(١)
لم يكن غريبا على توفيق الحكيم العاشق لمصر، والمستحضر حضارتها الفرعونية في إبداعه - أن يظهر النيل في خلفية بعض رواياته ومسرحياته، وأن يكون له تأثير فعال في بعض الأحداث فيها.
وتوفيق الحكيم في رواية عودة الروح يرى أن حضارة الفراعنة ممتدة في المصريين في العصر الحديث، وهو يرى أن بعث مصر الحضاري في العصر الحديث أمر حتمي، فالمكونات القديمة التي أوجدت هذه الحضارة التي أنارت السبيل للبشرية لم تنطفئ، ولكنها في حاجة للبعث من خلال أبنائها الذين يَستشرفون ملهمهم وباعث الروح فيهم، وهذا يوافق رؤيتهم في أن الكل في واحد، كما ورد في كتاب الموتى الفرعوني.
(٢)
وتوفيق الحكيم كان همه الأكبر في المسرح أن ينشئ فنا مسرحيا راقيا في مصر في العصر الحديث، ويقوم الصراع فيه على أصول فرعونية، ورأى أن موقف الفراعنة من الزمن هو جوهر الصراع الحقيقي في حضارتهم، فكانوا يحاولون أن يقاوموا الزمن الذي يزحف على البشر وكل ما حولهم ويصيبهم بآثاره في أن يجدوا ما يقاوم الشيخوخة ويؤخرها في أدويتهم، وكانوا أيضا يسعون للحياة السعيدة الممتدة في العالم الآخر، ولهذا توصلوا لعلم التحنيط.
ويرى الحكيم أن الفراعنة في سبيل مواجهتهم للزمن فإنهم كانوا يصورون الفراعنة وكبار القادة وكل المصريين في هيئة الشباب.
ولم يكن مستغربا لكل هذا في أن يرى توفيق الحكيم أن يكون الصراع في المسرح المصري الحديث في مواجهة الإنسان للزمن؛ ليتم التواصل بين الموروث المصري القديم، والشكل المسرحي المنقول عن الغرب.
وهذا ما فعله توفيق الحكيم في مسرحية أهل الكهف التي كانت أول مسرحية ينشرها، ويعرف الوسط الأدبي في مصر بنفسه من خلالها، فالصراع في هذه المسرحية بين الإنسان والزمن، ويحاول أبطال هذه المسرحية أن يقاوموا الزمن، ولكنهم يعجزون في النهاية، ويستسلمون لقهره إياهم.
وكذلك كان توفيق الحكيم في رواية عودة الروح - وهي أول رواية تنشر له - يرى أن مصر الحديثة مرتبطة بمصر الفرعونية القديمة، وأن بعثها لتبث حضارتها على العالم من جديد أمر حتمي، ولا بد أن يكون.
(٣)
وليس غريبا لكل هذا أن يكون للنيل حضور قوي في بعض مسرحيات توفيق الحكيم، فهو كاتب ممتلئ بالروح المصرية منذ الفراعنة، ويعلم أن النيل عامل أساسي في حضارتها القديمة، وشاهد على كل الأحداث التي مرت عليها عبر العصور.
ونرى في مسرحية إيزيس لتوفيق الحكيم- التي يستلهم فيها أسطورة إيزيس وأوزوريس - حضورا قويا للنيل فيها، فهو يظهر في معظم مناظر المسرحية، وفيه تبحث إيزيس عن التابوت الذي وضع فيه طيفون أخاه أوزوريس، ورماه في النيل، وتجد إيزيس زوجها أوزوريس، وتعود به لمصر، ويواصل أوزوريس عطاءه كالنيل للمصريين، فهو يساعد الفلاحين، ويعرفهم وسائل جديدة في الزراعة،
كما أنه يخترع لهم أدوات زراعية تيسر عليهم الزراعة، وتزيد في محصولهم، ولم يكن غريبا لهذا أن يطلق عليه المصريون لقب الرجل الأخضر.
وبعد أن يكتشف طيفون وجنوده سر الرجل الأخضر، ويقتلونه نرى إيزيس زوجته تواصل كفاحها، كالنيل في تواصل عطائه للمصريين، وتستطيع من خلال بعض الأعوان واستخدام بعض الحيل أن تكشف خداع طيفون وشره للمصريين، فينقلبوا عليه، ويولوا حورس ابنها من أوزوريس حكم مصر.
(٤)
وفي مسرحية "احتفال أبو سنبل" نرى الحكيم يذكر في مقدمتها أنه كتبها من أجل الاحتفال الذي كان سيقام من أجل نقل معبد أبي سنبل من مكانه لمكان آخر بعد تعرضه لفيضانات كثيرة، وفي هذه المسرحية نرى معبد أبي سنبل في مكانه الجديد، والنيل حوله، ويظهر من أعماق التاريخ في هذا المعبد في يوم الاحتفال العالمي به بعض الفراعنة، وهم رمسيس الثاني وزوجته نفرتاري والكاهن الأكبر، ويستغربون من المكان الغريب الذي انتقل له هذا المعبد، ويظنون ان زلزالا قد حدث، وغير شكل المعبد للوضع الذي صار إليه، وينظر الفرعون وزوجته وكاهنه الأكبر للفلاحين الذين يزرعون حول النيل، ولا يَرَى الفرعون وزوجته وكاهنه الأكبر ما يدعوهم للشك في أنهم من عصر آخر غير عصرهم القديم؛ للتشابه الكبير بين هيئة الفلاحين المصريين في العصر الحديث وهيئتهم في عصر الفراعنة قديما
(٥)
وعندما حدثت ثورة يوليو، وكان لا بد من أن تتغير مفاهيم وعادات كثيرة عند الشعب المصري تطبيقا لمبادئ هذه الثورة - فإن الحكيم عبر عن ذلك في مسرحية الأيدي الناعمة، وجعل النيل في الفصل الأول منها حاضرا في منظره، وشاهدا على ذلك التطور الكبير في مصر آنذاك، وما كان ينتظر من تطور في أوضاع أخرى كثيرة في حياة المصريين، كالقضاء على الإقطاعيين، وتوزيع الأراضي الزراعية، والاهتمام بالعمل والإنتاج، وغير ذلك من المبادئ التي نادت بها ثورة يوليو.
وهكذا رأينا من خلال هذه النقاط السريعة الحضور القوي والمؤثر للنيل في بعض مسرحيات توفيق الحكيم، ويمكن أن تكتب دراسة طويلة في هذا الموضوع.
علي خليفة
- نشر في العدد ١٣ من نشرة المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته ١٣ أول يناير ٢٠٢١
لم يكن غريبا على توفيق الحكيم العاشق لمصر، والمستحضر حضارتها الفرعونية في إبداعه - أن يظهر النيل في خلفية بعض رواياته ومسرحياته، وأن يكون له تأثير فعال في بعض الأحداث فيها.
وتوفيق الحكيم في رواية عودة الروح يرى أن حضارة الفراعنة ممتدة في المصريين في العصر الحديث، وهو يرى أن بعث مصر الحضاري في العصر الحديث أمر حتمي، فالمكونات القديمة التي أوجدت هذه الحضارة التي أنارت السبيل للبشرية لم تنطفئ، ولكنها في حاجة للبعث من خلال أبنائها الذين يَستشرفون ملهمهم وباعث الروح فيهم، وهذا يوافق رؤيتهم في أن الكل في واحد، كما ورد في كتاب الموتى الفرعوني.
(٢)
وتوفيق الحكيم كان همه الأكبر في المسرح أن ينشئ فنا مسرحيا راقيا في مصر في العصر الحديث، ويقوم الصراع فيه على أصول فرعونية، ورأى أن موقف الفراعنة من الزمن هو جوهر الصراع الحقيقي في حضارتهم، فكانوا يحاولون أن يقاوموا الزمن الذي يزحف على البشر وكل ما حولهم ويصيبهم بآثاره في أن يجدوا ما يقاوم الشيخوخة ويؤخرها في أدويتهم، وكانوا أيضا يسعون للحياة السعيدة الممتدة في العالم الآخر، ولهذا توصلوا لعلم التحنيط.
ويرى الحكيم أن الفراعنة في سبيل مواجهتهم للزمن فإنهم كانوا يصورون الفراعنة وكبار القادة وكل المصريين في هيئة الشباب.
ولم يكن مستغربا لكل هذا في أن يرى توفيق الحكيم أن يكون الصراع في المسرح المصري الحديث في مواجهة الإنسان للزمن؛ ليتم التواصل بين الموروث المصري القديم، والشكل المسرحي المنقول عن الغرب.
وهذا ما فعله توفيق الحكيم في مسرحية أهل الكهف التي كانت أول مسرحية ينشرها، ويعرف الوسط الأدبي في مصر بنفسه من خلالها، فالصراع في هذه المسرحية بين الإنسان والزمن، ويحاول أبطال هذه المسرحية أن يقاوموا الزمن، ولكنهم يعجزون في النهاية، ويستسلمون لقهره إياهم.
وكذلك كان توفيق الحكيم في رواية عودة الروح - وهي أول رواية تنشر له - يرى أن مصر الحديثة مرتبطة بمصر الفرعونية القديمة، وأن بعثها لتبث حضارتها على العالم من جديد أمر حتمي، ولا بد أن يكون.
(٣)
وليس غريبا لكل هذا أن يكون للنيل حضور قوي في بعض مسرحيات توفيق الحكيم، فهو كاتب ممتلئ بالروح المصرية منذ الفراعنة، ويعلم أن النيل عامل أساسي في حضارتها القديمة، وشاهد على كل الأحداث التي مرت عليها عبر العصور.
ونرى في مسرحية إيزيس لتوفيق الحكيم- التي يستلهم فيها أسطورة إيزيس وأوزوريس - حضورا قويا للنيل فيها، فهو يظهر في معظم مناظر المسرحية، وفيه تبحث إيزيس عن التابوت الذي وضع فيه طيفون أخاه أوزوريس، ورماه في النيل، وتجد إيزيس زوجها أوزوريس، وتعود به لمصر، ويواصل أوزوريس عطاءه كالنيل للمصريين، فهو يساعد الفلاحين، ويعرفهم وسائل جديدة في الزراعة،
كما أنه يخترع لهم أدوات زراعية تيسر عليهم الزراعة، وتزيد في محصولهم، ولم يكن غريبا لهذا أن يطلق عليه المصريون لقب الرجل الأخضر.
وبعد أن يكتشف طيفون وجنوده سر الرجل الأخضر، ويقتلونه نرى إيزيس زوجته تواصل كفاحها، كالنيل في تواصل عطائه للمصريين، وتستطيع من خلال بعض الأعوان واستخدام بعض الحيل أن تكشف خداع طيفون وشره للمصريين، فينقلبوا عليه، ويولوا حورس ابنها من أوزوريس حكم مصر.
(٤)
وفي مسرحية "احتفال أبو سنبل" نرى الحكيم يذكر في مقدمتها أنه كتبها من أجل الاحتفال الذي كان سيقام من أجل نقل معبد أبي سنبل من مكانه لمكان آخر بعد تعرضه لفيضانات كثيرة، وفي هذه المسرحية نرى معبد أبي سنبل في مكانه الجديد، والنيل حوله، ويظهر من أعماق التاريخ في هذا المعبد في يوم الاحتفال العالمي به بعض الفراعنة، وهم رمسيس الثاني وزوجته نفرتاري والكاهن الأكبر، ويستغربون من المكان الغريب الذي انتقل له هذا المعبد، ويظنون ان زلزالا قد حدث، وغير شكل المعبد للوضع الذي صار إليه، وينظر الفرعون وزوجته وكاهنه الأكبر للفلاحين الذين يزرعون حول النيل، ولا يَرَى الفرعون وزوجته وكاهنه الأكبر ما يدعوهم للشك في أنهم من عصر آخر غير عصرهم القديم؛ للتشابه الكبير بين هيئة الفلاحين المصريين في العصر الحديث وهيئتهم في عصر الفراعنة قديما
(٥)
وعندما حدثت ثورة يوليو، وكان لا بد من أن تتغير مفاهيم وعادات كثيرة عند الشعب المصري تطبيقا لمبادئ هذه الثورة - فإن الحكيم عبر عن ذلك في مسرحية الأيدي الناعمة، وجعل النيل في الفصل الأول منها حاضرا في منظره، وشاهدا على ذلك التطور الكبير في مصر آنذاك، وما كان ينتظر من تطور في أوضاع أخرى كثيرة في حياة المصريين، كالقضاء على الإقطاعيين، وتوزيع الأراضي الزراعية، والاهتمام بالعمل والإنتاج، وغير ذلك من المبادئ التي نادت بها ثورة يوليو.
وهكذا رأينا من خلال هذه النقاط السريعة الحضور القوي والمؤثر للنيل في بعض مسرحيات توفيق الحكيم، ويمكن أن تكتب دراسة طويلة في هذا الموضوع.
علي خليفة
- نشر في العدد ١٣ من نشرة المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته ١٣ أول يناير ٢٠٢١
علي خليفة
علي خليفة is on Facebook. Join Facebook to connect with علي خليفة and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com