أعادتني رواية عباد يحيى الأخيرة " رام الله " ( ٢٠٢٠ عن منشورات المتوسط ) إلى سرديات رام الله ومنها سرديات عباد نفسه " رام الله الشقراء " ( ٢٠١٢ ) و " جريمة في رام الله " ( ٢٠١٧ ) .
منذ إقامة السلطة الفلسطينية إثر اتفاقات ( أوسلو ) صارت رام الله موضوعا من موضوعات النثر الفلسطيني الذي ازدهر مع عودة الأدباء العائدين وشكل ظاهرة لافتة وصارت فيه رام الله الأكثر حضورا حتى من القدس التي كانت تحظى باهتمام لم تحظ رام الله بمثله ذات يوم .
عاد الكتاب الذين أقاموا في المنفى لعقود إلى مدينتهم التي نشأوا فيها ولم يسمح لهم الإقامة في القدس إلا أقلهم ، وأخذوا يكتبون عن عودتهم فأنتجوا نصوصا حظيت باهتمام النقاد والدارسين والقراء وترجم قسم منها إلى الإنجليزية .
" رأيت رام الله " لمريد البرغوثي و " منازل القلب " لفاروق وادي و " شارع فرعي في رام الله " لأكرم هنية و " لا ملائكة في رام الله " لإيناس عبدالله و " رام الله التي رأيت " لمحمود شقير و " رام الله التي كانت " لياسمين زهران وروايتا عباد المذكورتان والكثير من النصوص التي جمعت في كتب والتي لم تجمع حتى اللحظة كلها غدت معروفة لدور النشر والكتاب والنقاد والمترجمين وقد كتب في قسم منها رسائل ماجستير وأبحاث . صارت رام الله العاصمة وظلت العاصمة المفترضة - أي القدس ، ظلت بعيدة المنال ومن كتب عنها كان كتابها المقيمون فيها أو الكتاب العرب الذين لم تطأ أقدامهم أرضها إلا بعد كتابتهم عنها . ببساطة لقد سلبت رام الله ، بقصد أو دون قصد ، أقلام أكثر الكتاب العائدين وغير العائدين وصارت تحضر في نصوصهم .
كتب مريد عن رام الله في زمنين ؛ الستينيات والتسعينيات ومثله فاروق ، أما أكرم فكتب عنها في العقود التي أقام فيها في المدينة - أي في الستينيات حتى ١٩٨٦ ، ومن ثم في نهاية التسعينيات والعقدين الأولين من القرن الجديد .
عباد يحيى في روايتيه رصد جوانب من حياة المدينة في أثناء حكم السلطة الفلسطينية حتى تاريخ صدور روايتيه ، وها هو في روايته الجديدة " رام الله " ( ٢٠٢٠ ) يعود ليرصد الحياة في المدينة منذ مائة وثلاثين عاما تعود إلى العام ١٨٩٠ تقريبا - أي إلى زمن العثمانيين في عقوده الثلاثة الأخيرة .
" لو الأيام بتتكلم كانت آلت عملنا إيه " تغني وردة لسيد مرسي ، وتغني فيروز لجوزيف حرب عن الأبواب " في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق في باب حزين
في باب مهحور أهلو منسيين " ، وثمة كتاب كتبوا عن الجدران وستائر الغرفة وغرف النوم وما تقوله عما شهدته ، وفي باب القصة القصيرة الفلسطينية قبل العام ١٩٤٨ تخيل نجاتي صدقي ، في قصته " الأخوات الحزينات " ، في حلم في العام ١٩٤٧ ، خمس شجرات ، قرب يافا / تل أبيب ، يتحولن إلى خمس أخوات يتحدثن عما شاهدن وعاصرن من أحداث ، فتحكي كل واحدة منهن تاريخ مرحلة من تاريخ فلسطين .
هل قرأ عباد يحيى قصة نجاتي صدقي فأوحت له ببناء روايته " رام الله " أم أن إقامته في المدينة لفترة طويلة ومشاهدته يوميا البيوت المهجورة هو ما أوحى إليه بالفكرة ؟
غالبا ما أتساءل وأنا أزور رام الله وأشاهد مآل بيوتها القديمة :
- ماذا ستحكي هذه البيوت عن سكانها لو قدر لها أن تحكي ؟
من الذي يروي حكاية رام الله في المائة والثلاثين سنة الأخيرة ؟ هل يرويها أفراد عاشوا في تلك السنوات وامتد بهم العمر طويلا وظلت ذاكرتهم حديدية لا تصدأ ؟
يتكيء عباد يحيى على المخيلة في بناء روايته ويجعل عتبات البيوت تروي ما شاهدت وعمن تخطاها ومر بها ، ويتخذ من بيت قديم بناه بطرس ابراهيم النجار مثالا لبيوت رام الله ليروي حكاية عائلة النجار وحكاية المدينة التي كانت قرية صغيرة تحولت إلى قصبة ثم صارت مدينة .
العتبات تروي على الدكتور عماد العايش الذي يغدو في الرواية " المروي عليه " حسب تعبير ( جيرالد برنس ) ، والدكتور عماد أستاذ جامعي يدرس في جامعة بير زيت ، وهو متزوج من ريما التي تمت بصلة لعائلة النجار ولهما ابنة واحدة تدرس في الجامعات البريطانية ، الدكتور عماد المشغول بأبحاثه ومحاضراته يفقد زوجته ريما التي تقضي نتيجة تضخم في عضلة القلب ينتابه الشك والحيرة بعد حادث الوفاة ، فيتساءل إن كانت زوجته على علاقة بشخص آخر غيره ، وهو ما ترويه له العتبة السابعة ، فيكتشف أنه كان مثل زوج ( ايما بوفاري ) في رواية ( فلوبير ) " مدام بوفاري " وان لزوجته علاقة مع الصحفي والمصور غسان عياد .
ليست علاقة الدكتور عماد بزوجته هي صلب الرواية ، فهي حكاية من حكايات رام الله ، والرواية ليست رواية شخصيات قدر ما هي رواية مكان ، ولعل عباد يحيى اختار دال " رام الله " ، وهو مكون مكاني ، عنوانا لروايته ، ولم يختر اسم شخصية من شخصياتها ، لأنه أراد أن يكون للمكان الحضور الأكبر .
هل كانت رواية ( غابرييل جارسيا ماركيز ) " مائة عام من العزلة " حاضرة في ذهن عباد يحيى وهو يكتب روايته؟ وهل ( ماكندو ) ماركيز تشبهها " رام الله " عباد ؟
تنتهي رواية " ماركيز " التي تقص أيضا عن سبعة أجيال بولادة طفل له ذنب خنزير وذلك بسبب عزلة أهلها ، وتنتهي رواية " رام الله " بالدكتور عماد العايش يسير بسيارته في شوارعها في حالة ذهول ، ورواية " رام الله " هي أيضا رواية أجيال .
أعتقد أن الرواية تستحق أن تقرأ فثمة سرد ممتع لكاتب له مشروعه الروائي ، كاتب يمتلك اللغة والقدرة الفائقة على القص ، ولسوف يختلف كثيرون معه في كتابته عن الفلسطيني في زمن السلطة وتحديدا عن الفلسطيني إبان انتفاضة الأقصى ، فالنموذج الذي يرسخ في الذاكرة أكثر من غيره هو جهاد الذي أحب مريم ، ولما تزوجت من غيره ، وكان عرفها لفترة قصيرة وهو مطارد ، سخر مكانته في الأمن لينتقم من أهلها ، وحكايته وحكاية كونه مطاردا تبعث على السخرية والرثاء ، تماما كما يبعث على السخرية والرثاء سلوك ياسر عرفات ورجال السلطة الفلسطينية وما آلوا إليه بعد أوسلو ١٩٩٣ ، إذ تحول ثوار الأمس إلى جماعات تبحث عن مصالحها وتراعي مستقبلها ومستقبل أبنائها الشخصي .
الرواية في جانب منها تعتمد على التأليف وفي جزء على التجربة والمشاهدات ، فالروائي اعتمد على مصادر ومراجع كثيرة في الكتابة عن ماضي رام الله في العهود العثمانية والإنجليزية والأردنية ، كما اعتمد على النصوص النثرية التي ورد ذكر عناوينها في هذه المقالة ، وفي الصفحات الأخيرة من روايته أورد قائمة بها .
وأعتقد أيضا أن رواية ربيع جابر " أميركا " التي صدرت قبل سنوات ، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية ( البوكر ) ، لن تفارق مخيلة القاريء وهو " يقرأ " رام الله " إن كان قرأ " أميركا " ، فكما هاجر اللبنانيون إلى أميركا واستقروا فيها وصارت وطنا لهم كدوا فيه وربحوا ، هاجر قسم من أبناء رام الله إلى هناك واستقروا وصارت أميركا وطنا ثانيا لهم ، وكما التحق بعض المهاجرين اللبنانيين بالجيش الأميركي باعتباره صار جيشهم يفكر خليل النجار أيضا بالالتحاق بالجيش الأميركي . إن التقاطعات بين الروايتين بخصوص أميركا تقاطعات لا بأس بها وإن كان حضور أميركا في رواية ربيع جابر أكثر ، وليس هذا بمستغرب ، فالرواية حملت العنوان " أميركا " وكانت الكتابة عنها هي مقصد مؤلفها ، في حين حملت رواية عباد العنوان " رام الله " وهدف بالدرجة الأولى الكتابة عن رام الله التي كان للاميركان دور كبير في تأسيس مدارسها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وهكذا تحضر الشخصيات الأميركية إلى رام الله وغالبا ما كانت صورتها إيجابية ومشرقة وفاعلة . إنها الشخصيات الأميركية التي تؤسس المدارس من أجل صنع عالم أفضل .
خلافا للاميركان في الرواية يبدو الإنجليز ، فهؤلاء الذين انتدبوا فلسطين بقصد الرقي بها كما روجوا لأنفسهم ، فشقوا الطرق وبنوا أيضا المدارس ، حكموا فلسطين بالحديد والنار ، فقتلوا الثوار وهدموا البنايات ودمروا ، ولم يختلف الأتراك عنهم ، فقد ساق هؤلاء أبناء فلسطين لخدمه الدولة العثمانية في حروبها وأودوا بهم إلى الموت .
وربما يتوقف القاريء أمام حجم هذه الرواية التي بلغت ٧٣٢ صفحة ، مختلفة بذلك عن روايات المؤلف الأربعة السابقة التي بالكاد تجاوزت المائتي صفحة ، فمن في زمننا سيقرأ رواية بهذا الحجم ؟
يسجل لعباد يحيى في روايته امتلاكه لغة سرد قوية مصوغة بلغة عربية فصيحة متينة قلما نقرؤها في روايات غيره ، على أن لغة السرد الفصيحة هذه تجاورها لغة تجسد لهجة أهل رام الله ، فحين تنطق شخصيات الرواية التي عاشت في أوائل القرن العشرين ، ولم يكن شاهدا عليها ، عاد لأغراض تدقيق لهجتها في تلك الحقبة إلى كتاب متخصص صدر بالالمانية . ( أنظر الرواية صفحة ٧٣٦ ) .
د. عادل الاسطة
الخميس والجمعة والسبت
٧ و ٨ و ٩ / ١ / ٢٠٢١
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2755094571410761
منذ إقامة السلطة الفلسطينية إثر اتفاقات ( أوسلو ) صارت رام الله موضوعا من موضوعات النثر الفلسطيني الذي ازدهر مع عودة الأدباء العائدين وشكل ظاهرة لافتة وصارت فيه رام الله الأكثر حضورا حتى من القدس التي كانت تحظى باهتمام لم تحظ رام الله بمثله ذات يوم .
عاد الكتاب الذين أقاموا في المنفى لعقود إلى مدينتهم التي نشأوا فيها ولم يسمح لهم الإقامة في القدس إلا أقلهم ، وأخذوا يكتبون عن عودتهم فأنتجوا نصوصا حظيت باهتمام النقاد والدارسين والقراء وترجم قسم منها إلى الإنجليزية .
" رأيت رام الله " لمريد البرغوثي و " منازل القلب " لفاروق وادي و " شارع فرعي في رام الله " لأكرم هنية و " لا ملائكة في رام الله " لإيناس عبدالله و " رام الله التي رأيت " لمحمود شقير و " رام الله التي كانت " لياسمين زهران وروايتا عباد المذكورتان والكثير من النصوص التي جمعت في كتب والتي لم تجمع حتى اللحظة كلها غدت معروفة لدور النشر والكتاب والنقاد والمترجمين وقد كتب في قسم منها رسائل ماجستير وأبحاث . صارت رام الله العاصمة وظلت العاصمة المفترضة - أي القدس ، ظلت بعيدة المنال ومن كتب عنها كان كتابها المقيمون فيها أو الكتاب العرب الذين لم تطأ أقدامهم أرضها إلا بعد كتابتهم عنها . ببساطة لقد سلبت رام الله ، بقصد أو دون قصد ، أقلام أكثر الكتاب العائدين وغير العائدين وصارت تحضر في نصوصهم .
كتب مريد عن رام الله في زمنين ؛ الستينيات والتسعينيات ومثله فاروق ، أما أكرم فكتب عنها في العقود التي أقام فيها في المدينة - أي في الستينيات حتى ١٩٨٦ ، ومن ثم في نهاية التسعينيات والعقدين الأولين من القرن الجديد .
عباد يحيى في روايتيه رصد جوانب من حياة المدينة في أثناء حكم السلطة الفلسطينية حتى تاريخ صدور روايتيه ، وها هو في روايته الجديدة " رام الله " ( ٢٠٢٠ ) يعود ليرصد الحياة في المدينة منذ مائة وثلاثين عاما تعود إلى العام ١٨٩٠ تقريبا - أي إلى زمن العثمانيين في عقوده الثلاثة الأخيرة .
" لو الأيام بتتكلم كانت آلت عملنا إيه " تغني وردة لسيد مرسي ، وتغني فيروز لجوزيف حرب عن الأبواب " في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق في باب حزين
في باب مهحور أهلو منسيين " ، وثمة كتاب كتبوا عن الجدران وستائر الغرفة وغرف النوم وما تقوله عما شهدته ، وفي باب القصة القصيرة الفلسطينية قبل العام ١٩٤٨ تخيل نجاتي صدقي ، في قصته " الأخوات الحزينات " ، في حلم في العام ١٩٤٧ ، خمس شجرات ، قرب يافا / تل أبيب ، يتحولن إلى خمس أخوات يتحدثن عما شاهدن وعاصرن من أحداث ، فتحكي كل واحدة منهن تاريخ مرحلة من تاريخ فلسطين .
هل قرأ عباد يحيى قصة نجاتي صدقي فأوحت له ببناء روايته " رام الله " أم أن إقامته في المدينة لفترة طويلة ومشاهدته يوميا البيوت المهجورة هو ما أوحى إليه بالفكرة ؟
غالبا ما أتساءل وأنا أزور رام الله وأشاهد مآل بيوتها القديمة :
- ماذا ستحكي هذه البيوت عن سكانها لو قدر لها أن تحكي ؟
من الذي يروي حكاية رام الله في المائة والثلاثين سنة الأخيرة ؟ هل يرويها أفراد عاشوا في تلك السنوات وامتد بهم العمر طويلا وظلت ذاكرتهم حديدية لا تصدأ ؟
يتكيء عباد يحيى على المخيلة في بناء روايته ويجعل عتبات البيوت تروي ما شاهدت وعمن تخطاها ومر بها ، ويتخذ من بيت قديم بناه بطرس ابراهيم النجار مثالا لبيوت رام الله ليروي حكاية عائلة النجار وحكاية المدينة التي كانت قرية صغيرة تحولت إلى قصبة ثم صارت مدينة .
العتبات تروي على الدكتور عماد العايش الذي يغدو في الرواية " المروي عليه " حسب تعبير ( جيرالد برنس ) ، والدكتور عماد أستاذ جامعي يدرس في جامعة بير زيت ، وهو متزوج من ريما التي تمت بصلة لعائلة النجار ولهما ابنة واحدة تدرس في الجامعات البريطانية ، الدكتور عماد المشغول بأبحاثه ومحاضراته يفقد زوجته ريما التي تقضي نتيجة تضخم في عضلة القلب ينتابه الشك والحيرة بعد حادث الوفاة ، فيتساءل إن كانت زوجته على علاقة بشخص آخر غيره ، وهو ما ترويه له العتبة السابعة ، فيكتشف أنه كان مثل زوج ( ايما بوفاري ) في رواية ( فلوبير ) " مدام بوفاري " وان لزوجته علاقة مع الصحفي والمصور غسان عياد .
ليست علاقة الدكتور عماد بزوجته هي صلب الرواية ، فهي حكاية من حكايات رام الله ، والرواية ليست رواية شخصيات قدر ما هي رواية مكان ، ولعل عباد يحيى اختار دال " رام الله " ، وهو مكون مكاني ، عنوانا لروايته ، ولم يختر اسم شخصية من شخصياتها ، لأنه أراد أن يكون للمكان الحضور الأكبر .
هل كانت رواية ( غابرييل جارسيا ماركيز ) " مائة عام من العزلة " حاضرة في ذهن عباد يحيى وهو يكتب روايته؟ وهل ( ماكندو ) ماركيز تشبهها " رام الله " عباد ؟
تنتهي رواية " ماركيز " التي تقص أيضا عن سبعة أجيال بولادة طفل له ذنب خنزير وذلك بسبب عزلة أهلها ، وتنتهي رواية " رام الله " بالدكتور عماد العايش يسير بسيارته في شوارعها في حالة ذهول ، ورواية " رام الله " هي أيضا رواية أجيال .
أعتقد أن الرواية تستحق أن تقرأ فثمة سرد ممتع لكاتب له مشروعه الروائي ، كاتب يمتلك اللغة والقدرة الفائقة على القص ، ولسوف يختلف كثيرون معه في كتابته عن الفلسطيني في زمن السلطة وتحديدا عن الفلسطيني إبان انتفاضة الأقصى ، فالنموذج الذي يرسخ في الذاكرة أكثر من غيره هو جهاد الذي أحب مريم ، ولما تزوجت من غيره ، وكان عرفها لفترة قصيرة وهو مطارد ، سخر مكانته في الأمن لينتقم من أهلها ، وحكايته وحكاية كونه مطاردا تبعث على السخرية والرثاء ، تماما كما يبعث على السخرية والرثاء سلوك ياسر عرفات ورجال السلطة الفلسطينية وما آلوا إليه بعد أوسلو ١٩٩٣ ، إذ تحول ثوار الأمس إلى جماعات تبحث عن مصالحها وتراعي مستقبلها ومستقبل أبنائها الشخصي .
الرواية في جانب منها تعتمد على التأليف وفي جزء على التجربة والمشاهدات ، فالروائي اعتمد على مصادر ومراجع كثيرة في الكتابة عن ماضي رام الله في العهود العثمانية والإنجليزية والأردنية ، كما اعتمد على النصوص النثرية التي ورد ذكر عناوينها في هذه المقالة ، وفي الصفحات الأخيرة من روايته أورد قائمة بها .
وأعتقد أيضا أن رواية ربيع جابر " أميركا " التي صدرت قبل سنوات ، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية ( البوكر ) ، لن تفارق مخيلة القاريء وهو " يقرأ " رام الله " إن كان قرأ " أميركا " ، فكما هاجر اللبنانيون إلى أميركا واستقروا فيها وصارت وطنا لهم كدوا فيه وربحوا ، هاجر قسم من أبناء رام الله إلى هناك واستقروا وصارت أميركا وطنا ثانيا لهم ، وكما التحق بعض المهاجرين اللبنانيين بالجيش الأميركي باعتباره صار جيشهم يفكر خليل النجار أيضا بالالتحاق بالجيش الأميركي . إن التقاطعات بين الروايتين بخصوص أميركا تقاطعات لا بأس بها وإن كان حضور أميركا في رواية ربيع جابر أكثر ، وليس هذا بمستغرب ، فالرواية حملت العنوان " أميركا " وكانت الكتابة عنها هي مقصد مؤلفها ، في حين حملت رواية عباد العنوان " رام الله " وهدف بالدرجة الأولى الكتابة عن رام الله التي كان للاميركان دور كبير في تأسيس مدارسها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وهكذا تحضر الشخصيات الأميركية إلى رام الله وغالبا ما كانت صورتها إيجابية ومشرقة وفاعلة . إنها الشخصيات الأميركية التي تؤسس المدارس من أجل صنع عالم أفضل .
خلافا للاميركان في الرواية يبدو الإنجليز ، فهؤلاء الذين انتدبوا فلسطين بقصد الرقي بها كما روجوا لأنفسهم ، فشقوا الطرق وبنوا أيضا المدارس ، حكموا فلسطين بالحديد والنار ، فقتلوا الثوار وهدموا البنايات ودمروا ، ولم يختلف الأتراك عنهم ، فقد ساق هؤلاء أبناء فلسطين لخدمه الدولة العثمانية في حروبها وأودوا بهم إلى الموت .
وربما يتوقف القاريء أمام حجم هذه الرواية التي بلغت ٧٣٢ صفحة ، مختلفة بذلك عن روايات المؤلف الأربعة السابقة التي بالكاد تجاوزت المائتي صفحة ، فمن في زمننا سيقرأ رواية بهذا الحجم ؟
يسجل لعباد يحيى في روايته امتلاكه لغة سرد قوية مصوغة بلغة عربية فصيحة متينة قلما نقرؤها في روايات غيره ، على أن لغة السرد الفصيحة هذه تجاورها لغة تجسد لهجة أهل رام الله ، فحين تنطق شخصيات الرواية التي عاشت في أوائل القرن العشرين ، ولم يكن شاهدا عليها ، عاد لأغراض تدقيق لهجتها في تلك الحقبة إلى كتاب متخصص صدر بالالمانية . ( أنظر الرواية صفحة ٧٣٦ ) .
د. عادل الاسطة
الخميس والجمعة والسبت
٧ و ٨ و ٩ / ١ / ٢٠٢١
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2755094571410761