(…) ولكن لنعُدْ إلى ذلك «القلب البلاغي» الذي يميّز منطق الصدمة. إنّ ما يشكّل قوّة «المنسيّ» بين العرب والإسبان ليس هو التذكرة بخسارة، أو «بفردوس مفقود» (وهذه هي التسمية التي يمنحها العرب للأندلس)، بقدر ما هو كامن في النتائج، غير المفكّر بها، للصدمة، والتي لا تكفّ عن المعاودة، هنا، واليوم بالذات.
أن تكون ذاكرة العرب قد عكفت، منذ قرون، على إعادة بناء هذا الفردوس المزعوم، فليس ثمة في نظرنا نحن من جديد بالنسبة لغناء العرب الشعري. منذ أساسه البدويّ في «المعلّقة»، وهذا الغناء عبارة عن حنين، وصف مأسور للأطلال، لأثر الخطى على الرمل، ولفقدان المحبوب. كما لو أنّ إسبانيا، من قبل أن يخسرها العرب، ومن قبل أن تكون ابنة الميلانخوليا و»الكآبة السوداوية» والشكوى، كانت هي مكتوبة من قبلُ في هذا الشعر ما قبل الإسلامي، في هذه المراثي الصحراوية، وهذا العروض البسيط، الجاذب، الصعب. الميلانخوليا هي غناء غير المنسيّ وما لا يمكن نسيانه. بهذا المعنى، فإسبانيا هي أيضاً اسم آخر لهذا الانخطاف بتلك الذكرى.
وما من جديد في أن يتقهقر الأدب إلى أمثلة هذا الفردوس المفقود: سيلزم (وذلك واجبٌ للكتابة والفكر) غناء آخر، آتٍ مما وراء الصدمة، من أجل إنعاش وتحويل ديمومة هذه المساجد المحوّلة إلى كنائس، وهذه الواجهات الفسيفسائية وكل هذه الأبنية الباذخة والمخطوطات المحوّلة، وسط تألّقها نفسه، إلى مومياءات ساكنة. بعد المأتم، إسبانيا الحالية هي ما يجدر أن نلاقيه في جدّته والعجيب من أشيائه.
أتذكّر: في كل رقعة اجتزتها من الأرض الإسبانية، كنت أحسّ بأرض ثانية تحملني. ولكن هذه الأرض ليست، إجمالاً، لأحد. تحمل هي مَنْ يخفّ إليها. وهناك على الأقلّ إسبانيتان اثنتان: إسبانيا الأزلية، شبه الجزيرة هذه التي تتقاطع عندها البحار والقارات، وإسبانيا الأخرى ـ إسبانيانا نحن أيضاً ـ التي نحتها التاريخ في مُخَيّلنا. هذه الثنائية، أو بالأحرى هذه التعددية للتاريخ والثقافة واللغة، هي التي صنعت الاسم الجميل لهذه البلاد. إنه أشبه ما يكون بسرّ لا يمنح نفسه إلا لمن يعمل على اكتناهه عبر الحبّ. وثمة بين واهب الحبّ ومتلقيه رسالة «جُرحية» تنتقل، وهي لم تكفّ، منذ اللحظات الكبرى لهذا التاريخ، عن ممارسة حدادها الخاص، وعن الرجوع إلى موتاها ـ وعائديها. ولكننا نعود اليوم بنحو آخر إلى إسبانيا أصبحت عالمية منذ قرون، وبات مصيرها يُلزمنا بفكر موازٍ من شأنه أن يتواصل في ما وراء الشواهد والأنقاض وعبادة المتبقيات. إسبانيا هذه هي أيضاً إسم امريكا اللاتينية. وهذا مما يمنح لعلاقتنا بعداً أكثر شمولية وأكثر جدارة بفكر كوني.
هكذا اصبحت إسبانيا تمثل لنا، بعد الهزيمة، تجرية جمالية، أو ذات طرافة علمية، بعد أن مثلت لنا، لزمن طويل، تجرية تاريخية. علّمت هذه التجرية التاريخية العرب كيف يقيسون أنفسهم قياساً للآخر، وأن يعرفوه ويجهلوه في الحركة ذاتها القائمة على التملك والفقد في الوقت نفسه. إنها أوصلت، إلى حدودها القصوى، القدرة الكلية لمسلمي الغرب في تلك الحقبة.
ولكننا، نحن الفنانين الذين ربما جئنا بعد فوات الأوان (بالنسبة لتلك الحقبة، على الأقل)، ربما كان بمقدورنا أن نجرّب في نصوصنا، مثلاً، نوعاً من نفي الذاكرة، وتفكيراً معيناً بالهزيمة والحداد والموت.
إسبانيا، مختبراً لمتخيّلنا؟ نعم، ولكن مجسداً في الجسد الحي لهذه البلاد الجميلة. لا يمكن لنا أن نكتب، في هذه الحالة، إلا للميلانخوليا وفي ما ورائها، وللحنين وفي ما ورائه. لا يمكن لنا أن نكتب إلا بعد وقوع أحداث لم يكن مفرّ منها، سواء أكانت فعلية، أم معاد تشكيلها في نصوصنا، نجيء إلى إسبانيا، ونعود إليها، وفي ذلك متعتنا.
نعود إلى ماضٍ لا يزال حياً، إلى جانب من أنفسنا، وإلى غرابة ماضينا. أن نأتي، أن نعود، ها هو التقطيع «الشعري»، ها هي متعة النصّ. خطوة الرقص التي تُنعّم كل رغبة. هذه الرغبة، يمكن لنا الاحتفال بها في لقاء جديد، إذا كانت الكتابة هي أن يهزل عجيب الأشياء، ذلك العجيب الذي يطالب، لهذا الباعث نفسه، بحصّته من العيد: قصيدة منبثقة من كل نسب رمزي، على أنه احتفال سبقه عمل سرّي، وتلقين مشترك بخصوص كل ما يظل حياً، وما يبقى لدى طرف ولدى الطرف الآخر، وكما وُهب أوديب الشيخ سرّ نسبه الرمزي لأجنبي، فنحن مدعوون إلى التصالح مع أولئك الأموات الرائعين الذين يسقون، إذا صحّ التعبير، قلبنا الغريب في هذه البلاد.
الحال، إن إسم إسبانيا ـ الأندلس خصوصاً ـ إنما يعود إلى ما يدعوه العرب بـ»التراث» ـ وهو هنا موروث ثقافي ولكنه أيضاً دينيّ. ذلك أن التراث هو عبادة المتبقيات التي يتركها لنا الموتى. ومن هذا الحداد تتغذى الميلانخوليا ـ في انفصالها عن الكيان المفقود، وعن الأرض المفقودة. وشأن الشاعر ما قبل الإسلاميّ، فالكيان الذي يعيش الحداد إنما يتشح، حينئذ، بكبرياء رثائية لا تمثل شيئاً آخر سوى الرفض ومحاولة كبت الهزيمة والفقدان والانفصال وعمل الموت، هذا العمل الذي يُبقي علينا داخل إلزام العيش والموت والبقاء في حلقة التحولات (…)
«الكرمل»، 13، 1 تموز (يوليو) 1984.
سليل الذاكرة الموشومة
في سنة 1976 كان الأديب وعالم الاجتماع المغربي (1938 ـ 2009) قد أصدر كتابه «المناضل الطبقي على الطريقة التاوية»، بالفرنسية (سوف يترجمه إلى العربية الشاعر والأكاديمي العراقي كاظم جهاد، سنة 1986)؛ فأثار، مبكراً، موجة من الحيرة حول «تجنيس» هذا النوع من الكتابة: أهو شعر، أم نثر سردي، أم فلسفة، أم مزاوجة بين هذه الأجناس جميعها؛ فضلاً عن المزج الناجح، والرفيع، بين التأمل والفكر والأدب، ليس ضمن مجاراة رفيعة لكتاب لاو تسي الشهير، فقط، بل تماهياً أيضاً مع أعمال سيوران وهايدغر ورينيه شار. ولن يمرّ زمن طويل حتى يقرأ رولان بارت، الناقد الفرنسي الشهير، أعمال الخطيبي، فيكتب مقالة بعنوان «ما أدين به للخطيبي»، يقول فيها: «إنني والخطيبي نهتم بنفس الأشياء: بالصورة، والأدلة، والآثار، والحروف، والعلامات. وفي الوقت نفسه يعلّمني الخطيبي جديداً يخلخل معرفتي، لأنه يغيّر مكان هذه الأشكال كما أراها، فيأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسُّ كأني في الطرف الأقصى من نفسي».
حيرة أخرى، كانت أقرب إلى دهشة الاكتشاف، أثارها الخطيبي في فترة مبكرة من نشاطه التأليفي، حين تصدّى للسلطة الثقافية الطاغية التي كان الفيلسوف الفرنسي جان ـ بول سارتر يمثّلها، على نطاق عالمي وليس في مستوى فرنسا أو الميدان الفرانكوفوني فقط؛ وذلك في كتابه «دموع سارتر»، الذي سخر من تباكي الفيلسوف الوجودي على عذابات اليهود، وسكوته عن جرائم الصهيونية في فلسطين. ولسوف ينشر الخطيبي عملين آخرين حول فلسطين والمسألة اليهودية: «القيء الأبيض: الصهيونية المعاصرة والضمير الشقي»، و»مفارقة الصهيونية»، وستتناول بعض مقالاته نفاق اليسار الفرنسي بصفة خاصة.
وإذا كان الخطيبي قد اتخذ مقاربة نقدية وعقلانية من التراث، أو الموروث كما يفضّل القول، في أبعاده الثقافية والدينية معاً؛ فإنّ تلك المقاربة كانت مسلّحة بمعرفة عميقة، وقراءات نوعية واسعة، في نصوص ذلك التراث، كما في تجلياته الإنسانية على مرّ العصور، وفي الباطن من تفاصيل المعيش والحياة اليومية، التي قد تبدأ من الوشم والحياة الجنسية، ولا تنتهي عند السجادة والأمثال السائرة. وليس كتابه الشهير «اسم العَلَم الجريح»، الذي ترجمه الشاعر المغربي محمد بنيس تحت عنوان «الاسم العربي الجريح»، وصدر سنة 1980؛ إلا الوثيقة الأرفع على هذه الخيارات.
أعمال الخطيبي الأخرى تراوحت بين علم الاجتماع والفلسفة والشعر والرواية والمسرح والنقد الأدبي، وبينها
«الذاكرة الموشومة»، «فن الخط العربي»، «الرواية المغاربية»، «المغرب العربي وقضايا الحداثة»، «صور الأجنبي في الأدب الفرنسي»، «النبيّ المقنّع»، إهداء إلى السنة القادمة»، «صيف في استوكهولم»، وسواها.
عبد الكبير الخطيبي
- القدس العربي
أن تكون ذاكرة العرب قد عكفت، منذ قرون، على إعادة بناء هذا الفردوس المزعوم، فليس ثمة في نظرنا نحن من جديد بالنسبة لغناء العرب الشعري. منذ أساسه البدويّ في «المعلّقة»، وهذا الغناء عبارة عن حنين، وصف مأسور للأطلال، لأثر الخطى على الرمل، ولفقدان المحبوب. كما لو أنّ إسبانيا، من قبل أن يخسرها العرب، ومن قبل أن تكون ابنة الميلانخوليا و»الكآبة السوداوية» والشكوى، كانت هي مكتوبة من قبلُ في هذا الشعر ما قبل الإسلامي، في هذه المراثي الصحراوية، وهذا العروض البسيط، الجاذب، الصعب. الميلانخوليا هي غناء غير المنسيّ وما لا يمكن نسيانه. بهذا المعنى، فإسبانيا هي أيضاً اسم آخر لهذا الانخطاف بتلك الذكرى.
وما من جديد في أن يتقهقر الأدب إلى أمثلة هذا الفردوس المفقود: سيلزم (وذلك واجبٌ للكتابة والفكر) غناء آخر، آتٍ مما وراء الصدمة، من أجل إنعاش وتحويل ديمومة هذه المساجد المحوّلة إلى كنائس، وهذه الواجهات الفسيفسائية وكل هذه الأبنية الباذخة والمخطوطات المحوّلة، وسط تألّقها نفسه، إلى مومياءات ساكنة. بعد المأتم، إسبانيا الحالية هي ما يجدر أن نلاقيه في جدّته والعجيب من أشيائه.
أتذكّر: في كل رقعة اجتزتها من الأرض الإسبانية، كنت أحسّ بأرض ثانية تحملني. ولكن هذه الأرض ليست، إجمالاً، لأحد. تحمل هي مَنْ يخفّ إليها. وهناك على الأقلّ إسبانيتان اثنتان: إسبانيا الأزلية، شبه الجزيرة هذه التي تتقاطع عندها البحار والقارات، وإسبانيا الأخرى ـ إسبانيانا نحن أيضاً ـ التي نحتها التاريخ في مُخَيّلنا. هذه الثنائية، أو بالأحرى هذه التعددية للتاريخ والثقافة واللغة، هي التي صنعت الاسم الجميل لهذه البلاد. إنه أشبه ما يكون بسرّ لا يمنح نفسه إلا لمن يعمل على اكتناهه عبر الحبّ. وثمة بين واهب الحبّ ومتلقيه رسالة «جُرحية» تنتقل، وهي لم تكفّ، منذ اللحظات الكبرى لهذا التاريخ، عن ممارسة حدادها الخاص، وعن الرجوع إلى موتاها ـ وعائديها. ولكننا نعود اليوم بنحو آخر إلى إسبانيا أصبحت عالمية منذ قرون، وبات مصيرها يُلزمنا بفكر موازٍ من شأنه أن يتواصل في ما وراء الشواهد والأنقاض وعبادة المتبقيات. إسبانيا هذه هي أيضاً إسم امريكا اللاتينية. وهذا مما يمنح لعلاقتنا بعداً أكثر شمولية وأكثر جدارة بفكر كوني.
هكذا اصبحت إسبانيا تمثل لنا، بعد الهزيمة، تجرية جمالية، أو ذات طرافة علمية، بعد أن مثلت لنا، لزمن طويل، تجرية تاريخية. علّمت هذه التجرية التاريخية العرب كيف يقيسون أنفسهم قياساً للآخر، وأن يعرفوه ويجهلوه في الحركة ذاتها القائمة على التملك والفقد في الوقت نفسه. إنها أوصلت، إلى حدودها القصوى، القدرة الكلية لمسلمي الغرب في تلك الحقبة.
ولكننا، نحن الفنانين الذين ربما جئنا بعد فوات الأوان (بالنسبة لتلك الحقبة، على الأقل)، ربما كان بمقدورنا أن نجرّب في نصوصنا، مثلاً، نوعاً من نفي الذاكرة، وتفكيراً معيناً بالهزيمة والحداد والموت.
إسبانيا، مختبراً لمتخيّلنا؟ نعم، ولكن مجسداً في الجسد الحي لهذه البلاد الجميلة. لا يمكن لنا أن نكتب، في هذه الحالة، إلا للميلانخوليا وفي ما ورائها، وللحنين وفي ما ورائه. لا يمكن لنا أن نكتب إلا بعد وقوع أحداث لم يكن مفرّ منها، سواء أكانت فعلية، أم معاد تشكيلها في نصوصنا، نجيء إلى إسبانيا، ونعود إليها، وفي ذلك متعتنا.
نعود إلى ماضٍ لا يزال حياً، إلى جانب من أنفسنا، وإلى غرابة ماضينا. أن نأتي، أن نعود، ها هو التقطيع «الشعري»، ها هي متعة النصّ. خطوة الرقص التي تُنعّم كل رغبة. هذه الرغبة، يمكن لنا الاحتفال بها في لقاء جديد، إذا كانت الكتابة هي أن يهزل عجيب الأشياء، ذلك العجيب الذي يطالب، لهذا الباعث نفسه، بحصّته من العيد: قصيدة منبثقة من كل نسب رمزي، على أنه احتفال سبقه عمل سرّي، وتلقين مشترك بخصوص كل ما يظل حياً، وما يبقى لدى طرف ولدى الطرف الآخر، وكما وُهب أوديب الشيخ سرّ نسبه الرمزي لأجنبي، فنحن مدعوون إلى التصالح مع أولئك الأموات الرائعين الذين يسقون، إذا صحّ التعبير، قلبنا الغريب في هذه البلاد.
الحال، إن إسم إسبانيا ـ الأندلس خصوصاً ـ إنما يعود إلى ما يدعوه العرب بـ»التراث» ـ وهو هنا موروث ثقافي ولكنه أيضاً دينيّ. ذلك أن التراث هو عبادة المتبقيات التي يتركها لنا الموتى. ومن هذا الحداد تتغذى الميلانخوليا ـ في انفصالها عن الكيان المفقود، وعن الأرض المفقودة. وشأن الشاعر ما قبل الإسلاميّ، فالكيان الذي يعيش الحداد إنما يتشح، حينئذ، بكبرياء رثائية لا تمثل شيئاً آخر سوى الرفض ومحاولة كبت الهزيمة والفقدان والانفصال وعمل الموت، هذا العمل الذي يُبقي علينا داخل إلزام العيش والموت والبقاء في حلقة التحولات (…)
«الكرمل»، 13، 1 تموز (يوليو) 1984.
سليل الذاكرة الموشومة
في سنة 1976 كان الأديب وعالم الاجتماع المغربي (1938 ـ 2009) قد أصدر كتابه «المناضل الطبقي على الطريقة التاوية»، بالفرنسية (سوف يترجمه إلى العربية الشاعر والأكاديمي العراقي كاظم جهاد، سنة 1986)؛ فأثار، مبكراً، موجة من الحيرة حول «تجنيس» هذا النوع من الكتابة: أهو شعر، أم نثر سردي، أم فلسفة، أم مزاوجة بين هذه الأجناس جميعها؛ فضلاً عن المزج الناجح، والرفيع، بين التأمل والفكر والأدب، ليس ضمن مجاراة رفيعة لكتاب لاو تسي الشهير، فقط، بل تماهياً أيضاً مع أعمال سيوران وهايدغر ورينيه شار. ولن يمرّ زمن طويل حتى يقرأ رولان بارت، الناقد الفرنسي الشهير، أعمال الخطيبي، فيكتب مقالة بعنوان «ما أدين به للخطيبي»، يقول فيها: «إنني والخطيبي نهتم بنفس الأشياء: بالصورة، والأدلة، والآثار، والحروف، والعلامات. وفي الوقت نفسه يعلّمني الخطيبي جديداً يخلخل معرفتي، لأنه يغيّر مكان هذه الأشكال كما أراها، فيأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسُّ كأني في الطرف الأقصى من نفسي».
حيرة أخرى، كانت أقرب إلى دهشة الاكتشاف، أثارها الخطيبي في فترة مبكرة من نشاطه التأليفي، حين تصدّى للسلطة الثقافية الطاغية التي كان الفيلسوف الفرنسي جان ـ بول سارتر يمثّلها، على نطاق عالمي وليس في مستوى فرنسا أو الميدان الفرانكوفوني فقط؛ وذلك في كتابه «دموع سارتر»، الذي سخر من تباكي الفيلسوف الوجودي على عذابات اليهود، وسكوته عن جرائم الصهيونية في فلسطين. ولسوف ينشر الخطيبي عملين آخرين حول فلسطين والمسألة اليهودية: «القيء الأبيض: الصهيونية المعاصرة والضمير الشقي»، و»مفارقة الصهيونية»، وستتناول بعض مقالاته نفاق اليسار الفرنسي بصفة خاصة.
وإذا كان الخطيبي قد اتخذ مقاربة نقدية وعقلانية من التراث، أو الموروث كما يفضّل القول، في أبعاده الثقافية والدينية معاً؛ فإنّ تلك المقاربة كانت مسلّحة بمعرفة عميقة، وقراءات نوعية واسعة، في نصوص ذلك التراث، كما في تجلياته الإنسانية على مرّ العصور، وفي الباطن من تفاصيل المعيش والحياة اليومية، التي قد تبدأ من الوشم والحياة الجنسية، ولا تنتهي عند السجادة والأمثال السائرة. وليس كتابه الشهير «اسم العَلَم الجريح»، الذي ترجمه الشاعر المغربي محمد بنيس تحت عنوان «الاسم العربي الجريح»، وصدر سنة 1980؛ إلا الوثيقة الأرفع على هذه الخيارات.
أعمال الخطيبي الأخرى تراوحت بين علم الاجتماع والفلسفة والشعر والرواية والمسرح والنقد الأدبي، وبينها
«الذاكرة الموشومة»، «فن الخط العربي»، «الرواية المغاربية»، «المغرب العربي وقضايا الحداثة»، «صور الأجنبي في الأدب الفرنسي»، «النبيّ المقنّع»، إهداء إلى السنة القادمة»، «صيف في استوكهولم»، وسواها.
عبد الكبير الخطيبي
- القدس العربي