كَبرتُ وكأنّي أدخل في تجاويف أكثف ظلمة، يحيط بي صمتها العميق وتتضاعف سماكته كل ما تآكلت أيامي، وقبل أن أبتر من الليل غصناً نديَّاً، أتين من عمق الظلام جمع من الذكريات، أوكأن قِرَبَـهُنّ، وساوين فُرشهنّ العتيقة قربي، ومضين يمشطن جدائل الأحداث والمشاهد وهنّ يُغنِّينَ بصوت متقطّعٍ مـخنوق.
سألت الأسحار عن أُمنيةٍ أُلاحقها ما دام في الروح روح عازمة، فقلت بزهوٍ كبير: قِبلةُ القلب مُتحرّكة، يتبعها حيثما وَلّت، وأنا ماضٍ في إرسال صوتي: يرحلون في الظلمات، وصوتكِ يئنُّ في أسفارهم.
لقد لقيت وسألقى وجوهاً لأناسٍ تهمهم القشور والمظاهر الدينية دون طهارة القلوب، القران يُقرأ في كل بيت، ومكبرات المساجد لا تهدأ، والتنظير الديني في كل مجلس، لكنهم: يغشون، ويكذبون، ويُدلّسون، ويُنافقون، ويُؤذون، ويسرقون، ويُخادعون، ويُراؤون، ويحلفون زُوراً.
فكما أنا، لا أُبدّد أيامي في حانات الكُره والنزاع، والانجراف وراء أصواتٍ طافحةٍ باللؤم والوضاعة، من الذين أثخنت الخيبة حياتهم، مُهمّتي دائماً أن أبتسم، على يقين تامٍّ بأنّه لا يذرع رجل رطوبة الأرض وصلابتها، إلا وقد أعدّته امرأة، فخلف كل حياةٍ يصنعها الرجل امرأة رسمت له خُطوطها ليمضي.
لا أخفي ما يفعله الخمول الذي يجثو على مشاعرنا، حين تمرق أشباح اليأس من أمامنا، وتنفخ في أبواقها لتُجزعنا، وتتخطّف بعضها عن أيماننا وشمائلنا، المهم أن تبقى أيدينا قابضة على غصن الأمل، وإن خاتلنا البكاء مراراً وتكراراً، لا يبقي سوى بضع كدمات لا تلبث طويلاً لتزول، البكاء، خيطٌ مسلولٌ من الروح، أرقّ من الشعرة وأحدّ من الشفرة، ومع كل خيط تفقده الروح الباكية تتسع رقعة الارتياح، وتنكمش لوثة الحزن، وتبرد الجروح، إنها الجروح التي تَقِفُ بي على أبواب العرّافات، وعتبات العطّارين، حين لا تُبرئها حفنة العمر الباقية، إلا إذا تقلّبت في الغناء، لأنَّ الغِناء يُقلّصُ أَلَمَ الرُّوح .. فكلما توغّلت مُغنّياً في حبّها ينبت لي جناحان أبيضان، فالغناء الممزوج بالتأمّل الصادق يجعل من الحياة دِيباجةً لا نملّ ترديدها، لأنَّا لا نبحث في الحياة كما يفعل الآخرون، لقد غُذّينا على انتظار الموت، أما كفى؟ ألّا مهرب من لحظةٍ سيتوكأ العمر على حيرته؟، وأنا أُفتّش عن الأماكن التي تُعيدُ صفّ أدراج الروح، وتنسيق الذّاكرة من جديد، فأرواحنا بالكاد تحملها أجسادنا المثقوبة من وَهَن الحياة، لذا نأوي تحت سماء الأغنية النديّة، كي نُصيب الروح بوابلها السحري.
أسمع عتاب نفسي: غضبكْ ثم غضبكْ ثم غضبكْ، لا تمنح غضبك بسهولة، لا تهبه إلا لمُستحقه، من هو بحرارة ناره، وبطول دُخانه، وبسرعة شراراه المتطاير من تفجّره وجنونه، لا تمنح غضبك بسهولة، أحلهُ إلى عطيَّةٍ عصيّة، ليطمع من هو دونك أن يمتح منها.
رفعت الدواة مقدار ما بين العين وأختها، ثم طرأ على قلبي أن أُمزّق هذا النثر وأُحيل مِزقه الصغيرة إلى قطعٍ مُهرّاة، ثم أقذفها جواري، إلا أنّي كبحت هذه النيّة، وكتمتها حتى تراخت وهدأت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.
سألت الأسحار عن أُمنيةٍ أُلاحقها ما دام في الروح روح عازمة، فقلت بزهوٍ كبير: قِبلةُ القلب مُتحرّكة، يتبعها حيثما وَلّت، وأنا ماضٍ في إرسال صوتي: يرحلون في الظلمات، وصوتكِ يئنُّ في أسفارهم.
لقد لقيت وسألقى وجوهاً لأناسٍ تهمهم القشور والمظاهر الدينية دون طهارة القلوب، القران يُقرأ في كل بيت، ومكبرات المساجد لا تهدأ، والتنظير الديني في كل مجلس، لكنهم: يغشون، ويكذبون، ويُدلّسون، ويُنافقون، ويُؤذون، ويسرقون، ويُخادعون، ويُراؤون، ويحلفون زُوراً.
فكما أنا، لا أُبدّد أيامي في حانات الكُره والنزاع، والانجراف وراء أصواتٍ طافحةٍ باللؤم والوضاعة، من الذين أثخنت الخيبة حياتهم، مُهمّتي دائماً أن أبتسم، على يقين تامٍّ بأنّه لا يذرع رجل رطوبة الأرض وصلابتها، إلا وقد أعدّته امرأة، فخلف كل حياةٍ يصنعها الرجل امرأة رسمت له خُطوطها ليمضي.
لا أخفي ما يفعله الخمول الذي يجثو على مشاعرنا، حين تمرق أشباح اليأس من أمامنا، وتنفخ في أبواقها لتُجزعنا، وتتخطّف بعضها عن أيماننا وشمائلنا، المهم أن تبقى أيدينا قابضة على غصن الأمل، وإن خاتلنا البكاء مراراً وتكراراً، لا يبقي سوى بضع كدمات لا تلبث طويلاً لتزول، البكاء، خيطٌ مسلولٌ من الروح، أرقّ من الشعرة وأحدّ من الشفرة، ومع كل خيط تفقده الروح الباكية تتسع رقعة الارتياح، وتنكمش لوثة الحزن، وتبرد الجروح، إنها الجروح التي تَقِفُ بي على أبواب العرّافات، وعتبات العطّارين، حين لا تُبرئها حفنة العمر الباقية، إلا إذا تقلّبت في الغناء، لأنَّ الغِناء يُقلّصُ أَلَمَ الرُّوح .. فكلما توغّلت مُغنّياً في حبّها ينبت لي جناحان أبيضان، فالغناء الممزوج بالتأمّل الصادق يجعل من الحياة دِيباجةً لا نملّ ترديدها، لأنَّا لا نبحث في الحياة كما يفعل الآخرون، لقد غُذّينا على انتظار الموت، أما كفى؟ ألّا مهرب من لحظةٍ سيتوكأ العمر على حيرته؟، وأنا أُفتّش عن الأماكن التي تُعيدُ صفّ أدراج الروح، وتنسيق الذّاكرة من جديد، فأرواحنا بالكاد تحملها أجسادنا المثقوبة من وَهَن الحياة، لذا نأوي تحت سماء الأغنية النديّة، كي نُصيب الروح بوابلها السحري.
أسمع عتاب نفسي: غضبكْ ثم غضبكْ ثم غضبكْ، لا تمنح غضبك بسهولة، لا تهبه إلا لمُستحقه، من هو بحرارة ناره، وبطول دُخانه، وبسرعة شراراه المتطاير من تفجّره وجنونه، لا تمنح غضبك بسهولة، أحلهُ إلى عطيَّةٍ عصيّة، ليطمع من هو دونك أن يمتح منها.
رفعت الدواة مقدار ما بين العين وأختها، ثم طرأ على قلبي أن أُمزّق هذا النثر وأُحيل مِزقه الصغيرة إلى قطعٍ مُهرّاة، ثم أقذفها جواري، إلا أنّي كبحت هذه النيّة، وكتمتها حتى تراخت وهدأت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي،
صدر له حتى الآن أكثر من 19 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.