قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناظة أطروحة مقدمة إلى مجلس كلية اللغة العربية وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية- بغداد، وهي جزء من متطلبات نيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي تخصص أدب أندلسي قدمها الباحث /هشام عبد الغني حميد أحمد بإشراف الأستاذ المساعد/الدكتور شاكر محمود السعدي ،في شهر رجب 1426هـ/آب 2005م
وفيما يلي نص مقدمة الدراسة ومكوناتها ،ونتائجها، كما ذكرها الباحث /هشام عبد الغني بنصها في رسالته ،وهي على النحو التالي :
مقدمة الدراسة :
يذكر الباحث /هشام عبد الغني حميد أحمد أنه "قد كثر الجدل حول شعر المديح، وتباينت الرؤى حوله، فغمز بعض النقاد جانبه، ولعل السبب وراء ذلك موقفهم من التكسب بالشعر، وإغراق بعض الشعراء في المديح فغالوا وأسرفوا، بيد أن هذا السبب، لا يرتبط مباشرة بإبداع الشاعر الفني، بقدر ما يرتبط بطبيعة الشاعر المتكسب من جهة والممدوح من أخرى، وعلينا ألا ننسى وفي غمرة تحاملنا على شعر المديح أن قصيدة المديح ضمت إلى جانب غرضها الرئيس، أغراضاً أخرى؛ ففيها المقدمات على اختلاف أنواعها وهي التي تتحدث عن ذاتية الشاعر، وهي حبل يصل قصيدة المديح بإرثها الضارب في القدم، ثم أنها إلى جانب ذلك حبل يصل الشعراء الأندلسيين بإخوانهم المشارقة من خلال تذكر تلك المعالم المكانية والثقافية، والوجدانية، المشتركة؛ وبذلك فإن قصيدة المديح بحق تمثل الجانب الجمعي والوجداني للفكر العربي الإسلامي في كل زمان ومكان؛ فالبناء الفني للمدحة العربية يكاد يكون واحداً، ومضامين قصيدة المديح أيضاً تكاد تكون في عمومها واحدة.
لقد عُنى شعراء قصيدة المديح بالإشادة بالصفات المثالية الحميدة، النابعة من العرف الجمعي للأمة، سواء بطبيعتها العربية الأصيلة أو تلك التي أمر بها الدين الحنيف، وبذلك يبدو التداخل واضحاً بين الطبيعة الفطرية العربية، والطبيعة الفطرية التي يدعو إليها الإسلام؛ فمجمل المعاني المدحية تدعو إلى الفضيلة، ومن هنا فإن شاعر قصيدة المديح يعد بحق مصلحاً اجتماعياً، بذكر الممدوحين بما يجب أن يكونوا عليه، بطريقة غير مباشرة من خلال إسباغه عليهم صفات المروءة والكرم والشجاعة، والذود عن حقوق المسلمين وغير ذلك من الصفات الحميدة.
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على دواوين الشعراء الأندلسيين والمجاميع الشعرية؛ فعند ذلك سنجد كماً هائلاً من قصائد المديح التي تتغنى بمآثر الممدوحين ومناقبهم؛ وبذلك فإن شعر المديح يكاد يحتل المرتبة الأولى بين بقية الأغراض.
وعلى ذلك فإن مهمة شاعر المديح تبدو عسيرة في إيراد معان جديدة ومضامين مبتكرة وصور طريفة وغير ذلك مما يبث الروح المتجددة في هذا الغرض المهم الملازم للطبقة الحاكمة والقادة والوزراء وغيرهم.
إن قصيدة المديح تكاد تكون واحدة سواء بمبانيها، أو بمعانيها، بيد أن الشعراء يتعاملون معها بمرونة متناهية؛ بحيث تتكيف مع كل عصر على حدة دون أن تفقد عمودها الفقري المتجذر من أرضية العصر الجاهلي ولا شك أن الشعراء في مختلف العصور يعنون بها أيما عناية فيضيفون إليها أساليب فنية جديدة ويجتهدون في تهذيبها وتشذيبها وتنقيحها وتطعيمها برؤى جديدة، واستعمال أدوات تعبيرية جديدة تخرج معانيهم المدحية بثوب قشيب، لتبدو للمتلقي متجددة، فيقبل عليها ينهل من معانيها الطريفة والمتجددة، ولاشك أن حدة التنافس بين الشعراء كان لها أثر فاعل في إبراز قصيدة المديح بألوان زاهية، تجعل منها بحق القصيدة التي تحتل الصدارة، كماَ وكيفاُ.
إن موضوع الدراسة "قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناطة- دراسة فنية-" يكشف عن سمات قصيدة المديح الفنية العامة، ويظهر الكثير من مقومات نجاح القصيدة ومقومات أصالتها بما يجعلها ردفاً لقصيدة المديح المشرقية، بل ربما امتداداً لها"(1)
أسباب اختيار الباحث لموضوع الدراسة :
يذكر الباحث هشام عبد الغني حميد أحمد أن سبب اختياره هذه العصور (المرابطين والموحدين وبني الأحمر) بالدراسة والتحليل عائدُ إلى جملة أمور:
1- أهمية غرض المديح كونه يحتل مساحة واسعة في الشعر الأندلسي ولم يدرس- على حد علم الباحث - دراسة مستقلة وقد جاءت دراسة الباحث هذه لتبرز الجوانب الفنية في قصيدة المديح الأندلسية ومن خلال النمط العام للبنية الموضوعية وبعض الأساليب الفنية التي مثلت ملمحاً فنياً مشتركاً لقصيدة المديح في عصور الدراسة، مع الإشارة إلى بعض الخصائص الموضوعية والفنية لكل عصر إن وجدت.
2- بالنسبة لعصر الطوائف فإن هنالك دراستين مستقلتين عن شعر المديح، الأولى دراسة قدمها الباحث حامد كاظم محمد بعنوان (المديح في الشعر الأندلسي في عصر ملوك الطوائف)
والثانية: تحت عنوانها (قصيدة المديح في الأندلس) قضاياها الموضوعية والفنية. "عصر الطوائف"،وهي مقدمة من الدكتور أشرف محمود نجا ،وقد أفاد الباحث من هاتين الدراستين ولاسيما دراسة الدكتور/ أشرف محمود نجا، لما لهذه الدراسة من مزية إبراز القيم النقدية التطبيقية، والرؤية الفنية العميقة.
3- كما أن الباحث لم يتناول المديح النبوي لوجود دراستين مستقلتين عن هذا الغرض الأولى المديح النبوي في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناطة ،وهي رسالة ماجستير مقدمة من الطالب صديق بتال حوران العامري، كلية التربية، جامعة الأنبار، 1996.
والثانية: النبويات في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى نهاية الحكم العربي، وهي أطروحة دكتوراه مقدمة من الباحث /موفق مظفر جاسم الدوري، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1997.
ويختلف المديح النبوي في بعض جوانبه عن غرض المديح موضوع الدراسة، وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن الباحث أغفل المديح الخاص بالحكام والأمراء الذي يأتي في نهاية المديح النبوي، كما إن الباحث لم يدخل في الدراسة قصائد النقوش المدحية، والتي مثلت ملمحاً لدى ابن زمرك.
ويذكر الباحث أنه كان للدراسة التي قدمها الدكتور محمد مجيد السعيد الموسومة بـ(الشعر الأندلسي في عصر المرابطين والموحدين). أثر واضح في الكشف عن طبيعة الحياة الأدبية في هذين العصرين؛ وقد تعرضت الدراسة بصورة مركزة لشعر المديح، وانتهت لبعض النتائج المركزة كانت هذه النتائج منطلقات مهمة في الكشف عن بعض الجوانب الموضوعية والفنية، والتي أفدت منها كثيراً في التنقيب عن بعض الجوانب الفنية ذات الصلة. (2)
مكونات الدراسة :
تقع الدراسة في تمهيد وأربعة فصول:
التمهيد :
تناول التمهيد نشأة فن المديح وتطوره في العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي، والأموي، ومن ثم تناول الباحث بإيجاز المديح في الأندلس من عصر الولاة إلى سقوط الخلافة.
الفصل الأول البناء الموضوعي لقصيدة المديح:
قام الفصل الأول على دراسة مقدمة قصيدة المديح الأندلسية، وجاءت في عدة مباحث، تناول الفصل الأول فيها التقسيمات المختلفة لمقدمة قصيدة المديح وأنواعها.
الفصل الثاني:
انصب الفصل الثاني على إبراز النواحي اللغوية والأسلوبية لقصيدة المديح، واقتضت طبيعة البحث أن يقسمه الباحث إلى ثلاثة مباحث رئيسة:
المبحث الأول: ويضم المعجم الشعري لقصيدة المديح والاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأنواع التضمين من الشعر العربي، والأمثال العربية.
المبحث الثاني:
وتناول دراسة بعض الأساليب الشعرية التي سرت في قصيدة المديح، وشكلت ملمحاً بارزاً كأسلوب التقديم والتأخير، والاعتراض، والمدح بما يشبه الذم، والاستفهام، والنداء.
المبحث الثالث :
خصصه الباحث بدراسة بعض الصيغ الصرفية، التي شكلت ملمحاً بارزاً في قصيدة المديح، كصيغة جمع التكسير وصيغة أفعل التفضيل، وصيغة اسم الفاعل.
الفصل الثالث:
جاء الفصل الثالث لدراسة الصورة الشعرية في قصيدة المديح، إذ تناول الباحث في هذا الفصل كلاً من التشبيه، والاستعارة، والكناية.
المبحث الأول :
تناول الباحث فيه التشبيه، وعرض الباحث فيه التشبيه بالأداة ،ومن ثم بعض أنواع التشبيه، كالتشبيه البليغ والتشبيه الضمني، والتشبيه المركب، والتشبيه المقلوب.
المبحث الثاني:
درس الباحث فيه الاستعارة التصريحية، والمكنية، ثم التشخيص والتجسيد
المبحث الثالث:
اقتضت طبيعة الدراسة أن يجعل الباحث المبحث الثالث الكناية مقسمة بحسب ورودها ضمن موضوعات المدح نحو الكنايات عن الكرم، والشجاعة، والسيادة، والعدل، وغير ذلك من الكنايات التي دعم بها الشعراء معانيهم المدحية.
الفصل الرابع "موسيقى قصيدة المديح":
جعل الباحث الفصل الرابع في مبحثين:
المبحث الأول:
تناول الباحث فيه دراسة الموسيقى الخارجية ممثلة بالوزن والقافية وقد تضمن الوزن البحور الشعرية التي جاءت عليها قصيدة المديح الأندلسية، ثم تناول الباحث قوافي قصيدة المديح ومواءمتها مع الوزن الشعري لغرض المديح بحسب آراء بعض النقاد المؤيدين لنظرية توافق الموسيقى مع الغرض، واعتمد الباحث في دراسة الموسيقى الخارجية على الإحصائيات التي أجراها الباحث على دواوين الشعراء المتوافرة، وبعض المجاميع الشعرية,
المبحث الثاني:
خصص الباحث بدراسة الموسيقى الداخلية المنبثقة عن الجناس، والتكرار، ورد العجز على الصدر، والترصيع.
ثم ختم الباحث الدراسة بخاتمة دون فيها أهم النتائج التي توصل إليها الدراسة.
أما عن الصعوبات التي واجهت الباحث فهي تتمثل في قلة المصادر المتوافرة، وقد حاول الباحث الحصول على بعضها من خارج القطر، فوفق في الحصول على بعضها ولكني لم يستطع الحصول على بعضها الآخر. (3)
الخاتمة ونتائج الدراسة :
يذكر الباحث بعد الرحلة المضنية بين جنبات قصيدة المديح الأندلسية، وفي ربوعها الرحبة أجمل أهم المحطات التي توقف عندها مبرزًا أهم النتائج التي تكشفت له في أثناء رحلته مع الشعراء في ثنايا هذه القصيدة الثرة والغنية بالمعاني الطريفة والجديدة والتي جهد الشعراء في اخراجها، وهي على النحو التالي :
في الفصل الأول البناء الموضوعي لقصيدة المديح وقف الباحث في المبحث الأول على أنواع المقدمات ودلالاتها المختلفة، وقد سلك الشعراء فيها مسالك عدة؛ فقد كشفت الدراسة، التزام بعض الشعراء بالموروث الشعري، والسير على خطى إخوانهم الشعراء المشارقة، ولم يكونوا بذلك مجرد مقلدين، وإنما وجد الشعراء في هيكلية المقدمة الطللية وما يتفرع عنها، إطاراً فنياً، وموضوعياً مناسباً، يفرغون فيه معاناتهم الشعورية المتأتية من عدة عوامل سياسية، وفكرية واجتماعية، وذاتية.
على أن بعض الشعراء أمعن في محاكاة القدماء والتزام طريقتهم، واحتذى آثارهم؛ وبذلك بدت مقدمات هؤلاء الشعراء نسخاً مكرراً أو بالأحرى، مسخاً مشوهاً لا يمت لواقع الشاعر من قريب، أو بعيد، فضلاً عن كون هذه المقدمات من الناحية الفنية ركيكة البناء لاعتماد الشعراء فيها على التلفيق الواضح، بفعل تتبع مواطن الطلل وما يتبعه من جزيئات مكملة من خزين الموروث الشعري العربي، ويبدو أن ذلك فضلاً عن كونه مجاراة للشعراء القدامى محاكاة قصد من خلالها إظهار المقدرة الشعرية بدليل تتبع الأثر، دون الخروج عنه.
وفي المبحث الثاني، ومن خلال دراسة رحلة الشعراء، أظهرت النصوص الشعرية التزام بعض الشعراء الرحلة منفذاً فنياً وموضوعياً للوصول إلى الممدوح، وغالباً ما كانت هذه الرحلة على الناقة أو الفرس، وكشفت مجريات البحث عن توظيف الأندلسيين في قصائدهم المدحية الرحلة البحرية، ووجد الباحث لها مساحة مقبولة في الشعر الأندلسي بعد أن أستغل الشعراء هذا المنظر ليكون مشهداً في أحيان كثيرة، مستفيدين من أوصاف الناقة في تقريب صورة السفينة، كما لم يهمل البحث تخلص الشعراء الأندلسيين من الرحلة إلى المديح ليرصدها بدقة، فوجدها تخلصات رقيقة، سهلة، أسهمت بشكل دقيق في مد جسور الانتقال من المقدمة إلى المديح.
أما المضامين المدحية؛ فقد كشفت الدراسة توافق هذه المضامين مع طبيعة الممدوحين ومراكزهم المختلفة، وصولاً إلى الأنموذج المثال في كل صنف من أصنافهم وما يتناسب وطبيعتهم. وقد حرص بعض الشعراء على تأكيد القيم الاجتماعية النابعة من طبيعة البيئة العربية الإسلامية، وبذلك فقد سار الشعراء على المقاييس المدحية التي حددها النقاد في حثهم الشعراء على السير عليها من جوانبها التقليدية الموروثة، أو الجديدة المستحدثة، لتغدو قصيدة المديح الأندلسية نسجاً تجري في عروقه دماء الأصالة والمعاصرة في الوقت نفسه، وبعبارة أخرى شهدت تلك القصائد مزجاً بين القيمة النابعة من وجدان الأمة، والمتأصلة في طبيعتها، وما فرضته البيئة الجديدة من مؤثرات.
أما الخاتمة، فقد عُنى الشعراء كثيراً بصياغة خواتيمهم، والتزامها المعايير النقدية في الدعاء للحاكم، والإشادة بخصائصه الفردية، مع ملاحظة دقة نسجها، إذ جاءت على مستوى متقدم من البناء والسبك والملاءمة.
كما وصف الشعراء الممدوحين ولاسيما الحكام منهم والأمراء والوزراء بالخصال الدينية من التقوى والمثل الأعلى، في التزام الطاعات، وإقامة العدل بين الرعية، والحفاظ على حياض الدين؛ وبذلك تآزرت الخصال الدينية، والاجتماعية بالمعاني السياسية، في محاولة لإضفاء الصفة الشرعية، والسياسية للحاكم.
كما أبرزت الدراسة بشكل واضح الخلفية السياسية لكل عصر من عصور الدراسة من خلال تركيز شعراء كل عصر على تأكيد قيم بعينها اتصلت بالمرجعية الفكرية لكل عصر على حده وفي هذا الصدد استخلصت الدراسة أن مدائح الشعراء لم تكن تستهدف شخص الممدوح بأوصافه المادية، وإنما كانت تستهدف المثل العليا التي ارتضاها العصر وقبلها العرف الاجتماعي آنذاك.
وفي الفصل الثاني تبين من خلال دراسة المبحث الأول المعجم الشعري لقصيدة المديح استناد الشعراء للخلفية الفكرية والسياسية لكل عصر على حده، في إثراء معجمهم المدحي وتداخل ذلك مع الاقتباس من القران الكريم، وتبين من طرف خفي محاولة الشعراء إثبات شرعية النظام الحاكم، من خلال الإشادة بالمرجعية الفكرية، أو النسبية الفكرية كما في عصر بني الأحمر.
أما الناحية الفنية؛ فقد تفاوتت مقدرة الشعراء في الإفادة من الاقتباس من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، لتعضيد مضامينهم المدحية، منها مع الممدوحين.
كما ضمن الشعراء قصائدهم المدحية أبياتاً شعرية من الموروث الشعري المشرقي بما يتوافق ومضامينهم المدحية، وتنوعت أساليب الشعراء في طريقة أخذهم المعاني المسبوقة فمنهم من أخذ الأبيات بأكملها وضمنها قصيدته ومنهم من أخذ أنصاف الأبيات، في حين فضل بعضهم الأخر أخذ المعنى دون اللفظ، مثلما كشف البحث عن إظهار الشعراء براعة فنية في الإفادة من تضمينهم من الشعر العربي، أو المثل العربي.
وفي المبحث الثاني تناولت الدراسة بعض أساليب الشعراء في قصيدة المديح كأسلوب التقديم والتأخير، والاعتراض، والمدح بما يشبه الذم، والاستفهام، والنداء وكشفت مجريات الدراسة في هذه الأساليب عن قدرة الشعراء في إظهار الفضاءات التعبيرية العميقة لهذه الأساليب، وصولاً بالمديح إلى أسمى غايات الرقي الفني، وقد تعامل الشعراء مع هذه الأساليب بمقدرة فنية عالية، وفي مواطن متنوعة من فضاءات النصوص المدحية، مما يرجح اهتمام الشعراء بهذه القصيدة وحبكها، وإحكام صياغتها والابتعاد عن السطحية والسذاجة التعبيرية.
وتبين من خلال المبحث الثالث بمطالبه الثلاثة- وهي جمع التكسير، وصيغة أفعل التفضيل، وأسم الفاعل- أهمية هذه الصيغ في إحداث دلالات نوعية، وتعبيرية عميقة، قصد بها الشعراء مبالغة وقوع الحدث، وإثباته، وثباته، واستمراريته لتبقى المعاني المدحية بعد ذلك مترسخة في ذهن المتلقي، ومن ثم ضخ كل ما من شأنه إحداث هالة من الأوصاف النوعية حول الممدوحين.
وفي الفصل الثالث، حاولت الدراسة أن تتناول بالدرس والتحليل خصائص الصورة الشعرية في قصيدة المديح، وعناصر تكوينها، وكيفية تعامل الشعراء مع بعض الصور الشعرية الموروثة، بما يوافق طبيعة الممدوحين من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة القيمة المدحية ،وكشفت الدراسة الفنية للصور الشعرية المدحية مقدرة الشعراء في صياغة هذه الصور، ومناسبتها للقيم المدحية، وتجسيدها ،واحتلت الكناية حيزاً واسعاً في قصائد المديح، وأعتمد عليها الشعراء كثيراً في تدعيم مضامينهم المدحية، وبدت كنايات الشعراء على قدر كبير من الجودة، والإتقان والعمق الفني، واتسمت الصور الكنائية بمسحة من الغموض الفني، وذلك باتخاذها الموضوعات الذهنية مجالاً للتصوير، ومن هنا بدت هذه الصور الكنائية بعيدة عن التقريرية الفجة التي لا تناسب كثيراً الأعمال الفنية المرموقة، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى المقدرة الفنية الذوقية التي وصل إليها الأندلسيون في تعاملهم مع الأدوات الفنية، وإخراج صور جديدة ذات امتدادات متأصلة على امتداد رحلة الشعر العربي، كما دل ذلك أيضاً على مدى استيعاب الأندلسيين للقصيدة العربية بمكوناتها الموضوعية والفنية، وسعة اطلاعهم على نتاج الشعراء في مختلف العصور ولاسيما ما يتصل بالمديح.
وفي الفصل الرابع، ومن خلال دراسة موسيقى قصيدة المديح بركنيها الخارجي، والداخلي تبين أن الشعراء مالوا إلى البحور الطويلة ذات الإيقاعات المتنوعة الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر.
لمناسبة هذه البحور بمقاطعها الطويلة لاحتواء الدلالات المدحية، على أن ذلك لا يعني غياب البحور الخفيفة ذات المقاطع القصيرة كالوافر والمتقارب والخفيف والسريع والمديد...
أما فيما يخص القوافي، فقد فضل الشعراء اختيار أكثر الحروف مناسبة، وانتشارا مثل الراء والدال والباء واللام والميم والنون، فضلاً عن اهتمام الشعراء بالقافية كونها الإطار النغمي للموسيقى الخارجية، واتضح هذا الاهتمام من خلال استعمال الشعراء القوافي المؤسسة، والمردوفة والموصولة.
وذلك زيادة في إبراز النواحي الإيقاعية والنغمية، كما تبين شيوع القوافي المطلقة للتعبير عن امتدادات قصيدة المديح ومعانيها التعبيرية، واستمراريتها.
أما فيما يخص الموسيقى الداخلية؛ فقد اعتمد الشعراء لإظهار الجوانب الموسيقية والنغمية الإيقاعية على أسلوب الجناس بنوعيه الكامل، والناقص، والتكرار، ورد العجز على الصدر، ونجم عن ذلك تنويع النغمات الإيقاعية داخل البيت الشعري، واختلاف النسب الزمنية الإيقاعية والصوتية، مواءمة مع عرض المضامين المدحية، ودلالاتها الإيحائية.
كما تفاوت الشعراء في استعمالهم لهذه الأساليب البديعية بحسب مقدرة الشعراء وإبداعهم.
على أن هذه الأساليب أضحت ملمحاً فنياً إيقاعيا بدا أكثر ارتباطا بقصيدة المديح الأندلسية مما يسمح لنا بالقول إن ذلك كله صب في خدمة هذه القصيدة لتبدو بذلك متوازية مع بقية العناصر الفنية.
تلك كانت شذرات من النتائج الكثيرة التي احتوتها الدراسة فأشار الباحث إلى بعضها وترك البعض الآخر زاداً لمن يقرأ هذه الرسالة على مهل، ويأمل الباحث أن يكون قد أعطى الموضوع حقه ما استطع ولا يقول إنه وصل الكمال في ذلك كله لإيمانه أن الكمال لله وحده، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. (4)
المراجع :
هشام عبد الغني حميد أحمد ،رجب ،قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناظة ، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي تخصص أدب أندلسي كلية اللغة العربية وعلوم القرآن ، الجامعة الإسلامية- بغداد، قدمها 1426هـ/آب 2005م
(1)هشام عبد الغني حميد أحمد ،رجب ،قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناظة ، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي تخصص أدب أندلسي كلية اللغة العربية وعلوم القرآن ، الجامعة الإسلامية- بغداد، قدمها 1426هـ/آب 2005م،
ص أ-ب
(2)المرجع السابق ،ص ( ب-ج)
(3)المرجع السابق ،ص ( د-ه)
(4)المرجع السابق نفسه،ص 198-201
وفيما يلي نص مقدمة الدراسة ومكوناتها ،ونتائجها، كما ذكرها الباحث /هشام عبد الغني بنصها في رسالته ،وهي على النحو التالي :
مقدمة الدراسة :
يذكر الباحث /هشام عبد الغني حميد أحمد أنه "قد كثر الجدل حول شعر المديح، وتباينت الرؤى حوله، فغمز بعض النقاد جانبه، ولعل السبب وراء ذلك موقفهم من التكسب بالشعر، وإغراق بعض الشعراء في المديح فغالوا وأسرفوا، بيد أن هذا السبب، لا يرتبط مباشرة بإبداع الشاعر الفني، بقدر ما يرتبط بطبيعة الشاعر المتكسب من جهة والممدوح من أخرى، وعلينا ألا ننسى وفي غمرة تحاملنا على شعر المديح أن قصيدة المديح ضمت إلى جانب غرضها الرئيس، أغراضاً أخرى؛ ففيها المقدمات على اختلاف أنواعها وهي التي تتحدث عن ذاتية الشاعر، وهي حبل يصل قصيدة المديح بإرثها الضارب في القدم، ثم أنها إلى جانب ذلك حبل يصل الشعراء الأندلسيين بإخوانهم المشارقة من خلال تذكر تلك المعالم المكانية والثقافية، والوجدانية، المشتركة؛ وبذلك فإن قصيدة المديح بحق تمثل الجانب الجمعي والوجداني للفكر العربي الإسلامي في كل زمان ومكان؛ فالبناء الفني للمدحة العربية يكاد يكون واحداً، ومضامين قصيدة المديح أيضاً تكاد تكون في عمومها واحدة.
لقد عُنى شعراء قصيدة المديح بالإشادة بالصفات المثالية الحميدة، النابعة من العرف الجمعي للأمة، سواء بطبيعتها العربية الأصيلة أو تلك التي أمر بها الدين الحنيف، وبذلك يبدو التداخل واضحاً بين الطبيعة الفطرية العربية، والطبيعة الفطرية التي يدعو إليها الإسلام؛ فمجمل المعاني المدحية تدعو إلى الفضيلة، ومن هنا فإن شاعر قصيدة المديح يعد بحق مصلحاً اجتماعياً، بذكر الممدوحين بما يجب أن يكونوا عليه، بطريقة غير مباشرة من خلال إسباغه عليهم صفات المروءة والكرم والشجاعة، والذود عن حقوق المسلمين وغير ذلك من الصفات الحميدة.
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على دواوين الشعراء الأندلسيين والمجاميع الشعرية؛ فعند ذلك سنجد كماً هائلاً من قصائد المديح التي تتغنى بمآثر الممدوحين ومناقبهم؛ وبذلك فإن شعر المديح يكاد يحتل المرتبة الأولى بين بقية الأغراض.
وعلى ذلك فإن مهمة شاعر المديح تبدو عسيرة في إيراد معان جديدة ومضامين مبتكرة وصور طريفة وغير ذلك مما يبث الروح المتجددة في هذا الغرض المهم الملازم للطبقة الحاكمة والقادة والوزراء وغيرهم.
إن قصيدة المديح تكاد تكون واحدة سواء بمبانيها، أو بمعانيها، بيد أن الشعراء يتعاملون معها بمرونة متناهية؛ بحيث تتكيف مع كل عصر على حدة دون أن تفقد عمودها الفقري المتجذر من أرضية العصر الجاهلي ولا شك أن الشعراء في مختلف العصور يعنون بها أيما عناية فيضيفون إليها أساليب فنية جديدة ويجتهدون في تهذيبها وتشذيبها وتنقيحها وتطعيمها برؤى جديدة، واستعمال أدوات تعبيرية جديدة تخرج معانيهم المدحية بثوب قشيب، لتبدو للمتلقي متجددة، فيقبل عليها ينهل من معانيها الطريفة والمتجددة، ولاشك أن حدة التنافس بين الشعراء كان لها أثر فاعل في إبراز قصيدة المديح بألوان زاهية، تجعل منها بحق القصيدة التي تحتل الصدارة، كماَ وكيفاُ.
إن موضوع الدراسة "قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناطة- دراسة فنية-" يكشف عن سمات قصيدة المديح الفنية العامة، ويظهر الكثير من مقومات نجاح القصيدة ومقومات أصالتها بما يجعلها ردفاً لقصيدة المديح المشرقية، بل ربما امتداداً لها"(1)
أسباب اختيار الباحث لموضوع الدراسة :
يذكر الباحث هشام عبد الغني حميد أحمد أن سبب اختياره هذه العصور (المرابطين والموحدين وبني الأحمر) بالدراسة والتحليل عائدُ إلى جملة أمور:
1- أهمية غرض المديح كونه يحتل مساحة واسعة في الشعر الأندلسي ولم يدرس- على حد علم الباحث - دراسة مستقلة وقد جاءت دراسة الباحث هذه لتبرز الجوانب الفنية في قصيدة المديح الأندلسية ومن خلال النمط العام للبنية الموضوعية وبعض الأساليب الفنية التي مثلت ملمحاً فنياً مشتركاً لقصيدة المديح في عصور الدراسة، مع الإشارة إلى بعض الخصائص الموضوعية والفنية لكل عصر إن وجدت.
2- بالنسبة لعصر الطوائف فإن هنالك دراستين مستقلتين عن شعر المديح، الأولى دراسة قدمها الباحث حامد كاظم محمد بعنوان (المديح في الشعر الأندلسي في عصر ملوك الطوائف)
والثانية: تحت عنوانها (قصيدة المديح في الأندلس) قضاياها الموضوعية والفنية. "عصر الطوائف"،وهي مقدمة من الدكتور أشرف محمود نجا ،وقد أفاد الباحث من هاتين الدراستين ولاسيما دراسة الدكتور/ أشرف محمود نجا، لما لهذه الدراسة من مزية إبراز القيم النقدية التطبيقية، والرؤية الفنية العميقة.
3- كما أن الباحث لم يتناول المديح النبوي لوجود دراستين مستقلتين عن هذا الغرض الأولى المديح النبوي في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناطة ،وهي رسالة ماجستير مقدمة من الطالب صديق بتال حوران العامري، كلية التربية، جامعة الأنبار، 1996.
والثانية: النبويات في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى نهاية الحكم العربي، وهي أطروحة دكتوراه مقدمة من الباحث /موفق مظفر جاسم الدوري، كلية الآداب، جامعة بغداد، 1997.
ويختلف المديح النبوي في بعض جوانبه عن غرض المديح موضوع الدراسة، وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن الباحث أغفل المديح الخاص بالحكام والأمراء الذي يأتي في نهاية المديح النبوي، كما إن الباحث لم يدخل في الدراسة قصائد النقوش المدحية، والتي مثلت ملمحاً لدى ابن زمرك.
ويذكر الباحث أنه كان للدراسة التي قدمها الدكتور محمد مجيد السعيد الموسومة بـ(الشعر الأندلسي في عصر المرابطين والموحدين). أثر واضح في الكشف عن طبيعة الحياة الأدبية في هذين العصرين؛ وقد تعرضت الدراسة بصورة مركزة لشعر المديح، وانتهت لبعض النتائج المركزة كانت هذه النتائج منطلقات مهمة في الكشف عن بعض الجوانب الموضوعية والفنية، والتي أفدت منها كثيراً في التنقيب عن بعض الجوانب الفنية ذات الصلة. (2)
مكونات الدراسة :
تقع الدراسة في تمهيد وأربعة فصول:
التمهيد :
تناول التمهيد نشأة فن المديح وتطوره في العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي، والأموي، ومن ثم تناول الباحث بإيجاز المديح في الأندلس من عصر الولاة إلى سقوط الخلافة.
الفصل الأول البناء الموضوعي لقصيدة المديح:
قام الفصل الأول على دراسة مقدمة قصيدة المديح الأندلسية، وجاءت في عدة مباحث، تناول الفصل الأول فيها التقسيمات المختلفة لمقدمة قصيدة المديح وأنواعها.
الفصل الثاني:
انصب الفصل الثاني على إبراز النواحي اللغوية والأسلوبية لقصيدة المديح، واقتضت طبيعة البحث أن يقسمه الباحث إلى ثلاثة مباحث رئيسة:
المبحث الأول: ويضم المعجم الشعري لقصيدة المديح والاقتباس من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأنواع التضمين من الشعر العربي، والأمثال العربية.
المبحث الثاني:
وتناول دراسة بعض الأساليب الشعرية التي سرت في قصيدة المديح، وشكلت ملمحاً بارزاً كأسلوب التقديم والتأخير، والاعتراض، والمدح بما يشبه الذم، والاستفهام، والنداء.
المبحث الثالث :
خصصه الباحث بدراسة بعض الصيغ الصرفية، التي شكلت ملمحاً بارزاً في قصيدة المديح، كصيغة جمع التكسير وصيغة أفعل التفضيل، وصيغة اسم الفاعل.
الفصل الثالث:
جاء الفصل الثالث لدراسة الصورة الشعرية في قصيدة المديح، إذ تناول الباحث في هذا الفصل كلاً من التشبيه، والاستعارة، والكناية.
المبحث الأول :
تناول الباحث فيه التشبيه، وعرض الباحث فيه التشبيه بالأداة ،ومن ثم بعض أنواع التشبيه، كالتشبيه البليغ والتشبيه الضمني، والتشبيه المركب، والتشبيه المقلوب.
المبحث الثاني:
درس الباحث فيه الاستعارة التصريحية، والمكنية، ثم التشخيص والتجسيد
المبحث الثالث:
اقتضت طبيعة الدراسة أن يجعل الباحث المبحث الثالث الكناية مقسمة بحسب ورودها ضمن موضوعات المدح نحو الكنايات عن الكرم، والشجاعة، والسيادة، والعدل، وغير ذلك من الكنايات التي دعم بها الشعراء معانيهم المدحية.
الفصل الرابع "موسيقى قصيدة المديح":
جعل الباحث الفصل الرابع في مبحثين:
المبحث الأول:
تناول الباحث فيه دراسة الموسيقى الخارجية ممثلة بالوزن والقافية وقد تضمن الوزن البحور الشعرية التي جاءت عليها قصيدة المديح الأندلسية، ثم تناول الباحث قوافي قصيدة المديح ومواءمتها مع الوزن الشعري لغرض المديح بحسب آراء بعض النقاد المؤيدين لنظرية توافق الموسيقى مع الغرض، واعتمد الباحث في دراسة الموسيقى الخارجية على الإحصائيات التي أجراها الباحث على دواوين الشعراء المتوافرة، وبعض المجاميع الشعرية,
المبحث الثاني:
خصص الباحث بدراسة الموسيقى الداخلية المنبثقة عن الجناس، والتكرار، ورد العجز على الصدر، والترصيع.
ثم ختم الباحث الدراسة بخاتمة دون فيها أهم النتائج التي توصل إليها الدراسة.
أما عن الصعوبات التي واجهت الباحث فهي تتمثل في قلة المصادر المتوافرة، وقد حاول الباحث الحصول على بعضها من خارج القطر، فوفق في الحصول على بعضها ولكني لم يستطع الحصول على بعضها الآخر. (3)
الخاتمة ونتائج الدراسة :
يذكر الباحث بعد الرحلة المضنية بين جنبات قصيدة المديح الأندلسية، وفي ربوعها الرحبة أجمل أهم المحطات التي توقف عندها مبرزًا أهم النتائج التي تكشفت له في أثناء رحلته مع الشعراء في ثنايا هذه القصيدة الثرة والغنية بالمعاني الطريفة والجديدة والتي جهد الشعراء في اخراجها، وهي على النحو التالي :
في الفصل الأول البناء الموضوعي لقصيدة المديح وقف الباحث في المبحث الأول على أنواع المقدمات ودلالاتها المختلفة، وقد سلك الشعراء فيها مسالك عدة؛ فقد كشفت الدراسة، التزام بعض الشعراء بالموروث الشعري، والسير على خطى إخوانهم الشعراء المشارقة، ولم يكونوا بذلك مجرد مقلدين، وإنما وجد الشعراء في هيكلية المقدمة الطللية وما يتفرع عنها، إطاراً فنياً، وموضوعياً مناسباً، يفرغون فيه معاناتهم الشعورية المتأتية من عدة عوامل سياسية، وفكرية واجتماعية، وذاتية.
على أن بعض الشعراء أمعن في محاكاة القدماء والتزام طريقتهم، واحتذى آثارهم؛ وبذلك بدت مقدمات هؤلاء الشعراء نسخاً مكرراً أو بالأحرى، مسخاً مشوهاً لا يمت لواقع الشاعر من قريب، أو بعيد، فضلاً عن كون هذه المقدمات من الناحية الفنية ركيكة البناء لاعتماد الشعراء فيها على التلفيق الواضح، بفعل تتبع مواطن الطلل وما يتبعه من جزيئات مكملة من خزين الموروث الشعري العربي، ويبدو أن ذلك فضلاً عن كونه مجاراة للشعراء القدامى محاكاة قصد من خلالها إظهار المقدرة الشعرية بدليل تتبع الأثر، دون الخروج عنه.
وفي المبحث الثاني، ومن خلال دراسة رحلة الشعراء، أظهرت النصوص الشعرية التزام بعض الشعراء الرحلة منفذاً فنياً وموضوعياً للوصول إلى الممدوح، وغالباً ما كانت هذه الرحلة على الناقة أو الفرس، وكشفت مجريات البحث عن توظيف الأندلسيين في قصائدهم المدحية الرحلة البحرية، ووجد الباحث لها مساحة مقبولة في الشعر الأندلسي بعد أن أستغل الشعراء هذا المنظر ليكون مشهداً في أحيان كثيرة، مستفيدين من أوصاف الناقة في تقريب صورة السفينة، كما لم يهمل البحث تخلص الشعراء الأندلسيين من الرحلة إلى المديح ليرصدها بدقة، فوجدها تخلصات رقيقة، سهلة، أسهمت بشكل دقيق في مد جسور الانتقال من المقدمة إلى المديح.
أما المضامين المدحية؛ فقد كشفت الدراسة توافق هذه المضامين مع طبيعة الممدوحين ومراكزهم المختلفة، وصولاً إلى الأنموذج المثال في كل صنف من أصنافهم وما يتناسب وطبيعتهم. وقد حرص بعض الشعراء على تأكيد القيم الاجتماعية النابعة من طبيعة البيئة العربية الإسلامية، وبذلك فقد سار الشعراء على المقاييس المدحية التي حددها النقاد في حثهم الشعراء على السير عليها من جوانبها التقليدية الموروثة، أو الجديدة المستحدثة، لتغدو قصيدة المديح الأندلسية نسجاً تجري في عروقه دماء الأصالة والمعاصرة في الوقت نفسه، وبعبارة أخرى شهدت تلك القصائد مزجاً بين القيمة النابعة من وجدان الأمة، والمتأصلة في طبيعتها، وما فرضته البيئة الجديدة من مؤثرات.
أما الخاتمة، فقد عُنى الشعراء كثيراً بصياغة خواتيمهم، والتزامها المعايير النقدية في الدعاء للحاكم، والإشادة بخصائصه الفردية، مع ملاحظة دقة نسجها، إذ جاءت على مستوى متقدم من البناء والسبك والملاءمة.
كما وصف الشعراء الممدوحين ولاسيما الحكام منهم والأمراء والوزراء بالخصال الدينية من التقوى والمثل الأعلى، في التزام الطاعات، وإقامة العدل بين الرعية، والحفاظ على حياض الدين؛ وبذلك تآزرت الخصال الدينية، والاجتماعية بالمعاني السياسية، في محاولة لإضفاء الصفة الشرعية، والسياسية للحاكم.
كما أبرزت الدراسة بشكل واضح الخلفية السياسية لكل عصر من عصور الدراسة من خلال تركيز شعراء كل عصر على تأكيد قيم بعينها اتصلت بالمرجعية الفكرية لكل عصر على حده وفي هذا الصدد استخلصت الدراسة أن مدائح الشعراء لم تكن تستهدف شخص الممدوح بأوصافه المادية، وإنما كانت تستهدف المثل العليا التي ارتضاها العصر وقبلها العرف الاجتماعي آنذاك.
وفي الفصل الثاني تبين من خلال دراسة المبحث الأول المعجم الشعري لقصيدة المديح استناد الشعراء للخلفية الفكرية والسياسية لكل عصر على حده، في إثراء معجمهم المدحي وتداخل ذلك مع الاقتباس من القران الكريم، وتبين من طرف خفي محاولة الشعراء إثبات شرعية النظام الحاكم، من خلال الإشادة بالمرجعية الفكرية، أو النسبية الفكرية كما في عصر بني الأحمر.
أما الناحية الفنية؛ فقد تفاوتت مقدرة الشعراء في الإفادة من الاقتباس من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، لتعضيد مضامينهم المدحية، منها مع الممدوحين.
كما ضمن الشعراء قصائدهم المدحية أبياتاً شعرية من الموروث الشعري المشرقي بما يتوافق ومضامينهم المدحية، وتنوعت أساليب الشعراء في طريقة أخذهم المعاني المسبوقة فمنهم من أخذ الأبيات بأكملها وضمنها قصيدته ومنهم من أخذ أنصاف الأبيات، في حين فضل بعضهم الأخر أخذ المعنى دون اللفظ، مثلما كشف البحث عن إظهار الشعراء براعة فنية في الإفادة من تضمينهم من الشعر العربي، أو المثل العربي.
وفي المبحث الثاني تناولت الدراسة بعض أساليب الشعراء في قصيدة المديح كأسلوب التقديم والتأخير، والاعتراض، والمدح بما يشبه الذم، والاستفهام، والنداء وكشفت مجريات الدراسة في هذه الأساليب عن قدرة الشعراء في إظهار الفضاءات التعبيرية العميقة لهذه الأساليب، وصولاً بالمديح إلى أسمى غايات الرقي الفني، وقد تعامل الشعراء مع هذه الأساليب بمقدرة فنية عالية، وفي مواطن متنوعة من فضاءات النصوص المدحية، مما يرجح اهتمام الشعراء بهذه القصيدة وحبكها، وإحكام صياغتها والابتعاد عن السطحية والسذاجة التعبيرية.
وتبين من خلال المبحث الثالث بمطالبه الثلاثة- وهي جمع التكسير، وصيغة أفعل التفضيل، وأسم الفاعل- أهمية هذه الصيغ في إحداث دلالات نوعية، وتعبيرية عميقة، قصد بها الشعراء مبالغة وقوع الحدث، وإثباته، وثباته، واستمراريته لتبقى المعاني المدحية بعد ذلك مترسخة في ذهن المتلقي، ومن ثم ضخ كل ما من شأنه إحداث هالة من الأوصاف النوعية حول الممدوحين.
وفي الفصل الثالث، حاولت الدراسة أن تتناول بالدرس والتحليل خصائص الصورة الشعرية في قصيدة المديح، وعناصر تكوينها، وكيفية تعامل الشعراء مع بعض الصور الشعرية الموروثة، بما يوافق طبيعة الممدوحين من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة القيمة المدحية ،وكشفت الدراسة الفنية للصور الشعرية المدحية مقدرة الشعراء في صياغة هذه الصور، ومناسبتها للقيم المدحية، وتجسيدها ،واحتلت الكناية حيزاً واسعاً في قصائد المديح، وأعتمد عليها الشعراء كثيراً في تدعيم مضامينهم المدحية، وبدت كنايات الشعراء على قدر كبير من الجودة، والإتقان والعمق الفني، واتسمت الصور الكنائية بمسحة من الغموض الفني، وذلك باتخاذها الموضوعات الذهنية مجالاً للتصوير، ومن هنا بدت هذه الصور الكنائية بعيدة عن التقريرية الفجة التي لا تناسب كثيراً الأعمال الفنية المرموقة، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى المقدرة الفنية الذوقية التي وصل إليها الأندلسيون في تعاملهم مع الأدوات الفنية، وإخراج صور جديدة ذات امتدادات متأصلة على امتداد رحلة الشعر العربي، كما دل ذلك أيضاً على مدى استيعاب الأندلسيين للقصيدة العربية بمكوناتها الموضوعية والفنية، وسعة اطلاعهم على نتاج الشعراء في مختلف العصور ولاسيما ما يتصل بالمديح.
وفي الفصل الرابع، ومن خلال دراسة موسيقى قصيدة المديح بركنيها الخارجي، والداخلي تبين أن الشعراء مالوا إلى البحور الطويلة ذات الإيقاعات المتنوعة الطويل، والكامل، والبسيط، والوافر.
لمناسبة هذه البحور بمقاطعها الطويلة لاحتواء الدلالات المدحية، على أن ذلك لا يعني غياب البحور الخفيفة ذات المقاطع القصيرة كالوافر والمتقارب والخفيف والسريع والمديد...
أما فيما يخص القوافي، فقد فضل الشعراء اختيار أكثر الحروف مناسبة، وانتشارا مثل الراء والدال والباء واللام والميم والنون، فضلاً عن اهتمام الشعراء بالقافية كونها الإطار النغمي للموسيقى الخارجية، واتضح هذا الاهتمام من خلال استعمال الشعراء القوافي المؤسسة، والمردوفة والموصولة.
وذلك زيادة في إبراز النواحي الإيقاعية والنغمية، كما تبين شيوع القوافي المطلقة للتعبير عن امتدادات قصيدة المديح ومعانيها التعبيرية، واستمراريتها.
أما فيما يخص الموسيقى الداخلية؛ فقد اعتمد الشعراء لإظهار الجوانب الموسيقية والنغمية الإيقاعية على أسلوب الجناس بنوعيه الكامل، والناقص، والتكرار، ورد العجز على الصدر، ونجم عن ذلك تنويع النغمات الإيقاعية داخل البيت الشعري، واختلاف النسب الزمنية الإيقاعية والصوتية، مواءمة مع عرض المضامين المدحية، ودلالاتها الإيحائية.
كما تفاوت الشعراء في استعمالهم لهذه الأساليب البديعية بحسب مقدرة الشعراء وإبداعهم.
على أن هذه الأساليب أضحت ملمحاً فنياً إيقاعيا بدا أكثر ارتباطا بقصيدة المديح الأندلسية مما يسمح لنا بالقول إن ذلك كله صب في خدمة هذه القصيدة لتبدو بذلك متوازية مع بقية العناصر الفنية.
تلك كانت شذرات من النتائج الكثيرة التي احتوتها الدراسة فأشار الباحث إلى بعضها وترك البعض الآخر زاداً لمن يقرأ هذه الرسالة على مهل، ويأمل الباحث أن يكون قد أعطى الموضوع حقه ما استطع ولا يقول إنه وصل الكمال في ذلك كله لإيمانه أن الكمال لله وحده، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. (4)
المراجع :
هشام عبد الغني حميد أحمد ،رجب ،قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناظة ، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي تخصص أدب أندلسي كلية اللغة العربية وعلوم القرآن ، الجامعة الإسلامية- بغداد، قدمها 1426هـ/آب 2005م
(1)هشام عبد الغني حميد أحمد ،رجب ،قصيدة المديح في الشعر الأندلسي من عصر المرابطين إلى سقوط غرناظة ، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي تخصص أدب أندلسي كلية اللغة العربية وعلوم القرآن ، الجامعة الإسلامية- بغداد، قدمها 1426هـ/آب 2005م،
ص أ-ب
(2)المرجع السابق ،ص ( ب-ج)
(3)المرجع السابق ،ص ( د-ه)
(4)المرجع السابق نفسه،ص 198-201