فيها /، في مدينته الصغيرة،/ لي عصا الراعي، وعرف الديك لي فيها، / وباقة نرجس في المزهرية/ لي تحيته التي تمتد من قاع الفراغ / إلى أعالي السرو / لي ذكرى غد فيها / ولي فيها اكتئاب / ونافذة على الوادي وباب / لي أمس فيها / لي غياب".
هل كان درويش يشعر بالاكتئاب في رام الله؟ هل كان فيها الحاضر الغائب؟ وهل أمسُه فيها النجاب وبعض معارفي ليس أكثر؟
ولا أظن أن علاقة أدباء آخرين برام الله تشبه علاقة محمود بها، بخاصة ممّن كان لهم فيها أمس. ممن كان لهم فيها ماضٍ وذكريات، مثل محمود شقير وأكرم هنية، ممّن عادوا إليها بعد غياب عنها. محمود شقير مثلاً كتب عنها في كتابه: مدن فاتنة وهواء فاسد، ولاحظ التغيرات التي طرأت عليها. ولم أقرأ لأكرم هنية شيئاً عن المدينة التي وُلِد فيها وعاش شبابه فيها، ثم أُبعِد عنها عشر سنوات، ليعود إليها، وليقيم فيها.
أنا أعرف رام الله منذ الستينيات. كنت أزورها مع أهلي زيارات عابرة، وربما كنت أحبها لأنني كنت أحب السفر، وسأعرفها منذ السبعينيات من ق 20 جيداً، سأزورها باستمرار. لقد كنت ارى فيها وفي أريحا قريتين عصريتين حضاريتين حديثتين. وحين اخذت اذهب اليها اخذت اذهب اليها بفرح، وفيها تعرفت الى أبرز كتابنا. هي والقدس. وسأتجول فيها كما لو أنني اتجول في نابلس، المدينة التي نشأت فيها. ثمة مدن أربع أنتمي اليها: نابلس ويافا ورام الله والقدس، وثمة مدن أخرى سأحبها، على الرغم من إقامتي فيها اقامات عابرة.
الاحد الماضي زرت رام الله. سأتساءل وأنا أغادرها، وأنا في مجمع السيارات: أهذه هي رام الله. هل هذه رام الله التي اعرف؟ لكأنها رام الله التي لا اعرف. هل كنت في رام الله أم كنت في محطة سكة حديد فرانكفورت؟ في العام 1987 طرت الى المانيا لأول مرة، ووجدتني في محطة سكة الحديد غريباً وحيداً خائفاً، هل شعرت الأحد الماضي، وأنا في كراج الحافلات، بالخوف؟ أظن ذلك. كانت الأزمة واضحة وحركة السيارات بطيئة، وشعرت ان البناية ستسحقني، هل كنت في رام الله أم أنني كنت في فرانكفورت؟ لست أدري.
بعيداً عن السياق
كتاب لن أنساه
سيذكرني مقال فاروق وادي "صلاح حزيِّن: يترك لنا نصوص القلب ويمضي" بكتاب لن أنساه، هو كتاب (جوزيف كونراد): "قلب الظلام". الكتاب/ الرواية من ترجمة صلاح حزين (نوح حزين)، وقد اقتنيته في العام 1979 من مكتبة الجعبة في رام الله، يوم احضرت هذه كتباً من دور نشر بيروت بدت لنا صيداً ثميناً. وسأقرأ الرواية، وربما لم أكن يومها اسمع باسم المفكر ادوارد سعيد الذي كتب رسالة الدكتوراه في روايات (كونراد)، وعرفت أنه مهتم به اهتماماً لافتاً، وظل يعود اليه والى أدبه في مقالاته التي نشرها في الصحف العربية، وأعادت نشرها صحفنا.
سأقرأ كتاب (كونراد): "قلب الظلام" وسأعرف انه درس في بعض الجامعات العربية. والرواية واحدة من الروايات التي علقت فكرتها بذاكرتي. وربما ذكرتها في مقالات عديدة لي. وسأشاهدها، فيما بعد، فيلماً سينمائياً بثه التلفاز الاسرائيلي او الاردني، ولكني، قبل مشاهدتها فيلماً، كتبت عنها، ذات نهار، في جريدة الشعب المقدسية، تحت عنوان: "كروتز الفلسطيني... من أبها إلى مخيم بلاطة". لقد سمعت بمأساة عائلة فلسطينية من مخيم بلاطة جرفتها السيول في منطقة أبها السعودية، وعادت الى المخيم جثثاً. ذهبت الى السعودية ليعمل ربها معلماً، فيحصل على النقود، ويعود ليبني بيتاً، ويستقر في وطنه، فمات. ولقد رأيت في ما حدث معه، شيئاً شبيهاً فيما حدث مع (كروتز) بطل "قلب الظلام". ذهب الى افريقيا بحثاً عن العاج والذهب والثروة ونسي نفسه وخطيبته حتى يحصل على ما يريد، ثم انتهى به الامر الى الموت. (منذ بداياتي الكتابية كنت اربط بين ما اقرأ وما أشاهد وما اسمع، من اين اكتسبت هذا؟).
ولأنني اعجبت بالرواية "قلب الظلام" فلقد أعرتها لصديق كاتب لي ولم يعدها. هل اعجب هو بها فأعارها الى صديق وهكذا ظلت تعار وتعار وتعار الى ان طارت من مكتبتي؟ ربما، وربما يكون صديق احتفظ بها ايماناً بمقولة: الاحمق ممن يعير كتابا هو من يرده الى صاحبه.
وأنا أقرأ مقال فاروق وادي في "الايام" (14/8/ 2009) سأتذكر رواية (كونراد) هل سأبحث عن الرواية لأشتري نسخة منها أم تراني سأسأل صديقي، من جديد، عنها؟ لست ادري.
عادل الأسطة
2009-09-06
الأحد الماضي، زرتُ رام الله. لم أستقل سيارة أجرة، لقد استقللت حافلة كبيرة (الباص)، وهكذا، حين اقتربت من المدينة تمكنت من رؤيتها، كما لم أتمكن من رؤيتها حين أستقل سيارة (تكسي). آخر مرّة زرتُ فيها رام الله كانت في 11/3/2009. زرتها على عجل لزيارة قبر الشاعر محمود درويش، ولم ألتفت جيداً الى المدينة. كأنني لم أرها يومها. وأنا في الحافلة رأيتُ أحياء المدينة التي لا أعرف أسماءها جيداً، أحياءها الجديدة التي أقيمت بعد (أوسلو). هل كنت في رام الله، أم أنني كنت في مدينة أوروبية أو أمريكية كبيرة، فيها عمارات ذات طوابق؟ الأحياء منتشرة على سفوح الجبال. هنا وهناك. كأنها مبعثرة. هل كنتُ قبل خمسة عشر عاماً أرى بنايات كهذه في رام الله؟
الأحد الماضي وأنا أشاهد البنايات التي ارتفعت، وأنا أشاهدها مبعثرة على سفح هذا الجبل أو ذاك، تذكرت قصيدة محمود درويش "في رام الله"، التي أهداها لسليمان النجاب، وظهرت في ديوان الشاعر الأخير "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" (2009)، وتذكرت السطر الوارد فيها، وقد ضمنته غير مقال من مقالاتي السابقة، وهو: "مدن تُبنى على عجل".
كان درويش أقام في رام الله منذ العام 1996، ولم يكن له فيها ذكريات. وحين خاطب النجاب وأوضح له علاقته برام الله، خاطبه قائلاً: لا أمس لي فيها سواك. وحين كتب عن المدينة لم يقل إنها مدينته هو، بل قال إنها مدينة سليمان النجاب. هل كان ثمة حضور له فيها؟ هل كان ثمة أمس له فيها؟ ينهي درويش قصيدته بالأسطر التالية:
"لي أمس فيها /، في مدينته الصغيرة،/ لي عصا الراعي، وعرف الديك لي فيها، / وباقة نرجس في المزهرية/ لي تحيته التي تمتد من قاع الفراغ / إلى أعالي السرو / لي ذكرى غد فيها / ولي فيها اكتئاب / ونافذة على الوادي وباب / لي أمس فيها / لي غياب".
هل كان درويش يشعر بالاكتئاب في رام الله؟ هل كان فيها الحاضر الغائب؟ وهل أمسُه فيها النجاب وبعض معارفي ليس أكثر؟
ولا أظن أن علاقة أدباء آخرين برام الله تشبه علاقة محمود بها، بخاصة ممّن كان لهم فيها أمس. ممن كان لهم فيها ماضٍ وذكريات، مثل محمود شقير وأكرم هنية، ممّن عادوا إليها بعد غياب عنها. محمود شقير مثلاً كتب عنها في كتابه: مدن فاتنة وهواء فاسد، ولاحظ التغيرات التي طرأت عليها. ولم أقرأ لأكرم هنية شيئاً عن المدينة التي وُلِد فيها وعاش شبابه فيها، ثم أُبعِد عنها عشر سنوات، ليعود إليها، وليقيم فيها.
أنا أعرف رام الله منذ الستينيات. كنت أزورها مع أهلي زيارات عابرة، وربما كنت أحبها لأنني كنت أحب السفر، وسأعرفها منذ السبعينيات من ق 20 جيداً، سأزورها باستمرار. لقد كنت ارى فيها وفي أريحا قريتين عصريتين حضاريتين حديثتين. وحين اخذت اذهب اليها اخذت اذهب اليها بفرح، وفيها تعرفت الى أبرز كتابنا. هي والقدس. وسأتجول فيها كما لو أنني اتجول في نابلس، المدينة التي نشأت فيها. ثمة مدن أربع أنتمي اليها: نابلس ويافا ورام الله والقدس، وثمة مدن أخرى سأحبها، على الرغم من إقامتي فيها اقامات عابرة.
الاحد الماضي زرت رام الله. سأتساءل وأنا أغادرها، وأنا في مجمع السيارات: أهذه هي رام الله. هل هذه رام الله التي اعرف؟ لكأنها رام الله التي لا اعرف. هل كنت في رام الله أم كنت في محطة سكة حديد فرانكفورت؟ في العام 1987 طرت الى المانيا لأول مرة، ووجدتني في محطة سكة الحديد غريباً وحيداً خائفاً، هل شعرت الأحد الماضي، وأنا في كراج الحافلات، بالخوف؟ أظن ذلك. كانت الأزمة واضحة وحركة السيارات بطيئة، وشعرت ان البناية ستسحقني، هل كنت في رام الله أم أنني كنت في فرانكفورت؟ لست أدري.
بعيداً عن السياق
كتاب لن أنساه
سيذكرني مقال فاروق وادي "صلاح حزيِّن: يترك لنا نصوص القلب ويمضي" بكتاب لن أنساه، هو كتاب (جوزيف كونراد): "قلب الظلام". الكتاب/ الرواية من ترجمة صلاح حزين (نوح حزين)، وقد اقتنيته في العام 1979 من مكتبة الجعبة في رام الله، يوم احضرت هذه كتباً من دور نشر بيروت بدت لنا صيداً ثميناً. وسأقرأ الرواية، وربما لم أكن يومها اسمع باسم المفكر ادوارد سعيد الذي كتب رسالة الدكتوراه في روايات (كونراد)، وعرفت أنه مهتم به اهتماماً لافتاً، وظل يعود اليه والى أدبه في مقالاته التي نشرها في الصحف العربية، وأعادت نشرها صحفنا.
سأقرأ كتاب (كونراد): "قلب الظلام" وسأعرف انه درس في بعض الجامعات العربية. والرواية واحدة من الروايات التي علقت فكرتها بذاكرتي. وربما ذكرتها في مقالات عديدة لي. وسأشاهدها، فيما بعد، فيلماً سينمائياً بثه التلفاز الاسرائيلي او الاردني، ولكني، قبل مشاهدتها فيلماً، كتبت عنها، ذات نهار، في جريدة الشعب المقدسية، تحت عنوان: "كروتز الفلسطيني... من أبها إلى مخيم بلاطة". لقد سمعت بمأساة عائلة فلسطينية من مخيم بلاطة جرفتها السيول في منطقة أبها السعودية، وعادت الى المخيم جثثاً. ذهبت الى السعودية ليعمل ربها معلماً، فيحصل على النقود، ويعود ليبني بيتاً، ويستقر في وطنه، فمات. ولقد رأيت في ما حدث معه، شيئاً شبيهاً فيما حدث مع (كروتز) بطل "قلب الظلام". ذهب الى افريقيا بحثاً عن العاج والذهب والثروة ونسي نفسه وخطيبته حتى يحصل على ما يريد، ثم انتهى به الامر الى الموت. (منذ بداياتي الكتابية كنت اربط بين ما اقرأ وما أشاهد وما اسمع، من اين اكتسبت هذا؟).
ولأنني اعجبت بالرواية "قلب الظلام" فلقد أعرتها لصديق كاتب لي ولم يعدها. هل اعجب هو بها فأعارها الى صديق وهكذا ظلت تعار وتعار وتعار الى ان طارت من مكتبتي؟ ربما، وربما يكون صديق احتفظ بها ايماناً بمقولة: الاحمق ممن يعير كتابا هو من يرده الى صاحبه.
وأنا أقرأ مقال فاروق وادي في "الايام" (14/8/ 2009) سأتذكر رواية (كونراد) هل سأبحث عن الرواية لأشتري نسخة منها أم تراني سأسأل صديقي، من جديد، عنها؟ لست ادري.
عادل الأسطة
2009-09-06