أول مدينة قد تتبادر إلى الذهن في الكتابة عن مدن الشاعر العراقي مظفر النواب هي مدينة القدس ، والذين درسوا موضوع القدس في الشعر العربي ، وأنا منهم ، التفتوا إلى القدس وقلما التفتوا إلى غيرها من المدن التي حضرت في شعر الشاعر .
حضر المقطع " القدس عروس عروبتكم " في قصيدة " وتريات ليلية " وحضر ذكر القدس في قصائد أخرى ، ولكن مظفر النواب لم يخص القدس بقصيدة تقتصر عليها أو تحمل عنوانها ، والذين جعلوا من دال القدس عنوانا للمقطع وجعلوه قصيدة هم من أصدروا مختارات من قصائد الشاعر الذي لم يشرف ، حسب علمي ، حتى اليوم على طبعة خاصة لأشعاره .
والطريف أن مدنا أخرى خصها الشاعر بغير قصيدة ، وحضرت حضورا ثانويا في قصائد أخرى ، لم تحظ بالالتفات إليها ؛ دراسة وشيوعا ، كما حظيت " عروس عروبتنا " .
دارسو أشعار مظفر النواب لم يلتفتوا إلى موضوع المدينة ، بشكل عام ، في شعره ، علما بأن الشاعر كتب قصيدتين في بيروت وقصيدة في دمشق ، وذكر المدينتين في قصائد عديدة أخرى ، وبعد صدور أعماله الشعرية في ١٩٩٦ كتب قصائد عديدة عن بغداد ، وصارت هذه تقف جنبا إلى جنب مع بيروت ودمشق ، وما ورد في كتاب باقر ياسين " مظفر النواب : حياته وشعره " ( ١٩٨٨ ) تحت عنوان " مدن وبلدان الوطن العربي في شعر مظفر النواب " لا يعطي تصورا وافيا شافيا ، فالكتابة لامست الموضوع ملامسة ولم تغص فيه ، ما يعني أن هناك مجالا واسعا لأن يكتب في الموضوع كتابة ثانية وثالثة ، عدا أن الدراسة أنجزت في العام ١٩٨٨ وبعد هذا العام كتب الشاعر قصائد كثيرة لم تجمع ، حسب ما أعرف ، حتى اللحظة .
بعض المدن الأوروبية كان حضورها في أشعار الشاعر قليلا ، ولكنه فاعل ومؤثر ، ومن هذه المدن " أثينا " التي أقام فيها إقامة عابرة قبل ١٩٨٢ . إن حضور أثينا في قصيدة " ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة " يقتصر على مقطع هو :
" فرح الاجراس يأتي من بعيد
وصهيل الفتيات الشقر
يستنهض عزم الزمن المتعب
والريح من الرقعة تغتاب شموعي
رقعة الشباك كم تشبه جوعي
وأثينا كلها في الشارع الشتوي
ترخي شعرها للنمش الفضي
والأشرطة الزرقاء واللذة
- هل أخرج للشارع ؟ من تشتريني بقليل من زوايا عينها ؟
تعرف تنويني وشداتي وضمي وجموعي ؟ "
ولكنه مقطع يمكن أن يفيض المرء في الكتابة عنه صفحات وصفحات ، فأثينا للشاعر غير بغداد وبيروت ودمشق ، والصورة المفصلة لهذه المدن الثلاثة العربية تقابلها صورة للمدينة الغربية اختزلها الشاعر في المقطع السابق . وقد استثنى عنوان باقر ياسين المدن الأجنبية .
واللافت في أشعار الشاعر الذي عرف أنه شاعر سياسي يهجو ويشتم وتحفل قصائده بالأيديولوجيا والشعارات السياسية ، اللافت أنه كتب أول قصيدة بالفصيحة عن مدينة ، والقصيدة هي " قراءة في دفتر المطر " والمدينة هي بيروت ، وتحليل القصيدة يجعلنا نقول الكثير في بيروت التي سيعود الشاعر ليكتب فيها قصيدة ثانية هي " كيف تبني السفينة في ضوء المصابيح والقمر " ويرسم لها صورة مختلفة عن الصورة التي بدت لها في القصيدة الأولى ، ما يجعل من تتبع القصائد تتبعا تعاقبيا أمرا لا مفر منه .
وإذا كان الشاعر زار بيروت وتجول في شارع الحمراء ولاحظ أنه أقرب إلى المدن الغربية منه إلى المدينة العربية ، فإنه في القصيدة الثانية التي كتبت بعد حصار بيروت ، مع بداية الحرب الأهلية ، فإنه رأى أنها مدينة مختلفة عن بقية العواصم العربية ، وهذا ما أرق العواصم فلجأت إلى محاصرتها .
في القصيدة الأولى يكتب مظفر :
" البارحة اشتقت ومرت في قلبي
طرقات مدينتنا
تبكي
الدمع على أرصفتي يبكي
يبكي
ومدينة أيامي
باعوها
في الساحة تبكي "
ويغدو حزينا يخاف على أيام بيروت من أهلها ومن لغة أخرى كانت تطغى على العربية .
وفي القصيدة الثانية يطلب الشاعر من الفحل أن يمزق شعر بيروت الليلكي ، بيروت التي صبغت وجهها بكل اللغات :
" وأعلن
كل الأزقة
قد راودتها على نفسها
والملوك المواخير
قد كتبوا نعيها
في بياناتهم
تركوها
تعاني مخاضا دميما
من المرض الهمجي
بأصلابهم
من شيوخ الخليج زنت
من شيوخ الحجاز زنت
من شيوخ اليسار
ثلثه في اللسان
وثلثاه عند اليمين زنت
كل بارقة لقحتها
وبعض السفارات
قد واقعتها سحاقا "
ومثل بيروت دمشق التي قال فيها :
" دخلت الجامع الأموي لم أعثر على أحد من العرب "
ثم عاد وكتب اعتذارية تعد من عيون الاعتذاريات في الشعر العربي وأبرز فيها لدمشق صورة بهية زاهية ، رابطا بينها وبين بغداد .
قي قصيدة " باللون الرمادي " التي مطلعها :
" دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي
يقودني شبح مضنى إلى شبح "
نقرأ وصفا لدمشق ربما يفوق وصف نزار قباني ابن دمشق . يقول مظفر في دمشق :
" يا جنة مر فبها الله ذات ضحى
لعل فيها نواسيا على قدح
لقد سكرت من الدنيا ويوقظني
ما كان من عنب فيها ومن بلح "
إن عدم التوقف المتأني أمام القصائد الثلاث ، وعدم تحليلها تحليلا مفصلا وتبيان صلة الشاعر فيها ، من خلال معرفة السبب الذي دفعه لأن يكتب فيها قصائد خاصة ، ثم البحث عن الصورة التي رسمها للمدينتين فيها ، لن يعطي تصورا وافيا عن المدينة في شعر النواب .
زار الشاعر في ١٩٦٩ بيروت فشعر بالغربة ورأى في شارع الحمراء فيها شارعا لا ينتمي إلى مدينة عربية ، ثم رأى فيها في وقت لاحق مدينة محاصرة ملاحقة يزني الآخرون فيها .
لماذا في " باللون الرمادي " قدم صورة مشرقة لدمشق ، علما بأنه في قصيدة أسبق لم يعثر فيها على أحد من العرب ، فقرأ وهو في الجامع الأموي سورة الفاتحة بالعبرية الفصحى ؟
وماذا عن بغداد التي خصها ، بعد أن زارها بعد سقوط حكم صدام حسين ، ببعض قصائده وبين علاقته بها وعشقه لها معبرا عن حسرته وحزنه لما آلت إليه ؟
يقول مظفر في قصيدة " تحت طاقات بغداد القديمة " وهي لم تظهر في أعماله الكاملة ، يقول :
" أرى أن مشرقها مثل مغربها في السواد
وإن احتلالا لأرحم مما أرى من مزاد
كساد عجيب وأعجب منه التزاحم
بالمنكبين مزاودة بالفساد " .
هذه هي بغداد كما رآها بعد ريارتها بعد غياب ثلاثين عاما عنها . ما الذي حدث ولماذا حدث ما حدث ؟ وما سبب اختلاف الصورة للمدينة نفسها بين فترة وأخرى ؟
هذه كلها أسئلة يثيرها قاريء أشعار الشاعر ولا بد من أن يجد إجابة عنها .
المدن التي ورد ذكرها في شعر مظفر كثيرة جدا ، ولكن تلك التي خصها بقصائد قليلة ، ولا بد من تحليل هذا وتوضيحه ، وهذا ما لا يتسع لإظهاره المقال .
الجمعة والسبت
٢٠ و٣٠ كانون الثاني ٢٠٢١
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2771338173119734
حضر المقطع " القدس عروس عروبتكم " في قصيدة " وتريات ليلية " وحضر ذكر القدس في قصائد أخرى ، ولكن مظفر النواب لم يخص القدس بقصيدة تقتصر عليها أو تحمل عنوانها ، والذين جعلوا من دال القدس عنوانا للمقطع وجعلوه قصيدة هم من أصدروا مختارات من قصائد الشاعر الذي لم يشرف ، حسب علمي ، حتى اليوم على طبعة خاصة لأشعاره .
والطريف أن مدنا أخرى خصها الشاعر بغير قصيدة ، وحضرت حضورا ثانويا في قصائد أخرى ، لم تحظ بالالتفات إليها ؛ دراسة وشيوعا ، كما حظيت " عروس عروبتنا " .
دارسو أشعار مظفر النواب لم يلتفتوا إلى موضوع المدينة ، بشكل عام ، في شعره ، علما بأن الشاعر كتب قصيدتين في بيروت وقصيدة في دمشق ، وذكر المدينتين في قصائد عديدة أخرى ، وبعد صدور أعماله الشعرية في ١٩٩٦ كتب قصائد عديدة عن بغداد ، وصارت هذه تقف جنبا إلى جنب مع بيروت ودمشق ، وما ورد في كتاب باقر ياسين " مظفر النواب : حياته وشعره " ( ١٩٨٨ ) تحت عنوان " مدن وبلدان الوطن العربي في شعر مظفر النواب " لا يعطي تصورا وافيا شافيا ، فالكتابة لامست الموضوع ملامسة ولم تغص فيه ، ما يعني أن هناك مجالا واسعا لأن يكتب في الموضوع كتابة ثانية وثالثة ، عدا أن الدراسة أنجزت في العام ١٩٨٨ وبعد هذا العام كتب الشاعر قصائد كثيرة لم تجمع ، حسب ما أعرف ، حتى اللحظة .
بعض المدن الأوروبية كان حضورها في أشعار الشاعر قليلا ، ولكنه فاعل ومؤثر ، ومن هذه المدن " أثينا " التي أقام فيها إقامة عابرة قبل ١٩٨٢ . إن حضور أثينا في قصيدة " ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة " يقتصر على مقطع هو :
" فرح الاجراس يأتي من بعيد
وصهيل الفتيات الشقر
يستنهض عزم الزمن المتعب
والريح من الرقعة تغتاب شموعي
رقعة الشباك كم تشبه جوعي
وأثينا كلها في الشارع الشتوي
ترخي شعرها للنمش الفضي
والأشرطة الزرقاء واللذة
- هل أخرج للشارع ؟ من تشتريني بقليل من زوايا عينها ؟
تعرف تنويني وشداتي وضمي وجموعي ؟ "
ولكنه مقطع يمكن أن يفيض المرء في الكتابة عنه صفحات وصفحات ، فأثينا للشاعر غير بغداد وبيروت ودمشق ، والصورة المفصلة لهذه المدن الثلاثة العربية تقابلها صورة للمدينة الغربية اختزلها الشاعر في المقطع السابق . وقد استثنى عنوان باقر ياسين المدن الأجنبية .
واللافت في أشعار الشاعر الذي عرف أنه شاعر سياسي يهجو ويشتم وتحفل قصائده بالأيديولوجيا والشعارات السياسية ، اللافت أنه كتب أول قصيدة بالفصيحة عن مدينة ، والقصيدة هي " قراءة في دفتر المطر " والمدينة هي بيروت ، وتحليل القصيدة يجعلنا نقول الكثير في بيروت التي سيعود الشاعر ليكتب فيها قصيدة ثانية هي " كيف تبني السفينة في ضوء المصابيح والقمر " ويرسم لها صورة مختلفة عن الصورة التي بدت لها في القصيدة الأولى ، ما يجعل من تتبع القصائد تتبعا تعاقبيا أمرا لا مفر منه .
وإذا كان الشاعر زار بيروت وتجول في شارع الحمراء ولاحظ أنه أقرب إلى المدن الغربية منه إلى المدينة العربية ، فإنه في القصيدة الثانية التي كتبت بعد حصار بيروت ، مع بداية الحرب الأهلية ، فإنه رأى أنها مدينة مختلفة عن بقية العواصم العربية ، وهذا ما أرق العواصم فلجأت إلى محاصرتها .
في القصيدة الأولى يكتب مظفر :
" البارحة اشتقت ومرت في قلبي
طرقات مدينتنا
تبكي
الدمع على أرصفتي يبكي
يبكي
ومدينة أيامي
باعوها
في الساحة تبكي "
ويغدو حزينا يخاف على أيام بيروت من أهلها ومن لغة أخرى كانت تطغى على العربية .
وفي القصيدة الثانية يطلب الشاعر من الفحل أن يمزق شعر بيروت الليلكي ، بيروت التي صبغت وجهها بكل اللغات :
" وأعلن
كل الأزقة
قد راودتها على نفسها
والملوك المواخير
قد كتبوا نعيها
في بياناتهم
تركوها
تعاني مخاضا دميما
من المرض الهمجي
بأصلابهم
من شيوخ الخليج زنت
من شيوخ الحجاز زنت
من شيوخ اليسار
ثلثه في اللسان
وثلثاه عند اليمين زنت
كل بارقة لقحتها
وبعض السفارات
قد واقعتها سحاقا "
ومثل بيروت دمشق التي قال فيها :
" دخلت الجامع الأموي لم أعثر على أحد من العرب "
ثم عاد وكتب اعتذارية تعد من عيون الاعتذاريات في الشعر العربي وأبرز فيها لدمشق صورة بهية زاهية ، رابطا بينها وبين بغداد .
قي قصيدة " باللون الرمادي " التي مطلعها :
" دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي
يقودني شبح مضنى إلى شبح "
نقرأ وصفا لدمشق ربما يفوق وصف نزار قباني ابن دمشق . يقول مظفر في دمشق :
" يا جنة مر فبها الله ذات ضحى
لعل فيها نواسيا على قدح
لقد سكرت من الدنيا ويوقظني
ما كان من عنب فيها ومن بلح "
إن عدم التوقف المتأني أمام القصائد الثلاث ، وعدم تحليلها تحليلا مفصلا وتبيان صلة الشاعر فيها ، من خلال معرفة السبب الذي دفعه لأن يكتب فيها قصائد خاصة ، ثم البحث عن الصورة التي رسمها للمدينتين فيها ، لن يعطي تصورا وافيا عن المدينة في شعر النواب .
زار الشاعر في ١٩٦٩ بيروت فشعر بالغربة ورأى في شارع الحمراء فيها شارعا لا ينتمي إلى مدينة عربية ، ثم رأى فيها في وقت لاحق مدينة محاصرة ملاحقة يزني الآخرون فيها .
لماذا في " باللون الرمادي " قدم صورة مشرقة لدمشق ، علما بأنه في قصيدة أسبق لم يعثر فيها على أحد من العرب ، فقرأ وهو في الجامع الأموي سورة الفاتحة بالعبرية الفصحى ؟
وماذا عن بغداد التي خصها ، بعد أن زارها بعد سقوط حكم صدام حسين ، ببعض قصائده وبين علاقته بها وعشقه لها معبرا عن حسرته وحزنه لما آلت إليه ؟
يقول مظفر في قصيدة " تحت طاقات بغداد القديمة " وهي لم تظهر في أعماله الكاملة ، يقول :
" أرى أن مشرقها مثل مغربها في السواد
وإن احتلالا لأرحم مما أرى من مزاد
كساد عجيب وأعجب منه التزاحم
بالمنكبين مزاودة بالفساد " .
هذه هي بغداد كما رآها بعد ريارتها بعد غياب ثلاثين عاما عنها . ما الذي حدث ولماذا حدث ما حدث ؟ وما سبب اختلاف الصورة للمدينة نفسها بين فترة وأخرى ؟
هذه كلها أسئلة يثيرها قاريء أشعار الشاعر ولا بد من أن يجد إجابة عنها .
المدن التي ورد ذكرها في شعر مظفر كثيرة جدا ، ولكن تلك التي خصها بقصائد قليلة ، ولا بد من تحليل هذا وتوضيحه ، وهذا ما لا يتسع لإظهاره المقال .
الجمعة والسبت
٢٠ و٣٠ كانون الثاني ٢٠٢١
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2771338173119734