كنتُ رفقة والدي حين حللت أول مرة بالمحطة الطرقية في الحاضرة العلمية. شدَّ انتباهي رجل يقترب منّا؛ أشعث أغبر، لم تُبق لفحات الشمس الحارقة من بياض سحنته سوى طيّات التجاعيد، عليه لباس رث، يبعث على الحزن.
خاطبنا:... إلى الدار البيضاء، إن شاء الله... إلى البيضاء أم الرباط؟
حين علم أنها وجهتنا، رفع حقيبة أغراضنا، ووضعها على كتفه، وصار يحث الخطى مسرعا، حتى كاد أن يضيع منا في زحمة المسافرين، ثم توقف حذاء حافلة، كتب على جانبها الأيمن بخط عريـض: أسفار الراحة والهناء.
فتح الرجل صندوق الأمتعة، وركن الحقيبة، ثم طلب من السائق أن يسلمنا أوراق السفر وغادر، يردد الموال: الدار البيضاء، الآن، على الطريق السيار... الرباط... على الطريق السيار.
هكذا يفعل خلال كل رحلة، ولا ينسى أن يدعو، كلما تحركت حافلة، للسائق والمسافرين، قائلا: طريق السلامة.
كنت كلما جئت إلى تلك المحطة وجدته، وأحيانا أمازحه قائلا: الدار البيضاء الآن... على الطريق السيار... الرباط... على الطريق السيار. وذات رحلة فتحت دفتر سيرته مع جار مسافر، قال لي: إنه هنا منذ أكثر من عشرين عاما، كائن كحولي، يحضر فجرا ولا يغادر إلَّا إذا جنّ الليلُ. تُروى عنه حكايات وروايات تتجاوز الخيال في الفتوة والصبر بفضاء تتناسل فيه نزعات الشر وتتنوع. كل ما يجمعه من مال يتقاسمه مع زوجته، وحدها تعرف تفاصيل أيامه ولياليه... وأشار إلى امرأة تجلس تحت عريش صغير، على يمين باب المحطة.
التفتُ أنظر ناحيتها: امرأة سقطت من دوحة عمرها أوراق كثيرة، ملامحها حزينة حتى الموت... على يمينها دلوان كبيرتان مملوءتان ماء، تغسل فيهما الأواني، وأمامها طاولة، وكراسي يجلس عليها عابرو السبيل، يتناولون ما يسدون به رمقهم، وعلى يسارها طفل يبيع السجائر بالتقسيط.
مر حين من الدهر، اشتريت خلاله سيارة، فغابت عني أخبار المحطة. وفي صباح يوم بارد، وأنا أزور قريبا لي في المستشفى، سمعت نبرات غير غريبة عني. يممت وجهي شطر الغرفة، رأيت المرأة نفسها تجلس على حافة السرير، وقد وضعت يدها على رأس رجل، وهو يردد: الدار البيضاء، الآن، على الطريق السيار... الرباط... على الطريق السيار... كان هو... رجل المحطة الطرقية...
كان المسكين يُحْتضر.
خاطبنا:... إلى الدار البيضاء، إن شاء الله... إلى البيضاء أم الرباط؟
حين علم أنها وجهتنا، رفع حقيبة أغراضنا، ووضعها على كتفه، وصار يحث الخطى مسرعا، حتى كاد أن يضيع منا في زحمة المسافرين، ثم توقف حذاء حافلة، كتب على جانبها الأيمن بخط عريـض: أسفار الراحة والهناء.
فتح الرجل صندوق الأمتعة، وركن الحقيبة، ثم طلب من السائق أن يسلمنا أوراق السفر وغادر، يردد الموال: الدار البيضاء، الآن، على الطريق السيار... الرباط... على الطريق السيار.
هكذا يفعل خلال كل رحلة، ولا ينسى أن يدعو، كلما تحركت حافلة، للسائق والمسافرين، قائلا: طريق السلامة.
كنت كلما جئت إلى تلك المحطة وجدته، وأحيانا أمازحه قائلا: الدار البيضاء الآن... على الطريق السيار... الرباط... على الطريق السيار. وذات رحلة فتحت دفتر سيرته مع جار مسافر، قال لي: إنه هنا منذ أكثر من عشرين عاما، كائن كحولي، يحضر فجرا ولا يغادر إلَّا إذا جنّ الليلُ. تُروى عنه حكايات وروايات تتجاوز الخيال في الفتوة والصبر بفضاء تتناسل فيه نزعات الشر وتتنوع. كل ما يجمعه من مال يتقاسمه مع زوجته، وحدها تعرف تفاصيل أيامه ولياليه... وأشار إلى امرأة تجلس تحت عريش صغير، على يمين باب المحطة.
التفتُ أنظر ناحيتها: امرأة سقطت من دوحة عمرها أوراق كثيرة، ملامحها حزينة حتى الموت... على يمينها دلوان كبيرتان مملوءتان ماء، تغسل فيهما الأواني، وأمامها طاولة، وكراسي يجلس عليها عابرو السبيل، يتناولون ما يسدون به رمقهم، وعلى يسارها طفل يبيع السجائر بالتقسيط.
مر حين من الدهر، اشتريت خلاله سيارة، فغابت عني أخبار المحطة. وفي صباح يوم بارد، وأنا أزور قريبا لي في المستشفى، سمعت نبرات غير غريبة عني. يممت وجهي شطر الغرفة، رأيت المرأة نفسها تجلس على حافة السرير، وقد وضعت يدها على رأس رجل، وهو يردد: الدار البيضاء، الآن، على الطريق السيار... الرباط... على الطريق السيار... كان هو... رجل المحطة الطرقية...
كان المسكين يُحْتضر.