تواعدنا أن نلتقي في نهاية الجدار.. الجدار كان طويلاً يبدأ من بيتنا، ويلتقي في نهايته بجدار آخر يؤدي إلى بيت ديدن. كنت أمر به كل يوم في طريقي بين البيتين. وياما التقينا هناك خلسة من عيون المارة الوقحة التي تبحلق فينا عندما ترانا متعانقين هناك. كففنا عن تلك اللقاءات اليومية بعد أن عزمنا على الزواج، وقررنا أن تنطلق زفتنا من ذلك الجدار الذي شهد أجمل لحظات الحب بيننا. طلبت مني ديدن أن أقيم لزواجنا حفلاً على درجة كبيرة من الغرابة والجمال، فقطعت لها عهداً بأن تكون زفتنا أحلى وأغرب زفّة في العالم.
دون أن أعرف كيف حصل هذا، تحققت لعروستي ديدن هذه الأمنية بالفعل.. وأصبحت الزفّة مثار همهمات كثيرة وغبار أكثر.. فبيتنا يقع في نهاية جدار طويل، وبيت ديدن يقع في نهاية جدار آخر. وقد سار كل واحد منا باتجاه الآخر من الطرف الذي يقع فيه بيته، حتى إذا وصلنا منتصف الطريق بين البيتين، حدثت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أبداً، ولا حتى في أقصى درجات الخيال.
بعد وصولنا تلك الزاوية التي يلتقي فيها الجداران، وفي اللحظة التي تعانقنا فيها عند اللقاء، بدأ العرس بعصف قوي طار بنا في تيار هوائي شديد، ثم رمانا بشكل خاطف ومفاجئ إلى عش الزوجية. لا أدري كيف حدث ذلك، حقاً لا أدري.. كدت أن أختنق من شدة العصف، وتظاهرت أمام ديدن بأن تلك الزفة الغريبة كانت من ترتيبي أنا، ولكني مع نفسي كنت أتساءل هل هي عاصفة من عواصف الربيع، أم أن صديقي ابن الملكة أحب أن يعبر لي عن حبه الجم، فقدم لي هذه المفاجأة المدهشة في يوم عرسي..
- ماذا تريدين يا حبيبتي؟ همبركر أم ستيك؟
ضحكت ديدن ضحكتها التي تشبه زقزقة العصفور، و أصبحت سعادة الدنيا في عينيها الجميلتين اللتين تشبهان عيون طفلة صغيرة. رأيتها تلمع في الظلام الدامس الذي أحاط بنا... متأكد أنها رأت بريق عيوني أيضاً. ورأت ضحكتي أيضاً، لأنها سألتني:
- لماذا تضحك؟
فاحتضنتها وضحكت أكثر من الأول، ثم نظرت حولي فوجدت الكثير من الطعام وقصاصات الأوراق، والخيوط الملونة. هناك أيضاً قطع حلوى مسحوقة، وقشور داستها الأقدام.. صحيح أن المكان كان مليئاً بالأوساخ الذي أثارته تلك العاصفة، إلا ان كل شيء هدأ بعد قليل، ووجدت نفسي أمام ديدن عروسي.. نجلس لوحدنا لأول مرة بعيداً عن نظرات المارة والمتطفلين.. كانوا فيما مضى يفسدون علينا خلواتنا، ويجعلونا نبحث عن مخابئ بعيدة بين زوايا الجدران نسرق فيها قبلة صغيرة، أو عناقاً خاطفاً.
اليوم الأمر مختلف، وديدن حبيبتي تحتضنني خلف باب مقفول. ومن شدة سعادتها تمنت أن نجلس بقرب الشباك.... أنا أخاف النظر من الشباك منذ طفولتي.. أعتقد بأنني إذا فتحته سيميل بي وينخسف، ويسقطني على الأرض. واليوم لم أعد أشعر بالخوف من أي شيء، فديدن تتشبث بي، وتحتضنني لكي تشعر بالأمان.
جعنا وأكلنا الخبز والحلوى.. وبين دقيقة وأخرى كنت أجيء لديدن بشي جديد في المكان المظلم.. مرة أوراق ورد، ومرة بقايا شموع، ومرة بالونات على شكل حبات بطاطا صغيرة.. تظن ديدن بأن حبيبها قد أوفى بوعده في إقامة زفّة أسطورية لم تكن تحلم بها، وبعد أن زحفت عدة خطوات، وتجولت في أرجاء الظلام بحثاً عن الشباك، سألتني لماذا المكان مظلم إلى هذه الدرجة.. لم أملك جواباً لحبيبتي ديدن، لأني أنا نفسي لم أكن أعرف لماذا.
************
العروس كانت قد أطفأت المكنسة الكهربائية قبل قليل. رفعت فرشاتها إلى أعالي الجدران، وسحبت من السقف كل ماتعرّش عليه من بيوت العنكبوت، وفي الزاوية التي يلتقي فيها جداران من جدران غرفة النوم، شفطت فرشاة المكنسة حشرتين متلاصقتين كانتا قد دخلتا الغرفة من الشباك، أو ربما من زاغور خفي من زواغير البيت. اختفت الحشرتان من أعلى الجدار، وأصبحتا داخل كيس الأوساخ الخاص بالمكنسة الكهربائية.. قالت المرأة لعريسها:
- ما أكثر الحشرات في بيتنا الجديد.
- لربما تركت النافذة مفتوحة؟
- كلا انها مغلقة.
- إذن يجب أن تتركي الضوء مشتعلاً، فالحشرات الزاحفة لا تحبه، وتهرب منه.
- أوف. ما هذا؟
- ما بك تتأففين؟
- قطع الحلوى ما زالت تملأ الأرض منذ يومين.. دست على واحدة منها فانسحقت تحت قدمي.
- خيوط الظلام بدأت تلف الغرفة، وأنت لا تحبين إشعال الضوء. أكاد لا أراك بين الجدران .. فلماذا المكان مظلم إلى هذه الدرجة؟
.