محمود درابسه - ظاهرة الغموض بين عبد القاهر الجرجاني والسجلماسي

ملخص البحث
يتناول هذا البحث ظاهرة الغموض بوصفه جوهر النص الابداعي وأساسه. حيث يتجسد هذا الغموض من خلال أساليب البلاغة التي تجعل من النص الابداعي نصاً إبداعياً يتميز عن غيره من الكلام.
وقد تناول البحث هذه الظاهرة الفنية من خلال ناقدين هما: عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) وأبو محمد القاسم السجلماسي (ت. القرن الثامن الهجري) .
وقد انقسم البحث إلى ما يلي:
أولاً - إضاءة: الغموض مفهوماً ومصطلحاً.
ثانياً - عناصر الغموض:
1. عناصر الغموض عند عبد القاهر الجرجاني.
2. عناصر الغموض عند السجلماسي.
ثالثاً - الغموض والمتلقي.

أولاً - إضاءة: الغموض مفهوماً ومصطلحاً.
أشارت المعاجم العربية القديمة إلى الغموض من خلال استخداماته اللغوية المختلفة، فالغموض في اللغة مصدر من غمض (بفتح الميم وضمها) وكل ما لم يصل إليك واضحاً فهو غامض، ولذلك فالغامض من الكلام خلاف الواضح، كما يقال للرجل الجيد الرأي: قد اغمض النظر. والمسألة الغامضة: هي المسألة التي فيها دقة ونظر. ومعنى غامض: لطيف (1) .
كما يحمل مصطلح الغموض (Ambiguty) في المعاجم الإنجليزية المعاصرة معنى اللغة المجازية (Figurative ********) أو تعدد احتمالات المعنى، تلك اللغة التي تمثل المستوى الفني والجمالي المتصل بالدلالات والرموز المرتبطة بالأعمال الابداعية كالشعر مثلاً (2) .
فالغموض الذي يعنيه البحث هنا هو "ليس ذلك الذي يصعب فتح أقفاله وتخطي أسواره ليصل إلينا، بل هو السمة الطبيعية الناجمة عن آلية عمل القصيدة العربية وعناصرها المكونة من جهة، وعن جوهر الشعر الذي هو انبثاق متداخل من تضافر قوات عدة من الشعور والروح والعقل متسترة وراء اللحظة الشعرية" (3) .
والغموض المعني هنا هو ما شدك إلى حوار معه، واستفز مشاعرك وعقلك من خلال غموض عباراته وصوره وموسيقاه، إذ يتجسد الغموض في ثراء النص الابداعي، وتعدد دلالاته وقراءاته، مما يخلق نوعاً من اللذة الحسية والذهنية تجاه خبايا النص واللامتوقع أو اللامنتظر في صوره وجمالياته الفنية. وهذه الحال تخلق نوعاً من التواصل والألفة بين النص والقارئ الذي يتلقى النص، ويشعر أنه بحاجة إليه مهما كان غامضاً ليطفئ من خلاله لهيب مشاعره، وطموحه الذهني.
ولذا، فإن الغموض له دلالتان: دلالة جمالية يكون الغموض بموجبها فنا، ودلالة لغوية يكون فيها إبهاماً وتعمية. وبهذا المفهوم يشكل الغموض ظاهرة فنية مرتبطة بالفن الإنساني، وبالفنان المبدع، مما يجعل المتلقي لهذا العمل الفني بحاجة حسية وفكرية ماسة من أجل فك رموز العمل الفني، وتفسير دلالاته، وتحديد قراءاته، لكي يقف المتلقي على طبيعة العمل الفني وجوهره، وهذه الحال تشكل قمة اللذة الحسية والذهنية عند المتلقي، كما أنها تجسد غاية المبدع وهدفه، وهذا هو سر النص الابداعي، وجوهر وجوده.
وقد نال مصطلح الغموض من القلق والاضطراب أكثر من أي مصطلح نقدي آخر لارتباطه بجوهر العمل الابداعي من حيث المبدع والنص والمتلقي. ويعود هذا القلق والاضطراب في تحديد مصطلح الغموض إلى تعدد مستوى درجاته، وإلى الاختلاف في تحديد مفهومه، ومعرفة غايته وأهميته، كما تعود اشكالية تحديد مصطلح الغموض إلى مرادفاته اللغوية الكثيرة مثل التعمية والإبهام والاستغلاق والألغاز وغيرها من التسميات التي ربما يضلل بعضها المتلقي في تقدير أهمية المصطلح ومفهومه ووظيفته (4) .
ولذلك، فإن حديث العلماء العرب القدماء عن "الغموض حديث مفرق متناثر في دراسات المفسرين والأصوليين واللغويين والنحاة والبلاغيين. كما كانت عناية القدماء بالتطبيق في دراستهم لهذه الظاهرة، أكثر من عنايتهم بالتنظير، كما هو شأنهم دائماً، ولكن الذي لا شك فيه أن ظاهرة الغموض بما لها من صلة ببنية الكلام قد لفتت أنظار القدماء منذ وقت مبكر، ولم يمنعهم إيمانهم العميق بإعجاز القرآن الكريم وقدسيته، من دراستها من خلال آياته، وقد استخدموا في الدلالة على ذلك مصطلحات كثيرة أشاروا بها إلى غموض المعنى ودرجات هذا الغموض مثل تعدد المعنى، وغير ذلك، سواء في القرآن الكريم أو الشعر، وتعددت هذه المصطلحات واختلفت اختلاف العلماء بين مفسرين ولغويين ونحاة وأصوليين وبلاغيين، وفي أحيان كثيرة كان المصطلح الواحد يتردد بأكثر من مفهوم في كل بيئة من هذه البيئات العلمية، ولكنها كانت تتفق جميعاً على خفاء المعنى أو عدم وضوحه أو تعدده، سواء في المفردات أو التراكيب" (5) .
وكذلك فقد تعددت عند العلماء العرب القدماء الأسباب التي عزوا إليها غموض المعنى، فكانت إما تعود الأسباب إلى البنية الصوتية للكلمة والكلام، أو تعقد التركيب النحوي، أو بعد الاستعارة والتشبيه واستغلاقهما، أو مخالفة قواعد عمود الشعر العربي (6) .
فقد استخدم سيبويه (ت 180هـ) مصطلح اللبس للدلالة على الغموض الناشئ عن وجود لفظ يحتمل أكثر من معنى أو دلالة أو تركيب يؤدي إلى الغموض. يقول سيبويه: "وينبغي لك أن تسأل عن خبر من هو معروف عنده (يقصد السامع) كما حدثته عن خبر من هو معروف عندك بالمعروف، وهو المبدوء به" (7) . ويقصد سيبويه هنا بأن الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة لكي يصح السؤال عنه، وإذا لم يكن كذلك وقع الغموض في الكلام، وترتب عليه عدم فهم السامع.
ولعل الآمدي (ت 370هـ) من أوائل النقاد العرب القدماء الذين استخدموا مصطلح الغموض في كتابه الموازنة بين أبي تمام والبحتري، حيث وصف شعر أبي تمام بالغموض والاستغلاق في المعاني والصور مقابل وصفه لشعر البحتري الذي يتسم بوضوح المعنى وقربه. يقول الآمدي: "فإن كنت…ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق فالبحتري أشعر عندك ضرورة. وإن كنت تميل إلى الصنعة، والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، ولا تلوي على غير ذلك فأبو تمام عندك أشعر لا محالة" (8) . ويقول كذلك بهذا الخصوص ناسباً أبا تمام إلى النزعة الفلسفية والتعقيد والغموض: "وذلك كمن فضل البحتري، ونسبه إلى حلاوة اللفظ، وحسن التخلص ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المآتي، وانكشاف المعاني، وهم الكتاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة، ومثل من فضل أبا تمام، ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورد، مما يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء أصحاب الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام" (9) .
ويكشف هذا الفهم للآمدي عن إدراكه لأهمية الغموض ووظيفته في الشعر، وذلك على الرغم من تفضيله للبحتري مقابل رفضه لشعر أبي تمام. إذ حدد الآمدي أسباب الغموض وعناصره في شعر أبي تمام، وعبر كذلك عن دهشته. إزاء الغموض ومفاجآته في شعر أبي تمام، وبذلك يكون الآمدي أول من وضع مصطلح الغموض الشعري أمام النقاد العرب القدماء.
وقد اتضح معنى الغموض وأهميته عند أبي اسحق الصابي (ت 384هـ) ، حيث حدد الفرق بين النثر والشعر، مبيناً أن النثر مجاله الوضوح في المعاني والألفاظ، وأما الشعر فمجاله الغموض، حيث يخلق الغموض في الشعر مفاجآت من خلال تعدد المعاني، والاحتمالات المختلفة في التفسير، وبهذا التعدد تتشكل اللذة الحسية والعقلية عند قارئ الشعر ومتلقيه. يقول أبو اسحق الصابي: "إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه. وأفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه" (10) .
كما كان لعمود الشعر الذي أرسى قواعده المرزوقي (ت 421هـ) في شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام دور سلبي على الشعر العربي، ولا سيما في الحركة النقدية حول أبي تمام، الشاعر المبدع. فقد حدد المرزوقي أركان عمود الشعر التي تنفي صفة الغموض، وعمق الاستعارة عن الشعر الجيد وتحبذ وتلزم الشاعر بضرورة اتباع الوضوح، وقرب التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، يقول: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف -ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات- والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما- فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر" (11).
ومن خلال هذا التصور عند المرزوقي، فقد لجأ إلى تفضيل النثر على الشعر، وقد عد سبب كثرة الشعراء إلى أن الشاعر يستطيع أن يؤدي شعره بكل ما فيه من غموض وخفاء وغرابة دون اهتمام بالوضوح في المعاني والألفاظ، وهذا يعد أمراً يحتاج إلى معاناة وجهد، ولذا فإن المترسلين يعانون في سبيل الوضوح في المعاني والألفاظ أكثر من الشعراء، وبهذا يكون الغموض سمة للضعف في الشعر. يقول: "وكان الشاعر يعمل قصيدته بيتاً بيتاً، وكل بيت يتقاضاه بالاتحاد، وجب أن يكون الفضل في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعر في تلطيفه. والأخذ من حواشيه، حتى يتسع اللفظ له، فيؤديه على غموضه وخفائه" (12) .
ولعل تسمية الغموض بهذا الاسم قد ترك أثراً سلبياً عند النقاد والبلاغيين العرب القدماء، مما جعلهم يستبدلونه بمرادفات أخرى لها نفس المضمون والمعنى، حيث أصبح الغموض ومرادفاته يجسد علامة للجودة وأساساً للشعرية الحقة. ولهذا فقد استخدم عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) مصطلح الغموض من خلال الإشارة إليه مباشرة أو من خلال تسميات تدل عليه مثل التوسع (13) ، والغرابة (14) ، ومعنى المعنى، حيث بين عبد القاهر الجرجاني أن الغموض يكمن في المعنى الثاني أو المستوى الفني المتمثل في العمل الأدبي سواء أكان نثراً أو شعراً. يقول: "الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلاً بالخروج على الحقيقة فقلت خرج زيد. وبالانطلاق عن عمرو فقلت: عمرو منطلق: وعلى هذا القياس. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل" (15) .
وفي ضوء ما سبق، فقد استقر مصطلح الغموض بتسمياته المختلفة عند عبد القاهر الجرجاني، وأصبح يجسد المستوى الفني للعمل الابداعي، بوصفه جوهر الشعر وأساسه.
كما ارتبط الغموض عند السلجماسي (ت القرن 8هـ) بتسميات مختلفة تجسد الجوانب الأسلوبية التي يستند النص الابداعي إليها، وتجعل من النص الابداعي نصاً إبداعيا، مثل: الكناية والإشارة والغرابة وغيرها (16) ، وعلاقة ذلك بالمتلقي، من حيث خلق اللذة والدهشة عنده على المستويين الحسي والعقلي.
وأما حضور مصطلح الغموض في النقد المعاصر، فيرجع الفضل فيه إلى الناقد والشاعر الإنجليزي وليام امبسون (William Empson - 1906) في كتابه المعروف سبعة أنماط من الغموض (Seven Types of Ambiguity) الذي نشره عام 1930م، حيث عرّف الغموض بقوله: كل ما يسمح لعدد من ردود الفعل الاختيارية إزاء قطعة لغوية واحدة" (17) . وبناء على ذلك، فقد حدد أنماط الغموض في سبعة أنواع هي (18) :
1. النوع الأول من الغموض يحدث عندما يتجسد في النص عدداً من التفاصيل التي تتحدث عن دلالات متعددة في الوقت نفسه، ويتمثل ذلك في الاستعارة البعيدة أو الإيقاع أو الوزن.
2. النوع الثاني يتمثل في وجود تركيب نحوي في النص يسمح بتعدد التأويلات.
3. النوع الثالث، يحدث في النص عندما يتوفر فيه عدد من المفردات أو التراكيب ذات الدلالات المشتركة.
4. النوع الرابع يتمثل في عدد من التراكيب ذات المعاني المتبادلة التي تجسد نوعاً من التعقيد في تفكير المؤلف.
5. النوع الخامس، يحدث عندما تظهر في لغة المؤلف جمل وعبارات متداخلة، تظهر عدم قدرة المؤلف على تحديد مراده.
6. النوع السادس، يحدث عندما تظهر في لغة المؤلف عدة تراكيب ذات معاني متناقضة.
7. النوع السابع، يتمثل في نوع من التعارض أو التناقض التام الذي يقع أحياناً في لغة المؤلف مما يعكس نوعاً من التشتيت الذهني.
ولعل هذا التحديد الواضح لمصطلح الغموض وأنماطه عند امبسون قد سبقته بعض الاهتمامات عند الأوروبيين من خلال دراستهم للنصوص الأدبية، ومثال ذلك جهود الشاعر الإيطالي دانتي (Dante) الذي كان أول من نظر في تعدد مستويات المعنى في النص الأدبي، كما فتحت دراسة الناقد الإنجليزي جريرسون (Grierson) عن الشاعر جون دون (Jhon Donne) الباب في هذا المجال من أجل الكشف عن مظاهر الغموض في شعر بعض الشعراء وتعدد مستويات المعنى فيه (19) .

ثانياً - عناصر الغموض
1. عناصر الغموض عند عبد القاهر الجرجاني.
لقد بين عبد القاهر الجرجاني أهمية الغموض وعناصره، وفرق بين الغموض والتعقيد السلبي الناشئ عن الضعف والركاكة وسوء الفهم، كما أبرز الفرق بين الغموض والوضوح، إذ إن سمة الغموض ركيزة أساسية للعمل الابداعي.
ولذا فقد عد الجرجاني سوء النظم والتأليف وانغلاق الكلام سبباً من أسباب التناهي في الغموض إلى درجة التعقيد، يقول: "واعلم أن لم تضق العبارة ولم يقصر اللفظ ولم ينغلق الكلام في هذا الباب إلا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات" (20) .
ويكشف هذا الموقف للجرجاني عن إدراكه لأهمية الغموض في بنية النص الابداعي، فهو جوهره وأساسه. فالغموض هو الذي يثير الدهشة والاستفزاز للمتلقي، ويجعل من النص الابداعي نصاً ابداعياً. ومن هنا، فإن الجرجاني لا يعارض الوضوح والقرب في المعاني الأدبية شريطة أن لا يصل هذا الوضوح إلى حد السطحية والركاكة والضعف مما يبعد النص الابداعي عن جوهره وإثارته للمتلقي. فالنص الذي تتعدد وجوه التأويل فيه، ويستفز القارئ إلى بذل الجهد في المتابعة والتفكير هو النص الابداعي الأصيل. كما أن وضوح النص في ظاهره، وفي قراءة القارئ الأولية له لا يعني الوضوح السطحي، فقد يبدو القول التالي: (كالبدر أفرط في العلو) سهلاً وبسيطاً، بيد أن المتفحص لهذا التشبيه يخرج إلى معاني أخرى إضافية تحتاج إلى التفكير والدقة. يقول الجرجاني: "هذا- وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: "كالبدر أفرط منه ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً وترقم ذلك في قلبك ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وترد البصر من هذه إلى تلك وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله "شاسع" لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال "جد قريب". فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله" (21) .

فمجال الغموض إذن عند عبد القاهر الجرجاني يكمن في المستوى الفني للعمل الابداعي المتمثل في ضروب البلاغة المختلفة مثل الكناية والمجاز والاستعارة والتشبيه ثم في الصورة والصياغة. يقول "قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح. وأن للاستعارة مزية وفضلاً. وأن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة" (22) . وهذا الفهم هو ما عبر عنه الجرجاني في موقع آخر من كتابه دلائل الإعجاز ليسميه بمعنى المعنى وهو المستوى الفني الذي يقع فيه الغموض. يقول: "وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن نقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر" (23) .
وقد استخدم الجرجاني ألفاظاً تعبر عن المستوى الفني للعمل الابداعي، وهي أقل سلبية في ظاهرها الخارجي من لفظة الغموض التي تعكس معنى سلبياً للوهلة الأولى. وهذا يشكل حرص عبد القادر الجرجاني، وإدراكه لأهمية الغموض بمرادفاته المختلفة في العمل الابداعي، ولا سيما في النصوص الشعرية.
ولذا فقد استعمل الجرجاني مصطلح الغرابة ليشير إلى الغموض الفني في العمل الابداعي. يقول: "والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشبه المقصود من الشيء مما لا ينزع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يشبه بل بعد تثبت وتذكر وفكر للنفس في الصور التي تعرفها وتحريك الوهم في استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه" (24) .
كما أشار الجرجاني إلى مرادفات أخرى للغموض مثل التعقيد غير المقصود، والتعمية، وهذا ما يكسب العمل الابداعي قوة وخصوصية فنية، وأما إذا كان التعقيد والتعمية مقصودان لذاتهما فإن ذلك يفقد العمل الفني خصوصيته، ويبعده عن جوهره. يقول: "وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً مشرفاً له وزائداً في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس. ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب إني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله: فإن المسك بعض دم الغزال" (25) .
وقد جسد الجرجاني في مواقع أخرى من كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة جوهر الغموض المتمثل في الإشارة والكناية والرمز والصياغة والصورة، حيث تبرز هذه الأشكال والموضوعات البلاغية أهمية الغموض المتمثل في المستوى الفني الذي يجسد جوهر العمل الابداعي وأساسه. يقول: "ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع الأشياء مواضعها، والنزاع إلى بيان ما يشكل، وحل ما يتعقد، والكشف عما يخفى، وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة بالحجة، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبييناً للسبيل شيء في سوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نفساً ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها، ووجدت المعول على أن ههنا نظماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغة وتصويراً، ونسجاً وتحبيراً، وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها. وأنه كما يفضل هناك النظم النظم والتأليف التأليف، والنسج النسج والصياغة الصياغة. ثم يعظم الفضل. وتكثر المزية، حتى يفوق الشيء نظيره، والمجانس له درجات كثيرة، وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد، كذلك يفضل بعض الكلام بعضاً. ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد من فضله ذلك ويترقى منزلة فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مرقب، ويستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز" (26) .
فمجال الغموض في النص الابداعي هو الصياغة والتأليف والإشارة والرمز، فضلاً عن الكناية والتلويح والتعريض. وهذه المصطلحات تجسد معنى الغموض، وتبتعد عن سلبية المعنى الظاهري لكلمة الغموض. كما أنها تشكل جوهر العمل الابداعي الذي يتميز بخصوصيته الفنية التي تميزه عن الكلام العادي أو الكلام غير الابداعي. ولهذا فالنص الابداعي يستمد طاقته المتجددة من ضروب البلاغة التي تجعل النص الابداعي نصاً إبداعياً يحتاج متلقيه إلى طول التدبر والتفكير لكي يصل إلى فهمه ومعرفة ظلاله وإيحاءاته. يقول: "واعلم أن ذلك الأول وهو المشترك العامي، والظاهر الجلي والذي قلت أن التفاضل لا يدخله، والتفاوت لا يصح فيه، إنما يكون كذلك منه ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة وساذجاً لم يعمل فيه نقش، فأما إذا ركب عليه معنى، ووصل به لطيفة، ودخل إليه من باب الكناية، والتعريض، والرمز، والتلويح، فقد صار بما غير من طريقته، واستؤنف من صورته، واستجد له من المعرض، وكسى من ذلك التعرض، داخلاً في قبيل الخاص الذي يملك بالفكرة والتعمل، ويتوصل إليه بالتدبر والتأمل. كقوله:
إلى نداك فقاسته بما فيها" (27) .
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت
إضافة إلى ما جاء من عناصر الغموض عند الجرجاني، فقد تبين أن قيمة المجاز والاستعارة والتمثيل تكمن في الغموض الذي يمنح النص حياة وقوة ويجعله نصاً ابداعياً متجدداً عند متلقيه. ويكمن هذا التجدد من انزياح الكلام في النص عن ظاهر اللفظ، وهذا ما يستفز المتلقي إلى إمعان النظر في النص، وإدراك أسراره وصوره وإيحاءاته، فالانزياح في النص الابداعي هو مجال الغموض، ويتمثل هذا الغموض والانزياح في المجاز وضروبه البلاغية، يقول: "اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظة، وقسم يعزى ذلك فيه إلى النظم. فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضروب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية" (28) .
كما يشكل التشبيه ضرباً من الغموض عند الجرجاني، ولا يمكن للقارئ أن يتوصل إلى خبايا الصورة التشبيهية إلا من خلال التأويل والتفكير. يقول: "ومثال الثاني وهو الشبه الذي يحصل بضرب من التأويل كقولك هذه حجة كالشمس في الظهور وقد شبهت الحجة بالشمس من جهة ظهورها كما شبهت فيما مضى الشيء بالشيء، من جهة ما أردت من لون أو صورة أو غيرهما إلا أنك تعلم أن هذا التشبيه لا يتم لك إلا بتأويل. وذلك أن تقول حقيقة ظهور الشمس وغيرها من الأجسام أن لا يكون دونها حجاب ونحوه مما يحول بين العين وبين رؤيتها، ولذلك يظهر الشيء لك ولا يظهر لك إذا كنت من وراء حجاب أو لم يكن بينك وبينه ذلك الحجاب" (29) .
كما حاول الجرجاني التركيز على مصطلح الغموض نفسه، مبيناً، أهمية العقل في إدراك الفكرة التي يعبر عنها النص الابداعي من خلال ضروب البلاغة، والصياغة والتأليف. فالجرجاني هو ذلك الناقد العقلاني الفذ الذي يرفع من قيمة الفكرة، ويرى الوصول إليها من أهم أنواع اللذة النفسية في تتبع صور الجمال، فالمجاز والاستعارة والتشبيه والتمثيل ضروب تحرك القارئ إلى معرفة الفكرة وإدراكها التي يعبر عنها النص الابداعي، وبهذا يستطيع المبدع من خلال النص الإبداع أن ينقل القارئ من منطقة العقل وتتبع الفكرة إلى منطقة الحس والشعور بالنشوة واللذة النفسية العارمة، وهذه غاية أساسية للعمل الابداعي تجاه المتلقي، يقول الجرجاني: "ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال:
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وهنّ ينبذن من قول يصبن به

وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية وتعمد ما يكسب المعنى غموضاً مشرفاً له وزائداً في فضله" (30) .
وعد الجرجاني التباين والتنافر في أطراف التشبيه أكثر قدرة على شد المتلقي وإثارته واستفزازه لما في هذا التنافر من غموض يحرك العقل والحس معاً. يقول: "كلما كان مكان الشبه بين الشيئين أخفى وأغمض وأبعد من العرف كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسن وأكثر في الاستعمال" (31) .
ولعل استخدام كلمة الغموض والإصرار عليها إلى جانب المرادفات الأخرى لها مثل التعقيد والتعمية والغرابة والإشارة والتلويح والرمز والتعريض، فضلاً عن المجاز والكناية والاستعارة والتشبيه يعود لما لهذا الموضوع من قدرة على إضفاء الخصوصية الفنية على العمل الابداعي، ذلك العمل الذي يثير القارئ عقلاً وحساً، مما يجعل النص في دائرة التأويل والتفسير وتعدد الاحتمالات، وهذا ما يجعل النص الابداعي نصاً إبداعياً. فالغموض هو الذي يمنح النص خصوصيته الجمالية والإبداعية، يقول الجرجاني: "ثم إن ما طريقه التأول يتفاوت تفاوتاً شديداً. فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ويعطي المقادة طوعاً، حتى أنه يكاد يداخل الضرب الأول الذي ليس من التأول في شيء، وهو ما ذكرته لك. ومنه ما يحتاج في استخراجه إلى فضل رؤية ولطف وفكرة" (32) .
وبهذا يكون الجرجاني قد استطاع إبراز أهمية الغموض في بنية النص الابداعي، وأن ضروب الغموض تشتمل على الصياغة والتركيب، فضلاً عن ضروب البيان والمعاني والبديع، إضافة إلى ذلك فقد ربط عبد القاهر الجرجاني الغموض باللذة العقلية والحسية عند القارئ. ولذلك فالغموض بأشكاله المختلفة من تعمية وتعقيد وغرابة يدفع القارئ إلى دائرة التأويل وإدراك الفكرة التي تضمنها النص الابداعي، وهذا ما يثير لذة نفسية وعقلية عند القارئ.
فالجرجاني قد أدرك أهمية الغموض بأنماطه المختلفة في تشكيل بنية النص الابداعي، ومنحه الخصوصية الفنية والجمالية، حيث النص الابداعي البعيد عن الغموض الفني نصاً سطحياً لا يرقى إلى العمل الابداعي الحقيقي الذي يجعل القارئ جزءاً من العملية الإبداعية، ومشاركاً فيها من خلال وقوعه في دائرة التأويل والتفسير، وتعدد المعاني والاحتمالات.
2- عناصر الغموض عند السجلماسي:
لقد ابتعد السجلماسي تماماً عن استخدام كلمة الغموض بصفة مباشرة بوصفها الجوهر الأساسي لبنية النص الابداعي، واكتفى باستخدام مرادفات الغموض المتمثلة في ضروب البلاغة من بيان ومعاني وبديع، فضلاً عن تركيزه على العدول الأسلوبي بوصفه سمة أساسية للانتهاك اللغوي في النص الابداعي. ومن هنا، فقد وضح بشكل مباشر أن الغموض المتمثل في ضروب البلاغة، فضلاً عن الصياغة والبناء والعدول أفضل وأجمل من التصريح، ويعني بذلك الوضوح، لأن الوضوح الذي يصل بالكلام إلى السطحية لا يشكل سمة من سمات العمل الابداعي. يقول السجلماسي: "والمماثلة هي النوع الثالث من جنس التخييل، وحقيقتها التخييل والتمثيل للشيء بشيء له إليه نسبة وفيه منه إشارة وشبهة، والعبارة عنه به، وذلك أن يقصد الدلالة على معنى فيضع ألفاظاً تدل على معنى آخر، ذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الدلالة عليه، فمن قبل ذلك كان له في النفس حلاوة ومزيد إلذاذ، لأنه داخل بوجه ما في نوع الكناية من جنس الإشارة، والكناية أحلى موقعاً من التصريح. ويشبه أن يكون السبب في ذلك هو أن التصريح إنما هو الدلالة على الشيء باسمه الموضوع له بالتواطئ كما قد تقرر في دلالة اللفظ، والدلالة على الشيء بالكناية وطريق المثل إنما هو بطريق الشبه، والشبه -كما قد قيل مراراً- هو أن يكون في الشيء نسبة من شيء أو نسب، وبالجملة هو أن يكون الشيئان في الواحد -بالمشابهة أو المناسبة- الموضوع للصناعة الشعرية فيوضع أحدهما مكان الآخر ويدل عليه، ويكنى به عنه، وفيه -أعني في الواحد بالمشابهة أو بالمناسبة- المكنى به، ما فيه من غرابة النسبة والاشتراك وحسن التلطف لسياقة التشبيه على غير جهة التشبيه، وفي التخييل بذلك كذلك ما فيه من بسط النفس وإطرابها للإلذاذ والاستفزاز الذي في التخييل" (33) .
وانطلاقاً من هذا الاقتباس للسجلماسي يلاحظ الدارس أن الكناية تمثل ضروباً مختلفة ومتعددة من البلاغة مثل الإشارة والرمز والتلويح وغيرها، حيث تجسد هذه الضروب البلاغية الصناعة الشعرية، وهذه الإشارة للسجلماسي تعد من أهم الإشارات التي تجسد أهمية الغموض بمرادفاته المختلفة بوصفه أساساً للصناعة الشعرية، وبهذا يكون الغموض قد ارتبط عند السجلماسي بالأسلوب الذي يجسد الصناعة الشعرية. إضافة إلى ذلك، فقد ربط هذه العناصر الأسلوبية بالمتلقي من حيث اللذة والاستفزاز الناتجان عن النص الابداعي بأسلوبه وصياغته وتركيبه.
فمجال الصناعة الشعرية وأساسها عند السجلماسي يتمثل في المجاز والاستعارة والتشبيه والمماثلة أو التمثيل. فالغموض بمرادفاته المختلفة من ضروب الأسلوب يجسد الصناعة الشعرية. يقول: "التخييل: هذا الجنس من علم البيان يشتمل على أربعة أنواع تشترك فيه ويحمل عليها من طريق ما يحمل المتواطئ على ما تحته، وهي: نوع التشبيه، ونوع الاستعارة، ونوع المماثلة -وقوم يدعونه التمثيل- ونوع المجاز، وهذا الجنس هو موضوع الصناعة الشعرية" (34) .
وقد ركز السجلماسي على موضوع الإشارة بوصفه صورة حقيقية للغموض، الذي هو نقيض الوضوح، فيقول: "والإشارة عند الجمهور مثال أول لقولهم: أشار يشير كأنه الإيماء إلى الشيء والإلماع نحوه. وهو منقول بلوازمه وعوارضه المتقدمة، أو المتأخرة، أو المساوقة، من غير أن يصرح لذلك المعنى بلفظ أو قول يخص ذاته وحقيقته في موضوع اللسان" (35) .
كما حدد السجلماسي ضروب الإشارة التي تشكل جزءاً من موضوع الكناية بالتعريض والتلويح والإبهام والتنويه والتفخيم والرمز والإيماء والتعمية واللحن والتورية (36) .
وقد ربط صاحب المنزع البديع هذه الأنماط الأسلوبية المتجسدة في الإشارة وضروبها بالتجاوز، وهو الخروج على المألوف، وذلك من خلال تجسيد هذه الأنماط الأسلوبية في النص الابداعي، حيث يتجاوز النص من خلالها الوصف اللغوي، والحقيقة اللغوية إلى المستوى الفني الذي هو أساس الصناعة الشعرية وجوهرها. وقد عد بذلك السجلماسي "التتبيع" نمطاً من أنماط الإشارة، حيث ينطلق مفهوم التتبيع إلى ما يمكن تسميته بالمعنى الثاني أو المستوى الفني للعمل الابدعي. يقول: "والتتبيع هو المدعو الإرداف، والمدعو عند قوم التجاوز. وقول جوهره وحقيقته هو اقتضاب في الدلالة على الشيء بلازم من لوازمه في الوجود، وتابع من توابعه في الصنعة. وقال قوم: هو أن يريد الدلالة على ذات المعنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى لكن بلفظ هو تابع وردف. وقال قوم: هو أن يريد ذكر الشيء فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة. ومن صوره قوله:
نؤؤم الضحى لم تنطبق عن تفضل
ويضحي فتيت المسك فوق فراشها

فإنما أراد أن يصفها بالترف والنعمة وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكيفة المؤونة، فجاء بما يتبع ذلك وعبر عن الشيء بلازمه" (37) .

وقد حدد السجلماسي مفهوم التجاوز من خلال استخدامه لكلمة العدول وهي تقابل مصطلح الانحراف الأسلوبي في النقد المعاصر، والذي يقابله بالإنجليزية كلمة (Deviation) . يقول: "العدول: والموطئ من أولية مثالية الاسم والحمل والمطاوعة بين. أعدله فعدل كالذي تقدم في صدر هذا الجنس. فالعدول مثال أول مصدر عدل عدولاً، وجهة تلاقي النقل فيه أيضاً النسبة، فلنقل في الفاعل وهو: افتنان إرادة وصف المتكلم شيئين إلى القصد الأول أو الثاني. والعدول اسم محمول يشابه به شيء شيئاً في جوهره المشترك لهما، فلذلك هو جنس متوسط تحته نوعان: أحدهما: التتمة، والثاني: التوجيه. وذلك لأنه إما أن يكون الأول تأكيداً أو تلاقياً أو غير ذلك من أغراض القول" (38) .
فالعدول أو التجاوز أو الاتساع هي تسميات تؤكد اهتمام السجلماسي وإدراكه للمستوى الفني المتمثل بأنماط الغموض ومرادفاته التي تشكل جوهر الصناعة الشعرية. فالعدول أو الاتساع هو الغموض الفني أصلاً، لأنه يتجاوز من خلاله المبدع المعاني الأول إلى المعاني الثواني وهي التي تشكل بنية النص، وتمنحه خصوصيته الفنية. فالاتساع هو الذي يضع القارئ في دائرة التأويل وتعدد الاحتمالات، وبهذه الاحتمالات يتشكل النص الابداعي، حيث إن جوهر الصناعة الشعرية ينطلق من تعدد الاحتمالات، والتأويل، وبهذا يتكون الغموض الفني الذي يعطي النص الحيوية، ويخلق فيه اللذة التي تدهش القارئ وتسره. يقول السجلماسي: "والاتساع هو اسم مثال أول منقول إلى هذه الصناعة، ومقول بجهة تخصيص عموم الاسم على إمكان الاحتمالات الكثيرة في اللفظ بحيث يذهب وهم كل سامع سامع إلى احتمال احتمال من تلك الاحتمالات، ومعنى من تلك المعاني. وقول جوهره في صنعة البديع والبيان هو صلاحية اللفظ الواحد بالعدد للاحتمالات المتعددة من غير ترجيح. وقيل: هو أن يقول المتكلم قولاً يتسع فيه التأويل" (39) .
كما عد السجلماسي الغلو والمبالغة أسلوباً بلاغياً يعطي النص الابداعي خصوصيته وجماله وحيويته، فضلاً عن أن السجلماسي قد ربط الغلو بالخروج عن الحقيقة اللغوية والوصف المباشر إلى المبالغة، وهذا ما يخلق نوعاً من الكذب الفني كما أسماه السجلماسي، ويعني هذا الغموض الفني الناشئ عن أساليب البلاغة. ولعل هذا الربط بين المبالغة أو الغلو والكذب يعد من أهم النتائج التي توصل إليها السجلماسي في إدراك أهمية الغموض بوصفه أساس الصناعة الشعرية وجوهرها. فالكذب هنا هو المستوى الفني في النص الناشئ عن أساليب البلاغة. يقول: "والغلو: وهو المدعو الافراط عند قوم في صناعة الاشتقاق، هو من قولهم: غلا في الأمر يغلو غلواً، وهو يرادف الإفراط، ثم نقل من ذلك الحد إلى علم البيان على ذلك الاستعمال والوضع، فيوضع فيه على الافراط في الاخبار عن الشيء والوصف له، ومجاوزة الحقيقة إلى المحال المحض، والكذب المخترع لغرض المبالغة، وبالجملة هو أن يكون المحمول ليس في طبيعته أن يصدق على الموضوع وليس في طبيعة الموضوع ولا في وقت ولا على جهة أن يصدق عليه المحمول، لكن إذا حمل عليه وأنزل خبراً عنه، ووضع وصفاً له لقصد المبالغة. واختيار هذا النوع من طرق البلاغة وأساليب البديع هو أمر بالإضافة والحكم غير المطلق من قبل أن لأهل هذه الصناعة فيه رأيين: فقوم -وهم الأكثرون- يرون أن الشريطة فيه وملاك أمره هو أن يتجاوز فيه حال نوعي الوجود العقلي والحسي إلى المحال والكذب والاختراع. وقوم يرون التوسط فيه آثر وأحمد وأفضل في الصناعة إحجاماً ورهبة للاختراع والكذب. ونقول: إن من أحب الوقوف على الأرجح من الرأيين، وعلى الأدخل في الأمر الصناعي، فليس به غنى عن الفحص عن موضوع الصناعة الشعرية فنقول: إن موضوع الصناعة الشعرية هو التخييل والاستفزاز والقول المخيل المستفز من قبل أن القضية الشعرية إنما تؤخذ من حيث التخييل والاستفزاز فقط. دون نظر إلى صدقها وعدم صدقها. وقوم يرون أن القضية الشعرية إنما تؤخذ من حيث الامتناع، فالموضوع للصناعة الشعرية عندهم الممتنعات" (40) .
فالأشياء الممتنعة هي التي لا تعطي نفسها لقارئ إلا بعد مماطلة وروية وتفكر، وهذا هو ديدن العمل الابداعي. فالأساليب البلاغية هي التي تخرج اللغة فيها من وصف الحقيقة المباشرة إلى المستوى الفني الذي يضفي على النص سمة الجمال والحيوية التي تستفز القارئ إليه، وتجعله يفكر ويطيل النظر في الاحتمالات المتعددة والتساؤلات التي يتركها النص في فكره. ولهذا فقط ربط السجلماسي أساليب البلاغة ومن ضمنها المجاز بالصناعة الشعرية، وجعلها أساس هذه الصناعة وجوهرها. كما ربط هذه الأساليب بالمتلقي بوصفه المحاور للنص الابداعي. يقول السجلماسي: "واسم المجاز مأخوذ في هذا الموضوع من علم البيان بخصوص، ففيه استعمال عرفي بحسب الصناعة، وقول جوهره هو القول المستفز للنفس المتيقن كذبه، المركب من مقدمات مخترعة كاذبة" (41) .
وربط السجلماسي أسلوب الالتفات بالغرابة والغموض، لأنه فيه يتحول من معنى لآخر في النص الابداعي، مما يجعل المتلقي إزاء دائرة واسعة من التأويل، وتعدد الاحتمالات، وهذا الأسلوب يضفي نوعاً من اللذة على نفسية المتلقي، وذلك من خلال انتهاك النسق اللغوي المألوف في الوصف المثالي. فانتقال الكلام الابداعي من صيغة إلى صيغة، ومن خطاب إلى غيبة، ومن غيبة إلى خطاب يجسد لوناً من ألوان الغموض الفني الذي يميز النص الابداعي. يقول: "الالتفات: وهو عند قوم خطاب التلون. والموطئ ها هنا أيضاً كالموطئ في جنسه. والفاعل هو: ما تقرر عند تقسيم جنسه، وهو تردد المتكلم في الوجوه… وفائدة هذا الأسلوب من النظم والفن من البلاغة استقرار السامع والأخذ بوجهه، وحمل النفس بتنويع الأسلوب وطراءة الافتنان على الإصغاء للقول والارتباط بمفهومه" (42) .
كما ربط السجلماسي أسلوب التشكيك بالغموض الناتج عن الخفاء والشك والالتباس والاختلاط الذي يوقع المتلقي ويدهشه. يقول: "والتشكيك هو إقامة الذهن بين طرفي شك وجزئي نقيض وهو من ملح الشعر وطرف الكلام، وأحد الوجوه التي احتيل بها لإدخال الكلام في القلوب وتمكين الاستفزاز من النفوس وفائدته الدلالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما ولا يميز أحدهما من الآخر، فلذلك كان له في النفس حلاوة وحسن موقع. بخلاف نوع الغلو والسبب في ذلك أن المتكلم موهم أن ذهنه قد قام متحيراً بين طرفي الشك وجزئي النقيض لشدة الالتباس والاختلاط بينهما، وعدم التمييز بين الأمرين لخفائه على النفس على القصد الأول في طرفي النقيض ودأبهما. فلذلك فالقول المشكك هو في النهاية من المبالغة. والغاية في التلطف للتشبيه. وتقريب الشيئين أحدهما من الآخر لتمكين عدم الفرق والفصل بينهما" (43) .
ويمكن القول أخيراً أن السجلماسي لم يستخدم كلمة الغموض مباشرة، وربما يعود السبب في ذلك لدلالتها السلبية ظاهرياً، ولذلك فقد استخدم مرادفات الغموض المتمثلة في أساليب البيان والمعاني والبديع، مركزاً على أسلوب الكناية والإشارة والرمز والتعريض والتلويح والتورية والتتبيع والتشكيك والغلو، فضلاً عن أسلوب العدول أو التجاوز أو الاتساع. فهذه الأساليب تجسد عند السجلماسي جوهر الصناعة الشعرية وأساسها، وهذا ما تميز به السجلماسي في موضوع الغموض.
فقد ربط السجلماسي أساليب البلاغة بالكذب والمبالغة لما لهذا الأسلوب من قدرة على إضفاء الخصوصية الفنية والجمالية على النص الابداعي، مما يستفز المتلقي ويجعله قريباً ومحاوراً للنص من خلال التأويل وتعدد الاحتمالات. فهذا التأويل وتعدد الاحتمالات ناشئ عن المستوى الفني المتمثل في الأساليب البلاغية.
كما أن استخدام كلمة أسلوب، واطلاقها على الأنماط البلاغة يعد ميزة في بحث موضوع الغموض عند السجلماسي. وبهذا، فإن السجلماسي يكون قد أدرك جوهر الغموض وأهميته من خلال اعتباره أنه الأساس للصناعة الشعرية، ولبنية النص الابداعي.

ثالثاً- الغموض والمتلقي
إن إثارة مشكلة الغموض من صميم البحث في جوهر الشعر أساساً، لأن الشعر يقوم أساساً على الغموض (44) . فالغموض في النص الشعري المثقل بالدلالات والإيحاءات والصور ناتج عن الكثافة والحدة الشعرية. وهذه الحدة الشعرية نابعة من أساليب البلاغة، ولا سيما أسلوب العدول أو الاتساع وهو تجاوز اللغة الشعرية للوصف المباشر والتعبير عن الحقيقة إلى إيحاءات ودلالات إضافية تشكل مجال النص وجوهره.
كما أن الغموض المتولد عن أساليب البلاغة مثل أسلوب الالتفات والتشبيه والاستعارة والمجاز والتورية والكناية وغيرها يخلق نوعاً من تعدد احتمالات المعنى، فضلاً عن اتساع دائرة التأويل والتفسير الناجمة عن هذا الغموض. فالغموض بهذا المعنى يشكل جوهر الشعر، وهو نتيجة أساسية تميز النص الشعري عن غيره، وتمنحه الخصوصية الفنية والجمالية (45) .
فالمتلقي يحتل مساحة مهمة ومركزية في العملية الابداعية، ويعد المتلقي محاوراً رئيساً للنص الابداعي، بل ومشاركاً في إعادة انتاجه وخلقه. فالعملية الابداعية لا تتم إلا من خلال أركانها الثلاثة وهي: المبدع والنص والمتلقي (46) .
فالمتلقي يقوم بدور هام ورئيسي في العملية الابداعية، ولعل دوره يكمن في إعادة تفكيك النص وانتاجه مرة أخرى، وذلك لأن النص الأدبي مثقل بالدلالات والإيحاءات والرموز والصور. فالطاقة الفنية تجعل النص غامضاً، بحيث يطرح النص الابداعي بسبب غموضه إمكانيات متعددة، واحتمالات مختلفة للتأويل والتفسير. فالغموض الذي يواجه المتلقي ناشئ عن اهتزاز الصورة الثابتة لعلاقة الدال بالمدلول، بحيث تصبح للكلمات والتعابير دلالات جديدة متشابكة مع غيرها في النص الابداعي، وذلك على خلاف ما كانت تعبر عنه من معاني وأسماء قبل دخولها في النص الابداعي. فلهذه المعاني والتعابير دلالات محددة في نفس القارئ، بيد أن دخول هذه الكلمات والتعابير ضمن صياغة جديدة في النص الابداعي يكسر طبيعة النمط المألوف لهذه الكلمات في نفس المتلقي، وتصبح لهذه الكلمات والتعابير ضمن جسد النص الابداعي أكثر من معنى وصورة ودلالة (47) .
وضمن هذا الفهم لأهمية الغموض وعلاقته بالمتلقي، فقد ربط عبد القاهر الجرجاني النص الابداعي بالمتلقي، مبيناً دور النص المثقل بالدلالات المجازية، في شد المتلقي واستفزازه من خلال علاقة الحوار والمشاركة بين النص والمتلقي، فالغموض ناشئ عن الدلالات المجازية، والتجاوز للمألوف في التعبير والإيحاء والصورة، وبهذا يقع المتلقي في دائرة التأويل والتفسير، ويصبح مشاركاً فاعلاً في خلق النص وإعادة إنتاجه مما يفرض حالة من الإرهاق الفكري والنفسي على المتلقي. يقول الجرجاني بهذا الخصوص: "هذا -وإن توقفت في حاجتك أيها السامع للمعنى إلى الفكر في تحصيله فهل تشك في أن الشاعر الذي أداه إليك، ونشر بزه لديك، قد تحمل فيه المشقة الشديدة، وقطع إليه الشقة البعيدة، وأنه لم يصل إلى دره حتى غاص، وأنه لم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص؟ ومعلوم أن الشيء إذا علم أنه لم ينل في أصله إلا بعد التعب، ولم يدرك إلا باحتمال النصب، كان للعلم بذلك من أمره من الدعاء إلى تعظيمه، وأخذ الناس بتفخيمه، ما يكون لمباشرة الجهد فيه، وملاقاة الكرب دونه، وإذا عثرت بالهوينا على كنز من الذهب لم تخرجك سهولة وجوده إلى أن تنسى جملة أنه الذي كد الطالب، وحمل المتاعب، حتى إن لم تكن فيك طبيعة من الجود تتحكم عليك…." (48) .
ولعل هذا الاستفزاز للمتلقي لا يتم إلا من خلال غموض النص الابداعي، فالغموض هو جوهر الشعر وأساسه، كما أن الغموض ناشئ عن التنافر بين أجزاء الصور والتشبيهات والاستعارات، وهذا التنافر والتباعد يحدث اهتزازاً في مخيلة المتلقي وفكره للصورة الأولى للكلمات والتعابير قبل دخولها صناعة الشعر وابداعه، مما يدفع المتلقي إلى دائرة التأويل، وتعدد الاحتمالات. يقول الجرجاني: "وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرة والمؤلف لأطراف البهجة، انك ترى بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خلقة الإنسان، وخلال الروض، وهكذا طرائف تنثال عليك إذا فصلت هذه الجملة، وتتبعت هذه اللمحة، ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله:
بين الرياض على حمر اليواقيت
ولا زوردية تزهو بزرقتها

أوائل النار في أطراف كبريت
كأنها فوق قامات ضعفن بها

أغرب وأعجب، وأحق بالولوع وأجذر، من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق، لأنه إذا ذاك مشبه لنبات غض يرف وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف بلهب نار مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف، ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشغف منها أجدر، فسواء في إثارة التعجب، وإخراجك إلى روعة المستغرب، وجودك في مكان ليس من أمكنته" (49) .
كما وضح السجلماسي في كتابه المنزع البديع العلاقة الهامة بين الغموض الذي يشكل جهور النص الشعري وبين المتلقي الذي يقوم بدور المحاور والمشارك في العملية الإبداعية لخلق النص وإعادة إنتاجه، وذلك بعد أن يبذل جهداً فكرياً ونفسياً في فك أسرار النص، ومحاولة سبر غور احتمالاته المتعددة، ودلالاته وإيحاءاته الكثيرة. وهذه الحالة من المعاناة التي يبذلها المتلقي تجعله يشعر بنشوة غامرة من الفرح والسرور، والمتعة الفكرية، ومن هنا تقوى العلاقة بين أطراف العملية الابداعية: المبدع والنص والمتلقي. يقول: "ولا خفاء بارتباط الانفعال هنا والارتياح بما يقرع السمع ويفجأ البديهة فقط دون ما عداه. والانفعال التخييلي بالجملة هو غير فكري فكيف يعود الأمر غير الفكري فكرياً وينقلب الأمر البديهي اختيارياً" (50) .
إن المناوشة الفكرية والنفسية ما بين المتلقي والنص المثقل بالغموض، والمبني من خلال الأساليب البلاغية تجعل المتلقي أكثر تحفزاً وقلقاً وتوتراً إزاء المفاجآت، والاحتمالات المتعددة، والدلالات المتباينة للمعاني لمعرفة التناسق بين هذه المعاني والتعابير الشعرية، وذلك للوصول إلى ادراك سر النص الابداعي وغايته، وفك ألغاز صوره ودلالاته، والوقوف على الاهتزاز الحاصل بين المعاني والتعابير قبل دخلوها النص، والبنية التي آلت إليها بعد دخولها النص. ولعل هذا التوتر والمتابعة ما بين المتلقي والنص يخلق نوعاً من الدهشة واللذة الغامرة للمتلقي، فيشعر بعد هذه المعاناة بالمتعة النفسية والفكرية. يقول السجلماسي بهذا الخصوص: "والاقتضاب هو اقتضاب الدلالة، وذلك أن يقصد الدلالة على ذات معنى فيترقى عن التعبير المعتاد، وعبارة التأخر من الجمود على مسلك وأسلوب واحد، من أساليب العبارة، ونحو واحد من أنحاء الدلالة، فيظهر المقدرة على العبارة عن المعاني، وبعد مرماه في التصرف في مجال القول، وتوسعة في نطاق الكلام فيقتضب في الدلالة على ذات المعنى، والدلالة عليه باللوازم والعوارض المتقدمة، أو المتأخرة، أو المساوقة، اعتماداً على ظهور النسبة بين اللوازم وبين الملزوم، وقوة الوصلة والاشتراك بينهما. وفي ذلك ما فيه من الإلذاذ للنفس والإطراب لها بالغرابة والطراءة التي لهذا النوع من الدلالة. والسبب في ذلك كله هو ما جبلت النفس عليه وعنيت به وجعل لها من ادراك النسب، والوصل، والاشتراكات بين الأشياء؟، وما يلحقها عند ذلك، ويعرض لها من انبساط روحاني وطرب" (51) .


الهوامش والتعليقات

(1) ابن منظور: لسان العرب: مادة غمض.
(2) انظر.
Woolf, Henry Bosley (and others) : ***ster's New Collegiate Dictionary, Merriam Company, Massachusetts, 1976.
Bernet, Sylvan (and others) : Dictionary of literary Terme, Constable, London, 1976.
سليمان، خالد: أنماط من الغموض في الشعر العربي الحر، جامعة اليرموك، اربد 1987، ص 9.
السيد، شفيع: الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي، دار الفكر العربية، القاهرة 1986، ص 82.
صليبا، جميل: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، ج2/119-120.
(3) الخواجة، دريد يحيى: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، دار الذاكرة، ط1، حمص 1991، ص 107.
(4) انظر الخواجة: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، ص 65-66.
اسماعيل، عز الدين: الشعر العربي المعاصر، دار العودة، ط3، بيروت 1983، ص 181.
طبانة، بدوي: التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، دار الثقافة، بيروت 1985، ص439.
(5) خليل، حلمي: العربية والغموض، دار المعرفة الجامعية، ط1، الإسكندرية 1988، ص7.
(6) انظر، خليل: العربية والغموض، ص 8.
(7) سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان: الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1966، ج1/48.
(8) الآمدي، أبو القاسم الحسن بن بشر: الموازنة بين أبي تمام والبحتري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار المسيرة، بيروت (مصورة عن نسخة صادرة سنة 1944) ، ص11.
(9) المصدر نفسه، ص 10.
(10) ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة الرسالة، بيروت 1962، ج4/6-7.
(11) المرزوقي، أبو علي: شرح ديوان الحماسة (المقدمة) ، تحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون، القاهرة 1951، ج1/9.
(12) المصدر نفسه، ج1/18.
(13) انظر: الجرجاني، عبد القاهر: أسرار البلاغة، تحقيق السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت 1978، ص 22-23.
(14) انظر: الجرجاني، عبد القاهر: دلائل الإعجاز، تحقيق السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت 1981، ص 196.
(15) المصدر نفسه، ص 202.
(16) انظر: السجلماسي، أبو محمد القاسم: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة العارف، الرباط 1980، ص 262-266.
(17) Empson, W: Seven types of Ambiguity, London 1930. P. 19.
نقلاً عن: خليل: العربية والغموض، ص 28-29.
انظر، سليمان: أنماط من الغموض في الشعر العربي الحر، ص 17.
(18) انظر. Empson: Seven Types of Ambigity, P. 41, 80, 104, 127, 160, 173, 184, 207, 231.
خليل: العربية والغموض، ص 28-29.
(19) انظر، خليل: العربية والغموض، ص 25.
جبوري، فريال: فيض الدلالة وغموض المعنى في شعر محمد عفيفي مطر، مجلة فصول مج4، ع3، 1984، ص 176.
(20) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 210.
انظر. السنجلاوي، ابراهيم: موقف النقاد العرب القدماء من الغموض. دراسة مقارنة، مجلة عالم الفكر، مج18، ع3، 1987، ص 195-196.
(21) الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 123.
(22) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 55.
انظر، عباس، إحسان: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، 1978، ص429.
(23) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 203.
(24) الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 135.
(25) المصدر نفسه، ص 118.
(26) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 28-29.
(27) الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 295-296.
(28) الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 329.
(29) الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 72-73.
(30) المصدر نفسه، ص 118.
انظر. عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 430-431.
(31) الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 289.
(32) المصدر نفسه، ص73.
(33) السجلماسي: المنزع البديع، ص 244.
(34) المصدر نفسه، ص 218.
(35) المصدر نفسه، ص 262.
(36) انظر. المصدر نفسه، ص 265-270.
(37) المصدر نفسه، ص 263-264.
(38) المصدر نفسه، ص 448.
(39) المصدر نفسه، ص 429.
(40) المصدر نفسه، ص 273-274.
(41) المصدر نفسه، ص 252.
(42) المصدر نفسه، ص 442-443.
انظر كذلك. السجلماسي: المنزع البديع، ص 472.
عبد المطلب، محمد: البلاغة والأسلوبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984، ص 205-209.
(43) السجلماسي: المنزع البديع، ص 276.
(44) انظر. الطرابلسي، محمد الهادي: من مظاهر الحداثة في الأدب. الغموض في الشعر، مجلة فصول، مج4، ع2، ج2،1984، ص 28-29.
الخواجة: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، ص 10-11.
(45) انظر. أبو ديب، كمال: في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 1987، ص 132.
(46) انظر. الخواجة: الغموض الشعري في القصيدة العربية الجديدة، ص 8-9.
(47) انظر. أدونيس: الثابت والمتحول، دار العودة، ط1، بيروت 1977، ص117-118.
(48) الجرجاني: أسرار البلاغة، ص 123-124.
(49) المصدر نفسه، ص 109-110.
انظر. ناجي، مجيد عبد الحميد: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1984، ص 208.
(50) السجلماسي: المنزع البديع، ص 500-501.
(51) المصدر نفسه، ص 262-263.

المصادر والمراجع العربية

1- الآمدي، أبو القاسم الحسن بن بشر: الموازنة بين أبي تمام والبحتري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار المسيرة، بيروت (مصورة عن نسخة صادرة سنة 1944) .
2- ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة الرسالة، بيروت 1962.
3- أدونيس: الثابت والمتحول، دار العودة، ط1، بيروت 1977.
4- اسماعيل، عزالدين: الشعر العربي المعاصر، دار العودة، ط3، بيروت، 1983.
5- جبوري، فريال: فيض الدلالة وغموض المعنى من شعر محمد عفيفي مطر، مجلة فصول، مج4، ع3، 1984
6- الجرجاني، عبد القاهر:
- أسرار البلاغة، تحقيق السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت 1978.
- دلائل الإعجاز، تحقيق السيد محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت 1981.
7- خليل، حلمي: العربية والغموض، دار المعرفة الجامعية، ط1، الإسكندرية 1988.
8- الخواجة، دريد يحيى: الغموض الشعري في القصيدة العربية الحديثة، دار الذاكرة، ط1، حمص 1991.
9- أبو ديب، كمال: في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت 1987.
10- السجلماسي، أبو محمد القاسم: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، دار المعرفة، الرباط 1980.
11- سليمان، خالد: أنماط من الغموض في الشعر العربي الحر، جامعة اليرموك، اربد 1987.
12- سنجلاوي، ابراهيم: موقف النقاد العرب القدماء من الغموض. دراسة مقارنة، مجلة عالم الفكر، مج18، ع3، 1987.
13- سيبويه، أبو بشر عمرو بن عثمان: الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة 1966.
14- السيد، شفيع: الاتجاه الأسلوبي في النقد، دار الفكر العربي، القاهرة 1986.
15- صليبا، جميل: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنجليزية واللاتينية، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982.
16- طبانة، بدوي: التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، دار الثقافة، بيروت 1985.
17- الطرابلسي، محمد الهادي: من مظاهر الحداثة في الأدب…الغموض في الشعر، مجلة فصول، مج4، ع2، ج2، 1984.
18- عباس، إحسان: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت 1978.
19- عبد المطلب، محمد: البلاغة والأسلوبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984.
20- المرزوقي، أبو علي: شرح ديوان الحماسة (المقدمة) ، تحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون، القاهرة 1951.
21- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت. د. ت.
22- ناجي، مجيد عبد المجيد: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت 1984.

المراجع الأجنبية

- Bernet, Sylvan (and others) : Dictionary of Literary Terme, Constable, London 1976.
- Empson, W: Seven Types of Ambiguity, London 1930.
- Woolf, Henry Bosley (and others) : ***ster's New Collegiate Dictionary, Merriam Company, Massachusetts 1976.




* د. محمود درابسه
الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية - جامعة اليرموك
إربد - الأردن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...