في ذكرى رحيله الـ 14 غدا
تحية لروحه السمحة، وأعماله الخالدة
حين عُدُت من جريدة الخليج في الشارقة عام 2003 بعد عملي لسنتين تقريبا. تجولت بين أماكن تواجد الأصدقاء لأستعيد علاقتي بالواقع الثقافي، وفي نيتي البحث عن موضوع مميز أفتتح به نشاطي المهني. وكدت أيأس بمرور الأيام.. وقلت لا مفر من العودة التدريجية بحوارات عادية، إلى أن صادفت صديقي الأديب المحترم «حسين عبد الجواد» (الباشا كما أسماه الفاجومي)، وفي سياق كلامه العادي ذكر أمامي أنهم في لقاء «نجيب محفوظ» قالوا كذا، فرد الأديب الكبير بكذا. فاستوقفته بسؤال. هو «نجيب محفوظ » له لقاء أو مجلس. فقال لي ما اعتبرته مفاجأة تخالف كل تصوراتي: «نجيب محفوظ له ست جلسات من الأحد إلى الجمعة في أماكن متفرقة بأنحاء القاهرة، والسبت لا يخرج من بيته، يعتبره إجازة».
أذهلني الكلام لأنني كنت لوقتها أتصور أن «أديب نوبل» يكابد مضاعفات الشيخوخة في فراشه مترقبا الموت، كان الموضوع كما تمنتيه أكبر بكثير مما طمحت إليه مهنياً، أيعقل هذا؟ «نجيب محفوظ» يختلف إلى ستة أماكن في أنحاء القاهرة وهو في الثانية والتسعين من عمره؟!!
أي إنسان هذا؟.
وبعد طعن رقبته بسكين مثلوم بيد ذلك المتطرف يعود لممارسة نشاطه مجددا؟!. أي إرادة تلك؟!!.
وتوالت علامات الاستفهام على ذهني بإلحاح مُمِضّ، ولم تهدأ إلا حين أخبرت الشاعر «بهاء جاهين» في اليوم التالي بفكرتي عن عمل موضوع لصفحة «أدب» التي تصدرها الأهرام يوم الثلاثاء من كل أسبوع، بعنوان «أسبوع في حياة نجيب محفوظ»، وأنني بحاجة لمساعدته، ليس بصفته رئيسا لقسم الثقافة فقط، بل لأن «نجيب محفوظ» يعرفه شخصيا بحكم صداقته مع والده الشاعر الكبير «صلاح جاهين» عضو «شِلَّة الحرافيش» التاريخية، وصاحب لقب «رجل الساعة» الذي أطلقه على «نجيب محفوظ» في احتفال أقامه له «جاهين» خصيصا لبلوغه سن الخمسين عام 1960 في مبنى جريدة الأهرام القديم الشهير بشارع مظلوم، وحضرته كوكب الشرق السيدة «أم كلثوم»، والمبدع الكبير «توفيق الحكيم» برعاية رئيس تحرير الأهرام وقتها الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل».
وقصد برجل الساعة أنه «أهم أديب في حينه»، و«المنضبط على توقيت الساعة».
طلبت من «بهاء جاهين» الاتصال بمنزل الأديب «نجيب محفوظ» للاستئذان منه في حضوري مجالسه الستة، وتغطيتها للأهرام. أعجبته الفكرة وتحمس لها، وبادر من فوره بالاتصال، وردت عليه حرمه السيدة «عطية الله»، وسمعت صوتها واضحا من السماعة وهي تعد بإبلاغ الأستاذ كما كانت تسميه، والرد فورا، وحين عادت قالت أنه يسلم على بهاء جاهين، ويرحب بالرحيمي في مجالسه.
كنا يوم خميس. أذكر جيدا. وكان موعدنا الأحد (بداية أسبوعه)، فأسرعت من فوري إلى الأرشيف، وطلبت ملفّه، فاتضح أنها ملفات متعددة، ومكتظة بالأوراق، وغرقت فيها، أخبار هائلة في كل الإصدارات، مصرية وعربية ودولية، وحوارات كثيرة جدا، قرأت أهمها، وفوجئت به ملولاً في إجاباته الأخيرة منها، ويقول للصحفيين أنا أجبت عن هذه الأسئلة مرات كثيرة، ومن يريد معرفة رأيي فيها فليقرأ الأرشيف ويأخذ منه، فاستبعدت كل الأسئلة التي رفض الإجابة عليها، وراجعت الأصدقاء الذين يحضرون أغلب جلساته، خاصة الكاتب «حسين عبد الجواد»، والفنان «محمد الشربيني»، رحمه الله، وأفادوني بأنه لم يعد يستقبل الصحفيين لإجراء حوارات، ويرفض القنوات التلفزيونية أيضا، ورغم توجسي، أعددت عشرة أسئلة رأيتها غير مطروقة، أو على الأقل غير مستهلكة ولن تشعره بالملل.
تسلحت بحيلة مشروعة استلهمتها من كلام الأصدقاء، وقراءاتي لسيرته الذاتية في كتاب «جمال الغيطاني» عن حياته، وحواراته، ومشاهدة لقاءاته التلفزيونية، وهي «حُبه للزعيم سعد زغلول وثورة 1919» وكانت سيرة أيّ منهُما كفيلة بفتح شهيته للكلام، ووسط كلامه عن أيهما كنت أوجه له سؤالا من العشرة، وعبر الستة أيام أجاب على تسعة منها، وتحفظ على واحد فقط منها على ما أذكر، وخيّرنيِ، فقبلت الاستغناء عنه لأني لم أرد أن أُثقل عليه.
كانت مجالسه تبدأ يوم الأحد في فندق شبرد على كورنيش النيل، في بار نابليون، ولم تكن جلسة شُرب كما قد يتبادر لذهن البعض، بل كانت جلسة تشبه المقاهي العادية في المشاريب، وإن كانت في مكان فخم، وظني أن الفندق أراد استغلال اسمه الذائع بعد نوبل، فوفر له هذا المكان، وهناك ابتدأت الأسبوع معه.
والجلسة الثانية يوم الاثنين في فندق سوفيتل بمدخل المعادي، وخصصوا له قاعة يبدو أنها كانت للحفلات، أو ماشابه ذلك لكبر حجمها، وأذكر أنني قابلت المخرج المعروف «توفيق صالح»، رحمه الله، في تلك الجلسة، وطلب مني بجدية عدم ذكر بعض آراء له في «صدام حسين» عند نشر الموضوع، ووفيت بوعدي له، وعرفت لاحقا من أصدقاء بيننا، أنه استحسن الموضوع جدا حين رآه في الأهرام، والطبيب النفسي الرائع «أحمد شوقي العقباوي»، رحمه الله، وكان مثقفا موسوعيا، ويمتلك حساً نقديا مدهشاً، وكان يغلب على تلك الجلسة حضور الأطباء، واندهشت أنهم لا يهتمون بالسياسة ولا بالشأن العام، ولاينشغلون بغير عملهم، وقراءة أعمال «نجيب محفوظ».
واستكملت اليوم السابع، السبت، من كلام الأديب «سلماوي» وذهبت إليه مكتبه في بالأهرام، وكان ما يزال رئيسا لتحرير «الأهرام إبدو»، وحدثني عن لقاء السبت بينهما، وكيف كان «نجيب محفوظ» يفتح له الباب في تمام الساعة الخامسة، إذا كانت زوجته وابنتاه خارج المنزل، لأن سمعه ثقيل ولا يسمع الجرس.
وأفادني جدا المرحوم الحاج «صبري السيد» الذي كان يذهب إلى الأستاذ يوميا في بيته، ليقرأ له الصحف المهمة، ويطلعه على أهم أحداث الوسط الأدبي التي لم ترد في الصحف، وسمعها في الأهرام.
وأضاف لي «محمد» أمين الشرطة المكلف بحراسة الأستاذ من بعد حادثة طعنه، معلومات قيمة، وأضاء لي جوانب إنسانية مهمة في حياة الأستاذ، منها مساعداته للناس، ومنهم محمد نفسه الذي اشترى له الأستاذ شقة، وساعده في تكاليف الزواج.
والجلسة الثالثة يوم الثلاثاء في مركب «فرح بوت» بنيل الجيزة، وكان يحضرها الأدباء «جمال الغيطاني»، و«يوسف القعيد»، و«زكي سالم»، والفنان «محمد الشربيني»، وغيرهم، وتصادف في ذلك اليوم أن كان عيد ميلاد الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، وطلبه الغيطاني من تليفونه المحمول وقال له الأستاذ يريد أن يهنئك بعيد ميلادك، وأعطى التليفون لـ «نجيب محفوظ» الذي قال مبتسما وبصوته المتحشرج العميق: «كل سنة واحنا طيبين بيك». وأعاد التليفون من فوره إلى الغيطاني الذي أكمل المكالمة للحظات مع هيكل.
والرابعة كانت في فندق سوفيتل المطار، وحضرها في ذلك اليوم الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وآخرون لا أذكر من أسمائهم غير حافظ لأن «نجيب محفوظ» مازحه باسمه عدة مرات في ذاك اليوم، وآخرون من مشارب ووظائف متفرقة.
والخامسة، يوم الخميس، كانت في «مطعم فلافيلو» على كورنيش النيل في المنيل، وحضرها الأديبان «نعيم صبري» و«زكي سالم»، والطبيب النفسي المعروف «يحيى الرخاوي»
والجلسة السادسة والأخيرة، يوم الجمعة، في بيت الدكتور «يحيى الرخاوي» بالمقطم، وحضرها حوالي عشرة أشخاص، أذكر منهم الصديق الناقد «أسامة عرابي» وكان محفوظ يحب أن يقرأ له أخبار الأدب بصوته القوي ولغته السليمة وثقافته الواسعة التي تضيف لأديب نوبل معلومات كثيرة يحب أن يعرفها، وأيضا الصديق المحترم «بليغ بطرس»، والفنان «محمد الشربيني»، وأناس آخرون كان يغلب عليهم العمل بوظائف حكومية، في مصالح متفرقة.
ومما يستحق الذكر أن أعضاء تلك الجلسات الست، بعد وفاة «نجيب محفوظ»، تجمعوا في شِلَّة واحدة، واختاروا مجلساً لهم بالقرب من بيته بالعجوزة، في نادي الأطباء البيطريين، أمام مستشفى الشرطة، وكان لهم لقاء أسبوعيا، وتطور الأمر بأن ناقشوا عملا من أعمال الأديب الكبير كل شهر، وحضرت معهم تلك الجلسات مرات عديدة، وحاورتهم في ذكراه، ونشرت عنهم موضوعا في الأهرام أيضا.
في الجلسة الأولى بفندق شبرد، ذهبت قبل الساعة السادسة، موعد بدء كل جلساته، بنصف ساعة، وجلست أترقب وصوله وأنا متوتر بفرح، لأني سأراه شخصيا لأول مرة، وإلى تلك اللحظة لم أكن أصدق أنه إنسان عادي، أو أنه موجود في حياتنا، وكلما اقترب الوقت كان ضربات قلبي تزداد بمعدل أربكني، وكنت أطمئن نفسي بمعرفتي بأعماله، التي قرأتها كاملة، وعالمه الذي أظن أنني أصبحت من مكوناته لفرط اطلاعي على تفاصيله، وفي تمام السادسة رأيته قادما، نحيلا، وأقصر مما تصورت، يتأبط ذراع الدكتور «فتحي هاشم» صديقه الذي تكفّل باصطحابه في سيارته، هي ذاتها التي كان يركبها وقتما طعنه المتطرف.
وقفت أمامه. فقال له الدكتور فتحي، وكان يعرفني جيدا: «يا نجيب بيه، دا الأستاذ أسامة الرحيمي من الأهرام»، فقال الرجل بمودة رائقة وصوت عميق متعثر: «أهلا وسهلا.. » وأضاف بجدية وديبلوماسية استوقفتني: «يا دكتور فتحي اشمله برعايتك»، وحين جلسنا أوسعوا لي مكانا بجواره فنظر ناحيتي مبتسما، وكان جميع من حولنا يتبادلون التحية، ويحتلون أماكنهم في الجلسة، وقال لي الأستاذ الكبير بود صاف: « انت اسمك عندي في رواية ».. فقلت فرحا: « نعم يا أستاذ، رواية الطريق، سيد صابر الرحيمي»، وسألني مستفسرا: «انت من الجمالية»؟، وكنت أعرف أن أسرة في منطقته القديمة تحمل اسم «الرحيمي»، فأخبرته إنني من المنصورة، وأشعل له أحدهم سيجارة في تلك اللحظة، وأتى له النادل بفنجان قهوته على صينية صغيرة، وصبَّه وقرَّبه إليه، وانصرف. جذب عدة أنفاس بعمق أقوي من سنِّه، وبلهفة بادية، وأخذ رشفة عميقة واحدة من الفنجان، ثم غطَّاه بطبقه، وأعاده إلى مكانه، وعرفت لاحقا أنه بات يدخن سيجارتين في اليوم فقط، واحدة في السادسة تماما حين يصل مجلسه، والثانية في الثامنة تماما قبل أن يغادره إلى بيته، مع رشفتي القهوة الباردتين المتبقيتين في فنجانه، وبقية اليوم لا يدخن، ما يعني أنه كان يقدر تقدم الشيخوخة، وتراجع الصحة، كدأبه في التصرف بحكمة طوال عمره.
بادر الدكتور «فتحي هاشم» الحضور بالقول: «رجاء اللي يتكلم يذكر اسمه وعمله لأن الأهرام معنا اليوم» مشيرا إلى تسجيل وقائع الجلسة، وبدأ الحديث شخص اسمه «محمد الكفراوي» قدم نفسه كمهندس و«عضو الهيئة العليا لحزب الوفد»، ثم تحدث عن «محمد حسنين هيكل» بكلام ملئ بالسُباب المتجاوز، بسبب مقالته الشهيرة «استئذان بالانصراف» التي نشرها قبل الجلسة بأيام، وكتب فيها هيكل ما يعني أنه يستأذن عموم قراءه في التوقف نهائيا عن الكتابة، وأثارت حينها جدلا كبيرا في كافة الأوساط المعنية، وانتقل الكفراوي بلا فاصل من هيكل، إلى شتم «جمال عبد الناصر»، وكأن لديه ارتباط شرطي بين «هيكل وناصر»، وكَاَلَ لهما من الشتائم المُقذعة ما يندى له الجبين، ولا تليق بمجلس يضم أديب نوبل الموقر، ونظرت إلى «نجيب محفوظ» لأرى رد فعله، فأحسست أنه غارق في أفكار بعيدة عن مجلسنا، وكأنه لم يسمع، وبعد قليل استطاع آخرون انتزاع الكلام من الكفراوي الوفدي، ووجهوه إلى حادثتين كانتا تشغلان الرأي العام حينها، أولاهما انتحار الشاب «عبد الحميد شتا» الذي يحمل ماجستير في العلوم السياسية، ويُحضِّر لمناقشة الدكتوراه، ويجيد الإنجليزية والألمانية بجانب إجادته التامة للعربية، وتقدم لامتحانات الخارجية ليعمل في السلك الديبلوماسي، لكنهم رفضوه بجملة أليمة، تليق بعصر مبارك وكل ما فيه من فساد وانهيار للقيم، حيث قالوا «غير لائق اجتماعيا»، فقط لأنه ابن لعامل في مصنع للطوب، ومهما كانت مؤهلاته، وتفوقه بمرتبة شرف في تعليمه الجامعي والماجستير، لكنه ابن رجل فقير، وبسيط، وكأن الخارجية لم يعد يعنيها وجود الكفاءات، بل أبناء الأغنياء فقط، الذين يحملون مظاهر كاذبة، حتى لو كانوا جهلة، ولا يليق بهم تمثيل مصر.
والحكاية الثانية التي شغلت الرأي العام هي انتحار شخص آخر في القناطر لأنه عجز تماما عن توفير «مائة جنيه» فقط لشراء احتياجات أولاده في دخول المدارس، الكتب، والحقائب وما إلى ذلك، وكان يعذبه سؤال ابنته الصغيرة له كلما عاد خائبا إلى المنزل عن حقيبة المدرسة، بعدما بذل محاولات دؤوبة لاقتراض المبلغ البسيط، ورفض كل معارفه تماما، ربما لأنهم أيضا لا يمتلكون بدورهم مئة جنيه زائدة عن حاجتهم، ووجد نفسه أمام عجزه، وهوانه أمام إلحاح ابنته، فأقدم على الانتحار بلا تردد لفرط يأسه، حين تأكد أن الحياة أقسى مما كان يظن.
أذكر جيدا أن «نجيب محفوظ»، بعدما هدأ النقاش قليلا، وساد الصمت للحظة، تحدث فجأة قائلا: «لكن يا كفراوي بيه ما كانش يصح أبدا أيام عبد الناصر إن شاب بالمؤهلات دي كلها يُرفض لعدم لياقته اجتماعيا، ولا أب ينتحر لأنه عجز عن توفير ميت جنيه بس، كانوا المصريين أيام عبد الناصر مستورين». وسكت بُرهة ثم أضاف كأنما يُحدّث نفسه: «ما كانش حد يقول لي، ميت جنيه حاجة سهلة، الراجل دا حظّه صعب».
بعد قليل أحببت أن أسأله عن سيرته الذاتية، ومهدت لهذا بالكلام عمَّا تبقى من قيم وجيل ثورة 1919 في حياتنا، فضحك بصوت عال وقال: «تقريبا.. ما عدش حد غيري»، وضحكنا جميعا. إذن لماذا يا أستاذ لا تكتب سيرتك الذاتية شأن الكُتّاب الكبار حول العالم؟، فقال: «سيرتي في أعمالي»، وكتاب الغيطاني، وكلامي لـ «رجاء النقاش»، وما قلته في الأحاديث الصحفية، والتلفزيونية». فأحببت أن أفتح زاوية جديدة للسؤال، أقصد يا أستاذ سيرة ذاتية مثل صديقك لويس عوض؟!، فقال مازحاً: «دي مش سيرته.. دي سيرة أخوه». وضحكنا جميعا.
وكان الوقت قد شارف على الساعة الثامنة، فأشعل سيجارته الثانية، والتقط أنفاسه بذات الشغف، وأخذ رشفته الثانية من قهوته الباردة، وبعد دقائق وقف للإنصراف، وقال لي: «إلى اللقاء يا رحيمي في جلسة بكره». وحيَّا الجميع ومضى متأبطاً دكتور «فتحي هاشم»، وتأملت نحوله، وتعجبت لخطواته التي ليس لها دبيب.
وفي «سوفيتل المعادي»، مساء الاثنين، كان معظم الحضور من الأطباء، وأغلبهم من الجراحين، متأنقون جميعهم جدا، وحرصوا على ألا يتحدثوا، وبدا لي أنهم تهيبوا وجود صُحفي، وظننت أنهم خشوا قول آراءهم بحرية حتى لا تؤخذ عليهم إذا نُشرت، لكن الدكتور «أحمد شوقي العقباوي» أخذ ناصية الكلام، وتحدث بجمال لافت، وتبعه المخرج «توفيق صالح»، وتحدث باستفاضة عن فيلم «الأيام الطويلة» الذي أخرجه في العراق عن جانب من شباب «صدام حسين»، أو نضاله كما كان يزعم، وأنصت إليه «نجيب محفوظ»، والجميع باهتمام، شديد، وهو يلعن الدكتاتورية، وكيف قضى تلك الفترة في العراق على أعصابه، وحين سألته عن حقيقة رفض «صدام» لمشهد التألم وهم ينتزعون الرصاصة من جسده بدون مخدر موضعي، فانتبه لوجودي بسبب السؤال، وقال حازما، هذا الكلام ليس للنشر إطلاقا من فضلك، ثم أجاب على سؤالي، بأن الرئيس لا يجوز أن يتألم، وبعدما انتهى، فسَّر الدكتور العقباوي نفسية الديكتاتور المتعاظم بأسلوب علمي باهر، والمرة الوحيدة التي عقب فيها «نجيب محفوظ» قائلا بجدية: «كلهم شبه بعض»، وفي تلك اللحظة سألته سؤالا آخر فأجابني بلا تردد، وخرجت بغنيمة إضافية من الجلسة.
وفي «فرح بوت»، مساء الثلاثاء، سألته عن رؤيته للزعيم «سعد زغلول» شخصيا، فقص حكاية تعجبت لها، قال إنه ذات يوم وجد زحاما كبيرا في أحد شوارع القاهرة، وبالسؤال عرف أن الناس يتجمعون للسلام على الزعيم، فوقف، وكان في الخامسة عشر من عمره تقريبا، لأنه مواليد 1911، والزعيم توفي 1927، ومرض مرات متكررة لسنة قبل وفاته تقريبا، إلى أن مات. المهم أن محفوظ ذكر أن هذه كانت المرة الوحيدة التي رأى فيها الزعيم بعينه، وأنه وقتها لم يقف إلى نهاية المشهد، وانصرف بعد قليل «لشاغل» وراءه، وأبدى ندمه في الجلسة أنه لم يقف إلى نهاية الوقت الذي بقي فيه «سعد زغلول» بين الناس، وبدت حسرته حقيقية كأن الموقف كان بالأمس، مع أنه قد مر عليه حوالي 77 سنة، وهو في شجنه هذا طرحت عليه سؤالا آخر فأجابه فورا، وكانت إجاباته قصيرة جدا، في بعض الأحيان كانت جملة لا أكثر، وفي سؤال آخر أجاب بكلمة واحدة: «يجوز».
وتنبهت لعدة أشياء في مجالسه المختلفة، أولها أن الأعضاء من مستويات ثقافية، واجتماعية، ومهنية مختلفة، وأنه طوال الوقت كان يسمعهم فقط، ولا يتحدث إلا نادرا، وإذا فاته شئ بدا له مهماً يستوضحه من المتحدث، كأنه كان يريد وضع يده على نبض المجتمع بمختلف شرائحه، وطبقاته، ليعرف أين تتجه الأمور في البلد، وكان يتمتع بسماحة لم أر لها مثيلا في تقبل كافة التباينات في الآراء، والأشخاص من دون النظر لخلفياتهم، بل إنه كان يسأل باهتمام عن جميع الغائبين، وسمعته يسأل موظفا بسيطا في المترو: «عامل إيه يا عبده»، ولاحظت استخدامه البارع للسماعة، فإذا علا الضجيج، يغلقها «بصنعة لطافة» حتى لا يلاحظه أحد، ولا يسبب لهم حرجا، وحكى لي صديقي الراحل الفنان «محمد الشربيني» أنه كان إذا أصابه ضيق كبير من الكلام، يخلع السماعة من أذنه ويضعها أمامه دليلا على استياءه، وأن أطباء من سويسرا، متخصصون في السمع، أحضروا له سماعة حديثة، وصغيرة الحجم، ووضعوها داخل أذنه فسمع كل الكلام بوضوح، وطلب انتزاعها فور إدراكه إمكانياتها المتطورة، واعتذر عن قبولها لأنه لا يريد أن يسمع كل الكلام، ولا بهذا الوضوح، ويفضل السماعة القديمة لأن فيها إمكانية التحكم في الصوت بتخفيضه أو غلقه وقتما يحب.
وكذا استوقفتني كلماته القليلة التي يستخدمها في التعبير عن إعجابه بأي شئ، وكان يتجنب المبالغة بإصرار شديد، فيقول فقط «كويس» و «كويسة» إذا أعجبه شئ، وفق المذكر والمؤنث، ويستخدم أيضا مفردات «ربما»، و«يجوز»، و«محتمل»، و«يصح برضه»، ولا يقطع بقين في أي شئ حتى لو كان متأكدا، ليظل كلامه في محيط الاحتمالات والرُبَّمَاوِيَة وحسب.
ويوم الأربعاء في سوفيتل المطار، أنصت باهتمام شديد، تعجبت له، لمقالة الشاعر «عبد الرحمن الأبنودي» في ملحق الجمعة الفائت بعنوان «أيامنا الحلوة»، وعرفت أنه يحرص على سماعها منه أسبوعيا، وحين انتهى قال له: «كويسة»، ويبدو أن الأبنودي كان معتادا على كلمته تلك، فلم ألحظ أي غضب، لمعرفتي اليقينية أنه يحب الإطراء، بحكم تعاملي معه، ومحاورتي له أكثر من مرة.
وفي تلك الجلسة قدّم له شخصا ظريفا اسمه «حافظ» علبة سجائر (ميريت أزرق)، وقال له: « دي علبة السجائر الجديدة اللي طلبتها يا أستاذ نجيب.. ودي العلبة القديمة فيها 12 سيجارة ما زالت».. فضاحكه «محفوظ» بقوله: «ما تعرفش أنا أخدت كم نفس يا حافظ»؟. وضحكنا جميعا بما فينا «حافظ» نفسه.
بعد لحظات صمت. سأل فجأة: «هو الرحيمي ما جاش النهارده».. أذهلني تركيزه، وأسعدني جدا أنه يذكرني، ويهتم باتفاقنا على الجلسات الست. وبادر الجميع لإخباره بوجودي، فشكرته وقلت: «موجود يا أستاذ» فقال بتعبير عموم الناس: «دايما موجود»، فسألته ضمن لحظة الودّ تلك عن تفسير بعض النقاد لـ «شخصية حميدة» في روايته «زقاق المدق» بأنها مصر التي تعيش آمنة في زقاقها الضيق، وأنها إذا خرجت إلى السكة الجديدة بدون استعداد واحتياطات كافية بالعلم والخبرة، فسيخطفها من يُضيِّعها كما حدث؟ فقال كلمة واحدة: «يجوز»!!
في جلسة الخميس، بمطعم فلافيلو، على كورنيش المنيل، واختفى ذلك المطعم شأن كل الأشياء المهمة في بلادنا. وبحضور الكُتَّاب «نعيم صبري» و«زكي سالم» والطبيب النفسي «يحيى الرخاوي» رأيته يأكل لأول مرة، وعرفت أنه يحب الطعمية، وأكل واحدة لا غير، مع ربع رغيف صغير جدا، بحجم لقمة واحدة، أكله على قضمات ضئيلة، ظل يمضغ فيها لوقت طويل جدا، وشرب رشفات ماء قليلة بعده، وعرفت عنه التزامه المطلق في الأكل، خشية مضاعفات السكر، فمنذ أخبره الطبيب وهو في سن الخمسين بإصابته بالسكر، وحدد له آليات تفاديه بالتغذية الصحيحة، لم يخالف تعليماته مرة واحدة طيلة 46 سنة عاشها بعد ذلك، حيث توفي في السادسة والتسعين من عمره. والحقيقة أن الدكتور الرخاوي في ذلك اليوم انفرد بأغلب وقت الجلسة، وتحدث باستفاضة عن علاقة الأدب بالطب النفسي، وتجليات ذلك في الأدب العالمي عند دستيوفسكي وغيره، وعند نجيب محفوظ، وهو ينظر إليَّ لأسجل كلامه، وسجلته فعلا، لكن لم أستفد إلا بأقلِّه، والمدهش أن نجيب محفوظ ظل صامتا تماما، ولم يعقب، ولم يتكلم إلا حين طرحت عليه سؤال آخر، وأجاب باقتضاب كدأبه.
وفي جلسة الجمعة بمنزل الدكتور الرخاوي بالمقطم، لم يكن هو معنا (صاحب البيت)، وقرأ عليه «أسامة عرابي» المقالات والموضوعات التي اختارها من «أخبار الأدب»، بصوت رصين صحيح، بدا درسا في أصول اللغة والقراءة، وكان الأستاذ يغمض مُنصتاً، وكأنه سعيد بأداء عرابي، وحين انتهى نظر إليه مبتسما، وربَّت بحنو على يده، تحية له على الإجادة، وساد صمت لبعض الوقت، قطعه أحدهم بنكتة «قبيحة» بصوت خفيض، فضحك جانب من الحضور بلا ضجة كبرى، وبادر شخص ثان بقول نكتة شبيهة، وضحكوا، فقال أحدهم بصوت خفيض أيضا: « يا جماااعة، مايصحش كده في حضرة الأستاذ؟!». وفوجئنا جميعا بالأستاذ محفوظ يقول بخفة ظل مدهشة: «أنا شاهد ما سمعش حاجة».. وضج المكان بالضحك.
حين هدأوا بعد قليل، انتقلت إلى جواره لأطرح بقية أسئلتي عليه، وأجاب على ما تبقى لدي من أسئلة بلا تردد.
واستكملت تفاصيل اليوم السابع من الكاتب «محمد سلماوي» الذي حدثني عن كلمته الأسبوعية في الأهرام، التي كان يتحدث فيها معه قبل كتابتها، ويترك له الأستاذ صياغتها ثقة في أمانته ودقته. وأخبرني الحاج «صبري السيد» ما الذي كان يحب قراءته في الصحف، وأنه كان يفضل الأهرام طوال عمره، خاصة الصفحات الثقافية، وملحق الجمعة، ومجلة «نصف الدنيا» التي واظب على نشر «أحلام فترة النقاهة» فيها، وكيف كان يتصرف في بيته، مع زوجته وابنتيه، فأكد لي الرجل أنه كان أباً ودودا، وزوجا هادئا رقيقا، وهن يعرفن كافة مطالبه وينجزنها قبل أن يطلب شيئا، فكانت حياتهم تسير وادعة.
ما توفر تحت يدي بعد الست جلسات تلك، وإجاباته على أسئلتي التسع، صنع صفحتيّ جورنال، لكنهم في الأهرام قالوا صفحة واحدة فقط، وصباح نشرها اتصل بي الأديب «إبراهيم أصلان»، وقال لي حرفياً: «.. واد يا أسامة.. انت عامل حاجة غير مسبوقة». ونطق «قاف مسبوقة همزة.. مسبوءة».
الحقيقة أسعدني رأيه جدا، لكني ظللت أترقب رأي الكبير «نجيب محفوظ».. وبعد فترة صادفني «عم صبري» فاستوقفني وقال لي: «الأستاذ كان مبسوط قوي من صفحتك»، فتشجعت وسألته بشغف: «قال إيه؟»، فأجاب: «قال كويسة»!!.
أسامة الرحيمي -
www.facebook.com
تحية لروحه السمحة، وأعماله الخالدة
حين عُدُت من جريدة الخليج في الشارقة عام 2003 بعد عملي لسنتين تقريبا. تجولت بين أماكن تواجد الأصدقاء لأستعيد علاقتي بالواقع الثقافي، وفي نيتي البحث عن موضوع مميز أفتتح به نشاطي المهني. وكدت أيأس بمرور الأيام.. وقلت لا مفر من العودة التدريجية بحوارات عادية، إلى أن صادفت صديقي الأديب المحترم «حسين عبد الجواد» (الباشا كما أسماه الفاجومي)، وفي سياق كلامه العادي ذكر أمامي أنهم في لقاء «نجيب محفوظ» قالوا كذا، فرد الأديب الكبير بكذا. فاستوقفته بسؤال. هو «نجيب محفوظ » له لقاء أو مجلس. فقال لي ما اعتبرته مفاجأة تخالف كل تصوراتي: «نجيب محفوظ له ست جلسات من الأحد إلى الجمعة في أماكن متفرقة بأنحاء القاهرة، والسبت لا يخرج من بيته، يعتبره إجازة».
أذهلني الكلام لأنني كنت لوقتها أتصور أن «أديب نوبل» يكابد مضاعفات الشيخوخة في فراشه مترقبا الموت، كان الموضوع كما تمنتيه أكبر بكثير مما طمحت إليه مهنياً، أيعقل هذا؟ «نجيب محفوظ» يختلف إلى ستة أماكن في أنحاء القاهرة وهو في الثانية والتسعين من عمره؟!!
أي إنسان هذا؟.
وبعد طعن رقبته بسكين مثلوم بيد ذلك المتطرف يعود لممارسة نشاطه مجددا؟!. أي إرادة تلك؟!!.
وتوالت علامات الاستفهام على ذهني بإلحاح مُمِضّ، ولم تهدأ إلا حين أخبرت الشاعر «بهاء جاهين» في اليوم التالي بفكرتي عن عمل موضوع لصفحة «أدب» التي تصدرها الأهرام يوم الثلاثاء من كل أسبوع، بعنوان «أسبوع في حياة نجيب محفوظ»، وأنني بحاجة لمساعدته، ليس بصفته رئيسا لقسم الثقافة فقط، بل لأن «نجيب محفوظ» يعرفه شخصيا بحكم صداقته مع والده الشاعر الكبير «صلاح جاهين» عضو «شِلَّة الحرافيش» التاريخية، وصاحب لقب «رجل الساعة» الذي أطلقه على «نجيب محفوظ» في احتفال أقامه له «جاهين» خصيصا لبلوغه سن الخمسين عام 1960 في مبنى جريدة الأهرام القديم الشهير بشارع مظلوم، وحضرته كوكب الشرق السيدة «أم كلثوم»، والمبدع الكبير «توفيق الحكيم» برعاية رئيس تحرير الأهرام وقتها الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل».
وقصد برجل الساعة أنه «أهم أديب في حينه»، و«المنضبط على توقيت الساعة».
طلبت من «بهاء جاهين» الاتصال بمنزل الأديب «نجيب محفوظ» للاستئذان منه في حضوري مجالسه الستة، وتغطيتها للأهرام. أعجبته الفكرة وتحمس لها، وبادر من فوره بالاتصال، وردت عليه حرمه السيدة «عطية الله»، وسمعت صوتها واضحا من السماعة وهي تعد بإبلاغ الأستاذ كما كانت تسميه، والرد فورا، وحين عادت قالت أنه يسلم على بهاء جاهين، ويرحب بالرحيمي في مجالسه.
كنا يوم خميس. أذكر جيدا. وكان موعدنا الأحد (بداية أسبوعه)، فأسرعت من فوري إلى الأرشيف، وطلبت ملفّه، فاتضح أنها ملفات متعددة، ومكتظة بالأوراق، وغرقت فيها، أخبار هائلة في كل الإصدارات، مصرية وعربية ودولية، وحوارات كثيرة جدا، قرأت أهمها، وفوجئت به ملولاً في إجاباته الأخيرة منها، ويقول للصحفيين أنا أجبت عن هذه الأسئلة مرات كثيرة، ومن يريد معرفة رأيي فيها فليقرأ الأرشيف ويأخذ منه، فاستبعدت كل الأسئلة التي رفض الإجابة عليها، وراجعت الأصدقاء الذين يحضرون أغلب جلساته، خاصة الكاتب «حسين عبد الجواد»، والفنان «محمد الشربيني»، رحمه الله، وأفادوني بأنه لم يعد يستقبل الصحفيين لإجراء حوارات، ويرفض القنوات التلفزيونية أيضا، ورغم توجسي، أعددت عشرة أسئلة رأيتها غير مطروقة، أو على الأقل غير مستهلكة ولن تشعره بالملل.
تسلحت بحيلة مشروعة استلهمتها من كلام الأصدقاء، وقراءاتي لسيرته الذاتية في كتاب «جمال الغيطاني» عن حياته، وحواراته، ومشاهدة لقاءاته التلفزيونية، وهي «حُبه للزعيم سعد زغلول وثورة 1919» وكانت سيرة أيّ منهُما كفيلة بفتح شهيته للكلام، ووسط كلامه عن أيهما كنت أوجه له سؤالا من العشرة، وعبر الستة أيام أجاب على تسعة منها، وتحفظ على واحد فقط منها على ما أذكر، وخيّرنيِ، فقبلت الاستغناء عنه لأني لم أرد أن أُثقل عليه.
كانت مجالسه تبدأ يوم الأحد في فندق شبرد على كورنيش النيل، في بار نابليون، ولم تكن جلسة شُرب كما قد يتبادر لذهن البعض، بل كانت جلسة تشبه المقاهي العادية في المشاريب، وإن كانت في مكان فخم، وظني أن الفندق أراد استغلال اسمه الذائع بعد نوبل، فوفر له هذا المكان، وهناك ابتدأت الأسبوع معه.
والجلسة الثانية يوم الاثنين في فندق سوفيتل بمدخل المعادي، وخصصوا له قاعة يبدو أنها كانت للحفلات، أو ماشابه ذلك لكبر حجمها، وأذكر أنني قابلت المخرج المعروف «توفيق صالح»، رحمه الله، في تلك الجلسة، وطلب مني بجدية عدم ذكر بعض آراء له في «صدام حسين» عند نشر الموضوع، ووفيت بوعدي له، وعرفت لاحقا من أصدقاء بيننا، أنه استحسن الموضوع جدا حين رآه في الأهرام، والطبيب النفسي الرائع «أحمد شوقي العقباوي»، رحمه الله، وكان مثقفا موسوعيا، ويمتلك حساً نقديا مدهشاً، وكان يغلب على تلك الجلسة حضور الأطباء، واندهشت أنهم لا يهتمون بالسياسة ولا بالشأن العام، ولاينشغلون بغير عملهم، وقراءة أعمال «نجيب محفوظ».
واستكملت اليوم السابع، السبت، من كلام الأديب «سلماوي» وذهبت إليه مكتبه في بالأهرام، وكان ما يزال رئيسا لتحرير «الأهرام إبدو»، وحدثني عن لقاء السبت بينهما، وكيف كان «نجيب محفوظ» يفتح له الباب في تمام الساعة الخامسة، إذا كانت زوجته وابنتاه خارج المنزل، لأن سمعه ثقيل ولا يسمع الجرس.
وأفادني جدا المرحوم الحاج «صبري السيد» الذي كان يذهب إلى الأستاذ يوميا في بيته، ليقرأ له الصحف المهمة، ويطلعه على أهم أحداث الوسط الأدبي التي لم ترد في الصحف، وسمعها في الأهرام.
وأضاف لي «محمد» أمين الشرطة المكلف بحراسة الأستاذ من بعد حادثة طعنه، معلومات قيمة، وأضاء لي جوانب إنسانية مهمة في حياة الأستاذ، منها مساعداته للناس، ومنهم محمد نفسه الذي اشترى له الأستاذ شقة، وساعده في تكاليف الزواج.
والجلسة الثالثة يوم الثلاثاء في مركب «فرح بوت» بنيل الجيزة، وكان يحضرها الأدباء «جمال الغيطاني»، و«يوسف القعيد»، و«زكي سالم»، والفنان «محمد الشربيني»، وغيرهم، وتصادف في ذلك اليوم أن كان عيد ميلاد الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، وطلبه الغيطاني من تليفونه المحمول وقال له الأستاذ يريد أن يهنئك بعيد ميلادك، وأعطى التليفون لـ «نجيب محفوظ» الذي قال مبتسما وبصوته المتحشرج العميق: «كل سنة واحنا طيبين بيك». وأعاد التليفون من فوره إلى الغيطاني الذي أكمل المكالمة للحظات مع هيكل.
والرابعة كانت في فندق سوفيتل المطار، وحضرها في ذلك اليوم الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وآخرون لا أذكر من أسمائهم غير حافظ لأن «نجيب محفوظ» مازحه باسمه عدة مرات في ذاك اليوم، وآخرون من مشارب ووظائف متفرقة.
والخامسة، يوم الخميس، كانت في «مطعم فلافيلو» على كورنيش النيل في المنيل، وحضرها الأديبان «نعيم صبري» و«زكي سالم»، والطبيب النفسي المعروف «يحيى الرخاوي»
والجلسة السادسة والأخيرة، يوم الجمعة، في بيت الدكتور «يحيى الرخاوي» بالمقطم، وحضرها حوالي عشرة أشخاص، أذكر منهم الصديق الناقد «أسامة عرابي» وكان محفوظ يحب أن يقرأ له أخبار الأدب بصوته القوي ولغته السليمة وثقافته الواسعة التي تضيف لأديب نوبل معلومات كثيرة يحب أن يعرفها، وأيضا الصديق المحترم «بليغ بطرس»، والفنان «محمد الشربيني»، وأناس آخرون كان يغلب عليهم العمل بوظائف حكومية، في مصالح متفرقة.
ومما يستحق الذكر أن أعضاء تلك الجلسات الست، بعد وفاة «نجيب محفوظ»، تجمعوا في شِلَّة واحدة، واختاروا مجلساً لهم بالقرب من بيته بالعجوزة، في نادي الأطباء البيطريين، أمام مستشفى الشرطة، وكان لهم لقاء أسبوعيا، وتطور الأمر بأن ناقشوا عملا من أعمال الأديب الكبير كل شهر، وحضرت معهم تلك الجلسات مرات عديدة، وحاورتهم في ذكراه، ونشرت عنهم موضوعا في الأهرام أيضا.
في الجلسة الأولى بفندق شبرد، ذهبت قبل الساعة السادسة، موعد بدء كل جلساته، بنصف ساعة، وجلست أترقب وصوله وأنا متوتر بفرح، لأني سأراه شخصيا لأول مرة، وإلى تلك اللحظة لم أكن أصدق أنه إنسان عادي، أو أنه موجود في حياتنا، وكلما اقترب الوقت كان ضربات قلبي تزداد بمعدل أربكني، وكنت أطمئن نفسي بمعرفتي بأعماله، التي قرأتها كاملة، وعالمه الذي أظن أنني أصبحت من مكوناته لفرط اطلاعي على تفاصيله، وفي تمام السادسة رأيته قادما، نحيلا، وأقصر مما تصورت، يتأبط ذراع الدكتور «فتحي هاشم» صديقه الذي تكفّل باصطحابه في سيارته، هي ذاتها التي كان يركبها وقتما طعنه المتطرف.
وقفت أمامه. فقال له الدكتور فتحي، وكان يعرفني جيدا: «يا نجيب بيه، دا الأستاذ أسامة الرحيمي من الأهرام»، فقال الرجل بمودة رائقة وصوت عميق متعثر: «أهلا وسهلا.. » وأضاف بجدية وديبلوماسية استوقفتني: «يا دكتور فتحي اشمله برعايتك»، وحين جلسنا أوسعوا لي مكانا بجواره فنظر ناحيتي مبتسما، وكان جميع من حولنا يتبادلون التحية، ويحتلون أماكنهم في الجلسة، وقال لي الأستاذ الكبير بود صاف: « انت اسمك عندي في رواية ».. فقلت فرحا: « نعم يا أستاذ، رواية الطريق، سيد صابر الرحيمي»، وسألني مستفسرا: «انت من الجمالية»؟، وكنت أعرف أن أسرة في منطقته القديمة تحمل اسم «الرحيمي»، فأخبرته إنني من المنصورة، وأشعل له أحدهم سيجارة في تلك اللحظة، وأتى له النادل بفنجان قهوته على صينية صغيرة، وصبَّه وقرَّبه إليه، وانصرف. جذب عدة أنفاس بعمق أقوي من سنِّه، وبلهفة بادية، وأخذ رشفة عميقة واحدة من الفنجان، ثم غطَّاه بطبقه، وأعاده إلى مكانه، وعرفت لاحقا أنه بات يدخن سيجارتين في اليوم فقط، واحدة في السادسة تماما حين يصل مجلسه، والثانية في الثامنة تماما قبل أن يغادره إلى بيته، مع رشفتي القهوة الباردتين المتبقيتين في فنجانه، وبقية اليوم لا يدخن، ما يعني أنه كان يقدر تقدم الشيخوخة، وتراجع الصحة، كدأبه في التصرف بحكمة طوال عمره.
بادر الدكتور «فتحي هاشم» الحضور بالقول: «رجاء اللي يتكلم يذكر اسمه وعمله لأن الأهرام معنا اليوم» مشيرا إلى تسجيل وقائع الجلسة، وبدأ الحديث شخص اسمه «محمد الكفراوي» قدم نفسه كمهندس و«عضو الهيئة العليا لحزب الوفد»، ثم تحدث عن «محمد حسنين هيكل» بكلام ملئ بالسُباب المتجاوز، بسبب مقالته الشهيرة «استئذان بالانصراف» التي نشرها قبل الجلسة بأيام، وكتب فيها هيكل ما يعني أنه يستأذن عموم قراءه في التوقف نهائيا عن الكتابة، وأثارت حينها جدلا كبيرا في كافة الأوساط المعنية، وانتقل الكفراوي بلا فاصل من هيكل، إلى شتم «جمال عبد الناصر»، وكأن لديه ارتباط شرطي بين «هيكل وناصر»، وكَاَلَ لهما من الشتائم المُقذعة ما يندى له الجبين، ولا تليق بمجلس يضم أديب نوبل الموقر، ونظرت إلى «نجيب محفوظ» لأرى رد فعله، فأحسست أنه غارق في أفكار بعيدة عن مجلسنا، وكأنه لم يسمع، وبعد قليل استطاع آخرون انتزاع الكلام من الكفراوي الوفدي، ووجهوه إلى حادثتين كانتا تشغلان الرأي العام حينها، أولاهما انتحار الشاب «عبد الحميد شتا» الذي يحمل ماجستير في العلوم السياسية، ويُحضِّر لمناقشة الدكتوراه، ويجيد الإنجليزية والألمانية بجانب إجادته التامة للعربية، وتقدم لامتحانات الخارجية ليعمل في السلك الديبلوماسي، لكنهم رفضوه بجملة أليمة، تليق بعصر مبارك وكل ما فيه من فساد وانهيار للقيم، حيث قالوا «غير لائق اجتماعيا»، فقط لأنه ابن لعامل في مصنع للطوب، ومهما كانت مؤهلاته، وتفوقه بمرتبة شرف في تعليمه الجامعي والماجستير، لكنه ابن رجل فقير، وبسيط، وكأن الخارجية لم يعد يعنيها وجود الكفاءات، بل أبناء الأغنياء فقط، الذين يحملون مظاهر كاذبة، حتى لو كانوا جهلة، ولا يليق بهم تمثيل مصر.
والحكاية الثانية التي شغلت الرأي العام هي انتحار شخص آخر في القناطر لأنه عجز تماما عن توفير «مائة جنيه» فقط لشراء احتياجات أولاده في دخول المدارس، الكتب، والحقائب وما إلى ذلك، وكان يعذبه سؤال ابنته الصغيرة له كلما عاد خائبا إلى المنزل عن حقيبة المدرسة، بعدما بذل محاولات دؤوبة لاقتراض المبلغ البسيط، ورفض كل معارفه تماما، ربما لأنهم أيضا لا يمتلكون بدورهم مئة جنيه زائدة عن حاجتهم، ووجد نفسه أمام عجزه، وهوانه أمام إلحاح ابنته، فأقدم على الانتحار بلا تردد لفرط يأسه، حين تأكد أن الحياة أقسى مما كان يظن.
أذكر جيدا أن «نجيب محفوظ»، بعدما هدأ النقاش قليلا، وساد الصمت للحظة، تحدث فجأة قائلا: «لكن يا كفراوي بيه ما كانش يصح أبدا أيام عبد الناصر إن شاب بالمؤهلات دي كلها يُرفض لعدم لياقته اجتماعيا، ولا أب ينتحر لأنه عجز عن توفير ميت جنيه بس، كانوا المصريين أيام عبد الناصر مستورين». وسكت بُرهة ثم أضاف كأنما يُحدّث نفسه: «ما كانش حد يقول لي، ميت جنيه حاجة سهلة، الراجل دا حظّه صعب».
بعد قليل أحببت أن أسأله عن سيرته الذاتية، ومهدت لهذا بالكلام عمَّا تبقى من قيم وجيل ثورة 1919 في حياتنا، فضحك بصوت عال وقال: «تقريبا.. ما عدش حد غيري»، وضحكنا جميعا. إذن لماذا يا أستاذ لا تكتب سيرتك الذاتية شأن الكُتّاب الكبار حول العالم؟، فقال: «سيرتي في أعمالي»، وكتاب الغيطاني، وكلامي لـ «رجاء النقاش»، وما قلته في الأحاديث الصحفية، والتلفزيونية». فأحببت أن أفتح زاوية جديدة للسؤال، أقصد يا أستاذ سيرة ذاتية مثل صديقك لويس عوض؟!، فقال مازحاً: «دي مش سيرته.. دي سيرة أخوه». وضحكنا جميعا.
وكان الوقت قد شارف على الساعة الثامنة، فأشعل سيجارته الثانية، والتقط أنفاسه بذات الشغف، وأخذ رشفته الثانية من قهوته الباردة، وبعد دقائق وقف للإنصراف، وقال لي: «إلى اللقاء يا رحيمي في جلسة بكره». وحيَّا الجميع ومضى متأبطاً دكتور «فتحي هاشم»، وتأملت نحوله، وتعجبت لخطواته التي ليس لها دبيب.
وفي «سوفيتل المعادي»، مساء الاثنين، كان معظم الحضور من الأطباء، وأغلبهم من الجراحين، متأنقون جميعهم جدا، وحرصوا على ألا يتحدثوا، وبدا لي أنهم تهيبوا وجود صُحفي، وظننت أنهم خشوا قول آراءهم بحرية حتى لا تؤخذ عليهم إذا نُشرت، لكن الدكتور «أحمد شوقي العقباوي» أخذ ناصية الكلام، وتحدث بجمال لافت، وتبعه المخرج «توفيق صالح»، وتحدث باستفاضة عن فيلم «الأيام الطويلة» الذي أخرجه في العراق عن جانب من شباب «صدام حسين»، أو نضاله كما كان يزعم، وأنصت إليه «نجيب محفوظ»، والجميع باهتمام، شديد، وهو يلعن الدكتاتورية، وكيف قضى تلك الفترة في العراق على أعصابه، وحين سألته عن حقيقة رفض «صدام» لمشهد التألم وهم ينتزعون الرصاصة من جسده بدون مخدر موضعي، فانتبه لوجودي بسبب السؤال، وقال حازما، هذا الكلام ليس للنشر إطلاقا من فضلك، ثم أجاب على سؤالي، بأن الرئيس لا يجوز أن يتألم، وبعدما انتهى، فسَّر الدكتور العقباوي نفسية الديكتاتور المتعاظم بأسلوب علمي باهر، والمرة الوحيدة التي عقب فيها «نجيب محفوظ» قائلا بجدية: «كلهم شبه بعض»، وفي تلك اللحظة سألته سؤالا آخر فأجابني بلا تردد، وخرجت بغنيمة إضافية من الجلسة.
وفي «فرح بوت»، مساء الثلاثاء، سألته عن رؤيته للزعيم «سعد زغلول» شخصيا، فقص حكاية تعجبت لها، قال إنه ذات يوم وجد زحاما كبيرا في أحد شوارع القاهرة، وبالسؤال عرف أن الناس يتجمعون للسلام على الزعيم، فوقف، وكان في الخامسة عشر من عمره تقريبا، لأنه مواليد 1911، والزعيم توفي 1927، ومرض مرات متكررة لسنة قبل وفاته تقريبا، إلى أن مات. المهم أن محفوظ ذكر أن هذه كانت المرة الوحيدة التي رأى فيها الزعيم بعينه، وأنه وقتها لم يقف إلى نهاية المشهد، وانصرف بعد قليل «لشاغل» وراءه، وأبدى ندمه في الجلسة أنه لم يقف إلى نهاية الوقت الذي بقي فيه «سعد زغلول» بين الناس، وبدت حسرته حقيقية كأن الموقف كان بالأمس، مع أنه قد مر عليه حوالي 77 سنة، وهو في شجنه هذا طرحت عليه سؤالا آخر فأجابه فورا، وكانت إجاباته قصيرة جدا، في بعض الأحيان كانت جملة لا أكثر، وفي سؤال آخر أجاب بكلمة واحدة: «يجوز».
وتنبهت لعدة أشياء في مجالسه المختلفة، أولها أن الأعضاء من مستويات ثقافية، واجتماعية، ومهنية مختلفة، وأنه طوال الوقت كان يسمعهم فقط، ولا يتحدث إلا نادرا، وإذا فاته شئ بدا له مهماً يستوضحه من المتحدث، كأنه كان يريد وضع يده على نبض المجتمع بمختلف شرائحه، وطبقاته، ليعرف أين تتجه الأمور في البلد، وكان يتمتع بسماحة لم أر لها مثيلا في تقبل كافة التباينات في الآراء، والأشخاص من دون النظر لخلفياتهم، بل إنه كان يسأل باهتمام عن جميع الغائبين، وسمعته يسأل موظفا بسيطا في المترو: «عامل إيه يا عبده»، ولاحظت استخدامه البارع للسماعة، فإذا علا الضجيج، يغلقها «بصنعة لطافة» حتى لا يلاحظه أحد، ولا يسبب لهم حرجا، وحكى لي صديقي الراحل الفنان «محمد الشربيني» أنه كان إذا أصابه ضيق كبير من الكلام، يخلع السماعة من أذنه ويضعها أمامه دليلا على استياءه، وأن أطباء من سويسرا، متخصصون في السمع، أحضروا له سماعة حديثة، وصغيرة الحجم، ووضعوها داخل أذنه فسمع كل الكلام بوضوح، وطلب انتزاعها فور إدراكه إمكانياتها المتطورة، واعتذر عن قبولها لأنه لا يريد أن يسمع كل الكلام، ولا بهذا الوضوح، ويفضل السماعة القديمة لأن فيها إمكانية التحكم في الصوت بتخفيضه أو غلقه وقتما يحب.
وكذا استوقفتني كلماته القليلة التي يستخدمها في التعبير عن إعجابه بأي شئ، وكان يتجنب المبالغة بإصرار شديد، فيقول فقط «كويس» و «كويسة» إذا أعجبه شئ، وفق المذكر والمؤنث، ويستخدم أيضا مفردات «ربما»، و«يجوز»، و«محتمل»، و«يصح برضه»، ولا يقطع بقين في أي شئ حتى لو كان متأكدا، ليظل كلامه في محيط الاحتمالات والرُبَّمَاوِيَة وحسب.
ويوم الأربعاء في سوفيتل المطار، أنصت باهتمام شديد، تعجبت له، لمقالة الشاعر «عبد الرحمن الأبنودي» في ملحق الجمعة الفائت بعنوان «أيامنا الحلوة»، وعرفت أنه يحرص على سماعها منه أسبوعيا، وحين انتهى قال له: «كويسة»، ويبدو أن الأبنودي كان معتادا على كلمته تلك، فلم ألحظ أي غضب، لمعرفتي اليقينية أنه يحب الإطراء، بحكم تعاملي معه، ومحاورتي له أكثر من مرة.
وفي تلك الجلسة قدّم له شخصا ظريفا اسمه «حافظ» علبة سجائر (ميريت أزرق)، وقال له: « دي علبة السجائر الجديدة اللي طلبتها يا أستاذ نجيب.. ودي العلبة القديمة فيها 12 سيجارة ما زالت».. فضاحكه «محفوظ» بقوله: «ما تعرفش أنا أخدت كم نفس يا حافظ»؟. وضحكنا جميعا بما فينا «حافظ» نفسه.
بعد لحظات صمت. سأل فجأة: «هو الرحيمي ما جاش النهارده».. أذهلني تركيزه، وأسعدني جدا أنه يذكرني، ويهتم باتفاقنا على الجلسات الست. وبادر الجميع لإخباره بوجودي، فشكرته وقلت: «موجود يا أستاذ» فقال بتعبير عموم الناس: «دايما موجود»، فسألته ضمن لحظة الودّ تلك عن تفسير بعض النقاد لـ «شخصية حميدة» في روايته «زقاق المدق» بأنها مصر التي تعيش آمنة في زقاقها الضيق، وأنها إذا خرجت إلى السكة الجديدة بدون استعداد واحتياطات كافية بالعلم والخبرة، فسيخطفها من يُضيِّعها كما حدث؟ فقال كلمة واحدة: «يجوز»!!
في جلسة الخميس، بمطعم فلافيلو، على كورنيش المنيل، واختفى ذلك المطعم شأن كل الأشياء المهمة في بلادنا. وبحضور الكُتَّاب «نعيم صبري» و«زكي سالم» والطبيب النفسي «يحيى الرخاوي» رأيته يأكل لأول مرة، وعرفت أنه يحب الطعمية، وأكل واحدة لا غير، مع ربع رغيف صغير جدا، بحجم لقمة واحدة، أكله على قضمات ضئيلة، ظل يمضغ فيها لوقت طويل جدا، وشرب رشفات ماء قليلة بعده، وعرفت عنه التزامه المطلق في الأكل، خشية مضاعفات السكر، فمنذ أخبره الطبيب وهو في سن الخمسين بإصابته بالسكر، وحدد له آليات تفاديه بالتغذية الصحيحة، لم يخالف تعليماته مرة واحدة طيلة 46 سنة عاشها بعد ذلك، حيث توفي في السادسة والتسعين من عمره. والحقيقة أن الدكتور الرخاوي في ذلك اليوم انفرد بأغلب وقت الجلسة، وتحدث باستفاضة عن علاقة الأدب بالطب النفسي، وتجليات ذلك في الأدب العالمي عند دستيوفسكي وغيره، وعند نجيب محفوظ، وهو ينظر إليَّ لأسجل كلامه، وسجلته فعلا، لكن لم أستفد إلا بأقلِّه، والمدهش أن نجيب محفوظ ظل صامتا تماما، ولم يعقب، ولم يتكلم إلا حين طرحت عليه سؤال آخر، وأجاب باقتضاب كدأبه.
وفي جلسة الجمعة بمنزل الدكتور الرخاوي بالمقطم، لم يكن هو معنا (صاحب البيت)، وقرأ عليه «أسامة عرابي» المقالات والموضوعات التي اختارها من «أخبار الأدب»، بصوت رصين صحيح، بدا درسا في أصول اللغة والقراءة، وكان الأستاذ يغمض مُنصتاً، وكأنه سعيد بأداء عرابي، وحين انتهى نظر إليه مبتسما، وربَّت بحنو على يده، تحية له على الإجادة، وساد صمت لبعض الوقت، قطعه أحدهم بنكتة «قبيحة» بصوت خفيض، فضحك جانب من الحضور بلا ضجة كبرى، وبادر شخص ثان بقول نكتة شبيهة، وضحكوا، فقال أحدهم بصوت خفيض أيضا: « يا جماااعة، مايصحش كده في حضرة الأستاذ؟!». وفوجئنا جميعا بالأستاذ محفوظ يقول بخفة ظل مدهشة: «أنا شاهد ما سمعش حاجة».. وضج المكان بالضحك.
حين هدأوا بعد قليل، انتقلت إلى جواره لأطرح بقية أسئلتي عليه، وأجاب على ما تبقى لدي من أسئلة بلا تردد.
واستكملت تفاصيل اليوم السابع من الكاتب «محمد سلماوي» الذي حدثني عن كلمته الأسبوعية في الأهرام، التي كان يتحدث فيها معه قبل كتابتها، ويترك له الأستاذ صياغتها ثقة في أمانته ودقته. وأخبرني الحاج «صبري السيد» ما الذي كان يحب قراءته في الصحف، وأنه كان يفضل الأهرام طوال عمره، خاصة الصفحات الثقافية، وملحق الجمعة، ومجلة «نصف الدنيا» التي واظب على نشر «أحلام فترة النقاهة» فيها، وكيف كان يتصرف في بيته، مع زوجته وابنتيه، فأكد لي الرجل أنه كان أباً ودودا، وزوجا هادئا رقيقا، وهن يعرفن كافة مطالبه وينجزنها قبل أن يطلب شيئا، فكانت حياتهم تسير وادعة.
ما توفر تحت يدي بعد الست جلسات تلك، وإجاباته على أسئلتي التسع، صنع صفحتيّ جورنال، لكنهم في الأهرام قالوا صفحة واحدة فقط، وصباح نشرها اتصل بي الأديب «إبراهيم أصلان»، وقال لي حرفياً: «.. واد يا أسامة.. انت عامل حاجة غير مسبوقة». ونطق «قاف مسبوقة همزة.. مسبوءة».
الحقيقة أسعدني رأيه جدا، لكني ظللت أترقب رأي الكبير «نجيب محفوظ».. وبعد فترة صادفني «عم صبري» فاستوقفني وقال لي: «الأستاذ كان مبسوط قوي من صفحتك»، فتشجعت وسألته بشغف: «قال إيه؟»، فأجاب: «قال كويسة»!!.
أسامة الرحيمي -
أسامة الرحيمي
أسامة الرحيمي ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit أسامة الرحيمي und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...