طفق يمشي في ضاحية المدينة بجوار النهر عندما سمع طلقة بندقية. أعقبها صياح: غاق. غاق. غاق. في تلك اللحظة شاهد ريشة تتلاوح في السماء و تتراقص وتروم وجهته. شرعت تتهاوى إلى أن ارتطمت بوجهه واستقرت على صدره. أمسكها وفحصها ثم نظر في الجهات كي يكتشف مكان القنّاص ولم يظهر له من وجود أو أثر. أمعن النظر في الزوايا الأخرى علّه يكتشف مكان الغراب الذي فقد ريشة من جناحه. داعب الريشة ووضعها في جيب معطفه متمتما:
- لِمَ لا؟ ريشة غراب قد تكون تحفة لا تقدر بثمن!
أقفل راجعا إلى عمله، ونسى أمر الريشة الرابضة في جيب معطفه.
الرجل يشتغل محررا في مؤسسة أدبية متخصصة في نشر دواوين الشّعر لا غير، وهو منهمك في هذه الأيام بإعداد مختارات شعرية، انتخب لها مئة قصيدة، لمئة شاعر.
في تلك الليلة بعد أن عاد من الحانة المجاورة، حيث اعتاد أن يشرب ستّ جعات لا يتجاوزها، سقطت الريشة من المعطف حيث كان يعلّقه على المشجب.
“ماذا سأفعل بهذه الريشة اللعينة؟” تساءل.
استأنف أزيز حيرته مخمّنا في هذرٍ، هل يحتفظ بها في صندوق الأشياء المهملة إلى حين، فقد يوظّفها في لوحة مرتجلة يوم عطلة الأسبوع حيث اعتاد أن يلعب بالأشياء كطفل في غرفة الخردة؟ أم يعلّقها في الحائط أو يضيفها إلى قناع سيحتاجه خلال حفلة تنكرية! ربما سيهديها ذات ليلة حميمة إلى إحدى نسائه غريبات الأطوار!
فجأة عنّت له فكرة مغرية وقصد الخزانة. أخرج دواة عتيقة من قمطر مكتب مصنوع من شجرة العرعار. جلس إلى مكتبه و شرع في الكتابة بنصل الريشة.
كتب دفعة واحدة دون انقطاع، فاتضح أنه كتب رسالة إلى امرأة ما. في الصباح كتب عنوانها الذي رآه في حلم ليلة البارحة، وتردّد قبل أن يضع المظروف في صندوق البريد. رام وجهة عمله وأنفق نهاره هناك، ثم عرّج على الحانة مساء وشرب ست جعات، وآب إلى بيته وشرع في كتابة رسالة ثانية إلى امرأة مجهولة، وفي الصباح دوّن عنوانها كما رآه في منام ليلة البارحة. وضع الرسالة في صندوق البريد ورام وجهة العمل. هكذا أمسى يكتب في كل ليلة رسالة بريشة الغراب، ويحلم بعنوان امرأة جديدة في منامه، فيدوّنه صباحا ويضع الرسالة في صندوق الرسائل. واظب على تلك الوتيرة دون ملل إلى أن بلغت رسائله الأربعين.
توقف عن الأمر بغتة، حيث عجز عن كتابة رسالة أخرى بعد الأربعين تلك. حاول مرّات وكرّات. كانت يده تتحجّر على الورقة البيضاء، ولا يستطيع أن يدوّن حتى نقطة. استغرب لذلك فربما نهر الوحي انقطع فجأة أو تجمّد بالأحرى.
تساءل كيف لمْ يحتفظ بنسخ من تلك الرسائل، فلربّما ضاعت كلها، والأحرى أن يجمعها في كتاب يقترحه على المؤسسة التي يشتغل فيها كمحرّر أدبي.
انصرمت أيام -تقدّر بأربعين أسبوعا تماما و كمالا- عندما وجد امرأة تنتظره ليلا على عتبة بيته وقد عاد من الحانة.
- عذرا هل أنت هو السيد المحرّر؟!
قالت له بتوجس وتردد.
نظر إليها مشوشا، فلم يسبق له أن رأى وجهها أو عرفها في يوم من الأيام.
- أهلا بك سيدتي.
دخلت السيدة معه إلى الشقة، وهناك سألته وهي تجلس على الأريكة باحتدام:
- أود أن أعرف بداية من دلّك على عنواني؟
- أيّ عنوان ؟ سألها مفاجأ باضطرام.
أخرجت رسالة من حقيبتها واتضح له أنها الرسالة الأربعون، الرسالة الأخيرة التي أرسلها لآخر امرأة مفترضة، حيث انقطع وحي كتابته فيما بعد.
أصابه الذهول وخرس طويلا قبل أن يتمتم:
- هل أنت صاحبة العنوان؟
- كيف تجهلني إذن وقد بعثت لي رسالة باسمي، بل تصفني بدقة متناهية وتطري على أنوثتي وأشيائي؟!
وقف المحرر واحتار فيما سيقول أو يفعل، ثم نبس:
- الحكاية تحتاج إلى كأس، فهلّا قبلت بدعوتي؟
وقفت ورسمت ابتسامة مبهمة. لهجت:
- لن أمانع، ما دام في الأمر حكاية يجب أن أسمعها بالكامل.
في الحانة حاول أن يشرح لها بأنه يجهلها بالفعل ولا يعرف شيئا عن عنوانها، فكلّ ما في الأمر أنه وجد نفسه يكتب رسائل من فترة ويرى عناوين تلك النساء في أحلامه، فأخذ يرسلها تباعا لهن.
- وهل تذكر أسماء أولئك النسوة الأربعين؟
سألته في توتّرٍ ذاهلٍ.
- بلى أتذكّر أسماءهن وعذرا إن صارحتك بأني لا أتذكر عناوينهنّ، فما أن دوّنتها حتى نسيتها فورا.
في الحانة بدت له امرأة في الخمسين من عمرها، ذات جمال باذخ وناهب. سحرَه وجهها الغريب، فأطياف نداوتها ثرية وبضاضتها جليلة وإيحاءات أقنعتها مترفة، وفي عينيها تتألق ألوان شتى بين الأزرق والأخضر والكستنائي.
خرق قانون الست جعات منذ رجع إلى السهرة، وشرب بذهول مفرط غير مصدق لما هو فيه من جنون أخرق. ليته كان محرّرا في مؤسسة تعنى بالقصص البوليسية بدل الشعر، ليجزم الظنّ بأن المسألة محض تأثير هذياني من الأعمال التي يشرف على تدقيقها والتصرف في متونها.
في سريرته تساءل وهو يمعن النظر فيها بإعجاب كاسح:
- ماذا لو أن النساء الأخريات حقيقيّات أيضا وجئنه بالتوالي واحدة، واحدة، ترى كيف سيكون جمالهن، أيفوق سحر هذه، أم يقلّ عنها؟
لم يكن قد انتهى من هسيس تخمينه عندما رشفت من جعتها السادسة قائلة:
- ماذا لو اكتشفت أن النسوة الأربعين، ما هي إلا نسخ لواحدة لا غير؟
ضحك وهو يعدّد جعاتها الستّ و تمتم:
- أربعون في واحدة، هل الأمر شبيه بلغز أم مزحة؟
ابتسمت بشكل ناهب كبرق متفرّع الأثر وقالت بحماس صلب:
- قطعا ليس مزحة ولا لغزا!
- مجازيا يبدو الأمر سحريا كقصيدة عظيمة، أما واقعا فلا يمكن لخيالي أن يذهب بعيدا إلى هذه التخوم القصيّة.
شربتْ ما تبقى في جعتها السادسة، ثم نبشت حقيبتها وأخرجت الرسائل الأربعين بما فيها رسالتها الأخيرة، ونشرت الذخيرة على الطاولة، عندها انتفض في مكانه مصعوقا ونظر شمالا ويمينا في ريبة متفاقمة، ربما يحلم!
رجع بنظرته المتحجّرة إلى الرسائل، ثم إلى وجهها، وهتف بصوت اعتورته بحّة خثراء:
- أي لعبة خرقاء هذه؟
طلب جعة واستأذنها في أن تستزيد وقالت:
- عذرا لا أتجاوز الستّ منها.
لم يباغته أنها مثله لا تتجاوز الست منها، وإن كان تلك الليلة قد تخطّاها، فما يرجّ ذهنه الآن هو لغز المرأة مع الرسائل التي أرسلها من فترة.
- هل لك أن تشرحي لي الأمر، فليس بيني وبين الجنون إلا شعرة كهلة، آيلة للانقطاع الوشيك وشوكا حقيقا وآنيا.
داعبت الرسائل وقالت:
- أنا كل هؤلاء النسوة.
لم تتركه يفرط في الدهشة أو يعجّل بسؤال آخر حين استرسلت:
- كل هؤلاء النساء عشت بأسمائهن، وفي عناوينهن المختلفة بالفعل، للأمر حكاية ترجع إلى طور العاشرة من تقويم سنّي، عندما حدث لي مكروه، فأصابني مرض غريب، شكل من أشكال الفصام يرغمني على أن أتقمّص في كل سنة شخصية امرأة باسم مغاير، وأنتقل للسكن في عنوان غير الأول. من حسن حظي أن أبي كان فاحش الثراء، ممّا جعله يوفّر لي السكن في أكثر من مدينة وبلد خوفا عليّ من الانتحار. وهكذا عشت حياة أكثر من اسم وامرأة بداخلي دون أن أعي ذلك، إلى أن استقر بي الحال في هذا العنوان الذي وصلتني فيه رسالة منك. طبعا لم أكن أعلم حكاية مرضي إلى أن باح لي بها طبيبي الخاص، الذي توفّي من ستّة شهور.
***
كل أولئك النساء كنّ نسخا من امرأة واحدة إذن، هكذا يكون قد أرسل لها أربعين رسالة في أربعين عنوان سكنتها، منذ أن كانت في سن العاشرة، سكان تلك البيوت جئنها بتلك الرسائل التي وصلت بالتعاقب على بريد المنازل. تعاقب يتطابق مع ترتيب تدرّج المرأة ارتحالا من بيت إلى آخر.
ها هي ذي تجلس أمامه أخيرا، وهو منهوب البال واليقظة، ليس بفعل الجعة وإنما بفعل صدمة الحكاية اللاتصدّق. نظر إلى وجهه في مرآة جانبية وتساءل همسا:
- هل يعقل أن يكون الأمر محض هلوسة؟ متى بدأ هذا الهذيان اللعين؟
عندها تذكر ريشة الغراب. كل ذلك الجنون من تأثير الريشة اللعينة. خمّن. قلّب جيوبه ونهض، ثم ركض باتجاه البيت، وترك المرأة مندهشة من ردّ فعله. تبعته إلى شقته ووجدته قد أخرج الريشة من معطفه المعلق على المشجب وتحجرت نظرتها على الريشة. قال:
- أعلم أنك لست حقيقية، وكل هذا الكابوس سيزول بعد أن أتلف هذه الريشة الملعونة.
فكّر في أن يحرق الريشة. فكّر في أن يدوسها بحذائه وينتف خيوطها ويدمرها، ثم هرع إلى النافذة محاولا أن يلقي بها إلى الرياح.
- مهلا!
قالت له المرأة صارخة، وتلقفت الريشة منه وقالت:
- هل لك أن تقصّ لي حكاية الريشة فربما ثمة مفتاح لكل هذا اللغز؟
سقط على الكرسي، وفتح أزرار قميصه وحكى:
- كل شيء بدأ عندما كنت أتمشى في الضاحية بجوار النهر، حين سمعت طلقة رصاصة.
………………………..
أشعلت المرأة سيجارة، وصمتت لحظة في ذهول وقالت:
- لم أكن أتوقع أن للغراب علاقة بالأمر ثانية!
نظر إليها منهوبا ونبس:
- كيف؟
- الخطب الذي أصابني، أو المرض الغريب الذي ألمّ بي في سن العاشرة الأولى، كان له علاقة، بصورة من الصور، بالغراب، بريشته تحديدا! ثمّة صبيّ زنجيّ من الخدم السود في بيت أبي، غريب الأطوار، ساحر ووسيم، كنت أحب رفقته وما يقترفه من جنون طائش. ذات مرّة في النّهر، خلع عنّي ملابسي وكتب بريشة غرابٍ على جسدي العاري مئة قصيدة لمئة شاعر، لا أعرف كيف يحفظها اللعين وكيف جاءته الفكرة الطقوسية الغريبة. عندما اكتشف أبي الأمر عاقبه جلدا حتى الموت حيث استغلّ غيابي لأسبوع.
لم يدعها تستأنف الحكي العجيب، حين عجّل بالكلام المهووس وسألها عن المئة قصيدة والمئة شاعر التي دوّنها الصبي الزنجيّ بريشة الغراب على جسدها. انفرطت لآلئ عقله دهشة في كل الاتجاهات، عندما ردّدت المرأة عناوين القصائد وأسماء الشعراء المئة، لقد كانت هي نفسها عناوين مختاراته من الشعر والشعراء التي يعدّها، ويشرف عليها، ويحرّرها في مؤسسة النشر.
- لِمَ لا؟ ريشة غراب قد تكون تحفة لا تقدر بثمن!
أقفل راجعا إلى عمله، ونسى أمر الريشة الرابضة في جيب معطفه.
الرجل يشتغل محررا في مؤسسة أدبية متخصصة في نشر دواوين الشّعر لا غير، وهو منهمك في هذه الأيام بإعداد مختارات شعرية، انتخب لها مئة قصيدة، لمئة شاعر.
في تلك الليلة بعد أن عاد من الحانة المجاورة، حيث اعتاد أن يشرب ستّ جعات لا يتجاوزها، سقطت الريشة من المعطف حيث كان يعلّقه على المشجب.
“ماذا سأفعل بهذه الريشة اللعينة؟” تساءل.
استأنف أزيز حيرته مخمّنا في هذرٍ، هل يحتفظ بها في صندوق الأشياء المهملة إلى حين، فقد يوظّفها في لوحة مرتجلة يوم عطلة الأسبوع حيث اعتاد أن يلعب بالأشياء كطفل في غرفة الخردة؟ أم يعلّقها في الحائط أو يضيفها إلى قناع سيحتاجه خلال حفلة تنكرية! ربما سيهديها ذات ليلة حميمة إلى إحدى نسائه غريبات الأطوار!
فجأة عنّت له فكرة مغرية وقصد الخزانة. أخرج دواة عتيقة من قمطر مكتب مصنوع من شجرة العرعار. جلس إلى مكتبه و شرع في الكتابة بنصل الريشة.
كتب دفعة واحدة دون انقطاع، فاتضح أنه كتب رسالة إلى امرأة ما. في الصباح كتب عنوانها الذي رآه في حلم ليلة البارحة، وتردّد قبل أن يضع المظروف في صندوق البريد. رام وجهة عمله وأنفق نهاره هناك، ثم عرّج على الحانة مساء وشرب ست جعات، وآب إلى بيته وشرع في كتابة رسالة ثانية إلى امرأة مجهولة، وفي الصباح دوّن عنوانها كما رآه في منام ليلة البارحة. وضع الرسالة في صندوق البريد ورام وجهة العمل. هكذا أمسى يكتب في كل ليلة رسالة بريشة الغراب، ويحلم بعنوان امرأة جديدة في منامه، فيدوّنه صباحا ويضع الرسالة في صندوق الرسائل. واظب على تلك الوتيرة دون ملل إلى أن بلغت رسائله الأربعين.
توقف عن الأمر بغتة، حيث عجز عن كتابة رسالة أخرى بعد الأربعين تلك. حاول مرّات وكرّات. كانت يده تتحجّر على الورقة البيضاء، ولا يستطيع أن يدوّن حتى نقطة. استغرب لذلك فربما نهر الوحي انقطع فجأة أو تجمّد بالأحرى.
تساءل كيف لمْ يحتفظ بنسخ من تلك الرسائل، فلربّما ضاعت كلها، والأحرى أن يجمعها في كتاب يقترحه على المؤسسة التي يشتغل فيها كمحرّر أدبي.
انصرمت أيام -تقدّر بأربعين أسبوعا تماما و كمالا- عندما وجد امرأة تنتظره ليلا على عتبة بيته وقد عاد من الحانة.
- عذرا هل أنت هو السيد المحرّر؟!
قالت له بتوجس وتردد.
نظر إليها مشوشا، فلم يسبق له أن رأى وجهها أو عرفها في يوم من الأيام.
- أهلا بك سيدتي.
دخلت السيدة معه إلى الشقة، وهناك سألته وهي تجلس على الأريكة باحتدام:
- أود أن أعرف بداية من دلّك على عنواني؟
- أيّ عنوان ؟ سألها مفاجأ باضطرام.
أخرجت رسالة من حقيبتها واتضح له أنها الرسالة الأربعون، الرسالة الأخيرة التي أرسلها لآخر امرأة مفترضة، حيث انقطع وحي كتابته فيما بعد.
أصابه الذهول وخرس طويلا قبل أن يتمتم:
- هل أنت صاحبة العنوان؟
- كيف تجهلني إذن وقد بعثت لي رسالة باسمي، بل تصفني بدقة متناهية وتطري على أنوثتي وأشيائي؟!
وقف المحرر واحتار فيما سيقول أو يفعل، ثم نبس:
- الحكاية تحتاج إلى كأس، فهلّا قبلت بدعوتي؟
وقفت ورسمت ابتسامة مبهمة. لهجت:
- لن أمانع، ما دام في الأمر حكاية يجب أن أسمعها بالكامل.
في الحانة حاول أن يشرح لها بأنه يجهلها بالفعل ولا يعرف شيئا عن عنوانها، فكلّ ما في الأمر أنه وجد نفسه يكتب رسائل من فترة ويرى عناوين تلك النساء في أحلامه، فأخذ يرسلها تباعا لهن.
- وهل تذكر أسماء أولئك النسوة الأربعين؟
سألته في توتّرٍ ذاهلٍ.
- بلى أتذكّر أسماءهن وعذرا إن صارحتك بأني لا أتذكر عناوينهنّ، فما أن دوّنتها حتى نسيتها فورا.
في الحانة بدت له امرأة في الخمسين من عمرها، ذات جمال باذخ وناهب. سحرَه وجهها الغريب، فأطياف نداوتها ثرية وبضاضتها جليلة وإيحاءات أقنعتها مترفة، وفي عينيها تتألق ألوان شتى بين الأزرق والأخضر والكستنائي.
خرق قانون الست جعات منذ رجع إلى السهرة، وشرب بذهول مفرط غير مصدق لما هو فيه من جنون أخرق. ليته كان محرّرا في مؤسسة تعنى بالقصص البوليسية بدل الشعر، ليجزم الظنّ بأن المسألة محض تأثير هذياني من الأعمال التي يشرف على تدقيقها والتصرف في متونها.
في سريرته تساءل وهو يمعن النظر فيها بإعجاب كاسح:
- ماذا لو أن النساء الأخريات حقيقيّات أيضا وجئنه بالتوالي واحدة، واحدة، ترى كيف سيكون جمالهن، أيفوق سحر هذه، أم يقلّ عنها؟
لم يكن قد انتهى من هسيس تخمينه عندما رشفت من جعتها السادسة قائلة:
- ماذا لو اكتشفت أن النسوة الأربعين، ما هي إلا نسخ لواحدة لا غير؟
ضحك وهو يعدّد جعاتها الستّ و تمتم:
- أربعون في واحدة، هل الأمر شبيه بلغز أم مزحة؟
ابتسمت بشكل ناهب كبرق متفرّع الأثر وقالت بحماس صلب:
- قطعا ليس مزحة ولا لغزا!
- مجازيا يبدو الأمر سحريا كقصيدة عظيمة، أما واقعا فلا يمكن لخيالي أن يذهب بعيدا إلى هذه التخوم القصيّة.
شربتْ ما تبقى في جعتها السادسة، ثم نبشت حقيبتها وأخرجت الرسائل الأربعين بما فيها رسالتها الأخيرة، ونشرت الذخيرة على الطاولة، عندها انتفض في مكانه مصعوقا ونظر شمالا ويمينا في ريبة متفاقمة، ربما يحلم!
رجع بنظرته المتحجّرة إلى الرسائل، ثم إلى وجهها، وهتف بصوت اعتورته بحّة خثراء:
- أي لعبة خرقاء هذه؟
طلب جعة واستأذنها في أن تستزيد وقالت:
- عذرا لا أتجاوز الستّ منها.
لم يباغته أنها مثله لا تتجاوز الست منها، وإن كان تلك الليلة قد تخطّاها، فما يرجّ ذهنه الآن هو لغز المرأة مع الرسائل التي أرسلها من فترة.
- هل لك أن تشرحي لي الأمر، فليس بيني وبين الجنون إلا شعرة كهلة، آيلة للانقطاع الوشيك وشوكا حقيقا وآنيا.
داعبت الرسائل وقالت:
- أنا كل هؤلاء النسوة.
لم تتركه يفرط في الدهشة أو يعجّل بسؤال آخر حين استرسلت:
- كل هؤلاء النساء عشت بأسمائهن، وفي عناوينهن المختلفة بالفعل، للأمر حكاية ترجع إلى طور العاشرة من تقويم سنّي، عندما حدث لي مكروه، فأصابني مرض غريب، شكل من أشكال الفصام يرغمني على أن أتقمّص في كل سنة شخصية امرأة باسم مغاير، وأنتقل للسكن في عنوان غير الأول. من حسن حظي أن أبي كان فاحش الثراء، ممّا جعله يوفّر لي السكن في أكثر من مدينة وبلد خوفا عليّ من الانتحار. وهكذا عشت حياة أكثر من اسم وامرأة بداخلي دون أن أعي ذلك، إلى أن استقر بي الحال في هذا العنوان الذي وصلتني فيه رسالة منك. طبعا لم أكن أعلم حكاية مرضي إلى أن باح لي بها طبيبي الخاص، الذي توفّي من ستّة شهور.
***
كل أولئك النساء كنّ نسخا من امرأة واحدة إذن، هكذا يكون قد أرسل لها أربعين رسالة في أربعين عنوان سكنتها، منذ أن كانت في سن العاشرة، سكان تلك البيوت جئنها بتلك الرسائل التي وصلت بالتعاقب على بريد المنازل. تعاقب يتطابق مع ترتيب تدرّج المرأة ارتحالا من بيت إلى آخر.
ها هي ذي تجلس أمامه أخيرا، وهو منهوب البال واليقظة، ليس بفعل الجعة وإنما بفعل صدمة الحكاية اللاتصدّق. نظر إلى وجهه في مرآة جانبية وتساءل همسا:
- هل يعقل أن يكون الأمر محض هلوسة؟ متى بدأ هذا الهذيان اللعين؟
عندها تذكر ريشة الغراب. كل ذلك الجنون من تأثير الريشة اللعينة. خمّن. قلّب جيوبه ونهض، ثم ركض باتجاه البيت، وترك المرأة مندهشة من ردّ فعله. تبعته إلى شقته ووجدته قد أخرج الريشة من معطفه المعلق على المشجب وتحجرت نظرتها على الريشة. قال:
- أعلم أنك لست حقيقية، وكل هذا الكابوس سيزول بعد أن أتلف هذه الريشة الملعونة.
فكّر في أن يحرق الريشة. فكّر في أن يدوسها بحذائه وينتف خيوطها ويدمرها، ثم هرع إلى النافذة محاولا أن يلقي بها إلى الرياح.
- مهلا!
قالت له المرأة صارخة، وتلقفت الريشة منه وقالت:
- هل لك أن تقصّ لي حكاية الريشة فربما ثمة مفتاح لكل هذا اللغز؟
سقط على الكرسي، وفتح أزرار قميصه وحكى:
- كل شيء بدأ عندما كنت أتمشى في الضاحية بجوار النهر، حين سمعت طلقة رصاصة.
………………………..
أشعلت المرأة سيجارة، وصمتت لحظة في ذهول وقالت:
- لم أكن أتوقع أن للغراب علاقة بالأمر ثانية!
نظر إليها منهوبا ونبس:
- كيف؟
- الخطب الذي أصابني، أو المرض الغريب الذي ألمّ بي في سن العاشرة الأولى، كان له علاقة، بصورة من الصور، بالغراب، بريشته تحديدا! ثمّة صبيّ زنجيّ من الخدم السود في بيت أبي، غريب الأطوار، ساحر ووسيم، كنت أحب رفقته وما يقترفه من جنون طائش. ذات مرّة في النّهر، خلع عنّي ملابسي وكتب بريشة غرابٍ على جسدي العاري مئة قصيدة لمئة شاعر، لا أعرف كيف يحفظها اللعين وكيف جاءته الفكرة الطقوسية الغريبة. عندما اكتشف أبي الأمر عاقبه جلدا حتى الموت حيث استغلّ غيابي لأسبوع.
لم يدعها تستأنف الحكي العجيب، حين عجّل بالكلام المهووس وسألها عن المئة قصيدة والمئة شاعر التي دوّنها الصبي الزنجيّ بريشة الغراب على جسدها. انفرطت لآلئ عقله دهشة في كل الاتجاهات، عندما ردّدت المرأة عناوين القصائد وأسماء الشعراء المئة، لقد كانت هي نفسها عناوين مختاراته من الشعر والشعراء التي يعدّها، ويشرف عليها، ويحرّرها في مؤسسة النشر.