إذا كانت رواية "لمن تقرع الأجراس؟" للكاتب الأمريكي العظيم أرنست هيمنجواي تطرح في عنوانها سؤالاً حول جدوى قرع الأجراس بعد موت المئات في الحرب الأهلية؛ فإن عنوان مجموعة "صمت النواقيس" القصصية للكاتبة التونسية فتحية دبش يأتي في صيغة نتيجة تقول: لا أجراس تُقرع على الإطلاق في ظلّ تدمير إنسانية الإنسان. ليس هذا صوت بطلة قصة "صمت النواقيس" التي يأخذها الأب في الكنيسة خلف حجاب ليطلب منها أشياء غريبة، فحسب، بل هو صوت المحزونين والمقموعين من ضحايا الحزن والقهر والسرطان والمخدّرات والتحرّش والاغتصاب.
تقوم المجموعة هنا على نصوص ألّفتها الكاتبة (باستثناء نص مشترك مع الكاتب السّوري ناصر محمد ناصر)، تطرح فيها رؤية تستند إلى انتقاد السائد الاجتماعي، والحثّ على التمرّد من أجل تجاوزه في قالب سرديّ مشوّق يُحسن التعامل مع عناصر السرد المختلفة بلغة تترجّح بين الإخبارية والجمالية.
فإذا بدأنا من العتبات نقف أمام عنوان صمت النواقيس الذي يحيل على فجيعة ترسّخها موضوعات القصص، ويخفّف من حدّتها إهداء عائليّ يحمل الكثير من الأمل، وملاحظة صغيرة حول مدقق لغوي (أستغرب وجوده)، في ظلّ وجود أخطاء بعد التدقيق على المستوى الإملائي والنحوي والتركيبي، ومقدّمة تستند فيها الكاتبة إلى كروتشه في رسالة تمرّد على التجنيس الذي يسمّيه "نظرية الأنواع الأدبية بالنظرية الخاطئة"؛ لنطالع من ثمّ قصصاً قصيرة، ليس فيها خروج على التجنيس، بمقدار ما فيها من تنويعات على السّرد، ثم تدلف الكاتبة إلى عتبة أخرى تركّز فيها على ما تراه جوهرياً في الأدب عبر مقولة لجلال الدين الرومي: "ليرتفع منك المعنى لا الصوت، فإن ما يجعل الزهر ينبت ويتفتح هو المطر لا الرعد"، وهي مقولة أتفق معها إلى حدّ كبير، وإن كانت تطيح بشعراء الصنعة الكبار في الثقافة العربية التقليدية، وتعطي أهمية كبرى لشعراء الرؤية الثاقبة.
*****
على صعيد التأثيث المكاني تجتهد الكاتبة اجتهاداً حسناً في البحث عن التفاصيل الدالة، تستغني بها عن كثير من الحشو الذي تغصّ به كثير من النصوص السردية؛ فإذا تصفّحنا قصة "المخصي" (وهي قصة تحيل على خصاء وجودي وقهري بعيد عن الدلالة المباشرة المبتذلة)، وجدنا الكاتبة تهتم برسم صورة شديدة التكثيف والدلالة للمحطة التي وقف فيها السجين المفرج عنه؛ لنلمس من خلالها التطورات السياسية والاجتماعية التي شهدها المجتمع في المدة التي قضاها البطل خلف القضبان:
"في المحطة، رأى وجوهًا غريبة، ونساء تذكِّرنه بسواد الغربان، فرك عينيه لعله يجد ألوان الصورة التي كان جزءًا منها، لكنه كلما دقّق النظر عاودته بيضاء وسوداء وجلابيب طويلة، تساءل عن اختفاء ألوان قزح وهو طالب ومحامٍ شاب"
كما تفيد الكاتبة في التأثيث من المفتوح والمغلق (بيئة السجن)، ومن الصوت واللون والرائحة. وفي مرور سريع على اللون مثلاً نكتشف أنّها أفادت كثيراً من الدلالات الراسخة للألوان: الأسود والأبيض والأصفر والأحمر الذي تواترت دلالته بين حاوية فضلات يملؤها قطن أحمر، وأحمر يصبع الأرصفة بعد إحدى المظاهرات.
****
وفي تقديم الحكاية، تقدّم فتحية دبش بشكل عام نسقاً تعاقبياً، يستند أحياناً إلى الاستذكار، وإلى التقديم المباشر للزمن أحياناً أخرى، فتحدّثنا عن مساء شتوي من أكثر المساءات امتدادًا، شمسه الخجلى تحجبت على عجل، وعن فجرٍ لاح رمادياً، ولم يغنّ بعده طير ولا أشرقت شمس. غير أنّ الكاتبة تخترق هذا النظام أحياناً لصالح بنية دائرية تبدأ فيها من نقطة محددة وتعود إليها، أو لصالح بنية مقطعية، تتناوب فيها السرد شخصيتان، أو من حالة قصصية، أو من بنية عجائبية ترصد حديث شخص غادر الحياة.
وربما كان من المناسب هنا أن نخص قصة "حساب" بالحديث عن حكايتها التي تجعلها تتنمي إلى فن القصة القصيرة جداً، لا إلى القصة القصيرة؛ فهي تتحدث عن امرأة صعدت برج إيفيل وتذكرت خطاياها ثم نزلت، وليس ثمة ما يفصل بين الصعود والهبوط غير اعترافات تدلي بها البطلة أمام نفسها بغية التطهّر، وتحيل بذكاء على كلاسيكيات الأدبين العربي والعالمي كالمعراج القرآني ورسالة الغفران والكوميديا الإلهية.
وعلى الرغم من أن معظم افتتاحيات القصص حدثية بشكل عام، على نحو ما نجد في قصتي "الغريب" و"الولادة"، فإنّ بعض القصص تبدأ بعبارات غير حدثية تهدف إلى الإثارة والتشويق، على نحو ما نجد في قصة "مأتم" التي تبدأ بالنسق اللفظي التالي: "قصتي ليست جميلة هذه المرة!".
أمّا النهايات فهي، بشكل عام، مفتوحة على الاحتمالات، وهي تلمّح أكثر مما تصرّح حين يتعلق الأمر بالعيب الاجتماعي والمحظور اللغوي، فتبتعد بذلك عن ابتذال يستجدي إعجاب المراهقين.
*****
تختار فتحية شخصياتها من أطراف المجتمع، وتصفهم من الناحية الجسدية والنفسية، غير أنها لا تهتم كثيراً بإطلاق أسماء ذات دلالة عليهم، فهناك زهرة وفاطمة ومريم، وليس ثمة استثناء من هذا الأمر سوى اسم "وحيد"، ومعرف أن التسمية هي إحدى وسائل التشخيص التي تُمْكِنُ الإفادة منها.
غير أن ما يحسب لها هو أنّها تقدّم شخصياتها من خلال السرد، ولا تربك تتابعه بصفات تُوقِف الزمن السردي، فهي لا تقدّم مثلاً شخصية ذات لحية كثّة وشعر طويل بشكل منفصل عن الحدث، بل تقول: "مرَّر يديه على لحيته الكثَّة، بعثر أفكاره بخلخلة الأصابع في شعره الطويل"، وهذا من سمات السرد غير المتعثّر. كما تلجأ إلى نمذجة الشخصيات، فتقدّم نموذج الأم والجلاد والضحية وغيرها، وتخرج في نموذج الجدّة عمّا هو مألوف، فهي "لا تشبه الجدات المترهلات، لا يعوقها ثوبها الريفي الفضفاض حين الجري معنا وراء أغنامها"، غير أن النموذج الأكثر ظهوراً هو الأنثى المتمرّدة على الأعراف البالية والتقاليد التي تكبّل المجتمع.
******
تقحم فتحية دبش القارئ أحياناً في أتون حكايتها، وتعتمد أحياناً أخرى في لغة القص على خيال خصب يجمع المفردات اللغوية إلى بعضها بصورة مدهشة، ومعروف أن التجاور غير المألوف للمفردات هو ما يصنع دهشة اللغة، فهي تتحدث عن ساردة ترتّل الرسالة "كتسبيح أزليٍّ"، وعن امرأة ماتت فسافرت إلى "غيمة المطر الخرافي"، وتفيد من تداخل الحواس، ومن الرموز الدالة (صورة جيفارا/ طوق الياسيمن)، وتقدّم سارداً يفهم لغة الشجر في "مواسم العطش"، وتوظف الأغنية الشعبية "تقري ما تقريش، بعد عرسك خدمة ما فيش"، وكل هذا لا يحتمل التفصيل. غير أنّ زمام اللغة يقلت منها في بعض الأحيان فتقدم أنساقاً إنشائية تعوّق الحكاية كما في قصة "هي وهو والكلاب"، أو أنساقاً ذهنية لا رصيد لها من الجمال على نحو ما نجد في قصة "الغريب".
******
في "صمت النواقيس" المعلن صراخ يقرّع الآذان، وأجراس تدقّ أبواب القلب، وتحرّض على مجابهة الواقع المريض، في سبيل الوصول إلى مجتمع الحقّ والخير والجمال.
د. يوسف حطيني – أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات
تقوم المجموعة هنا على نصوص ألّفتها الكاتبة (باستثناء نص مشترك مع الكاتب السّوري ناصر محمد ناصر)، تطرح فيها رؤية تستند إلى انتقاد السائد الاجتماعي، والحثّ على التمرّد من أجل تجاوزه في قالب سرديّ مشوّق يُحسن التعامل مع عناصر السرد المختلفة بلغة تترجّح بين الإخبارية والجمالية.
فإذا بدأنا من العتبات نقف أمام عنوان صمت النواقيس الذي يحيل على فجيعة ترسّخها موضوعات القصص، ويخفّف من حدّتها إهداء عائليّ يحمل الكثير من الأمل، وملاحظة صغيرة حول مدقق لغوي (أستغرب وجوده)، في ظلّ وجود أخطاء بعد التدقيق على المستوى الإملائي والنحوي والتركيبي، ومقدّمة تستند فيها الكاتبة إلى كروتشه في رسالة تمرّد على التجنيس الذي يسمّيه "نظرية الأنواع الأدبية بالنظرية الخاطئة"؛ لنطالع من ثمّ قصصاً قصيرة، ليس فيها خروج على التجنيس، بمقدار ما فيها من تنويعات على السّرد، ثم تدلف الكاتبة إلى عتبة أخرى تركّز فيها على ما تراه جوهرياً في الأدب عبر مقولة لجلال الدين الرومي: "ليرتفع منك المعنى لا الصوت، فإن ما يجعل الزهر ينبت ويتفتح هو المطر لا الرعد"، وهي مقولة أتفق معها إلى حدّ كبير، وإن كانت تطيح بشعراء الصنعة الكبار في الثقافة العربية التقليدية، وتعطي أهمية كبرى لشعراء الرؤية الثاقبة.
*****
على صعيد التأثيث المكاني تجتهد الكاتبة اجتهاداً حسناً في البحث عن التفاصيل الدالة، تستغني بها عن كثير من الحشو الذي تغصّ به كثير من النصوص السردية؛ فإذا تصفّحنا قصة "المخصي" (وهي قصة تحيل على خصاء وجودي وقهري بعيد عن الدلالة المباشرة المبتذلة)، وجدنا الكاتبة تهتم برسم صورة شديدة التكثيف والدلالة للمحطة التي وقف فيها السجين المفرج عنه؛ لنلمس من خلالها التطورات السياسية والاجتماعية التي شهدها المجتمع في المدة التي قضاها البطل خلف القضبان:
"في المحطة، رأى وجوهًا غريبة، ونساء تذكِّرنه بسواد الغربان، فرك عينيه لعله يجد ألوان الصورة التي كان جزءًا منها، لكنه كلما دقّق النظر عاودته بيضاء وسوداء وجلابيب طويلة، تساءل عن اختفاء ألوان قزح وهو طالب ومحامٍ شاب"
كما تفيد الكاتبة في التأثيث من المفتوح والمغلق (بيئة السجن)، ومن الصوت واللون والرائحة. وفي مرور سريع على اللون مثلاً نكتشف أنّها أفادت كثيراً من الدلالات الراسخة للألوان: الأسود والأبيض والأصفر والأحمر الذي تواترت دلالته بين حاوية فضلات يملؤها قطن أحمر، وأحمر يصبع الأرصفة بعد إحدى المظاهرات.
****
وفي تقديم الحكاية، تقدّم فتحية دبش بشكل عام نسقاً تعاقبياً، يستند أحياناً إلى الاستذكار، وإلى التقديم المباشر للزمن أحياناً أخرى، فتحدّثنا عن مساء شتوي من أكثر المساءات امتدادًا، شمسه الخجلى تحجبت على عجل، وعن فجرٍ لاح رمادياً، ولم يغنّ بعده طير ولا أشرقت شمس. غير أنّ الكاتبة تخترق هذا النظام أحياناً لصالح بنية دائرية تبدأ فيها من نقطة محددة وتعود إليها، أو لصالح بنية مقطعية، تتناوب فيها السرد شخصيتان، أو من حالة قصصية، أو من بنية عجائبية ترصد حديث شخص غادر الحياة.
وربما كان من المناسب هنا أن نخص قصة "حساب" بالحديث عن حكايتها التي تجعلها تتنمي إلى فن القصة القصيرة جداً، لا إلى القصة القصيرة؛ فهي تتحدث عن امرأة صعدت برج إيفيل وتذكرت خطاياها ثم نزلت، وليس ثمة ما يفصل بين الصعود والهبوط غير اعترافات تدلي بها البطلة أمام نفسها بغية التطهّر، وتحيل بذكاء على كلاسيكيات الأدبين العربي والعالمي كالمعراج القرآني ورسالة الغفران والكوميديا الإلهية.
وعلى الرغم من أن معظم افتتاحيات القصص حدثية بشكل عام، على نحو ما نجد في قصتي "الغريب" و"الولادة"، فإنّ بعض القصص تبدأ بعبارات غير حدثية تهدف إلى الإثارة والتشويق، على نحو ما نجد في قصة "مأتم" التي تبدأ بالنسق اللفظي التالي: "قصتي ليست جميلة هذه المرة!".
أمّا النهايات فهي، بشكل عام، مفتوحة على الاحتمالات، وهي تلمّح أكثر مما تصرّح حين يتعلق الأمر بالعيب الاجتماعي والمحظور اللغوي، فتبتعد بذلك عن ابتذال يستجدي إعجاب المراهقين.
*****
تختار فتحية شخصياتها من أطراف المجتمع، وتصفهم من الناحية الجسدية والنفسية، غير أنها لا تهتم كثيراً بإطلاق أسماء ذات دلالة عليهم، فهناك زهرة وفاطمة ومريم، وليس ثمة استثناء من هذا الأمر سوى اسم "وحيد"، ومعرف أن التسمية هي إحدى وسائل التشخيص التي تُمْكِنُ الإفادة منها.
غير أن ما يحسب لها هو أنّها تقدّم شخصياتها من خلال السرد، ولا تربك تتابعه بصفات تُوقِف الزمن السردي، فهي لا تقدّم مثلاً شخصية ذات لحية كثّة وشعر طويل بشكل منفصل عن الحدث، بل تقول: "مرَّر يديه على لحيته الكثَّة، بعثر أفكاره بخلخلة الأصابع في شعره الطويل"، وهذا من سمات السرد غير المتعثّر. كما تلجأ إلى نمذجة الشخصيات، فتقدّم نموذج الأم والجلاد والضحية وغيرها، وتخرج في نموذج الجدّة عمّا هو مألوف، فهي "لا تشبه الجدات المترهلات، لا يعوقها ثوبها الريفي الفضفاض حين الجري معنا وراء أغنامها"، غير أن النموذج الأكثر ظهوراً هو الأنثى المتمرّدة على الأعراف البالية والتقاليد التي تكبّل المجتمع.
******
تقحم فتحية دبش القارئ أحياناً في أتون حكايتها، وتعتمد أحياناً أخرى في لغة القص على خيال خصب يجمع المفردات اللغوية إلى بعضها بصورة مدهشة، ومعروف أن التجاور غير المألوف للمفردات هو ما يصنع دهشة اللغة، فهي تتحدث عن ساردة ترتّل الرسالة "كتسبيح أزليٍّ"، وعن امرأة ماتت فسافرت إلى "غيمة المطر الخرافي"، وتفيد من تداخل الحواس، ومن الرموز الدالة (صورة جيفارا/ طوق الياسيمن)، وتقدّم سارداً يفهم لغة الشجر في "مواسم العطش"، وتوظف الأغنية الشعبية "تقري ما تقريش، بعد عرسك خدمة ما فيش"، وكل هذا لا يحتمل التفصيل. غير أنّ زمام اللغة يقلت منها في بعض الأحيان فتقدم أنساقاً إنشائية تعوّق الحكاية كما في قصة "هي وهو والكلاب"، أو أنساقاً ذهنية لا رصيد لها من الجمال على نحو ما نجد في قصة "الغريب".
******
في "صمت النواقيس" المعلن صراخ يقرّع الآذان، وأجراس تدقّ أبواب القلب، وتحرّض على مجابهة الواقع المريض، في سبيل الوصول إلى مجتمع الحقّ والخير والجمال.
د. يوسف حطيني – أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات