جلد الذات في نص بابا بابا ، أنا لست هنا يا بني لعادل المعيزي

جلد الذات ( self-abasement ) في نص - بابا بابا...
- أنا لست هنا يا بني
لعادل المعيزي{°} .

العنوان جاء في قالب حوار أو مكالمة بين ابن و والده لينفي المنادى وجوده أو لنقل « توفّره »، إنّه خارج الخدمة أو بلغة مشغّل الاتصالات :« مخاطبكم مشغول بمكالمة أخرى » أو بمعنى أدق :« لا يمكن الحصول على مخاطبكم في الوقت الراهن ، الرجاء ترك رسالة صوتية ... ». و هنا السؤال المطروح : أيّ رسالة سيتركها الإبن لأبيه ؟
نشير بداية إلى أن التوزيع البصري للنص يبرز لنا تقسيمه الى ثلاثة مقاطع كبيرة يبتدأ كل مقطع منها بلازمة (refrain ) :« ابني الذي يتركني الآن ... » ، ليمتزج البصري بالوجداني فيفاجئنا عادل المعيزي منذ السطر الاول بسبب ترك ابنه له ، وهو سبب صادم لنا من حيث بعده الاجتماعي و الأخلاقي حين يقول بمرارة المهزوم :« بعدما انتهت صلاحيتي »، فإذا به « بيضا مخفوقا في مستشفى الأمراض العقلية » بسبب جملة من الأسباب التي لخّصها في السطر (13) :« قالبا بذلك لهجة المدينة » ، و بذلك تتحقق عمليّة " الحجر " قانونيا لانتهاء صلاحية الأب المعتوه من وجهة نظر طبية و اجتماعية و سياسية في آن معا .
هذا الأب الذي خرج عن " القطيع الاجتماعي " و أعرافه فسمّى الأشياء بغير مسمّياتها و تمرّد على العادات فكان جزاؤه الترك في مستشفى الأمراض العقلية . و لكن هل ستنتهي عذاباته هنا ؟
تتواصل رحلة المعاناة النفسية- الجسدية في الفقرة الثانية بداية من السطر (14 إلى 33 ) ليصدمنا الشاعر في السطرين ( 14/ 15 ) بالنتيجة
التي وصلها حين تركه ابنه في مستشفى الأمراض العقلية حيث نجده « الآن غارقا في برازي على فراش مثقل ببياض الأسى ». انها مرحلة الدنس التي لا يتمناها اي انسان إلا العدوّ لعدوّه ، فإذا بالابن هنا عدوّ شامت . و لكنّ صدمتنا لن تطول كثيراً مع فعل قادح يفسّر أسباب ما وصل إليه الأب من دونيّة ، انّه فعل « تذكّرت » ( السطر 16 ) ، و أنّى له الذّكرى ؟!
إن هذه الذكرى تحيلنا على أنّ الجزاء من جنس العمل، فإذا بنا أمام سابقة في الفعل تدور حول فعل « ترك » في سيرورته الزمنية من الماضي إلى الحاضر الذي هو نتيجة حتميّة صوّرها لنا عادل المعيزي ببعد درامي - فنّي مثير معتمدا أسلوب التدرّج في الفعل :" تركته / نزعته / سلّمته / خلّفته / انشغلت عنه / أرسلته / مسخته / قيّدته / جعلته يتلوّى ألما ) لنصل إلى ذروة الفعل المحطّم لنفسيّة هذا الإبن حين يقول "« قبل أن أتركه في الجامعة وأمضي في اتجاه الخطوط المبهمة » ( السطران 32 و 33 ) ، فيكون دوران فعل" ترك " في الزمن بداية انتهاء الصلاحية و نهاية حتميّة لعلاقة الأب و ابنه .
إن هذا الإلغاز الذي يقيمه عادل المعيزي متوسّلا بفعل " ترك" في أزمنة مختلفة تدور حوله المتعة الدرامية في أبعادها السّرديّة و الوصفيّة سرعان ما ينجلي غموضها للقارئ في الفقرة الثالثة ( من السطر 34 إلى السطر 45 ) ، فيواصل التوكيد على وعيه باللحظة التي يعيشها فيكون كلامه عودا على بدإ يلخّصه في الأسطر ( 34 - 35 - 36 ) :« ابني الذي يتركني الآن شبحا منتهي الصلوحية ، مرميّا في مزبلة العقل » ، ليواصل ما بدأت في السطر (16) بفعل « تذكّرت » في السطر (37 ) حين استرجع ما كان بينه و بين ابنه "منذ ثلاثين سنة " ، فإذا به يقرّ بكونه :« كنت قتلت المكالمة الهاتفية حين أراد أن يخبرني أن وجه القمر المبتسم الذي كنّا نشاهده معا .... » ، ليكون الانفصال الأبدي بينهما و لينقطع حبل ذكريات جمعتهما .
إنه جلد الذات الذي صوّره لنا عادل المعيزي من خلال ما ميّز علاقة الإبن بأبيه و الذي تصل ذروته في السطرين الأخيرين ( 44- 45) حين نادى ربّه في استفهام إنكاريّ مؤلم و لكن بعد فوات الأوان، فتتلخّص عملية جلد الذات في قولةِ :" و لك مثل ما فعلت و لو بعد حين " .
إن هذا الصراع بين الأب و ابنه الذي صوّره لنا عادل المعيزي عبر آلية جلد الذات أو التحقير الذاتي في بعده النفسي- المعنية التي قوامها لوم الإنسان لنفسه لارتكابه سلوكيات خاطئة ، كان رسالة اجتماعية واضحة للانسان المعاصر الذي شغلته طموحاته المادية و لفّه غول التكنولوجيا عن جانبه الانساني- الاجتماعي و خاصة علاقته بأبنائه في عالم متحوّل يلتهم كل من يجاريه دون وعي بثوابته القيمة و الأخلاقية فتكون نتيجته الحتمية من جميع الأطراف :« أنا لست هنا » !
م أ مخلوف ( تونس )
{°}عادل المعيزي ، من شعراء جيل التسعينات في تونس الذي أسس لموجة جديدة من الشعراء و الكتاب.
من مؤلفاته عدة مجموعات شعرية اشهرها: " وطّان القصيدة "(1998) و " احبّك حين أحبّك "(2002) و " أمس منذ الف عام "(2004) و " تطير الخاطيف "(2009) و " استدارة كاملة ينقصها جناح "(2019).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...