عز الدين ميرغني - اللغة العاجزة – (تكلم حتى أراك )

أرسطو
معروف في علم اللغات بأن اللغة هي دال ومدلول حسب دراسات العالم السويسري ( دو سوسير ) . وعلماء العرب قد ذكروا ذلك أمثال عبد القاهر الجرجاني , وابن خلدون في مقدمته والتي يقول فيها : (أعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده , وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام , فلا بد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان , وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم ) . وإذا افتقدت اللغة إحدى عناصرها فإنها تصبح عاجزة عن التوصيل للآخر وهو مهمتها الأولى لأن الإنسان لا يتكلم مع نفسه , وإنما مع الآخر . وقد أشار إليها ابن خلدون بعبارة ( القصد بإفادة الكلام ) .

إن اللغة إذا فقدت ملكة التواصل مع الآخر فإنها تبقى في محلها , وقد تموت وتندثر كما حصل ويحصل للكثير من اللغات في العالم . وهو ما يطلق عليه ابن خلدون ( فساد الملكة اللسانية ) . وهنالك من الأسباب العامة والخاصة لهذا الفساد والعجز اللغوي , والأسباب العامة هي اجتماعية وسياسية , أما الأسباب الفردية الخاصة , وهي من العوامل الحديثة والمستجدة , هو اللا تواصل بين الأفراد , والصمت , وعدم تجدد القاموس والحصيلة اللغوية المكتسبة عند الفرد العادي . ويقول العلماء بأن الذاكرة اللسانية قد تضمحل بعدم الاستعمال لمدة طويلة . واتضح أن السجناء الذين يعزلون في زنزانات منفردة قد يصيبهم الجنون بعد مدة طويلة من هذا العزل واللا تواصل اللغوي . فالإنسان حيوان ناطق , يتعلم باللغة المنطوقة , وهي التي تنمي ذكاءه , فالإنسان الأخرس هو الأقل ذكاء من غيره , لأنه يفتقد ملكة التواصل باللغة المنطوقة , ويكتفي بلغة الإيماء والإشارة . ويقول العلماء أن الإنسان هو تلميذ اللغة الدائم والذي يطورها ويتطور بها . ويكتسب بها المعرفة المتجددة أبداً .

وسميت اللغة الأولى عند الإنسان بلغة الأم , لأنها معلمته الأولى ولأنه يبقى بقربها زمناً طويلاً . وفي الدراسات التربوية واللسانية الحديثة , ثبت بأن ابتعاد الأم لفترات زمنية طويلة قد يؤثر على لغة الطفل المكتسبة في البدايات الأولى فهي التي تعلمه لغة التواصل اليومي في مراحلها المهمة . وقد تلاحظ ذلك عند الطفل الذي تعمل والدته لفترات طويلة خارج المنزل . وقد تتركه لمدارس ما قبل التعليم المدرسي أو لإحدى المربيات , والتي قد لا تتحمس للحديث معه وتعليمه أبجديات اللغة والكلام . فالطفل يتعلم اللغة بمستوي الذي يتعامل معه يومياً في طريقة النطق ومخارج الحروف , وتركيب الجملة وقوتها في الدلالة .

لقد لاحظ بعض الباحثين , أن لغة التواصل عند أبناء المغتربين , قد ضعفت خاصة في المجتمعات الخليجية , والتي يقل فيها التواصل الاجتماعي , عن بلدنا السودان . فالطفل المقيم يتعلم اللغة من عدة مصادر ويأخذ بأحسنها بحسب عقله الصافي ذو القابلية السريعة للتعلم وتنفيذ ما تعلمه . فهنا بحسب التنوع الأسري فيمكن أن يتعلم من الكثيرين . وفي الغربة قد يكون التعلم من الأم , والتي قد لا تكون بالوعي الذي تدرك فيه حاجيات طفلها اللغوية . وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ….{ ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأدى الفساد إلي موضوعات الألفاظ , فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه عندهم ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية} .

ولعل الباحثين الجدد قد لاحظوا ذلك في وجود العاملات والمربيات الأجنبيات في المنازل خاصة في دول الخليج . ثم إدمان مشاهدة المسلسلات الأجنبية . وطغيان ثقافة الصورة , المتواجدة في كل الوسائل الحديثة ( التلفاز والنت وغيرهما ) . وتلاحظ ضعف الحصيلة اللغوية عند الأطفال , وذلك لقلة سماعه للغة المنطوقة الحية . مع ضعف المناهج الدراسية , وعدم الرغبة في تخطي المقررات الدراسية في القراءات خارجها , كما كانت تفعل الأجيال الماضية .

لقد كانت المصادر اللغوية في مصادرها الشفهية المنطوقة , غنية ومتعددة متمثلة في سماع الأحاجي والحكايات الشعبية وأغاني الهدهدة من الجدات ومن الجلوس إلي الكبار وسماع حكمهم وأمثالهم , وهذا السماع هو الذي يوقظ ملكة الخيال عند الطفل , وهو الذي يغذي حصيلته اللغوية وينميها . ثم البقاء لفترات طويلة مع الأم , ثم الدراسة ما قبل المدرسة في الخلاوي القرآنية , والتي تتمثل في حفظ القرآن الكريم , وهذا الحفظ المبكر ساعد الكثيرين في رسوخ اللغة الفصحى في أذهانهم وبقيت دائمة وخالدة . كل هذه العوامل جعلت لغة التواصل والكتابة أقوى عند الأجيال السابقة من الأجيال الحالية . وجعلت اللغة أكثر تنوعاً وتعدداً في صياغتها وتعبيراتها المنطوقة والمكتوبة . خاصة وأن بلادنا مع كل البلاد العربية تعاني من مشكلة الازدواج اللغوي , والذي يجعل اللغة منفصمة ومنقسمة بين لغة التواصل اليومي ( اللغة العامية ) , واللغة المكتوبة ( اللغة الفصحى المكتوبة ) .

وهذا الازدواج هو الذي عانت وتعاني منه الكتابة , في شتى دروبها ونواحيها , بحيث عندما يمسك الكاتب بالقلم , قد تصبح الفصحى عنده غريبة وأشبه باللغة الأجنبية . إن لم تكن بالنسبة للكاتب , وإنما قد تكون كذلك بالنسبة للقارئ العادي . mock reader . ويقول علماء اللغة بأن الانفصام القوي بين لغة الكلام والتواصل اليومي , وبين لغة الكتب , يضعف الجانبين . وخاصة لغة العامة والتي ستصبح محلك سر , وقد تحاول أن تجدد نفسها من مفردات أجنبية غير عربية .
من الأسباب التي أدت إلي ثراء وغنى وفصاحة العامية السودانية , هو تعدد مصادرها التي غذتها وأخذت منها قديماً وحديثاً , وقد تأثرت بالبيئات التي عاشت فيها , إن كانت زراعية مستقرة , أو رعوية مرتحلة , وهي تتأثر بالبيئة الطبيعية الجغرافية , ونلاحظ بأن عامية الشمال أخذت من الحضارات القديمة المصطلحات الزراعية خاصة مصطلحات الساقية وأدوات الزراعة , وأخذت في الغرب مصطلحات الأرض والمرعى وأسماء النباتات ومصطلحات النجوم والفلك ,وأدب المسادير والدوبيت وحداء الإبل . وفي المدن تلقحت العامية بالألفاظ الأجنبية , خاصة لغات المستعمر ومصطلحات اللبس والأكل والثقافة العامة .( لغة الأفندية ) .

لقد بدأت اللغة العامية تفتقد لهذه المصادر التي ذكرناها , واللغة عندما تفقد المصادر التي تغذيها , فإن الجفاف يصيبها , لأن اللغة هي كائن حي يتغذى وينمو ويتطور . فقد قلّ التواصل بين الأفراد , ثم انكمشت لغة التواصل اليومي بحميميتها وثراء مفرداتها . بل أن الصمت الذي يعم مجتمعاتنا , هو الذي يضر اللغة أكثر من غيرها . فالطفل صار يستمع ويشاهد أكثر من ما يتكلم , وأكثر ما يدرب لغته على التواصل مع الآخر بل يمكن أن يتفاهم باللهجة السورية أو المصرية أكثر من اللهجة الريفية السودانية . وحتى الآن فإن الكثير من كتابات الروائي إبراهيم اسحق غير مفهومة للبعض , رغم أنها من صميم اللهجة العامية السودانية الفصحى . وقد تضررت حتى اللغة العادية عند الشباب من هذا الصمت الاجتماعي , فظهر أدب الرسائل في الوسائل الإلكترونية المختلفة ( الهاتف السيار , والواتساب , والفيسبوك , والبريد الإلكتروني ) , وهي رسائل ركيكة ذات لغة عاجزة تعبيرياً ونحوياً .

وظهرت ألفاظ في غاية الركاكة , لا علاقة لها بين الدال والمدلول ( فردة , وكوتش , وماسورة , كسير تلج , فلان خارج الشبكة ) . بل أن اللغة الملفوظة صارت عاجزة وشحيحة فحلت محلها لغة الإشارة , ولغة الطقطقة , والهمهمة , والتنتنة , والإيماء بالرأس نفياً أو إثباتاً , وهي لغة لا يستخدمها الإنسان الأوربي أبداً . وهذا الصمت , جعل المجتمع يفتقد اللغة الحميمة في التحية والوداع والتعبير عن الفقد والاشتياق .

لقد بدأنا ندفع الثمن بهذا الصمت والعجز اللغوي , فقد أصبح البعض منا لا يتحمل الإنسان كثير الكلام في المنزل , خاصة من كبار السن , والذين لم يتعودوا على هذا الصمت واللا كلام . لقد أصبحنا أكثر ابتعاداً من استخدام اللغة المكتوبة , فنحن لا نقرأ مدة الصلاحية في السلع , ولا نتعامل بالأسماء المكتوبة في الشوارع , ولا في البنايات الضخمة , ولا نتعامل بالبريد العادي , وحتى صرنا لا نجيد تسمية محلاتنا فكلها بلغات غريبة ومعربة بطريقة ركيكة . والبعض منا يعجز تماماً , أن يستخدم لغة الاعتذار أو الشكر أو الاستئذان , وهي من الأبجديات التي يتعلمها الطفل في الغرب ويستخدمها في المنزل قبل الخارج .

إن المشكلة لجد كبيرة وخطيرة , ولا يمكن حلها بين يوم وآخر , وحلولها يكمن في تدخل الدولة أولاً وأخيراً وذلك بتغيير المناهج لتكون قوية ومواكبة خاصة في تعليم اللغة الأم , وأن تصدر من القوانين ما يحفظ للغة الأولى هيبتها , فتمنع كتابة استخدام المصطلحات الأجنبية في أسماء الأماكن والشوارع , وأن تمنع استخدام الهواتف في المكاتب وقاعات الدرس والمحاضرات . وبهذا نحافظ على لغتنا من العجز والموت البطيء.
شارك المقال

عز الدين ميرغني



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...