د. وليد جاسم الزبيدي - الفسيفساء في (جداريــــة) درويش.. قراءة

الشاعر الفلسطيني العربي ، محمود درويش، أسّس أسلوباً واختطّ منهجاً في الأدب العربي الحديث، وقد بزّ أقرانَهُ شعراء (المقاومة الفلسطينية) حضوراً وصوتاً وابداعاً، اليوم نقف مع نصّ خطير ومهم يشكل انعطافةً في مسيرته الأدبية (الجدارية) وهي ملحمة درويشية بحق.
عتبة النّص/ من العنوان (جدارية) ، فهو اشارة الى رسم لوحةٍ بانورامية بريشة الشاعر ليفصحَ عن دلالة النّص، أو يوميء الى سبيل معرفته وفهمه، على اعتبار أن العتبةَ هي (ثريا النّص). بنية العنوان ، قمة هرم النص، منحاز للفردانية، الذاتية، على منح وضمان البقاء. أولى بؤر الاشعاع يؤسس للسمت الدلالي للنص الشعري، بنية مستفزة مشفّرة تستبطن جوهر التجربة. وهو عنوانٌ فيه الوان التشكيل والحركة المسرحية، والصوت .
النّص/
مسار النّص: حين نتتّبعُ مسارات النّص، فسيكون سيرةً ذاتيةً يرسمُها الشاعرُ بحرفيّةٍ وتقنيةٍ عالية، فنعيشُ معها ما يريد أن يقولهُ النّص وفق مفاهيم دلالاته ورموزه، لكنْ أن نقولَ سيرةً ذاتية ستتوقف عند مقاطع ، لنقرأ نصّا، يشيحُ عن مفهوم (الموت) ، ويكادُ الموتُ ، أن يكون من أبجدية (النّص)، شطحات وتهويمات وصلوات، وخوف من هذا الزائر الذي يظلّ ماثلاً على امتداد معظم (النّص).
فهو يقول: (سماء المطْلق البيضاءِ . كنْت ، ولم/ أكنْ . فأنا وحيد في نواحي هذه/الأبديٌة البيضاء . جئت قبيْل ميعادي/ فلم يظْهرْ ملاك واحد ليقول لي :/(( ماذا فعلت ، هناك ، في الدنيا ؟ ))/ ولم أسمع هتاف الطيٌ بين ، ولا/أنين الخاطئين ، أنا وحيد في البياض ،.....).
نجدُ (الجدارية) ، تتوسّلُ الأمل بالبقاء والخلود ، أرادَ بها الشاعر أن يتخطى الوجود/ العدم الى الخلود، عبر الجدارية، ثمّة نبرة استسلامية ستسكنها وستطفح بها.
فضلاً عن السمت الذي تنمازُ فيه (الجدارية) حيثُ تمثّلُ حياة (الشاعر) وسيرتهُ كما أسلفت، فهي تشكّل حالتين (للشاعر) ، حالة الوعي، وحالة اللاوعي، حالة الوعي بتجربته وخزينه الفكري والثقافي، وحالة (اللاوعي) باستدعاء عالمٍ يبنيه في خيال خصب من الأسطورة والميثولوجيا،والارث الحضاري، والديني، وظلّ ظلال الصوفية متسيّدة،، تشكّل النّص على نحو غرائبي في خلق عوالم خارقة، نشأت خارج الحواس، تجاوزت المدركات، تشير الى وفرة بواطن التجربة الذاتية. ويظلّ فيه (الشاعر) صوت وروح (جلجامش) الباحث عن عشبة الخلود.
يقولُ درويش: (سأصير يوما فكرة . لا سيْف يحملها/إلى الأرضِ اليبابِ ، ولا كتاب “/ كأنٌها مطر علي جبلٍ تصدٌع من/تفتٌح عشْبةٍ،/لا القوٌة انتصرتْ/ولا العدْل الشريد/سأصير يوما ما أريد...). وقوله : (فنحن القادرين علي التذكٌر قادرون/على التحرٌر ، سائرون علي خطى/جلجامش الخضراءِ من زمني إلي زمني “.... )..
أصوات النّص: في البدء يعلو صوت الشاعر( صوت الأنا) ، ونحت حروف إسمه، تحسّ أنه الصوت المهيمن، لكن ما أن تتجاوز بعض المقاطع ، حتى يصدح أحياناً، ويضجّ أحياناً، النّصُّ بأصوات أخرى، تتعدّد، أو تتشظّى، حسب الرؤى المتعددة، وتصاعد النّفس الدرامي داخل النص، وإثارة الصراع، ونمو وتطور الحركة (الرؤى، الأفكار، ..).
بقوله: (الحيٌ . ما أنا ؟ منْ ينام الآن/ أنكيدو ؟ أنا أم أنت ؟ آلهتي..)؛ (منْ أنا ؟/أنشيد الأناشيد/أم حِكْمة الجامعةْ ؟/وكلانا أنا “/وأنا شاعر/وملِكْ....).
الاطار العام للنّص/ بعد أن طغت الذاتية، والصوت الواحد، وبعدها تعددت الأصوات، وما ينتجه وأنتجه النّص من رؤى، في الختام تقدحُ في العقل رسالة النّص، التي تؤشر عن الكشف عن الوعي بمأساة (وطن)، وشعور بشبح الزمن وتحولاته، وتبدلات الواقع، فإذن صورة الذات، وصوت الشاعر، هو صوت هويّة، صوت وطن يبحثُ عن الخلود والمجد، تؤرقه فكرة الموت ..
يقولُ الشاعر: (النسيان لي . لا شعْب أصْغر من قصيدته . ولكنٌ السلاح/ يوسع الكلمات للموتي وللأحياء فيها ، والحروف تلمع/السيف المعلٌق في حزام الفجر ، والصحراء تنقص/ بالأغاني ، أو تزيد/لا عمْر يكفي كي أشدٌ نهايتي لبدايتي....).

د. وليد جاسم الزبيدي/ العراق




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...