سعد عبد الرحمن - آداب الجريمة

كان فيما مضى لكل مجال من مجالات الحياة أدابها المرعية التي لا يجوز خرقها أو تجاهلها، حتى إن "مجال الجريمة" من لصوصية وقتل ونصب و غير ذلك كان له آدابه التي أطلق عليها أحد الكتاب لا أتذكر اسمه الآن "أخلاقيات الجريمة"، فمن أداب اللصوصية مثلا ألا يسرق اللص من المنطقة التي ينتمي إليها بل من الآداب التي ينبغي عليه مراعاتها ولا يستطيع التنصل منها أن يمنع غيره من اللصوص أن يسرقوا منها، ومن أداب النشل ألا يطمع النشال في غير ما في المحفظة أو الكيس الذي نشله من نقود أما ما قد يجده من أيديهات ومستندات أو أوراق شخصية أو عائلية فإنه يعيدها إلى صاحبها بالبريد أو يتركها أمام أحد مخافر الشرطة، وقد سرق لص أمريكي ذات مرة سيارة سيدة دخلت إلى احد محال البقالة الكبيرة للتسوق وتركت طفلها الرضيع داخل السيارة ولما اكتشف اللص في أثناء سيره الأمر عاد سريعا بالسيارة إلى حيث أخذها تاركا بجوار الطفل رسالة تقريع وتوبيخ لأمه، كما أن لصا ألمانيا اقتحم منزلا لسرقته فوجد به مربية أطفال مع طفلين صغيرين دفعتهما براءتهما إلى تقديم حصالتي نقودهما إلى اللص متوسلين إليه ألا يؤذيهما أو يؤذي المربية فاعترت اللص من تصرف الطفلين حالة خجل شديدة جعلته يسارع بالخروج من المنزل بعد أن أفرغ كل ما بجيوبه من نقود في حجر المربية، ومن آداب القتل أخذا للثأر ألا يقتل طالب الثأر طفلا أو امرأة ولا يطمع القاتل فيما قد يكون مع ضحيته من أموال وإن كثرت أو مقتنيات مهما كانت نفاستها، ومن آداب اللصوصية أيضا أن لكل لص تخصصه لا يتعداه إلى تخصص غيره فيزاحمه عليها و إن أغرته المغريات فالنصاب لا يعمل عمل النشال والنشال لا يعمل عمل الهجام (حرامي الشقق والبيوت) والهجام لا يعمل عمل حرامي الغسيل وهكذا، ولبيرم التونسي قصيدة زجلية يشير فيها إلى بعض تلك التخصصات بعنوان " النشالين والمناسرة" يقول في أولها :
النشالين والمناسرة والحرامية .. أكتر من البياعين والصنايعية
مقسمين البلد أقسام نفوذ وخطوط .. وكل فرقة لها دايرة ودورية
كما أنه كان لكل طائفة من طوائف المجرمين قاموس سري خاص (سيم) يتعاملون به فيما بينهم وقد ألحق محمد لطفي جمعة - وهو من كبار المثقفين المصريين في النصف الأول من القرن العشرين - في نهاية كتابه "مباحث في الفولكلور" قاموسا لملاحن السوقة ومنها قاموس أو "لحن النشالين والحرامية" كما يسميه.
ومن أداب اللصوصية كذلك الالتزام بخطة السرقة وعدم الإخلال بأية جزئية منها، فإذا فوجئ مثلا الهجام بأن في البيت أو الشقة التي خطط لاقتحامها وأعد العدة لسرقتها أحدا لم يكن يتوقع وجوده ألغى عملية السرقة من الأساس أو أجلها إلى وقت أخر يكون مناسبا أكثر، أما الآن فإن الحرامي قد يضيف إلى جريمة السرقة جريمة أنكى وأفدح فعندما يفاجأ بمن لم يتوقع وجوده بالبيت أو الشقة فإنه يقتله لئلا ينم عليه حتى إن كان رجلا مسنا أو امرأة أو طفلا.
وبعض أرباب الجرائم قد تكون لديه غاية أخلاقية سامية من وراء اقترافه لجرائمه وهذا أمر قديم نجد عليه أمثلة كثيرة في ثقافتنا وفي الثقافات الأخرى، فعروة بن الورد الصعلوك الشهير في العصر الجاهلي مثلا كان يغير على القبائل ويسطو على ذوي الغنى واليسار من العرب ولكنه لم يكن يستأثر بغنائم غاراته وسطواته فيستحوز عليها أو على أغلبها وحده بل يوزعها على الفقراء من رفاقه وأهل قبيلته، و حين سخر أحدهم من شدة نحافته ونحول جسمه رد عليه قائلا :
أتهزأ مني أن سمنت وأنني .. بجسمي شحوب الحق والحق جاهد؟
فاني امرؤ عافي إنائي شركة .. وانت امرؤ عافي إنائك واحد
أقسّم جسمي في جسوم كثيرة .. وأحسو قراح الماء والماء بارد
في الأبيات يبين عروة للشخص السمين الذي سخر من شدة نحافته ونحوله أنه سمين لأنه بخيل أناني يأكل الطعام وحده أما هو ( أي عروة) فهو لا يأكل الطعام وحده أبدا بل يستضيف دائما حين يأكل كثيرين من الفقراء الجوعى ليأكلوا معه، ووصف فعله ذلك بهذه العبارة البليغة: (أقسّم جسمي في جسوم كثيرة)، وفي الفولكلور الأنجلو ساكسوني يطالعنا المتمرد النبيل أو اللص الشريف روبن هود وهو شخصية خيالية شبيهة في كثير من سماتها الخلقية بشخصية عروة بن الورد لا سيما في اعتياد السطو على ذوي الغنى واليسار من أجل إطعام الفقراء.
ولبعض المجرمين أيضا وجهة نظر فلسفية فيما يرتكبونه من جرائم كحرامي الدجاجة الذي حكى عنه توفيق الحكيم في كتابه الطريف "أنا والقانون والفن" وقد صدر أكثر من مرة في حياته وبعد مماته مع اختلاف العنوان والنسخة التي أقتنيها من الكتاب بمكتبتي طبعة مؤسسة أخبار اليوم عام 1973، يحكي الحكيم في ذلك الكتاب عن بعض مشاهداته في محاكم الأرياف حين كان يعمل إبان شبابه وكيلا للنائب العام، وملخص حكاية "حرامي الدجاجة" هذا: أن الشرطة قبضت عليه متهما بسرقة دجاجة ولما سأله القاضي عن صحة التهمة المنسوبة إليه أنكرها بقوة، وراح يناقش القاضي في مفهوم السرقة مؤكدا أنه بريء مما نسب إليه فمفهوم السرقة لا ينطبق علي ما حدث منه لأنه لم يسرق الدجاجة كما يتهمونه بل حقيقة الأمر أنه كان يربط حبة قمح بطرف خيط يجره خلفه في الشارع وقد ابتلعت الدجاجة حبة القمح وسارت وراءه بمحض إرادتها حتى دخلت البيت وراءه، لم يمد يده ليأخذها من مكان كانت محفوظة فيه فيصح اتهامه بالسرقة واختلف مع القاضي في أن يكون للدجاجة صاحب لأنه لو صح ذلك لما تركها صاحبها هكذا هائمة على وجهها في الطريق.
وثمة حكايات جمة تدل على قوة تلك الآداب التي كانت مرعية في مجال الجريمة ومن تلك الحكايات الدالة ما رواه الدكتور السعيد مصطفى السعيد في كتابه " من أدب الجريمة" الصادر في سلسلة "اقرأ" الشهيرة التي تصدرها مؤسسة دار المعارف - عدد ديسمبر 1964، قال الدكتور السعيد نقلا عن أحد أساتذته - وزمن الواقعة أوائل القرن العشرين - أن نشالا في الزحام شق جيب صديريته بمشرط وأخذ كيس نقوده وكان به مرتبه الذي تسلمه للتو وهو عبارة عن بضعة جنيهات ذهبية أودعها كيس نقوده في جيب الصديرية، ولكن مشرط النشال تجاوز حدود القماش فأحدث بجسمه جرحا، وبدلا من الذهاب إلى الشرطة التي يعرف هو وغيره أن قصارى ما ستقوم به عمل محضر بالواقعة تسجل فيه أقواله التي سيدلي بها عن تفاصيلها كمكانها وزمانها ومبلغ النقود التي نشلت منه وما إلى ذلك، ثم يخرج بمجرد وعد - لن يتحقق في الغالب الأعم - بإعادة ما سلبه إياه النشال حين يتم العثور عليه، بدلا من ذلك ذهب الأستاذ - بناء على نصيحة صديق له صاحب خبرة - إلى شيخ طائفة النشالين ( كان فيما مضى لكل طائفة شيخها الذي يرجع إليه في كل ما يتعلق بشأن من شؤونها) ومقره كان حينذاك بحي بولاق.
حكى الأستاذ للشيخ ما حدث معه وأراه الجرح الذي أصابه من مشرط النشال قائلا له: قطع الملابس مفهموم لكن الجرح لزومه إيه؟ فدعاه الشيخ للجلوس وطلب له فنجان قهوة كتحية وسأله في أثناء ذلك عن المنطقة التي وقعت له فيها الحادثة ووقت حدوثها بالضبط ثم استدعى أحد كبار أعوانه فسأله عمن كان عليه " دور الشغل" في المكان والزمان اللذين ذكرهما الأستاذ و كلفه بأن يأتيه بالنشال صاحب الواقعة فورا فأتاه به، وحين مثل أمامه طلب منه شيخه كيس النقود الذي نشله من الأستاذ وأعطاه لصاحبه، ثم لطم الشيخ صبيه على وجهه لطمة قوية مشيرا إلى الجرح الذي أحدثه في جسم الأستاذ الشاكي قائلا له: ابقى شوف شغلك مظبوط.
ولذلك كان بعض علمائنا الكبار يلقب اللص بالسارق الصغير أو بسارق السر ، ويروى في هذا السياق أن الإمام الحسن البصري - رضي الله عنه وأرضاه - كان يلقي درسه اليومي على رواد حلقته بالمسجد حين سمع ضجة كبيرة في الخارج فأرسل أحد تلاميذه يستطلع سببها ولما عاد الرجل قال للإمام: سبب الضجة أن الشرطة يسوقون بالقوة وسط جمع غفير من الناس لصا إلى بيت الوالي فقال الإمام معلقا: عجبا .. سارق السر يساق إلى سارق العلانية.
هل يجوز لنا أن نترحم على تلك الآداب بالرغم من أنها تتعلق بمجال شر هو مجال الجريمة؟




تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
871
آخر تحديث
أعلى