كان الولد ذو البشرة المائلة قليلًا إلى الزرقة يذهب كل يوم إلى المدرسة الصغيرة القريبة من البحر، وكان يرى أن أيام العام الدراسي كلها متشابهة عدا اليوم الأول واليوم الأخير، وذلك اليوم الذي دخل فيه أمين مكتبة المدرسة حصةً احتياطية بدلًا من مُدرِّس الحساب، وحكى للأولاد قصة العجوز والبحر.
كان في تلك الحكاية شيءٌ جعله غير قادر على الكلام، مع ذلك فقد بدأ بقية الأولاد في الكلام على الفور.
قال الولد ذو النظارة: "هذه قصة جيدة، فبها الكثير من الكلمات الجديدة التي لم أكن أعرفها."
وقال الولد ذهبي الشعر: "كان للعجوز قارب واحد، وأنا ستصير لي كل القوارب في العالم لأصطاد كل السمك في كل البحار."
صاحت البنت ذات الحذاء الأحمر اللامع: "لكنني لا أحب السمك. رائحته بشعة!"
وسألت البنت ذات الثوب الرمادي: "هل هي قصة خيالية أم أنها حدثت فعلا؟ أبي يقول إن الخيال كذب، وأنه لا يجب أن نصغي إلا لما يحدث في الواقع."
وأضاف الولد ذو الوجه المُنتفخ: "ولا يجب أن نصغي إلى الحكايات المملة كذلك! لم أسمع في حياتي قصة أقل إثارة من تلك!"
واستمر الأولاد في الكلام إلى نهاية اليوم، لكنه لم يقل أي شيء. حتى بعد أن انتهى اليوم ومضى عائدًا إلى بيته الصغير لم يتكلم. فقط كان يمشي بجوار البحر ويتأمله في صمت. فكر في أن ذلك البحر لم تكن له زرقة البحار التي يراها في الصور، بل كان رائقًا شفافًا إلى درجة أنه كان يستطيع تمييز ألوان حبات الرمال المختلفة النائمة على القاع.
"منذ متى – يا ترى – ترقد حبات الرمال ها هنا؟ وهل كانت دومًا على هذه الصورة؟ وهل ستصير كذلك إلى الأبد؟ لماذا لا تتقدم الرمال في العمر مثلنا؟ وهل ستظل هذه الحبات هنا إلى أن أصير عجوزًا كالرجل في الحكاية؟"
هكذا فكر الولد وهو ينظر في المياه الهادئة التي لم يُكدَّر استواء سطحها سوى بضع قطرات من دموعه تساقطت دون أن يدري.
في الأيام التالية كان الجميع قد نسوا كل شيء عن القصة، لكن الولد كان يذكرها في كل يوم في طريق ذهابه وفي طريق عودته. يتمهل قليلًا ليتأمل البحر، وتسافر عيناه إلى أماكن لم يرها قط، وتتساقط دموعه لتلتحم بالبحر إلى الأبد.
وتمر السنوات وتتغير معها ملامح الناس والأرواح والأماكن. لكن شيوخ البلدة يقولون إن الولد لم يفقد ارتباطه بالبحر قط، ولم يُغيِّر البحر من لون بشرته المائل إلى الزرقة، بل إنهم يزعمون – و لا أحد يعرف السبب يقينا – أن لون البحر هو الذي تغير حتى صار أكثر زرقة من كل البحار التي رأوها في الصور.
أحمد الديب
* قصة من كتاب: حكايات بعد النوم
كان في تلك الحكاية شيءٌ جعله غير قادر على الكلام، مع ذلك فقد بدأ بقية الأولاد في الكلام على الفور.
قال الولد ذو النظارة: "هذه قصة جيدة، فبها الكثير من الكلمات الجديدة التي لم أكن أعرفها."
وقال الولد ذهبي الشعر: "كان للعجوز قارب واحد، وأنا ستصير لي كل القوارب في العالم لأصطاد كل السمك في كل البحار."
صاحت البنت ذات الحذاء الأحمر اللامع: "لكنني لا أحب السمك. رائحته بشعة!"
وسألت البنت ذات الثوب الرمادي: "هل هي قصة خيالية أم أنها حدثت فعلا؟ أبي يقول إن الخيال كذب، وأنه لا يجب أن نصغي إلا لما يحدث في الواقع."
وأضاف الولد ذو الوجه المُنتفخ: "ولا يجب أن نصغي إلى الحكايات المملة كذلك! لم أسمع في حياتي قصة أقل إثارة من تلك!"
واستمر الأولاد في الكلام إلى نهاية اليوم، لكنه لم يقل أي شيء. حتى بعد أن انتهى اليوم ومضى عائدًا إلى بيته الصغير لم يتكلم. فقط كان يمشي بجوار البحر ويتأمله في صمت. فكر في أن ذلك البحر لم تكن له زرقة البحار التي يراها في الصور، بل كان رائقًا شفافًا إلى درجة أنه كان يستطيع تمييز ألوان حبات الرمال المختلفة النائمة على القاع.
"منذ متى – يا ترى – ترقد حبات الرمال ها هنا؟ وهل كانت دومًا على هذه الصورة؟ وهل ستصير كذلك إلى الأبد؟ لماذا لا تتقدم الرمال في العمر مثلنا؟ وهل ستظل هذه الحبات هنا إلى أن أصير عجوزًا كالرجل في الحكاية؟"
هكذا فكر الولد وهو ينظر في المياه الهادئة التي لم يُكدَّر استواء سطحها سوى بضع قطرات من دموعه تساقطت دون أن يدري.
في الأيام التالية كان الجميع قد نسوا كل شيء عن القصة، لكن الولد كان يذكرها في كل يوم في طريق ذهابه وفي طريق عودته. يتمهل قليلًا ليتأمل البحر، وتسافر عيناه إلى أماكن لم يرها قط، وتتساقط دموعه لتلتحم بالبحر إلى الأبد.
وتمر السنوات وتتغير معها ملامح الناس والأرواح والأماكن. لكن شيوخ البلدة يقولون إن الولد لم يفقد ارتباطه بالبحر قط، ولم يُغيِّر البحر من لون بشرته المائل إلى الزرقة، بل إنهم يزعمون – و لا أحد يعرف السبب يقينا – أن لون البحر هو الذي تغير حتى صار أكثر زرقة من كل البحار التي رأوها في الصور.
أحمد الديب
* قصة من كتاب: حكايات بعد النوم