نشر نادي القصة في كتابه ” دروب جديدة ، الأفق الثاني ” قصصاً للكاتبين الإرتريين جمال عثمان همد ، والغالي صالح ، وهما من كتاب إرتريا الذين يكتبون باللغة العربية ، وهي كتابات تمتاز بإمتلاء الحدث ، وقوة التعبير اللغوي ، وقد إستفادوا من إزدواجهم اللغوي في إمتلاك ناصية اللغة المكتوبة بها نصوصهم القصصية . وقد ساعدتهم بنية بلادهم الطبيعية ، وما تعرضت له ايضا في حرب التحرير ضد الإستعمارالإثيوبي ،
ومن الواقع السياسي لما بعد الثورة وما قبلها ، من لجوء وتشرد وسجون ومنافي بعيدة في كل أصقاع الدينا. كل هذا جعل كتاباتهم ونصوصهم مليئة بالإحباط والتشظي وبنفوس مليئة بالحسرة والمرارة . يقول الروائي جارسيا ماركيز ” ضريبة الكاتب السياسية هو أن لا يتهرب من معتقداته، ولا يتجاهل الواقع . عليه أن تيح للقارئ خلال إنتاجه الأدبي فرصة فهم حقيقة الواقع السياسي والإجتماعي في وطنه، أو قادته، أو عالم الإنسانية الرحب على نحو أفضل “.
إستخدم القاص جمال عثمان في قصته ” الظل ” ” صورة زنكوغرافية لإستراحة المحارب ” تكنيك الزمن جيداً بأقسامه الثلاثة ” الماضي ، الحاضر، المستقبل” بالإستراجاع والإستباق والعودة . أراد أن يقول أن الماضي هو مأساة الحاضر والمستقبل لشخصياته ، كأنما أراد بالسرد أن يتأمل التاريخ ويكتبه بوعي ورؤى أكثر ذاتية ورمزية وشمولية ، وهو بهذا كما يرى القاص جمال ان الماضي أقدر على تقديم معنى للحاضر وإمتداداً بالتالي في المستقبل كأنَّما أراد فعلاً في قصته ” الظل” أن يقول ذلك . يشكل الماضي عنصراً أساسياً ، بل هو العنصر الأهم في هذه القصة ، على مستوى بنية التخيل ، واللغة ، والقيم الفكرية ، والثورية ، بل والحدث المادي الرئيسي . كأنَّه أراد أن يقول أن الزمن هو الحاضر كلَّه أو أنَّ التاريخ والوضع الإنساني يشكل منظوراّ ” لا زمنيا” وبالتالي لا يعدو عجيبا الحس بإستمرارية ووحدة الزمن في هذه القصة .. أو كأنما أراد أن يقول أيضا أنَّ ما وقع لشخصيته في الماضي قابل لأن يقع في كل مكان وكل زمان . أما الغالي صالح ففي قصصه فقد كانت إسترجاعاته قليلة ” الحرب عنده ذاكرة لا إرادية ” اما ذاكرته الإرادية ” ذاكرة شخصياته ” فهي ذاكرة الحاضر المحيط والقاتم والحزين .
العلاقة بين الشكل والمضمون في قصص جمال عثمان متينة وقوية، فالعودة والرجوع من الماضي وإليه ، لم تكن عبئاً على السرد ، وهذا التفتيت الزمني لم يقوده إلى الفوضى في الكتابة ، فالنص متماسك شكلاً ومضموناً ، فالماضي هو عين الشخصية وإشكالها. يقول في قصة “الظل “( في الزمن الباهت ، وضع رجليه على رأس البرزخ المدبب، الفاصل بين عالمين رغم وحدتهما في تضاد مبهم ، عند إقترابه من وضوح الرؤية والرؤى ، ويبده المرتجفة الممتدة لقبض الراهن دوَّت الصفعة … أي الدوي مكتوماً … قادماً من الجو… إقتربت بخفّة وسرعة ” المغيرات صبحاً ” وهوت كإنفجار..نصل حاد إنشكًّ داخل جمجمته ، لأن الجسد أصبح خفيفاً مرناً ..).
إنَّ عنصر الزمن لم يقوده إلى الفوضى في الكتابة فالقصة متماسكة ، ومحبوكة جداً. فالقصة دائرة في فلك الحزن والإحباط واللآمستقبل ، فالدائرة الأولى هي محاولة قبض الراهن الحاضر والثانية دائرة الحزن “الإصابة” والدخول في دائرة اللآزمني “دائرة النسيان ” ، ثم دائرة الصحو التيقظ ، وذلك بسماع البيانات العسكرية والإقتراب من العاصمة ” دخول دائرة الزمن الحاضرمرَّةً أخرى ” .
لقد أراد جمال في قصته هذه (الظل) وبإستخدام هذا الثلاثي الزمني إلى تحقيق التواصل المنشود، بين الراوي والمروي له ، فتداخل الأزمنة في اغلب قصصه موظفاً لشحذ دائرة التيقظ والإنتباه ، وليس مقصوداً به التفتيت والبعثرة المنهجية لأنها ليست من قصص تيار الوعي ، لأن الزمن موظفاً للحظة الآنية الحاضرة ، وما قبل الإنتصار وما وبعده ثم ظهور( أرعــــدوم) . لقد إستخدم كلمة البـــرزخ كدلالة على اللحظة الفاصلة والحاسمة ما بين إقترابه في موضوع الرؤية والروى وقبض الراهن (الإنتصار)، ومابين دوي الصفعة (الإصابة) بسرعة المغيرات صبحاً (إستخدام البلاغة القرآنية)، وهو يستخدم أيضا بجدارة تكنيك النفي والإثبات لتثبيت الزمن في دائرة الوعي (الحاضر)ثم العودة إليه او محاولة قنص الراهن ، يقول ” صورة مشوشة، تتداخل ، تتباعد…تتقارب … تتضح معالمها، حدث ذلك منذ زمن بعيد …لا إنه قريب جداً ” ثم يعود إلى اللحظة الحاضرة بإستخدام فعل المضارع يقول ” البيانات العسكرية تتوالى ، يمتد إرسال إذاعة صوت الجماهير، إنه شهر مايو ” ، ” يقتربون من العاصمة ” الإنتظار “مستقبل ” وهو إنتظار عودة الأمين العام ، ثم يعود في إسترجاعه وفي الحلم بالمستقبل المرتجى وجني ثمار النضال والثورة ، إلى اللحظة الحاضرة المؤلمة ( حاضر راهن ) هنا تتلجلج اللغة وتتقطع (تكنيك البلاغة الناقصة ) ،” إذن … أنا… لماذا هذا الإحتفال ؟ من أين أتى أرعدوم ؟” وارعدوم هي شخصية جديدة (ليست هي الشخصية المرتجاة) لقد إستخدم القاص جمال عثمان الراوي المزدوج كانما هنالك شخصيتان ، شخصية متكلمة تحكي عند لحظة وعيها (إذن ..أنا) وشخصية راوي عليم يحل محل الأنا عندما تعود إلى لا وعيها، وذلك حتى لا يترك فراغاً سردياً داخل النص . بمعنى أن الوحدة الشعورية داخل النص لم تنفصم بين الشخصية وبين زمن حدثها “هذا النصل الحاد الذي إنشكّ داخل جمجمته ” لم يؤثر في الذاكرة ، ولكن بعد ان تظهر شخصية ” أرعدوم” غير المتوقعة ، تسترجع الشخصية ماضيها وتعود إليه ” حيث الصفعة ، وحيث النصل الحاد الذي إنشكّ داخل جمجمته ، وقد كان منسياً بنشوة الإنتصار والإنتظار” للأمين العام” والزحف نحو العاصمة ، والثورة توشك أن تجني ثمارنضالها ، وهذه النشوة ، أشاعت في الجسد الخفّة والمرونة ، يقول ” الإصابة، ياإلهي أين هي ، مسح رأسه ، لا أثر.” ذلك لأنَّ الشفافية العذبة سربلت روحه ، فقد نسى الإصابة ، وقتها كان زمنه (مستقبلاً) وليس ماضيا، ولكن كان الحاضر غير المستقبل المؤمل ، لم يعد الأمين العام ، وإنما ظهر أرعدوم . لذلك دوّت الصفعة وعاد الماضي (عاد الألم قوياً بعد أن نسيه بنشوة الإنتصارالذي لم يتم .)، والمُدْيَةَ التي إنشكّتْ ذات يوم في جمجمته لم تنتزع ، وإنما كان مخدراً بالفرحة والنشوى .. رغم ان الطبيب قد قال يوماً بأن ذاكرته تهشمت وفقدت خاصيتها في التنظيم وترتيب الزمن والحدث .. ولكن الذاكرة عادت إليه رغم ذلك بل بشاشة داخلية مكبرة وذلك من فرحة المستقبل الآتي الجميل … وبدأ يتذكر الماضي ” رغم وجوده في جب سحيق (فقدان الذاكرة)” يقول ” كان يرنو إلى الطريق المنعرج الصاعد إلى الجبال ، في طريقه إلى مدينة بارنتو. المدى الرصاصي ساكن ، والهواء الجبلي ثقيل ، الخوف الأبدي الذي يسبق الإشتباك يسيطر عليه ” ذاكرة الراوي هنا ذاكرة معرفة بالمكان ، وهي ذاكرة حرب ومعسكرات ، (الراوي الخبير) وقد حل هنا بهذه الذاكرة مكان ذاكرة الشخصية التي تغيب وتعود بمقدرة سردية إحلالية رائعة ، فالراوي العليم مستعداً دائماً لملء فراغ الذاكرة (ذاكرة الشخصية ) هذه الشخصية التي يتكرر عندها دائما إزياح الزمن (غيابه ورجوعه) وهذا التشويش في الذاكرة ليس بسبب الإصابة وإنما بسبب ظهور شخصية أرعدوم غير المتوقعة ، والتي أزاحت الحاضر والمستقبل المؤمّل ليتجسم الماضي بآلامه ويتساءل ذلك السؤال الإستنكاري الحزين ( من أين أتى أرعدوم ؟) ويعود إليه وعيه كاملاً لأنه يعرف شخصية أرعدوم ، كانما حجم الشاشة الداخلية قد تضاعف حجمها والصورة قد تجسمت والذاكرة عادت أوضح وأجلى ، فيصيح بأعلى صوته كأنما يريد أن يسمع إحتجاجه الكثيرين (أرعـــدوم ، أرعـــدوم ،دوووم-م – م – م ) كأنما يتردد صداه في الأركان ونسمعه عالياً ومؤلماً وإحتجاجياً ، فهو يرعد ويزبد بنعوت واضحة وقاطعة ” ، (سرى الإكتشاف لماهية الرجل ، الذي عاش بينهم كسريان الحياة في الأجساد الواقفة على مضض تحت لهيب شمس الضحى ) فكلمة على مــضـض ذات دلالة عميقة على عدم الرضى لما يحدث .(الإحتجاج الصامت) فكان الناس مجبرة على الوقوف ومغلوبة على أمرها ، يقول (( صرخ وانقسمت الأبصار بين أرعدوم ببزته الرسمية وبين الرجل “صاحب الظل” الذي أرعد وأزبد بنعوت واضحة ، وقاطعة، وسرى الإكتشاف لماهية الرجل “صاحب الظل” الذي أرعد وأزبد بنعوت واضحة ، وقاطعة، وسرى الإكتشاف لماهية الرجل الذي عاش بينهم كسريان الحياة في الأجساد الواقفة على مضض تحت لهيب شمس الضحى )) ، فالظل هو الرمز للمستقبل الذي أصبح سراباً وقد ضاع وأصبح ذكرى ملازمة لهذا الرجل الذي يغيِّب ذاكرته لكي لا يتجسم الحاضر المؤلم أمامه .
إنّ الكاتب جمال عثمان ، يخلق في عقل قارئه فعلاً مركباً في وصف حالة شخصيته (الإصابة) يخلق طبقات تفاعل متداخلة ، الرثاء، الحسرة ، والغضب . ولربما لمتلقي آخر يخلق الإندهاش والأسى والقنوط . ولكن قوة السرد في هذه القصة أن الـ هو والأنا تصبح جمعية وتصبح رمزاً للكل الذي ينتظر مستقبلاً فؤُحْبطْ ، والظِّل هو بقاء الفكرة والأيدلوجيا (( ظلّ لا يغيب بغياب الشمس لأن الشمس دائماً تعود)) رغم رمزية الكتابة عند جمال همد ، ولكنما كانت اللغة خارج التخييل ، لأن الواقع لايقبل ذلك (الواقع المر الحزين). ومن هنا تبدو عنده الواقعة الأدبية مستندة على الواقعة المادية ، فالبطل متداخل في التجربة مع الراوي العليم . وهو أي البطل من شدة وهجه وإحتراقه ، رغم وجود أمثلة له قد تكون متكررة وحقيقية ، وشديدة الخصوصية فيمكن كما قلنا أن يصبح رمزاً، ومن ثم فالتجربة عنده وعند الغالي صالح وغيرهم من الكتاب الإرتريين ، هي تجارب مرئية ، حية ومعاشة وليست شهادة سماع من على البعد. قد يكونوا عايشوها حقيقةً ، وإلتحموا بنسيجها وفضائها المكاني ، وفعلها المادي اليومي. إنَّهم ليسوا كمن يكتب من على البعد كما يكتب أهل القصة والشعر في العالم العربي عن معاناة الشعب الفلسطيني دون أن يعيشوها .
أما ذاكرة الماضي عند الغالي صالح فهي ذاكرة مرارة وحزن عميق ، وإحباط ، كسى النص وسربله كله، لم يترك فيه لحظة فرح او بصيص من أمل كما كان عند البطل في قصة جمال عثمان (الظل) هي كتابة الخوف واللأمان ، فاللحظة المحبطة المريرة ، لم تترك للماضي فرصة ليسترجعه الكاتب ، هي لحظة المنفى والإبعاد القسري ، في قصته (( الطّلْ لايكف أبداً عن إجتراح الأحزان )) يقول) آهـ ياحزني ، آهة تنسل من الحلق ومن القلب ، في دويِّ الحسرة والأسى العميم ، في لمعان الدمع على مآقٍ كثيرة ، مطفأة شتيتة ومطاردة بفزع التربُّص ووجع البعد القسري ) فكلماته مجروحة تنزف دماً من داخله . وشخصياته أيضاً لا تخلو من ذاكرة الحرب وجبهات القتال ، يقول ” تشلَّكْ رجفة راعدة ، تمتص ما تبقًّى في مفاصلك من حياة . شهقة ، مثل بهقة الرصاص في السهول الجنوبية المصهدة ، تملأ عينيك أطياف ، من أعراس الدًّمِ والجثث المنتفخة ، تحت السعيرالساحلي المهلك ، ساعتك الأخيرة ” . إنها لوحة سريالية مخيفة ومؤلمة ، لإنْ كان البطل عند جمال عثمان يغيب ذاكرته بالألم حتى ينسى ، فإنَّ البطل عند الغالي صالح يتألم ، يحاول أن يغيب ذاكرته فلا يستطيع ، لأنه واعٍ بالحاضر ، بإحباطاته ، ومآسيه ، فهو قدره ولا يستطيع الفكاك منه. وهو لايتألم لألمه فقط، وإنما ذاكرته مليئة بآخرين كانو معه . فذاكرته لا تغيب ، لذلك كان ألمه أشد وأقوى ” إنتفض كل جسدك الآن ، تحت وطأة الإختناق في صراعك مع الغيبوبة التي تشدك من نفسك …” فهو في صراع مع الوعي واللاوعي ولكي يتغلب دائماً وعيه حاضراً مؤلماً وذكرى مريرة . وألمه لايحسه أحداً، فهو يعرف الماضي ومآسيه ، ويعيش الحاضر وإحباطاته، فالألم عنده يمتد في الأزمنة الثلاثة لأنَّه أيضاً لم يعرف الإنتصار، لم يجني الثمار، يقول ” إصرخ صرخة مريرة ، كتيمة ، حتى لو تقدر … حلقك متروس بالخنق ، كتلة صمّاء من لحمك تخذلك فلا ينتبه أحد … لا احد يحسك وأنت تذوي شيئاً فشيئاً في هذا الحوش الكبير، في هذه المدينة الملعونة ” فالإختناق صورة للكبت والقهر وكتم الأصوات وعدم الإحساس ناجماً عن المعاناة والتضحية غير مقبوضة الثمن . والمدينة صارت لعينة لأنها لم تتقق فيها أحلامه ، ولأنها خالية من الذين يتألمون لألمه ويشاركونه أحزانه ” يتذكر خالد ، وإبراهيم طفل الخمسين المهزوم حتى النخاع في منفاه البعيد ولا يعصمه ذلك ” . أى لا يمنعه من الألم مثله ، كانما أراد ان يعبر عن جحيم المنافي وانها ليست حية ، فالوطن سجن والمنفى كذلك . إنهم رفاق السجون والجدران القاسية أينما كانوا فالسجون تلاحقهم . ويسترجع البطل حياته مع خالد وإبراهيم في غرفة الميز الكئيبة ” زوايا الغرفة الوحيدة في الحي البئيس ، مدفونة تحت التلال الرمادية الكئيبة ، ذات الباب الخشبي المشقوق، لا يقينا من عسف البرد وإستبداد ريحه ، سوى هذه الضحكة التي تنبثق من هذا الفم العبق برائحة الدخان الرخيص وصفرته ، الطامح ببصقة شهية من أثر الرشفة الأولى من مشروب العجزة والمعوزين ” . فحتى الطبيعة لا ترحمهم فالبرد متعسف والريح مستبد . إن البطل في قصة الغالي صالح ” الطّلْ لا يكف أبداً من إجتراح الأحزان ” يحمل أحزانه وأحزان الآخرين ، ولكنه يتألم أكثر لأنه يبكي بلغة لا يفهمها أحداً ، كانما جعل للبكاء لغات عديدة … وهو يقصد أسباباً عديدة ، يقول ” تنوء بملامح تقطر كبرياء ، وأصل لا يقبل الإقصاء. سب. أصرخ .”إلعن …هذه بلد ” إدلق كل قول بذئ تدّخره ” . كتب ” إلعن …هذه بلد” بين قوسين فهو تناص من قصيدة الحردلو الشاعر السوداني” أمانة الكتابة ” أما حزنه الأكبر ومعاناته الأليمة ” يمضي الناس من حولك كأنك لست – هنا – لست هنا أبداً ” .
إن اللغة عند جمال عثمان تتغير في صيغها وذلك لأن الأزمنة الثلاثة التي يستخدمها تتطلب ذلك ، فهي تنقسم في أسلوبها وزمنها عن السياق العام وغالباً ما يكون المقطع نقطة تحوُّل في القصة ، وقد تكون جملة واحدة مفرزة ومستقلة في مقطع واحد ، ولها دلالة كبرى في السرد وفي التمهيد لما بعدها ” الكتابة المقطعية ” يقو ل ” وحسم الأمر” ، “دوّت الصفعة ” فجمله ذات نفس قصير ولكنها سريعة التوصيل للمعنى . ويلجأ القاص الغالي صالح للتقويس حتى يلتفت المتلقي للمعنى وحصر ذهنه فيه ، وهو يكتب بالجُملْ المتواترة والتي تعتمد على بعضها في التوصيل والإبلاغ . ويلجا جمال عثمان للمد الصوتي وإستخدام أحرف النداء لتحفيز المتلقي وشد إنتباهه للشخصية وتثبيت الصورة في ذهنه .
لقد كانت قصصهم خاضعة لكل صيغ الكتابة الفنية الصحيحة ، فبدايةً الإنطلاق وتنامي الحدث ، والوقوف عند خط سير النهايات ، والإحباط والضيق والغربة داخل الوطن والمنفى القسري خارجه ، كل تلك المضامين داخل نصوصهم لم تكن إضاءات عابرة مفتعلة ، لأنها ليست متعلقة بإرادة الكاتب ووعيه ، ولكنها كتابة محكومة من خلال التنامي المنطقي والقدري المسبب ، والسير المتسق المتواصل لنمو الشخصية في الصراع مع الواقع القديم والمستمرفي الحاضر ولم يتغير. إن ما يحدث لشخصياتهم كان مقنعاً فنياً وواقعياً ، لأن الواقع الإنساني لهذه الشخصيات هو الواقع الصادق . فتزاوج مع الصدق الفني وأنتج قصصاً رائعة في شكلها ومضمونها .
يقول ياسر عوض في بحثه ” الأدب والسياسة والعلاقة الممكنة بينهما ” وهو من منشورات مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بالخرطوم ، يقول في ص 47 ” إننا عندما ننظر للنص في علاقة مع الواقع – الطبيعي، الإجتماعي، السياسي – نجد ان شكل النص ليس ناقلاً محايداً لمضمونه ، فالشكل الفني والتقني للنص هوإحدى دلالاته المعبرة عن رؤيته للعالم ، وذلك لأنّ عملية نقل الواقع (خارج النص) إلى داخل النص لا تتم مضمونيا فقط ، لأنّ النقل المضموني للواقع ينتج الواقع نفسه وليس نصاً أدبياً يرى للواقع . نقل الواقع لداخل النص يتم أيضاً فنياً وشكلياً ليحقق النص إحدى سماته الأدبية (وهي السمة الفنية الجمالية) والكاتب ينقل الواقع لداخل النص عبر رؤيته للعالم متوسلا الجمالية .” .
إنّ النسيج الفني لم يكن مختلاً وذلك لأن الواقع قد نقل إلى داخل النص فنياً وشكلياًّ وان بناءه المنطقي أيضاً كان متماسكاً . إنَّ المتلقِّي بقراءة قصص هذا الدويتو الإرتري يشعر بآلامهم وقلمهم الذي ينز معاناةً وحزناً وإغتراباً والتي لم تحجب متعة القراءة لنصوصهم لأنها كتابة حارَّة وصادقة لا تلبس قناعاً مزيفاً حيث كان التوازن الموضوعي لبنية القصة ومعمارها ظاهراً بين جميع عناصرها ، فأعطوا للمكان المميز حقه وللشخصية حقها في الوصف والتجسيم الداخلي والخارجي دون رومانسية مخلة بالنص المشبع بالمأساة .
إن النص عندهم لا يتباكى ولكنه يبكي في صمت وكبرياء جبال إرتريا الشامخة بلغة ليست قاموسية فجة ولا رومانسية مستعطفة .
ومن الواقع السياسي لما بعد الثورة وما قبلها ، من لجوء وتشرد وسجون ومنافي بعيدة في كل أصقاع الدينا. كل هذا جعل كتاباتهم ونصوصهم مليئة بالإحباط والتشظي وبنفوس مليئة بالحسرة والمرارة . يقول الروائي جارسيا ماركيز ” ضريبة الكاتب السياسية هو أن لا يتهرب من معتقداته، ولا يتجاهل الواقع . عليه أن تيح للقارئ خلال إنتاجه الأدبي فرصة فهم حقيقة الواقع السياسي والإجتماعي في وطنه، أو قادته، أو عالم الإنسانية الرحب على نحو أفضل “.
إستخدم القاص جمال عثمان في قصته ” الظل ” ” صورة زنكوغرافية لإستراحة المحارب ” تكنيك الزمن جيداً بأقسامه الثلاثة ” الماضي ، الحاضر، المستقبل” بالإستراجاع والإستباق والعودة . أراد أن يقول أن الماضي هو مأساة الحاضر والمستقبل لشخصياته ، كأنما أراد بالسرد أن يتأمل التاريخ ويكتبه بوعي ورؤى أكثر ذاتية ورمزية وشمولية ، وهو بهذا كما يرى القاص جمال ان الماضي أقدر على تقديم معنى للحاضر وإمتداداً بالتالي في المستقبل كأنَّما أراد فعلاً في قصته ” الظل” أن يقول ذلك . يشكل الماضي عنصراً أساسياً ، بل هو العنصر الأهم في هذه القصة ، على مستوى بنية التخيل ، واللغة ، والقيم الفكرية ، والثورية ، بل والحدث المادي الرئيسي . كأنَّه أراد أن يقول أن الزمن هو الحاضر كلَّه أو أنَّ التاريخ والوضع الإنساني يشكل منظوراّ ” لا زمنيا” وبالتالي لا يعدو عجيبا الحس بإستمرارية ووحدة الزمن في هذه القصة .. أو كأنما أراد أن يقول أيضا أنَّ ما وقع لشخصيته في الماضي قابل لأن يقع في كل مكان وكل زمان . أما الغالي صالح ففي قصصه فقد كانت إسترجاعاته قليلة ” الحرب عنده ذاكرة لا إرادية ” اما ذاكرته الإرادية ” ذاكرة شخصياته ” فهي ذاكرة الحاضر المحيط والقاتم والحزين .
العلاقة بين الشكل والمضمون في قصص جمال عثمان متينة وقوية، فالعودة والرجوع من الماضي وإليه ، لم تكن عبئاً على السرد ، وهذا التفتيت الزمني لم يقوده إلى الفوضى في الكتابة ، فالنص متماسك شكلاً ومضموناً ، فالماضي هو عين الشخصية وإشكالها. يقول في قصة “الظل “( في الزمن الباهت ، وضع رجليه على رأس البرزخ المدبب، الفاصل بين عالمين رغم وحدتهما في تضاد مبهم ، عند إقترابه من وضوح الرؤية والرؤى ، ويبده المرتجفة الممتدة لقبض الراهن دوَّت الصفعة … أي الدوي مكتوماً … قادماً من الجو… إقتربت بخفّة وسرعة ” المغيرات صبحاً ” وهوت كإنفجار..نصل حاد إنشكًّ داخل جمجمته ، لأن الجسد أصبح خفيفاً مرناً ..).
إنَّ عنصر الزمن لم يقوده إلى الفوضى في الكتابة فالقصة متماسكة ، ومحبوكة جداً. فالقصة دائرة في فلك الحزن والإحباط واللآمستقبل ، فالدائرة الأولى هي محاولة قبض الراهن الحاضر والثانية دائرة الحزن “الإصابة” والدخول في دائرة اللآزمني “دائرة النسيان ” ، ثم دائرة الصحو التيقظ ، وذلك بسماع البيانات العسكرية والإقتراب من العاصمة ” دخول دائرة الزمن الحاضرمرَّةً أخرى ” .
لقد أراد جمال في قصته هذه (الظل) وبإستخدام هذا الثلاثي الزمني إلى تحقيق التواصل المنشود، بين الراوي والمروي له ، فتداخل الأزمنة في اغلب قصصه موظفاً لشحذ دائرة التيقظ والإنتباه ، وليس مقصوداً به التفتيت والبعثرة المنهجية لأنها ليست من قصص تيار الوعي ، لأن الزمن موظفاً للحظة الآنية الحاضرة ، وما قبل الإنتصار وما وبعده ثم ظهور( أرعــــدوم) . لقد إستخدم كلمة البـــرزخ كدلالة على اللحظة الفاصلة والحاسمة ما بين إقترابه في موضوع الرؤية والروى وقبض الراهن (الإنتصار)، ومابين دوي الصفعة (الإصابة) بسرعة المغيرات صبحاً (إستخدام البلاغة القرآنية)، وهو يستخدم أيضا بجدارة تكنيك النفي والإثبات لتثبيت الزمن في دائرة الوعي (الحاضر)ثم العودة إليه او محاولة قنص الراهن ، يقول ” صورة مشوشة، تتداخل ، تتباعد…تتقارب … تتضح معالمها، حدث ذلك منذ زمن بعيد …لا إنه قريب جداً ” ثم يعود إلى اللحظة الحاضرة بإستخدام فعل المضارع يقول ” البيانات العسكرية تتوالى ، يمتد إرسال إذاعة صوت الجماهير، إنه شهر مايو ” ، ” يقتربون من العاصمة ” الإنتظار “مستقبل ” وهو إنتظار عودة الأمين العام ، ثم يعود في إسترجاعه وفي الحلم بالمستقبل المرتجى وجني ثمار النضال والثورة ، إلى اللحظة الحاضرة المؤلمة ( حاضر راهن ) هنا تتلجلج اللغة وتتقطع (تكنيك البلاغة الناقصة ) ،” إذن … أنا… لماذا هذا الإحتفال ؟ من أين أتى أرعدوم ؟” وارعدوم هي شخصية جديدة (ليست هي الشخصية المرتجاة) لقد إستخدم القاص جمال عثمان الراوي المزدوج كانما هنالك شخصيتان ، شخصية متكلمة تحكي عند لحظة وعيها (إذن ..أنا) وشخصية راوي عليم يحل محل الأنا عندما تعود إلى لا وعيها، وذلك حتى لا يترك فراغاً سردياً داخل النص . بمعنى أن الوحدة الشعورية داخل النص لم تنفصم بين الشخصية وبين زمن حدثها “هذا النصل الحاد الذي إنشكّ داخل جمجمته ” لم يؤثر في الذاكرة ، ولكن بعد ان تظهر شخصية ” أرعدوم” غير المتوقعة ، تسترجع الشخصية ماضيها وتعود إليه ” حيث الصفعة ، وحيث النصل الحاد الذي إنشكّ داخل جمجمته ، وقد كان منسياً بنشوة الإنتصار والإنتظار” للأمين العام” والزحف نحو العاصمة ، والثورة توشك أن تجني ثمارنضالها ، وهذه النشوة ، أشاعت في الجسد الخفّة والمرونة ، يقول ” الإصابة، ياإلهي أين هي ، مسح رأسه ، لا أثر.” ذلك لأنَّ الشفافية العذبة سربلت روحه ، فقد نسى الإصابة ، وقتها كان زمنه (مستقبلاً) وليس ماضيا، ولكن كان الحاضر غير المستقبل المؤمل ، لم يعد الأمين العام ، وإنما ظهر أرعدوم . لذلك دوّت الصفعة وعاد الماضي (عاد الألم قوياً بعد أن نسيه بنشوة الإنتصارالذي لم يتم .)، والمُدْيَةَ التي إنشكّتْ ذات يوم في جمجمته لم تنتزع ، وإنما كان مخدراً بالفرحة والنشوى .. رغم ان الطبيب قد قال يوماً بأن ذاكرته تهشمت وفقدت خاصيتها في التنظيم وترتيب الزمن والحدث .. ولكن الذاكرة عادت إليه رغم ذلك بل بشاشة داخلية مكبرة وذلك من فرحة المستقبل الآتي الجميل … وبدأ يتذكر الماضي ” رغم وجوده في جب سحيق (فقدان الذاكرة)” يقول ” كان يرنو إلى الطريق المنعرج الصاعد إلى الجبال ، في طريقه إلى مدينة بارنتو. المدى الرصاصي ساكن ، والهواء الجبلي ثقيل ، الخوف الأبدي الذي يسبق الإشتباك يسيطر عليه ” ذاكرة الراوي هنا ذاكرة معرفة بالمكان ، وهي ذاكرة حرب ومعسكرات ، (الراوي الخبير) وقد حل هنا بهذه الذاكرة مكان ذاكرة الشخصية التي تغيب وتعود بمقدرة سردية إحلالية رائعة ، فالراوي العليم مستعداً دائماً لملء فراغ الذاكرة (ذاكرة الشخصية ) هذه الشخصية التي يتكرر عندها دائما إزياح الزمن (غيابه ورجوعه) وهذا التشويش في الذاكرة ليس بسبب الإصابة وإنما بسبب ظهور شخصية أرعدوم غير المتوقعة ، والتي أزاحت الحاضر والمستقبل المؤمّل ليتجسم الماضي بآلامه ويتساءل ذلك السؤال الإستنكاري الحزين ( من أين أتى أرعدوم ؟) ويعود إليه وعيه كاملاً لأنه يعرف شخصية أرعدوم ، كانما حجم الشاشة الداخلية قد تضاعف حجمها والصورة قد تجسمت والذاكرة عادت أوضح وأجلى ، فيصيح بأعلى صوته كأنما يريد أن يسمع إحتجاجه الكثيرين (أرعـــدوم ، أرعـــدوم ،دوووم-م – م – م ) كأنما يتردد صداه في الأركان ونسمعه عالياً ومؤلماً وإحتجاجياً ، فهو يرعد ويزبد بنعوت واضحة وقاطعة ” ، (سرى الإكتشاف لماهية الرجل ، الذي عاش بينهم كسريان الحياة في الأجساد الواقفة على مضض تحت لهيب شمس الضحى ) فكلمة على مــضـض ذات دلالة عميقة على عدم الرضى لما يحدث .(الإحتجاج الصامت) فكان الناس مجبرة على الوقوف ومغلوبة على أمرها ، يقول (( صرخ وانقسمت الأبصار بين أرعدوم ببزته الرسمية وبين الرجل “صاحب الظل” الذي أرعد وأزبد بنعوت واضحة ، وقاطعة، وسرى الإكتشاف لماهية الرجل “صاحب الظل” الذي أرعد وأزبد بنعوت واضحة ، وقاطعة، وسرى الإكتشاف لماهية الرجل الذي عاش بينهم كسريان الحياة في الأجساد الواقفة على مضض تحت لهيب شمس الضحى )) ، فالظل هو الرمز للمستقبل الذي أصبح سراباً وقد ضاع وأصبح ذكرى ملازمة لهذا الرجل الذي يغيِّب ذاكرته لكي لا يتجسم الحاضر المؤلم أمامه .
إنّ الكاتب جمال عثمان ، يخلق في عقل قارئه فعلاً مركباً في وصف حالة شخصيته (الإصابة) يخلق طبقات تفاعل متداخلة ، الرثاء، الحسرة ، والغضب . ولربما لمتلقي آخر يخلق الإندهاش والأسى والقنوط . ولكن قوة السرد في هذه القصة أن الـ هو والأنا تصبح جمعية وتصبح رمزاً للكل الذي ينتظر مستقبلاً فؤُحْبطْ ، والظِّل هو بقاء الفكرة والأيدلوجيا (( ظلّ لا يغيب بغياب الشمس لأن الشمس دائماً تعود)) رغم رمزية الكتابة عند جمال همد ، ولكنما كانت اللغة خارج التخييل ، لأن الواقع لايقبل ذلك (الواقع المر الحزين). ومن هنا تبدو عنده الواقعة الأدبية مستندة على الواقعة المادية ، فالبطل متداخل في التجربة مع الراوي العليم . وهو أي البطل من شدة وهجه وإحتراقه ، رغم وجود أمثلة له قد تكون متكررة وحقيقية ، وشديدة الخصوصية فيمكن كما قلنا أن يصبح رمزاً، ومن ثم فالتجربة عنده وعند الغالي صالح وغيرهم من الكتاب الإرتريين ، هي تجارب مرئية ، حية ومعاشة وليست شهادة سماع من على البعد. قد يكونوا عايشوها حقيقةً ، وإلتحموا بنسيجها وفضائها المكاني ، وفعلها المادي اليومي. إنَّهم ليسوا كمن يكتب من على البعد كما يكتب أهل القصة والشعر في العالم العربي عن معاناة الشعب الفلسطيني دون أن يعيشوها .
أما ذاكرة الماضي عند الغالي صالح فهي ذاكرة مرارة وحزن عميق ، وإحباط ، كسى النص وسربله كله، لم يترك فيه لحظة فرح او بصيص من أمل كما كان عند البطل في قصة جمال عثمان (الظل) هي كتابة الخوف واللأمان ، فاللحظة المحبطة المريرة ، لم تترك للماضي فرصة ليسترجعه الكاتب ، هي لحظة المنفى والإبعاد القسري ، في قصته (( الطّلْ لايكف أبداً عن إجتراح الأحزان )) يقول) آهـ ياحزني ، آهة تنسل من الحلق ومن القلب ، في دويِّ الحسرة والأسى العميم ، في لمعان الدمع على مآقٍ كثيرة ، مطفأة شتيتة ومطاردة بفزع التربُّص ووجع البعد القسري ) فكلماته مجروحة تنزف دماً من داخله . وشخصياته أيضاً لا تخلو من ذاكرة الحرب وجبهات القتال ، يقول ” تشلَّكْ رجفة راعدة ، تمتص ما تبقًّى في مفاصلك من حياة . شهقة ، مثل بهقة الرصاص في السهول الجنوبية المصهدة ، تملأ عينيك أطياف ، من أعراس الدًّمِ والجثث المنتفخة ، تحت السعيرالساحلي المهلك ، ساعتك الأخيرة ” . إنها لوحة سريالية مخيفة ومؤلمة ، لإنْ كان البطل عند جمال عثمان يغيب ذاكرته بالألم حتى ينسى ، فإنَّ البطل عند الغالي صالح يتألم ، يحاول أن يغيب ذاكرته فلا يستطيع ، لأنه واعٍ بالحاضر ، بإحباطاته ، ومآسيه ، فهو قدره ولا يستطيع الفكاك منه. وهو لايتألم لألمه فقط، وإنما ذاكرته مليئة بآخرين كانو معه . فذاكرته لا تغيب ، لذلك كان ألمه أشد وأقوى ” إنتفض كل جسدك الآن ، تحت وطأة الإختناق في صراعك مع الغيبوبة التي تشدك من نفسك …” فهو في صراع مع الوعي واللاوعي ولكي يتغلب دائماً وعيه حاضراً مؤلماً وذكرى مريرة . وألمه لايحسه أحداً، فهو يعرف الماضي ومآسيه ، ويعيش الحاضر وإحباطاته، فالألم عنده يمتد في الأزمنة الثلاثة لأنَّه أيضاً لم يعرف الإنتصار، لم يجني الثمار، يقول ” إصرخ صرخة مريرة ، كتيمة ، حتى لو تقدر … حلقك متروس بالخنق ، كتلة صمّاء من لحمك تخذلك فلا ينتبه أحد … لا احد يحسك وأنت تذوي شيئاً فشيئاً في هذا الحوش الكبير، في هذه المدينة الملعونة ” فالإختناق صورة للكبت والقهر وكتم الأصوات وعدم الإحساس ناجماً عن المعاناة والتضحية غير مقبوضة الثمن . والمدينة صارت لعينة لأنها لم تتقق فيها أحلامه ، ولأنها خالية من الذين يتألمون لألمه ويشاركونه أحزانه ” يتذكر خالد ، وإبراهيم طفل الخمسين المهزوم حتى النخاع في منفاه البعيد ولا يعصمه ذلك ” . أى لا يمنعه من الألم مثله ، كانما أراد ان يعبر عن جحيم المنافي وانها ليست حية ، فالوطن سجن والمنفى كذلك . إنهم رفاق السجون والجدران القاسية أينما كانوا فالسجون تلاحقهم . ويسترجع البطل حياته مع خالد وإبراهيم في غرفة الميز الكئيبة ” زوايا الغرفة الوحيدة في الحي البئيس ، مدفونة تحت التلال الرمادية الكئيبة ، ذات الباب الخشبي المشقوق، لا يقينا من عسف البرد وإستبداد ريحه ، سوى هذه الضحكة التي تنبثق من هذا الفم العبق برائحة الدخان الرخيص وصفرته ، الطامح ببصقة شهية من أثر الرشفة الأولى من مشروب العجزة والمعوزين ” . فحتى الطبيعة لا ترحمهم فالبرد متعسف والريح مستبد . إن البطل في قصة الغالي صالح ” الطّلْ لا يكف أبداً من إجتراح الأحزان ” يحمل أحزانه وأحزان الآخرين ، ولكنه يتألم أكثر لأنه يبكي بلغة لا يفهمها أحداً ، كانما جعل للبكاء لغات عديدة … وهو يقصد أسباباً عديدة ، يقول ” تنوء بملامح تقطر كبرياء ، وأصل لا يقبل الإقصاء. سب. أصرخ .”إلعن …هذه بلد ” إدلق كل قول بذئ تدّخره ” . كتب ” إلعن …هذه بلد” بين قوسين فهو تناص من قصيدة الحردلو الشاعر السوداني” أمانة الكتابة ” أما حزنه الأكبر ومعاناته الأليمة ” يمضي الناس من حولك كأنك لست – هنا – لست هنا أبداً ” .
إن اللغة عند جمال عثمان تتغير في صيغها وذلك لأن الأزمنة الثلاثة التي يستخدمها تتطلب ذلك ، فهي تنقسم في أسلوبها وزمنها عن السياق العام وغالباً ما يكون المقطع نقطة تحوُّل في القصة ، وقد تكون جملة واحدة مفرزة ومستقلة في مقطع واحد ، ولها دلالة كبرى في السرد وفي التمهيد لما بعدها ” الكتابة المقطعية ” يقو ل ” وحسم الأمر” ، “دوّت الصفعة ” فجمله ذات نفس قصير ولكنها سريعة التوصيل للمعنى . ويلجأ القاص الغالي صالح للتقويس حتى يلتفت المتلقي للمعنى وحصر ذهنه فيه ، وهو يكتب بالجُملْ المتواترة والتي تعتمد على بعضها في التوصيل والإبلاغ . ويلجا جمال عثمان للمد الصوتي وإستخدام أحرف النداء لتحفيز المتلقي وشد إنتباهه للشخصية وتثبيت الصورة في ذهنه .
لقد كانت قصصهم خاضعة لكل صيغ الكتابة الفنية الصحيحة ، فبدايةً الإنطلاق وتنامي الحدث ، والوقوف عند خط سير النهايات ، والإحباط والضيق والغربة داخل الوطن والمنفى القسري خارجه ، كل تلك المضامين داخل نصوصهم لم تكن إضاءات عابرة مفتعلة ، لأنها ليست متعلقة بإرادة الكاتب ووعيه ، ولكنها كتابة محكومة من خلال التنامي المنطقي والقدري المسبب ، والسير المتسق المتواصل لنمو الشخصية في الصراع مع الواقع القديم والمستمرفي الحاضر ولم يتغير. إن ما يحدث لشخصياتهم كان مقنعاً فنياً وواقعياً ، لأن الواقع الإنساني لهذه الشخصيات هو الواقع الصادق . فتزاوج مع الصدق الفني وأنتج قصصاً رائعة في شكلها ومضمونها .
يقول ياسر عوض في بحثه ” الأدب والسياسة والعلاقة الممكنة بينهما ” وهو من منشورات مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بالخرطوم ، يقول في ص 47 ” إننا عندما ننظر للنص في علاقة مع الواقع – الطبيعي، الإجتماعي، السياسي – نجد ان شكل النص ليس ناقلاً محايداً لمضمونه ، فالشكل الفني والتقني للنص هوإحدى دلالاته المعبرة عن رؤيته للعالم ، وذلك لأنّ عملية نقل الواقع (خارج النص) إلى داخل النص لا تتم مضمونيا فقط ، لأنّ النقل المضموني للواقع ينتج الواقع نفسه وليس نصاً أدبياً يرى للواقع . نقل الواقع لداخل النص يتم أيضاً فنياً وشكلياً ليحقق النص إحدى سماته الأدبية (وهي السمة الفنية الجمالية) والكاتب ينقل الواقع لداخل النص عبر رؤيته للعالم متوسلا الجمالية .” .
إنّ النسيج الفني لم يكن مختلاً وذلك لأن الواقع قد نقل إلى داخل النص فنياً وشكلياًّ وان بناءه المنطقي أيضاً كان متماسكاً . إنَّ المتلقِّي بقراءة قصص هذا الدويتو الإرتري يشعر بآلامهم وقلمهم الذي ينز معاناةً وحزناً وإغتراباً والتي لم تحجب متعة القراءة لنصوصهم لأنها كتابة حارَّة وصادقة لا تلبس قناعاً مزيفاً حيث كان التوازن الموضوعي لبنية القصة ومعمارها ظاهراً بين جميع عناصرها ، فأعطوا للمكان المميز حقه وللشخصية حقها في الوصف والتجسيم الداخلي والخارجي دون رومانسية مخلة بالنص المشبع بالمأساة .
إن النص عندهم لا يتباكى ولكنه يبكي في صمت وكبرياء جبال إرتريا الشامخة بلغة ليست قاموسية فجة ولا رومانسية مستعطفة .