مع اقتراب الشتاء، يترتب عليَّ البحث عن جحر آمن، مأوى ليلي لا يلفظني في وقت مبكر من المساء. وهذا مقهى داخلي، صغير لا يحتوي إلا على القليل من المقاعد المتسخة، في قلب الخشب العتيق. هذا المقهى، يبقى عادة آخر ملجأ في الليل بعد أن تكون مقاهي السوق الداخلية الأخرى قد سدت أبوابها على التوالي. قد تكون الساعة الآن الثامنة أو التاسعة، وقد يكون هذا الوقت متأخراً أيضاً.. إذ لا يجلس في المقهى سوى شابين لا يبعدان عن منضدتي، في مقدمة المقهى المفتوحة بكليتها على حافة ممر سوق أخذ يغلق أبوابه ويتسرب وينطوي ثم يخلو بصورة غير ملحوظة. قد أطيل الجلوس في هذا المقهى، ولكن المقاهي الخارجية لا تهمني، فأنا أجلس في المكان الذي أريده بالضبط بمواجهة نوافذ طابق علوي لفندق عبر ممر السوق، وبالتحديد بمواجهة نافذة مفتوحة، هي النافذة الوحيدة التي يصدر منها الضوء بين مجموعة النوافذ العديدة المغلقة. ولقد تابعت نزلاء الفندق يعودون منفردين ويرتقون السلم، الذي يبدأ مباشرة من مدخله في السوق، إلى الطابق العلوي حيث تقع جميع الغرف.
الشابان، جواري، أعميان، يغطيان تلك المنطقة المطفأة من وجهيهما، الحفر الفارغة، بنظارتين سوداوين، ويضع كل منهما عصاه على طرف من المنضدة. أحدهما يملك آلة عود ملفوفة بكيس قماش، أسندها إلى قوائم المنضدة بين قدميه. لا يجلسان متقابلين عبر المنضدة، بل يجلسان متعاكسين في الاتجاه على جانبي المنضدة، وبالوضع الذي يدير أحدهما فيه ظهره لممر السوق وينحني على المنضدة، والآخر يرفع رأسه بارتداد قليل إلى الوراء باتجاه النافذة الوحيدة المضاءة بين مجموعة نوافذ الفندق، أي بالاتجاه الذي أرقبه أنا بالتحديد، لا يأتي بحركة، مترقباً شعاعاً خارقاً، انعكاساً حاداً ينفذ عبر نظارتيه المظلمتين.
لقد اعتدت رؤيتهما في مثل هذا الوقت من كل مساء. وهما غالباً ما يجلسان في مثل هذا الوضع. ولا شك أنهما اكتشفا، بهواجسهما المعتمة، إني أرتاد هذا المقهى مثلهما، وإنى أجلس قربهما هذه اللحظة. لكني كنت أعلم، أكثر منهما، بمكان القهوجي في آخر المقهى، يجلس بجوار الموقد. كما كنت، أكثر منهما، واقعاً تحت سطوة المرآة التي تشغل جدار المقهى الخلفي بطوله، وهي تلتقط مؤخرات رؤوسنا الضائعة بين المقاعد الفارغة والمناضد والملصقات والأعلام التذكارية وأشكال السوق. كنت والمرآة الساطعة، العابقة ببخار طبخة الشاي الأخيرة نتبادل المراقبة، من خلال نافذة الفندق المضاءة المفتوحة فيها كعين زئبقية مسلطة على ظهري.
كان الأعميان يتحدثان، أحدهما يتحدث، الأعمى الذي ينحني على المنضدة، حديثاً متصلاً:
- وهكذا.. في فترات معينة.. في فترات انحطاطي تلك.. أبقى في فراشي يوماً كاملاً وحتى يومين من دون إتيان أي عمل سوى تقليب جسدي من جانب لآخر، من طرف السرير للحائط ومن الحائط لطرف السرير.. أنهض قليلاً، ثم أدع جسمي يسقط.. ثم أعود إلى التقلب ولا أفعل شيئاً سوى سحب ثيابي التي تتكوم تحتي وتعرقل حركتي في سريري. وبالأمس نمت النهار بطوله.. ولو أنك لم توقظني لنمت النهار هذا كله أيضاً.. هل تدري ? في الحقيقة أحسست باقترابك مني وانحنائك وتوقعت يدك التي ظلت تتلمس طريقها إلى كتفي.. حسناً فعلت آخر الأمر.. فلولاك لبقيت نائماً هذا النهار كله أيضاً..
كان الأعمى الآخر جامداً باتجاه النافذة المفتوحة المضاءة بين صفوف النوافذ التي هبطت مصاريعها الخشبية المخرمة، وتؤلف كلها واجهة الفندق المطلة على السوق والمقهى. كما يتسلل النور من ثقوب مصاريع هابطة لثلاث نوافذ مجاورة للنافذة المفتوحة. هذه النوافذ الأربع لغرفة أمامية واحدة، تقع على الجانب الأيمن من مدخل الفندق. وكان هناك عدد مماثل من النوافذ المطفأة على الجانب الآخر. تفضح النافذة المفتوحة محتويات الغرفة: مشجب ملابس، قمة مرآة، سقف خشبي، ثم نصف قامة رجل يرتدي فانيلة وإزاراً حول وسطه. وضع الرجل سيجارة كانت بين أصابعه على حافة النافذة، وهم بنزع فانيلته. اختفت ذراعا الرجل المرفوعتان خلف إطار النافذة في محاولة لتخليصهما من علاقات الفانيلة. انكمش جلد صدره على الأضلاع البارزة، وتشنج بطنه المضغوط الهابط. ومن هنا، كنت أرى أخاديد صدره الأملس الشاحب وشعر إبطيه وحلمتى ثدييه والبقع البنية والحروق والسرة الغائرة. كتلة حشرية، مصلوبة في إطار النافذة. انحنى الرجل إلى الأمام في محاولة أخيرة للإفلات، ثم طوح بفانيلته إلى مكان ما في الغرفة، ونشر إزاره على حافة النافذة، بعد أن تناول سيجارته منها وابتعد داخل الغرفة. لم يظهر بعد ذلك في الإطار إلا للحظات خاطفة: وهو يعبر الغرفة، أو هو يجلس. كانت حركاته المجهولة تطوح بأجزاء ناقصة من أعلى كتفيه وصدره وظهره، ينحني أو يستدير أو يجلس أو يقف. وعندما غابت القطع المبتورة الخاطفة لرجل الغرفة، استلفت انتباهي مشجب الملابس مكتظاً بالقمصان والسراويل والمناشف. فجأة ينطفىء الضوء في الغرفة، وتظلم النوافذ: ربما أوى الرجل إلى فراشه.
يستمر الأعمى المنكفىء على المنضدة:
- عادة أحس بفراغ كبير في رأسي. ويتعاظم هذا الفراغ بعد نوم طويل.. فراغ مريح كان يدفع جدران رأسي دفعاً خفيفاً مستمراً.. وكان لكل حركة صدى شديد الوضوح فيه.. وعند من فقد البصر فإن هذا الصدى يغدو دوياً وصفيراً عاليين. وهكذا كان باستطاعتي الترقب الشديد والتقاط أوطأ الأصوات من حولي وتعيين مصادرها. كما كان بإمكاني تخيل الحركات المتكونة في الظلام وهي تنتقل زاحفة نحوي كسرب من الهوام.. نعم.. أدق الأشياء.. تختلط في رأسي وتتوحد بدويّ متصل واحد.. كما تختلط الألحان وآلة الكمان في إيقاع واحد، وذراعا الراقصة والصاجات في رقصة واحدة.. الظلام والصمت في غرفة واحدة.. في صفير متصل واحد.. وأنا أيضاً وأنت في غرفة واحدة.. آلاف الأقدام الترابية والمجسات المتذبذبة أسمعها تزحف نحو فراشي.. وفي ذهول كنت أستقبلها مهيئاً لها جسدي المرتعش كجوف شجرة.. كحفرة رملية واسعة.. وتمضي لحظات قلقة أحس بعدها بالامتلاء بالأشياء المجهولة الصامتة الخفيفة.. وأعود للنوم.. أهو نوم? لست أدري بالضبط إن كان نوماً ذلك السقوط البطيء إلى الوراء.. آلام الرقبة.. السقف الثقيل.. الانحشار في صندوق ضيق مفروش بالنفايات..
بينما يتابع الأعمى الذي يرفع وجهه نحو النافذة المطفأة آخر نزيل صعد سلم الفندق إلى غرفته: (يتمهل النزيل في منتصف السلم. السلم المظلم عادة. ثم يستمر في صعوده متحسساً الجدار، وهو يعد مع نفسه الدرجات المتبقية كي يصل إلى الطابق العلوي. بعد المنتصف ينعطف السلم ويضع النزيل فجأة في فتحة ممر طويل تقع على جانبيه حجرات النزلاء. الغرفة الأولى على اليمين. يفتح الباب ويتقدم في ظلام الغرفة نحو سريره ثم يجلس على حافته ويبدأ بنزع ثيابه، فيما يتفحص متثائباً وجوه شركائه في الغرفة..).
ويمضي الأعمى المنحني على المنضدة:
- أحياناً يحدث هذا.. أصحو بغتة.. أصحو وكأنني لم أكن نائماً قط.. وأجلس في فراشي.. أقصد أدلي قدمي من الفراش وأجلس على حافته، وأنصت إلى وقع ذلك الشيء الذي أوقظني.. أقصد العصا بالطبع.. كما أظن.. العصا لوحدها تمشي في الغرفة.. إني متأكد من أن أحداً أو شيئاً يمشي في الغرفة.. هو والعصا. أمد يدي إلى حيث أضع عصاي عادة جنب السرير.. أمدّ يدي لكني لا أجدها في مكانها، العصا تكون بالطبع تنتقل في خطوات متمهلة.. بالطبع يكون الخطو قد انقطع.. حين أصحو تكون العصا قد توقفت. إني أسمع العصا لأني لم أتخلص من قيود النوم كلياً.. أمد يدي لأنهض ولكني لا أجد عصايَ. أنحني لأبحث عن نعلي فأنا أريد الذهاب للمرحاض.. وأمد يدي وأنحني فيصطدم رأسي بشيء.. أعتقد بمنضدة.. قلت إن الأثاث قليل في الغرفة، لا يوجد أثاث، إنها خالية، ثم أنهض بلا عصا وأبحث عن باب الغرفة، ومع أنني أعثر على الباب فإنني لا أخرج. أرجع إلى مكاني وأجلس على السرير وأنصت. إنني لا أستطيع المشي بلا عصا. هذه لعنتنا.. الدرج وفتحة المرحاض، والأرض الهشة التي ستنهار، الأجزاء الرطبة التي ينبغي تجنبها وعدم الدوس عليها.. هل
كنت موجوداً في الغرفة? اعتقدت أنك أنت الذي يمشي مستهدياً بعصاك.. هل سمعتني عندما قلت: من هذا? ومع ذلك لم يجب أحد. ثم انقطع الخطو تماماً. هل رجعت إلى سريرك? نعم.. نسيت سريرك في الجانب الآخر من الغرفة. إذن هناك بالإضافة إلى سريري سريرك والمنضدة.. هل توجد أشياء أخرى في غرفتنا? كلا لا يوجد شيء كما أعتقد. كم تقدر عدد الخطوات بين سريرينا? هل جربت إحصاءها? أنا جربت يوماً.. خمس وعشرون خطوة.. هل تتصور كم هي واسعة غرفتنا? غرفة واسعة بالطول فقط.. أحياناً أحس بأني سأخطو مائة خطوة قبل أن أصل إلى الطرف الآخر منها، ومع ذلك فأنا لا أفعل ذلك.. غرفة خالية.. هكذا.. كما أظن..
تلي واجهة الفندق المقابلة للمقهى واجهات خشبية متجاورة ذات شبابيك تغطيها مظلات منفصلة، تليها واجهات بشبابيك ذات مظلات متصلة. ثم لا ترى الواجهات التالية لأنها تنعطف مع ممر السوق، وتقطعها الأزقة. ولكني أتخيل الواجهات المختفية المتشابهة كالآتي: مستطيلات شبابيك بلا مظلات، ثم مستطيلات شبابيك بمظلات منفصلة، فمستطيلات شبابيك بمظلات متصلة، وهكذا، وسطوح مسيجة، وسطوح طليقة، وأزقة ضيقة متعرجة، وظلام خشبي، ثم ظلام مائي، وظلام أصفر.. وهكذا..
يقول الأعمى المنكفىء بصوت أوطأ:
- أحياناً أحس أنها غرفة ضيقة جداً. جربت أن أعزف لحناً ببطء.. ضربة واحدة على الوتر.. ضربة قوية متكررة.. تنطلق عالية وضخمة.. كخطوات ثقيلة على بلاط سرداب.. هل سمعت الضربة على الوتر كم هي قوية عندما تتكرر وتتكرر? بقيت مدة طويلة أضرب على الوتر الواحد.. وتر يغوص في اللحم بلحن قاطع.. كانت الضربة ترتد عن الجدران، كما لو كنت في غرفة أكثر ضيقاً من صندوق صغير.. كل وتر رجل أعمى أو امرأة عمياء.. مجوفان مشدودان متربصان.. وعندما نضرب الأوتار كلها تتحرك كومة العميان وتغادر صندوق العود في دمدمة وضجيج.. ثم تغادر الغرفة إلى الشوارع فيبتلعها الليل. ولكن الضرب على وتر واحد فقط يدعو للرقص صبية عمياء واحدة.. لدنة وطيعة.. تنتقل في دورات مدربة بين مجموعة العميان القابعين في صندوق الآلة صامتين كالأصنام. وقد تغادر الراقصة العمياء الصندوق ولكنها لا تبتعد كثيراً عنه لأنها مشدودة إلى من يملك مصيرها بخيط دقيق قوي يجذبها بواسطته في آخر الرقصة إلى مكانها بين العميان.. هذه فكرتي عن ضرب الوتر الواحد.. أما زال في المقهى أحد? لا أعتقد أن أحداً غيرنا فيه.. لا أسمع صوتاً.. هذا اللحم لا أظنه قد طبخ طبخاً كافياً.. كم هو الوقت الآن? لابد أن يخبرنا أحد بالوقت..
وما يزال الأعمى الذي يواجه النافذة يقتفي أثر النزيل الأخير: (اعتاد هذا النزيل عد درجات السلم في صعوده - عشرون درجة - كما اعتاد، خاصة في الليالي الأخيرة، أن يتمهل عند منتصف السلم، ثم يتوقف على الدرجة العاشرة التي تلتحم عندها أطراف الضوء القادم من أعلى السلم بأطراف الضوء المتسرب من أسفل السلم، ويتكىء على الحائط. في منطقة الظل هذه، كما اعتاد في الليالي الأخيرة، وكما يفعل الآن، يفتح أزرار قميصه، ويجس برأس إصبعه مرتفعاً داكناً مدبباً في أعلى صدره: جسماً صلباً، ينبض. بعدئذ يستمر في صعوده الملتوي. وعندما يدخل غرفته، الأولى على اليمين، يقترب من سريره في الظلام، ويقف للحظات متردداً في كشف سره الصغير النابض على صدره. يتفحص وجوه النزلاء الراقدين، ويبدأ بخلع ملابسه حذراً..).
يقول الأعمى المنحني على منضدته:
- لا أعتقد أن اللحم كان مطبوخاً طبخاً كافياً.. وبعد لحظة توقف - جعلتني ألتفت نحوهما - يستمر في الكلام:
- من يرانا هكذا ونحن نتلازم ليلاً ونهاراً يظننا أخوين.. ونحن نمشي معاً أو يسند أحدنا الآخر.. نحمل آلتي العود.. سيعتقدون أننا محظوظان لأننا نعمل في ملهى.. ليالي بهجة صاخبة بالموسيقى.. ليل لا ينتهي بالنسبة للعاملين في الملاهي.. ربما كانت لكل منا علاقة وثيقة بإحدى الراقصات.. وجبات عشاء وكلمات رقيقة لا بدافع الشفقة وإنما بقوة الفن الأعمى، قوة الخيال الموسيقي الأسود.. الكثير الكثير من الأغاني واللذات القاتلة والانتهاكات التي لا حدود لها.. والقليل القليل من الحيل والدنايا.. لا بأس في ذلك.. وأحياناً الدوار الذي يطرح أرضاً.. والطبل الذي يضج في الرأس.. والتعب الشديد.. لا بأس.. والقذارات أحياناً..
وختم الأعمى كل ذلك بضحكة قصيرة جافة.. في حين يتابع الأعمى الساكن نزيله الأخير عبر ظلام النافذة المطفأة المواجهة: (ينمو ذلك الشيء، ويجلس على صدر النزيل كحيوان كثيف الشعر، صامت، ويأخذ بلحس وجه النزيل بلسانه، ثم يقفز قفزة غير محسوسة ويترك في مكانه فوهة مظلمة. يعتدل النزيل في سريره، ويتفحص الغرفة، إنها غرفة غير منتظمة، لها زاوية خامسة تميل باتجاهها الأسرة والجدران والسقف. يجعله هذا الميل ينهض باحتراس شديد كي لا يتزحزح سريره فيهوي نحو الزاوية الزائدة، ويتناول من منضدة وسط الغرفة جرة ماء بلاستيكية ويضع فوهتها على فمه. يرى من النافذة أجزاء من أسيجة وسطوح وشقاً عميقاً لسماء. يخرج النزيل إلى الممر، ويرد الباب في اصطفاق لم يستطع كتمه. يتوقف خلف الباب وينصت: الخطوات المتأخرة في السكون، واصطفاق الباب ستخلخل ثبات الأسّرة وستنجرف فتتكوم فوق بعضها في الزاوية المنحدرة. ولكن هذا الانهيار لن يقلق نزلاء الغرفة، فما زالت الوجنات المرتخية، البشرات الدهنية، تستريح على نعومة الوسائد، والأيدي تنحصر بين الأفخاذ أو ترتخي على الصدور تخنق النبضات الخافتة: هؤلاء أخوة الغرفة، غائبون الآن، لا يتوقعون اقتحام كلاب مطاردة تقبل من السطوح وتلجأ إلى أفرشتهم، ولا يخطر ببالهم لصوص قادمون للتو من الضواحي، ولا تفزعهم صفعات وزمجرات شحاذات هرمات يسحبنهم من أسرتهم ويقذفنهم خارجاً. يتحرك النزيل، ثم يتبع ظله نحو نهاية الممر. الأبواب مواربة، على الجانبين. الغرف التي على اليمين مرقمة من 1-6 ابتداء من غرفة النزيل، تقابلها في الجهة الأخرى غرف مرقمة من 7-12، وكانت الغرفة الوحيدة غير المرقمة تقع في نهاية الممر، لعلها اتخذت مخزناً. الممر يتفرع في نهايته إلى فرعين يقودان إلى دورات المياه. هناك مرايا تعلو أحواض الاغتسال، في باحة صغيرة تحتوي كذلك على مباول جدارية واطئة احتبس في بعضها بول معتم الصفرة ألقيت فيه أعقاب السجائر. يغسل النزيل يديه ووجهه ثم يجففهما بذيل قميص بجامته. وعندها يزيح طرفي القميص أمام إحدى المرايا، تطل الثمرة الحمراء معلقة بأضلاع صدره، تطفو على البشرة الصفراء الشاحبة، تنبض، تنمو، ملساء ناضجة، ذات رأس مدبب. يتأملها جيداً.. بعد قليل سينطلق هذا (الشيء) كحيوان صغير، غير محسوس، ويترك مكانه فوهة مظلمة، ويبدأ نزهته الليلية الاعتيادية في الشوارع والساحات والجسور وبراميل القمامة، ثم يعود فجراً فيطرق أضلاع النزيل ويلتصق بها. عاد النزيل إلى غرفته.. النزلاء يبدون من الأبواب المواربة، نائمين في ضوء خافت، تدفع أقدامهم الأغطية الخفيفة إلى أطراف الأسرة. يتململون، يتقلبون، ويئنون في صراع عنيف ضد حيواناتهم الكثيفة الشعر الجاثمة على صدورهم، وكانت أحذيتهم وأخفافهم التي تركوها تحت الأسرة تعدو في غرفهم وتحدث ضجيجاً. وفي صراعهم، تنحسر ثيابهم عن أفخاذهم. أفواههم مفتوحة، إلا أنها قد تنطبق بين حين وآخر فتصطك أسنانهم كالمناشير وتزمجر. وكان بعضهم يستيقظ مبهوراً، يكاد يختنق بسعال جاف يشبه النباح.. يتوقف النزيل أمام باب غرفته، في أول الممر، منصتاً، ثم يدفع الباب بهدوء ويدخل. يجلس على حافة فراشه، ويتفحص شركاءه الهادئين في رقادهم. يتمدد ويسحب الغطاء عليه. وقبل أن يغفو يتسرب إلى رأسه خطو أقدام تعدو).
كنت أهم بمغادرة المقهى، وتلفتُّ باحثاً عن القهوجي، إلا أنني تريثت. كان الأعمى يسترسل في كلامه، متردياً في ظلام سحيق:
- لا بد أن يخبرنا أحد بالوقت.. هل نذهب? الوقت في صالحنا. كله ليل. كله ظلام. كله يقظة. كله صمت. كله هبوط. كله تعرج. كله ثقل. كله يقظة. كله نوم. هل نذهب? غرفتنا لا تبعد كثيراً عن المقهى. الدربونة الثالثة إلى اليسار، بعد الدربونة الثانية من اليمين، وقبل ذلك بالطبع الدربونة الأولى المتفرعة عن الدربونة القصيرة التي
تتفرع من السوق.. إننا نعرف طريقنا.. الدرابين وجدرانها تقود خطواتنا.. هناك منخفض أشبه بحفرة ماء أو فتحة خزان بالوعة.. لسنا متأكدين.. وعلى بعد خطوات برميل كبير فارغ دائماً.. عادة تصطدم واحدة من عصوينا به.. ترن.. لم يعد ذلك يفزعنا أو يضللنا.. ولا شك أنهم خلف الأبواب يسمعون العصا المرتطمة.. خلف الباب الأول أسمع صوت عجوز يسعل أو يتشكى من ألم ما.. كما أسمع ماكنة خياطة خلف الباب الثاني.. أما الباب الثالث فيكتم نباح جرو يبدو محبوساً في وجاره أو مقيداً بسلسلة تحت السلم.. ذلك العجوز خلف أول باب أظنه أصم، أو ربما مشلولاً كلياً على كرسيه وقد تقعر تحته، وهو يوجه نظرة ثابتة إلى شق في الجدار أمامه أو إلى صورة، إلى ظل شبح يرتسم أمامه.. شبحه هو عندما كان في سن الشباب، عندما كان عداء أو فارساً أو جندياً، ثم عندما أصبح جزاراً أو عربنجياً.. أما ذلك الجرو فهو يئن أكثر مما ينبح، كما لو أن شوكة تنعرز في راحة قدمه اللينة. ولا بد أنه حشر في جحر ضيق تطوق عنقه سلسلة وتزيد في خنقه كلما اندفع نحو رائحة أطفال العائلة وقد انسحبوا جميعهم إلى أفرشتهم.. وتصدر عن الباب الرابع أو الخامس أصوات شجار دائم وصياح أطفال. فهناك خلف أحد هذين البابين عائلة كبيرة عدد أفرادها عشرون أو ثلاثون.. هناك رجل يعمل بائعاً متجولاً، يبيع الشلغم المسلوق أو اللبلبي في عربة يدور بها على ورشات العمل ودور السينما.. أما الامرأة فهي زوجته التي تعمل فراشة في مدرسة أو منظفة شوارع.. ربما هناك زوجة ثانية أو ثالثة.. إنهم يعثرون دائماً على موضوع للشجار آخر النهار.. قسم من الأولاد يعملون صبَّاغي أحذية أو بائعي سيجاير أو عمالاً في معمل حدادة صغير، فهم يتحدثون عن النقود عادة.. الأولاد الباقون صغار، ينبغي إحاطتهم بعناية أكبر، فهم قذرون جداً.. ليست النظافة فقط.. مستواهم في الدروس كذلك.. وهزالهم وأشياء أخرى.. أحاديث تتقاطع وتضيع في صراخ لا يتوقف.. وتتضاءل هذه الأصوات كلما توغلنا.. وإذا كان هناك باب سادس أو سابع أو ثامن أو تاسع أو عاشر، فإن الحياة تنطفىء خلفها تماماً، ولا أعود أسمع إلا وقع عصوينا.. أو أنهم خلفها كانوا يسمعوننا قادمين فيسكتون حتى مرورنا.. ها هما الشبحان المتلازمان.. ويقول الأطفال في سرهم: سيرتطمان بشيء بارز فيتكومان في مجرى الزقاق.. أما النسوة فيتثاءبن وينهضن إلى الفراش ثم يحلمن بعميان مقرورين يطوفون من زقاق إلى زقزق بعد أن ضلوا الطريق إلى مأواهم.. ولكن الجدران كانت تنعطف وتقود خطواتنا إلى باب مأوانا الذي يقع في قعر الدربونة الأخيرة المسدودة.. لا يحتاج هذا الباب إلا لدفعة خفيفة لينفرج.. هكذا.. هل نذهب?
كنت قد عبرت ممر السوق متجهاً إلى مدخل الفندق المواجه للمقهى..
وأنا معتاد على إحصاء الدرجات. في منتصف السلم، الدرجة العاشرة، أتوقف في منطقة الظل. أسند ظهري إلى الحائط برهة، ثم أتابع صعودي، والسلم ينعطف بي ويضعني فجأة في فتحة ممر الحجرات. غرفتي هي الأولى على اليمين. وخطواتي التعبى تقودني إليها. أدفع الباب، وأتقدم في ظلام الغرفة نحو سريري ثم أجلس على حافته وابتدىء بنزع ثيابي، بينما أتفحص متثائباً وجوه النزلاء الذين يشاركونني الغرفة .
الشابان، جواري، أعميان، يغطيان تلك المنطقة المطفأة من وجهيهما، الحفر الفارغة، بنظارتين سوداوين، ويضع كل منهما عصاه على طرف من المنضدة. أحدهما يملك آلة عود ملفوفة بكيس قماش، أسندها إلى قوائم المنضدة بين قدميه. لا يجلسان متقابلين عبر المنضدة، بل يجلسان متعاكسين في الاتجاه على جانبي المنضدة، وبالوضع الذي يدير أحدهما فيه ظهره لممر السوق وينحني على المنضدة، والآخر يرفع رأسه بارتداد قليل إلى الوراء باتجاه النافذة الوحيدة المضاءة بين مجموعة نوافذ الفندق، أي بالاتجاه الذي أرقبه أنا بالتحديد، لا يأتي بحركة، مترقباً شعاعاً خارقاً، انعكاساً حاداً ينفذ عبر نظارتيه المظلمتين.
لقد اعتدت رؤيتهما في مثل هذا الوقت من كل مساء. وهما غالباً ما يجلسان في مثل هذا الوضع. ولا شك أنهما اكتشفا، بهواجسهما المعتمة، إني أرتاد هذا المقهى مثلهما، وإنى أجلس قربهما هذه اللحظة. لكني كنت أعلم، أكثر منهما، بمكان القهوجي في آخر المقهى، يجلس بجوار الموقد. كما كنت، أكثر منهما، واقعاً تحت سطوة المرآة التي تشغل جدار المقهى الخلفي بطوله، وهي تلتقط مؤخرات رؤوسنا الضائعة بين المقاعد الفارغة والمناضد والملصقات والأعلام التذكارية وأشكال السوق. كنت والمرآة الساطعة، العابقة ببخار طبخة الشاي الأخيرة نتبادل المراقبة، من خلال نافذة الفندق المضاءة المفتوحة فيها كعين زئبقية مسلطة على ظهري.
كان الأعميان يتحدثان، أحدهما يتحدث، الأعمى الذي ينحني على المنضدة، حديثاً متصلاً:
- وهكذا.. في فترات معينة.. في فترات انحطاطي تلك.. أبقى في فراشي يوماً كاملاً وحتى يومين من دون إتيان أي عمل سوى تقليب جسدي من جانب لآخر، من طرف السرير للحائط ومن الحائط لطرف السرير.. أنهض قليلاً، ثم أدع جسمي يسقط.. ثم أعود إلى التقلب ولا أفعل شيئاً سوى سحب ثيابي التي تتكوم تحتي وتعرقل حركتي في سريري. وبالأمس نمت النهار بطوله.. ولو أنك لم توقظني لنمت النهار هذا كله أيضاً.. هل تدري ? في الحقيقة أحسست باقترابك مني وانحنائك وتوقعت يدك التي ظلت تتلمس طريقها إلى كتفي.. حسناً فعلت آخر الأمر.. فلولاك لبقيت نائماً هذا النهار كله أيضاً..
كان الأعمى الآخر جامداً باتجاه النافذة المفتوحة المضاءة بين صفوف النوافذ التي هبطت مصاريعها الخشبية المخرمة، وتؤلف كلها واجهة الفندق المطلة على السوق والمقهى. كما يتسلل النور من ثقوب مصاريع هابطة لثلاث نوافذ مجاورة للنافذة المفتوحة. هذه النوافذ الأربع لغرفة أمامية واحدة، تقع على الجانب الأيمن من مدخل الفندق. وكان هناك عدد مماثل من النوافذ المطفأة على الجانب الآخر. تفضح النافذة المفتوحة محتويات الغرفة: مشجب ملابس، قمة مرآة، سقف خشبي، ثم نصف قامة رجل يرتدي فانيلة وإزاراً حول وسطه. وضع الرجل سيجارة كانت بين أصابعه على حافة النافذة، وهم بنزع فانيلته. اختفت ذراعا الرجل المرفوعتان خلف إطار النافذة في محاولة لتخليصهما من علاقات الفانيلة. انكمش جلد صدره على الأضلاع البارزة، وتشنج بطنه المضغوط الهابط. ومن هنا، كنت أرى أخاديد صدره الأملس الشاحب وشعر إبطيه وحلمتى ثدييه والبقع البنية والحروق والسرة الغائرة. كتلة حشرية، مصلوبة في إطار النافذة. انحنى الرجل إلى الأمام في محاولة أخيرة للإفلات، ثم طوح بفانيلته إلى مكان ما في الغرفة، ونشر إزاره على حافة النافذة، بعد أن تناول سيجارته منها وابتعد داخل الغرفة. لم يظهر بعد ذلك في الإطار إلا للحظات خاطفة: وهو يعبر الغرفة، أو هو يجلس. كانت حركاته المجهولة تطوح بأجزاء ناقصة من أعلى كتفيه وصدره وظهره، ينحني أو يستدير أو يجلس أو يقف. وعندما غابت القطع المبتورة الخاطفة لرجل الغرفة، استلفت انتباهي مشجب الملابس مكتظاً بالقمصان والسراويل والمناشف. فجأة ينطفىء الضوء في الغرفة، وتظلم النوافذ: ربما أوى الرجل إلى فراشه.
يستمر الأعمى المنكفىء على المنضدة:
- عادة أحس بفراغ كبير في رأسي. ويتعاظم هذا الفراغ بعد نوم طويل.. فراغ مريح كان يدفع جدران رأسي دفعاً خفيفاً مستمراً.. وكان لكل حركة صدى شديد الوضوح فيه.. وعند من فقد البصر فإن هذا الصدى يغدو دوياً وصفيراً عاليين. وهكذا كان باستطاعتي الترقب الشديد والتقاط أوطأ الأصوات من حولي وتعيين مصادرها. كما كان بإمكاني تخيل الحركات المتكونة في الظلام وهي تنتقل زاحفة نحوي كسرب من الهوام.. نعم.. أدق الأشياء.. تختلط في رأسي وتتوحد بدويّ متصل واحد.. كما تختلط الألحان وآلة الكمان في إيقاع واحد، وذراعا الراقصة والصاجات في رقصة واحدة.. الظلام والصمت في غرفة واحدة.. في صفير متصل واحد.. وأنا أيضاً وأنت في غرفة واحدة.. آلاف الأقدام الترابية والمجسات المتذبذبة أسمعها تزحف نحو فراشي.. وفي ذهول كنت أستقبلها مهيئاً لها جسدي المرتعش كجوف شجرة.. كحفرة رملية واسعة.. وتمضي لحظات قلقة أحس بعدها بالامتلاء بالأشياء المجهولة الصامتة الخفيفة.. وأعود للنوم.. أهو نوم? لست أدري بالضبط إن كان نوماً ذلك السقوط البطيء إلى الوراء.. آلام الرقبة.. السقف الثقيل.. الانحشار في صندوق ضيق مفروش بالنفايات..
بينما يتابع الأعمى الذي يرفع وجهه نحو النافذة المطفأة آخر نزيل صعد سلم الفندق إلى غرفته: (يتمهل النزيل في منتصف السلم. السلم المظلم عادة. ثم يستمر في صعوده متحسساً الجدار، وهو يعد مع نفسه الدرجات المتبقية كي يصل إلى الطابق العلوي. بعد المنتصف ينعطف السلم ويضع النزيل فجأة في فتحة ممر طويل تقع على جانبيه حجرات النزلاء. الغرفة الأولى على اليمين. يفتح الباب ويتقدم في ظلام الغرفة نحو سريره ثم يجلس على حافته ويبدأ بنزع ثيابه، فيما يتفحص متثائباً وجوه شركائه في الغرفة..).
ويمضي الأعمى المنحني على المنضدة:
- أحياناً يحدث هذا.. أصحو بغتة.. أصحو وكأنني لم أكن نائماً قط.. وأجلس في فراشي.. أقصد أدلي قدمي من الفراش وأجلس على حافته، وأنصت إلى وقع ذلك الشيء الذي أوقظني.. أقصد العصا بالطبع.. كما أظن.. العصا لوحدها تمشي في الغرفة.. إني متأكد من أن أحداً أو شيئاً يمشي في الغرفة.. هو والعصا. أمد يدي إلى حيث أضع عصاي عادة جنب السرير.. أمدّ يدي لكني لا أجدها في مكانها، العصا تكون بالطبع تنتقل في خطوات متمهلة.. بالطبع يكون الخطو قد انقطع.. حين أصحو تكون العصا قد توقفت. إني أسمع العصا لأني لم أتخلص من قيود النوم كلياً.. أمد يدي لأنهض ولكني لا أجد عصايَ. أنحني لأبحث عن نعلي فأنا أريد الذهاب للمرحاض.. وأمد يدي وأنحني فيصطدم رأسي بشيء.. أعتقد بمنضدة.. قلت إن الأثاث قليل في الغرفة، لا يوجد أثاث، إنها خالية، ثم أنهض بلا عصا وأبحث عن باب الغرفة، ومع أنني أعثر على الباب فإنني لا أخرج. أرجع إلى مكاني وأجلس على السرير وأنصت. إنني لا أستطيع المشي بلا عصا. هذه لعنتنا.. الدرج وفتحة المرحاض، والأرض الهشة التي ستنهار، الأجزاء الرطبة التي ينبغي تجنبها وعدم الدوس عليها.. هل
كنت موجوداً في الغرفة? اعتقدت أنك أنت الذي يمشي مستهدياً بعصاك.. هل سمعتني عندما قلت: من هذا? ومع ذلك لم يجب أحد. ثم انقطع الخطو تماماً. هل رجعت إلى سريرك? نعم.. نسيت سريرك في الجانب الآخر من الغرفة. إذن هناك بالإضافة إلى سريري سريرك والمنضدة.. هل توجد أشياء أخرى في غرفتنا? كلا لا يوجد شيء كما أعتقد. كم تقدر عدد الخطوات بين سريرينا? هل جربت إحصاءها? أنا جربت يوماً.. خمس وعشرون خطوة.. هل تتصور كم هي واسعة غرفتنا? غرفة واسعة بالطول فقط.. أحياناً أحس بأني سأخطو مائة خطوة قبل أن أصل إلى الطرف الآخر منها، ومع ذلك فأنا لا أفعل ذلك.. غرفة خالية.. هكذا.. كما أظن..
تلي واجهة الفندق المقابلة للمقهى واجهات خشبية متجاورة ذات شبابيك تغطيها مظلات منفصلة، تليها واجهات بشبابيك ذات مظلات متصلة. ثم لا ترى الواجهات التالية لأنها تنعطف مع ممر السوق، وتقطعها الأزقة. ولكني أتخيل الواجهات المختفية المتشابهة كالآتي: مستطيلات شبابيك بلا مظلات، ثم مستطيلات شبابيك بمظلات منفصلة، فمستطيلات شبابيك بمظلات متصلة، وهكذا، وسطوح مسيجة، وسطوح طليقة، وأزقة ضيقة متعرجة، وظلام خشبي، ثم ظلام مائي، وظلام أصفر.. وهكذا..
يقول الأعمى المنكفىء بصوت أوطأ:
- أحياناً أحس أنها غرفة ضيقة جداً. جربت أن أعزف لحناً ببطء.. ضربة واحدة على الوتر.. ضربة قوية متكررة.. تنطلق عالية وضخمة.. كخطوات ثقيلة على بلاط سرداب.. هل سمعت الضربة على الوتر كم هي قوية عندما تتكرر وتتكرر? بقيت مدة طويلة أضرب على الوتر الواحد.. وتر يغوص في اللحم بلحن قاطع.. كانت الضربة ترتد عن الجدران، كما لو كنت في غرفة أكثر ضيقاً من صندوق صغير.. كل وتر رجل أعمى أو امرأة عمياء.. مجوفان مشدودان متربصان.. وعندما نضرب الأوتار كلها تتحرك كومة العميان وتغادر صندوق العود في دمدمة وضجيج.. ثم تغادر الغرفة إلى الشوارع فيبتلعها الليل. ولكن الضرب على وتر واحد فقط يدعو للرقص صبية عمياء واحدة.. لدنة وطيعة.. تنتقل في دورات مدربة بين مجموعة العميان القابعين في صندوق الآلة صامتين كالأصنام. وقد تغادر الراقصة العمياء الصندوق ولكنها لا تبتعد كثيراً عنه لأنها مشدودة إلى من يملك مصيرها بخيط دقيق قوي يجذبها بواسطته في آخر الرقصة إلى مكانها بين العميان.. هذه فكرتي عن ضرب الوتر الواحد.. أما زال في المقهى أحد? لا أعتقد أن أحداً غيرنا فيه.. لا أسمع صوتاً.. هذا اللحم لا أظنه قد طبخ طبخاً كافياً.. كم هو الوقت الآن? لابد أن يخبرنا أحد بالوقت..
وما يزال الأعمى الذي يواجه النافذة يقتفي أثر النزيل الأخير: (اعتاد هذا النزيل عد درجات السلم في صعوده - عشرون درجة - كما اعتاد، خاصة في الليالي الأخيرة، أن يتمهل عند منتصف السلم، ثم يتوقف على الدرجة العاشرة التي تلتحم عندها أطراف الضوء القادم من أعلى السلم بأطراف الضوء المتسرب من أسفل السلم، ويتكىء على الحائط. في منطقة الظل هذه، كما اعتاد في الليالي الأخيرة، وكما يفعل الآن، يفتح أزرار قميصه، ويجس برأس إصبعه مرتفعاً داكناً مدبباً في أعلى صدره: جسماً صلباً، ينبض. بعدئذ يستمر في صعوده الملتوي. وعندما يدخل غرفته، الأولى على اليمين، يقترب من سريره في الظلام، ويقف للحظات متردداً في كشف سره الصغير النابض على صدره. يتفحص وجوه النزلاء الراقدين، ويبدأ بخلع ملابسه حذراً..).
يقول الأعمى المنحني على منضدته:
- لا أعتقد أن اللحم كان مطبوخاً طبخاً كافياً.. وبعد لحظة توقف - جعلتني ألتفت نحوهما - يستمر في الكلام:
- من يرانا هكذا ونحن نتلازم ليلاً ونهاراً يظننا أخوين.. ونحن نمشي معاً أو يسند أحدنا الآخر.. نحمل آلتي العود.. سيعتقدون أننا محظوظان لأننا نعمل في ملهى.. ليالي بهجة صاخبة بالموسيقى.. ليل لا ينتهي بالنسبة للعاملين في الملاهي.. ربما كانت لكل منا علاقة وثيقة بإحدى الراقصات.. وجبات عشاء وكلمات رقيقة لا بدافع الشفقة وإنما بقوة الفن الأعمى، قوة الخيال الموسيقي الأسود.. الكثير الكثير من الأغاني واللذات القاتلة والانتهاكات التي لا حدود لها.. والقليل القليل من الحيل والدنايا.. لا بأس في ذلك.. وأحياناً الدوار الذي يطرح أرضاً.. والطبل الذي يضج في الرأس.. والتعب الشديد.. لا بأس.. والقذارات أحياناً..
وختم الأعمى كل ذلك بضحكة قصيرة جافة.. في حين يتابع الأعمى الساكن نزيله الأخير عبر ظلام النافذة المطفأة المواجهة: (ينمو ذلك الشيء، ويجلس على صدر النزيل كحيوان كثيف الشعر، صامت، ويأخذ بلحس وجه النزيل بلسانه، ثم يقفز قفزة غير محسوسة ويترك في مكانه فوهة مظلمة. يعتدل النزيل في سريره، ويتفحص الغرفة، إنها غرفة غير منتظمة، لها زاوية خامسة تميل باتجاهها الأسرة والجدران والسقف. يجعله هذا الميل ينهض باحتراس شديد كي لا يتزحزح سريره فيهوي نحو الزاوية الزائدة، ويتناول من منضدة وسط الغرفة جرة ماء بلاستيكية ويضع فوهتها على فمه. يرى من النافذة أجزاء من أسيجة وسطوح وشقاً عميقاً لسماء. يخرج النزيل إلى الممر، ويرد الباب في اصطفاق لم يستطع كتمه. يتوقف خلف الباب وينصت: الخطوات المتأخرة في السكون، واصطفاق الباب ستخلخل ثبات الأسّرة وستنجرف فتتكوم فوق بعضها في الزاوية المنحدرة. ولكن هذا الانهيار لن يقلق نزلاء الغرفة، فما زالت الوجنات المرتخية، البشرات الدهنية، تستريح على نعومة الوسائد، والأيدي تنحصر بين الأفخاذ أو ترتخي على الصدور تخنق النبضات الخافتة: هؤلاء أخوة الغرفة، غائبون الآن، لا يتوقعون اقتحام كلاب مطاردة تقبل من السطوح وتلجأ إلى أفرشتهم، ولا يخطر ببالهم لصوص قادمون للتو من الضواحي، ولا تفزعهم صفعات وزمجرات شحاذات هرمات يسحبنهم من أسرتهم ويقذفنهم خارجاً. يتحرك النزيل، ثم يتبع ظله نحو نهاية الممر. الأبواب مواربة، على الجانبين. الغرف التي على اليمين مرقمة من 1-6 ابتداء من غرفة النزيل، تقابلها في الجهة الأخرى غرف مرقمة من 7-12، وكانت الغرفة الوحيدة غير المرقمة تقع في نهاية الممر، لعلها اتخذت مخزناً. الممر يتفرع في نهايته إلى فرعين يقودان إلى دورات المياه. هناك مرايا تعلو أحواض الاغتسال، في باحة صغيرة تحتوي كذلك على مباول جدارية واطئة احتبس في بعضها بول معتم الصفرة ألقيت فيه أعقاب السجائر. يغسل النزيل يديه ووجهه ثم يجففهما بذيل قميص بجامته. وعندها يزيح طرفي القميص أمام إحدى المرايا، تطل الثمرة الحمراء معلقة بأضلاع صدره، تطفو على البشرة الصفراء الشاحبة، تنبض، تنمو، ملساء ناضجة، ذات رأس مدبب. يتأملها جيداً.. بعد قليل سينطلق هذا (الشيء) كحيوان صغير، غير محسوس، ويترك مكانه فوهة مظلمة، ويبدأ نزهته الليلية الاعتيادية في الشوارع والساحات والجسور وبراميل القمامة، ثم يعود فجراً فيطرق أضلاع النزيل ويلتصق بها. عاد النزيل إلى غرفته.. النزلاء يبدون من الأبواب المواربة، نائمين في ضوء خافت، تدفع أقدامهم الأغطية الخفيفة إلى أطراف الأسرة. يتململون، يتقلبون، ويئنون في صراع عنيف ضد حيواناتهم الكثيفة الشعر الجاثمة على صدورهم، وكانت أحذيتهم وأخفافهم التي تركوها تحت الأسرة تعدو في غرفهم وتحدث ضجيجاً. وفي صراعهم، تنحسر ثيابهم عن أفخاذهم. أفواههم مفتوحة، إلا أنها قد تنطبق بين حين وآخر فتصطك أسنانهم كالمناشير وتزمجر. وكان بعضهم يستيقظ مبهوراً، يكاد يختنق بسعال جاف يشبه النباح.. يتوقف النزيل أمام باب غرفته، في أول الممر، منصتاً، ثم يدفع الباب بهدوء ويدخل. يجلس على حافة فراشه، ويتفحص شركاءه الهادئين في رقادهم. يتمدد ويسحب الغطاء عليه. وقبل أن يغفو يتسرب إلى رأسه خطو أقدام تعدو).
كنت أهم بمغادرة المقهى، وتلفتُّ باحثاً عن القهوجي، إلا أنني تريثت. كان الأعمى يسترسل في كلامه، متردياً في ظلام سحيق:
- لا بد أن يخبرنا أحد بالوقت.. هل نذهب? الوقت في صالحنا. كله ليل. كله ظلام. كله يقظة. كله صمت. كله هبوط. كله تعرج. كله ثقل. كله يقظة. كله نوم. هل نذهب? غرفتنا لا تبعد كثيراً عن المقهى. الدربونة الثالثة إلى اليسار، بعد الدربونة الثانية من اليمين، وقبل ذلك بالطبع الدربونة الأولى المتفرعة عن الدربونة القصيرة التي
تتفرع من السوق.. إننا نعرف طريقنا.. الدرابين وجدرانها تقود خطواتنا.. هناك منخفض أشبه بحفرة ماء أو فتحة خزان بالوعة.. لسنا متأكدين.. وعلى بعد خطوات برميل كبير فارغ دائماً.. عادة تصطدم واحدة من عصوينا به.. ترن.. لم يعد ذلك يفزعنا أو يضللنا.. ولا شك أنهم خلف الأبواب يسمعون العصا المرتطمة.. خلف الباب الأول أسمع صوت عجوز يسعل أو يتشكى من ألم ما.. كما أسمع ماكنة خياطة خلف الباب الثاني.. أما الباب الثالث فيكتم نباح جرو يبدو محبوساً في وجاره أو مقيداً بسلسلة تحت السلم.. ذلك العجوز خلف أول باب أظنه أصم، أو ربما مشلولاً كلياً على كرسيه وقد تقعر تحته، وهو يوجه نظرة ثابتة إلى شق في الجدار أمامه أو إلى صورة، إلى ظل شبح يرتسم أمامه.. شبحه هو عندما كان في سن الشباب، عندما كان عداء أو فارساً أو جندياً، ثم عندما أصبح جزاراً أو عربنجياً.. أما ذلك الجرو فهو يئن أكثر مما ينبح، كما لو أن شوكة تنعرز في راحة قدمه اللينة. ولا بد أنه حشر في جحر ضيق تطوق عنقه سلسلة وتزيد في خنقه كلما اندفع نحو رائحة أطفال العائلة وقد انسحبوا جميعهم إلى أفرشتهم.. وتصدر عن الباب الرابع أو الخامس أصوات شجار دائم وصياح أطفال. فهناك خلف أحد هذين البابين عائلة كبيرة عدد أفرادها عشرون أو ثلاثون.. هناك رجل يعمل بائعاً متجولاً، يبيع الشلغم المسلوق أو اللبلبي في عربة يدور بها على ورشات العمل ودور السينما.. أما الامرأة فهي زوجته التي تعمل فراشة في مدرسة أو منظفة شوارع.. ربما هناك زوجة ثانية أو ثالثة.. إنهم يعثرون دائماً على موضوع للشجار آخر النهار.. قسم من الأولاد يعملون صبَّاغي أحذية أو بائعي سيجاير أو عمالاً في معمل حدادة صغير، فهم يتحدثون عن النقود عادة.. الأولاد الباقون صغار، ينبغي إحاطتهم بعناية أكبر، فهم قذرون جداً.. ليست النظافة فقط.. مستواهم في الدروس كذلك.. وهزالهم وأشياء أخرى.. أحاديث تتقاطع وتضيع في صراخ لا يتوقف.. وتتضاءل هذه الأصوات كلما توغلنا.. وإذا كان هناك باب سادس أو سابع أو ثامن أو تاسع أو عاشر، فإن الحياة تنطفىء خلفها تماماً، ولا أعود أسمع إلا وقع عصوينا.. أو أنهم خلفها كانوا يسمعوننا قادمين فيسكتون حتى مرورنا.. ها هما الشبحان المتلازمان.. ويقول الأطفال في سرهم: سيرتطمان بشيء بارز فيتكومان في مجرى الزقاق.. أما النسوة فيتثاءبن وينهضن إلى الفراش ثم يحلمن بعميان مقرورين يطوفون من زقاق إلى زقزق بعد أن ضلوا الطريق إلى مأواهم.. ولكن الجدران كانت تنعطف وتقود خطواتنا إلى باب مأوانا الذي يقع في قعر الدربونة الأخيرة المسدودة.. لا يحتاج هذا الباب إلا لدفعة خفيفة لينفرج.. هكذا.. هل نذهب?
كنت قد عبرت ممر السوق متجهاً إلى مدخل الفندق المواجه للمقهى..
وأنا معتاد على إحصاء الدرجات. في منتصف السلم، الدرجة العاشرة، أتوقف في منطقة الظل. أسند ظهري إلى الحائط برهة، ثم أتابع صعودي، والسلم ينعطف بي ويضعني فجأة في فتحة ممر الحجرات. غرفتي هي الأولى على اليمين. وخطواتي التعبى تقودني إليها. أدفع الباب، وأتقدم في ظلام الغرفة نحو سريري ثم أجلس على حافته وابتدىء بنزع ثيابي، بينما أتفحص متثائباً وجوه النزلاء الذين يشاركونني الغرفة .