لم أتوقّف، وأنا أكتب عن أدب العائدين، أمام السير الذاتية أو ما يشبه السير الذاتية التي كتبها هؤلاء، وقد أتيت فقط على نص واحد قريب من السيرة هو نص فيصل حوراني.
هناك نصوص عديدة كتبها العائدون أقرب إلى السيرة الذاتية، وأهمها ما كتبه مريد البرغوثي وفاروق وادي، ولن أنسى كتاب محمود درويش المتأخر "في حضرة الغياب" .
يعد كتاب حسن خضر واحداً من هذه الكتب، وقد صدر في 2003، وإن كان أنجز أكثره قبل هذا العام، وهو ما يقر به كاتبه في التقديم: "كتبت نصوص هذا الكتاب في فترات مختلفة".
ويدرج الكاتب تحت العنوان، على الغلاف، عنواناً فرعياً آخر هو "ما يشبه السيرة"، ولا يترك توضيح الأمر للقارئ أو الناقد، فهو في التقديم يأتي على تصنيف كتابه، وإشكالات هذا التصنيف: "يحيل كل كلام عن السيرة إلى نوع من التعاقد الضمني بين القارئ والكاتب يفترض الأول أن الثاني يروي أحداثاً وقعت بالفعل، ويتوقع منها أن تكون على قدرٍ من الصدق...".
ولكن حسن خضر، كما يتضح من التقديم، لم يخطط أصلاً لكتابة سيرة ذاتية، وإنما كتب نصوصاً في فترات مختلفة "وما يجمع بينها يتمثل في مدى ما يتسم به العام من دلالة شخصية في كثير من الأحيان، ومدى ما في الخاص من دلالة عامة تتجاوز حدود التجربة الفردية في أحيان أخرى، لتسم مرحلة معينة بميسمها"، وهذا هو كتاب "أرض الغزالة" الذي ينطلق من الشخصي ليعبر عن العام، ويكتب عن العام ليفسر الشخصي ويؤوّله أيضاً.
ولن يقرأ القارئ هنا سيرة ذاتية فيها تسلسل منطقي للأحداث، فقد "كانت الكتابة أقرب إلى التفكير بصوت مرتفع، وإلى تأمل للزمن، أكثر مما هي قراءة موضوعية ومحايدة للواقع".
إن الكتابة هنا تنجز كما يحدث في أحلام النوم واليقظة حيث تداخل الزمن وتشظّيه.
ويقر حسن خضر في تقديمه بأنه لم يفكر في كتابة سيرة، قدر ما أراد القبض على المعنى كما يتجلى في الواقع المعيش، "فلا خطة مسبقة، بل سلسلة من الاستجابات في لحظات متفاوتة الحدّة والكثافة، وفي ظل ظروف نفسية وسياسية واجتماعية مختلفة، وربما متناقضة".
وسيقرأ المرء، تبعاً لهذا، كتابة عن أشخاص "تركوا في القلب والذاكرة، بعض ما اتسم به وجودهم في الدنيا من بلاغة الحضور" ولهؤلاء يدين حسن خضر بالكثير.
وهنا يمكن أن يشير المرء إلى نوعي السيرة: السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، وإلى ما أورده الكاتب تحت العنوان الرئيس "ما يشبه السيرة"، ليتساءل إن كان حسن خضر جمع بين نوعي السيرة في كتابه، وهو ما يبرز في فصول عديدة، فتارة يكتب عن أبيه وجده وقريتهما، وطوراً يكتب عن قادة سياسيين ومفكرين وأدباء يرسم لهم صوراً، ما يذكرنا بالناقد الفرنسي "سانت بيف" الذي عرف بأنه كان صانع صور.
لا نقول إن حسن خضر كتب سيراً غيرية لكثيرين في كتابه، وإنما الأصحّ أن نقول إنه رسم لهم صورة ما كما تحققت في ذهنه من خلال المتابعة أو المعايشة أو القراءة، ويعد الفصل الأخير من الكتاب "ظل بعد الغياب" أفضل فصل في الكتاب لتمثيل هذا الجانب، علماً بأنه ليس الفصل الوحيد الذي يرسم فيه صوراً لأشخاص تركوا أثراً فيه.
في هذا الفصل يكتب الكاتب عن عشرة أشخاص، منهم تسعة فلسطينيون، وأما العاشر فهو الإسرائيلي (إسرائيل شاحاك). وأرى أن كل فصل من فصول كتاب "أرض الغزالة" (2003) يستحق وقفة متأملة، بل إن كل قسم من أقسام الفصل يستحق كتابة خاصة، لأنه يثير أسئلة عديدة، ويلفت النظر إلى قضايا مهمة.
و"أرض الغزالة" كتاب ليست قراءته سهلة للقارئ العادي، فالكاتب مولع بالمجاز والتأويل واللغة الاستعارية، وهو قارئ ممتاز ومثقف ثقافة واسعة. لأنه يكتب لنخبة النخبة غالباً، فهناك تفاوت ما بين النصوص، وتبدو تلك التي أتى فيها على قرية جده وأبيه "الجلدية" أوضح من غيرها للقارئ غير المثقف ثقافة الكاتب.
وتجدر الإشارة إلى أن حسن خضر من مواليد المنفى، فقد ولد في خان يونس، وغادر غزة في العام 1974 وعاد إليها في العام 1994، ومثل كثيرين من الأدباء العائدين لجأ إلى المقارنة بين زمنين كان شاهداً عليهما، زمن 60 و70 ق20 وزمن أوسلو، زمن 90 ق20.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن والد حسن خضر استشهد إثر حرب حزيران وهو يقاوم الاحتلال.
هوامش أخرى
(1) حسن خضر وكتابة المقالة :
حسن خضر من اﻷدباء العائدين اﻷكثر حضورا تقريبا،مع حسن البطل،من كتاب المقالة،وكلاهما ينشر مقالته في جريدة اﻷيام.وتختلف مقالة كل منهما ،من حيث البساطة والوضوح والكم،فالبطل يكتب مقالا يوميا وخضر يكتب مقالا أسبوعيا،والبطل يكتب مقالا واضحا بلغة بسيطة وخضر يكتب مقالا يحتاج المرء ليفهمه إلى غير قراءة وكان المقال قبل سنوات يميل إلى التجريد والفلسفة وأخذ بعد ذلك يتخفف من هذا ويميل صاحبه إلى ملامسة الواقع والغرف من وقائعه وبدا مقروءا من فئة أوسع على ما أرى فقد تخلص من جفاف التجريد والفلسفة.
أصدر حسن خضر في (2003) كتاب "أرض الغزالة..ما يشبه السيرة "وكان نشره في مجلة الكرمل وجريدة اﻷيام.
ما يشبه السيرة أعتقد أنه ما يشبه سيرة ذاتية سياسية فكرية،يقل فيها الكتابة عن الذات وتكتب السياسة من منظور أيديولوجي بلغة مفكر.وأرى أن هناك فرقا كبيرا في اﻷسلوب والعرض بين جبرا وفدوى طوقان وبين حسن خضر ينعكس بدوره على تلقي سيرة كل منهم،والطريف أن مفكرا وأستاذا جامعيا وكاتب مقالة سياسية هو ادوارد سعيد كتب سيرته بلغة بسيطة واضحة وكان أقل تجريدا في أسلوبه من أسلوب حسن خضر.
(2)
حنا بطاطو :مثقف فريد
قلت:يبدو حسن خضر هنا مثل (سانت بيف)الناقد الفرنسي في ق19.إنه صانع صور.
لعل المثال الذي هو خير دليل على ما أذهب إليه هو ما كتبه عن الباحث، ابن القدس ،حنا بطاطو.هنا يتكيء خضر على آراء معارف بطاطو فيه، ويقتبس رأيهم فيه ،لرسم صورة له.
وأعتقد أنها صورة ممتازة لفلسطيني يبدو لنا مجهولا ،ولم أعرف أنا عنه إلا من كتاب حسن خضر.
ليس فيما كتبه الكاتب أي شيء عن سيرته الشخصية ،إلا اطلاعه على كتابات بطاطو ومنهجه وحياته وهو اطلاع واسع وممتاز ،وتحليله ورسمه صورة للمكتوب عنه.وأرى أنها صورة جيدة وتنم على عقلية نقدية تحليلية .
(3)
الياس مرقص قدوة ثانية لحسن خضر:
كلما قرأت فصلا أو مقطعا من كتاب حسن خضر قلت :هذا كتاب لم ينل حقه من الجدل،ولا أعرف كتابا آخر -ربما لقلة اطلاعي-ناقش موضوعات كتلك التي يناقشها.
هل كتب آميل حبيبي أو محمود درويش أو سميح القاسم عن علاقته بالحزب وتركه له؟
هل كتب يساريون تركوا جبهاتهم /الشعبية والديمقراطية عن علاقتهم بالفصيل ؟لا شك أن هناك من كتب ولكن الذين يتكلمون كثر ،وكنت أتيت على كلامهم في (ليل الضفة الطويل)ولكني لم أكتب عن حنينهم إلى فصائلهم التي تركوها ،علما بأن كثيرين منهم أخذوا يعبرون عن حنينهم إليها.
حسن خضر يكتب في "رجع الصدى "من "أرض الغزالة "عن تجربة بيروت 1982 وعن الحياة في ظل الحرب ،وعن تجربة الخروج،ولكن ما يلفت هو ما كتبه عن الياس مرقص تمهيدا لكتابته عن تجربته مع الفصيل وتركه له وحنينه إليه ،وهذا يقوده للكتابة عن إعجابه بنايف حواتمة رغم أنه كان مع الحكيم والجبهة الشعبية ،وهناك إعجاب ولكن ليس هناك قناعة.
ما كتبه حسن خضر عن تجربة إلياس مرقص يعد مدخلا للكتابة عن تجربته ،فمرقص ترك أثرا كبيرا في حياة خضر الذي سار في الطريق نفسه :ترك الفصيل والبحث عن المعرفة والقناعة بدور المثقف المستقل.
وخضر مثل كثير من الحزبيين /الفصيليين الذين تركوا فصيلهم /عائلتهم ،ولكنه وهو يكتب بعد 20عاما عت تجربته يكتب عن حنينه إلى العائلة /الفصيل ،شأنه شأن كثيرين.ثمة نوستولوجي لزمن مضى وللعائلة التي انتقدها ،حيث بدا الفصيل ضرورة تنوب عن الوطن.يسأل إلياس مرقص خضر :لو قدمنا فلسطين ﻷمينك العام /حبش وقلنا له :ها هي فلسطينك.خذها فماذا ستفعل فيها؟ﻷجاب :بديش فلسطين.بدي أناضل.
اليوم وقبل سنوات كنت ألتقي برفاق تركوا فصيلهم وكانوا أيضا يحنون إلى فصائلهم وغالبا ما يقترحون أن يلملم المنفلشون أنفسهم من جديد وأن يشكلوا شيئا ما اجتماعيا.
الكتاب قابل لنقاشات كثيرة على أية حال ،ولكنه يلامس أفكارا مهمة ويغوص فيها ويعبر عن تجربة جيل ال70 من ق20 ،الجيل الذي انتمى للمقاومة ولفصائل يسارية ثم ترك الفصيل.بعضهم واصل الحياة فغدا كاتبا وبعضهم صار كومبرادور للغرب وبعضهم غدا موظفا في السلطة يأخذ منها الراتب وينتقدها أو يدافع عنها و..و..والكتابة تطول.
(4) حسن خضر ومحمود درويش
كان الكاتب حسن خضر ،بعد أوسلو ،قريبا من الشاعر محمود درويش ،وكان له حضور لافت في مجلة الكرمل.عرف خضر كاتب مقالة وعرف محاورا لﻷدباء الإسرائيليين وقارئا جيدا لهم ،فقد قرأهم بالإنجليزية وكتب عن نصوصهم أيضا وأظن أنه أصدر كتابا عن اﻷدب الذي قرأ.
والسؤال هو:ما مقدار تأثر حسن خضر بمحمود درويش ،لغة وأسلوبا وأفكارا؟
ذهبت إلى أن أكثر مجايلي درويش ومعاصريه من الفلسطينيين لم ينجوا من التأثر بنصوصه،وأقر بأنني أنا شخصيا وقعت تحت سطوة أشعاره في مقالاتي،إذ قلما خلا لي مقال من أسطر شعرية له.
في "أرض الغزالة "(2003) وفي نص أرض الغزالة تحديدا يتعثر المرء بأفكار قرأها في نصوص محمود درويش الشعرية والنثرية.ويمكن القول إن أسلوب حسن خضر خارج من معطف أسلوب محمود درويش ،فكتابة خضر تحفل بالمجاز والاستعارة أيضا والبعد عن المباشرة.هنا يتذكر المرء المقالات التي كتبها درويش ونشرها في كتبه النثرية :وداعا أيتها الحرب..وداعا أيها السلم وفي وصف حالتنا و عابرون في كلام عابر،وهي كلها كتب صدرت قبل العام 2003تاريخ صدور كتاب خضر.
هل اختلفت اﻷفكار كثيرا؟
في أجزاء كان الاختلاف بينا ،وفي أجزاء أخرى لم يكن كذلك،حتى أن اﻷمر ليكاد يلتبس على القاريء. خذ مثلا المقاطع 5+6+8 من أرض الغزالة.
إن فكرة الضحية التي تحولت إلى جلاد في كتاب خضر بدت واضحة في كتابات كثيرة لدرويش وتحديدا في مديح الظل العالي...
وإن كتابة خضر عن النحن والهم في هذه المقاطع تعيدنا مرارا إلى كتابات درويش وإلى قصائده الشهيرة :خطبة الجندي اﻷحمر ما قبل اﻷخيرة ..وعابرون في كلام عابر..الخ.
هل أظلم حسن خضر؟هل أحسنت القراءة ؟هل أسأتها؟
ربما. (بعد كتابة هذه الفقرة كتب لي الكاتب انه ينتمي الى العصر الذي ينتمي اليه محمود درويش ،واذا اخذنا بمقولة روح العصر فان ما كتبه هو ومحمود درويش واخرون وتشابه ما كتبوا لا يعود لكونه خرج من معطف الشاعر قدر ما هو تاثر بمعطيات العصر.وهنا يذكر حسن خضر مقولات البنيويين التي تربط بين نصوص العصر وتذهب الى ما هو ابعد من ذلك.وانا لا انكر هذا ،واحيانا كثيرة اخذ بمقولات بنيوية تؤكد هذا،وحين امعن النظر في المعلقات ارى قدرا من التشابه في بنائها ،واكثر الشعراء كان له علاقة بالمكان والوقوف عليه ثانية.)
(5)
الوقوف على اﻷطلال :
في الفصل المعنون ""خبز العرب"يأتي حسن خضر على قرية أبيه وجده "الجلدية" وزيارته لها وما ألم بها.
ذكرني الكاتب بزيارات الفلسطينيين بيوتهم بعد هزيمة 1967،وكان غسان كنفاني ،فيما أعرف،أول كاتب فلسطيني توقف أمام هذه الظاهرة،هذا إذا غضضنا الطرف عن قصيدة فدوى طوقان "على أبواب يافا".كتبت فدوى التي زارت يافا قصيدتها بعد زيارة يافا وعبرت عن تجربة ،خلافا لكنفاني الذي كان في بيروت وكتب عن تجارب سمعها.
كان حسن خضر حين زار قرية أبيه وجده شابا وزار مكانا لم يولد فيه ولكنه سمع عنه هو المولود في المنفى في خان يونس.
على أن الزيارة التي قام بها عن وعي بضياع المكان ودلالة فقدانه هي تلك التي قام بها وحيدا بعد عودته من المنفى إثر اتفاقات (أوسلو)،وقد تمت بعد 27 عاما من زيارته اﻷولى.
يستطيع المرء أن يقارن بين تجربتي محمود درويش وحسن خضر في هذا المجال.وقد يتذكر قصيدة درويش "سجل أنا عربي "حين يقرأ عن اﻷصول الريفية ﻷسرة حسن خضر،فقد كان جده أيضا من أسرة المحراث.
على أن المقارنة تكمن فيما ألم بالمكان اﻷول وما حل محله.وإذا كان درويش كتب "طللية البروة"في 2008 وخضر كتب "خبيزة العرب "قبل 2002،فإن على المرء ألا ينسى رسائل محمود مع سميح ،وفيها أتى على البروة وما أقيم على أنقاضها.
عموما ثمة ما هو متشابه ،وثمة ما هو مختلف.القريتان لم تبق منهما إلا أنقاض،وقد أقيم على أرضهما مستوطنات أقام فيها قادمون جدد.
ولكن ما هو الاختلاف ؟
ولد درويش في البروة وأقام فيها 7سنوات ثم هجر منها ،ولما عاد إليها وأهله متسللين رأوها سويت باﻷرض وأقاموا في قرية قريبة منها،أما حسن خضر ،فكما ذكرت،فقد ولد في المنفى ولم تكتحل عيناه في طفولته بأجواء قريته وبيوتها ،ولسوف يكتشف بقاياها مع شقيق جده وسيتعرف على بعض معالمها إصغاء وملامسة،وسيعرف عنها أكثر وأكثر من خلال البحث المعرفي عن تاريخها وسيلجأ إلى المخيلة لرسم صورة ﻷهلها وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة عيشهم فيها وعلاقتهم ببعضهم البعض.وسيكتب بوعي الناقد الروائي ،وسيوظف هذا الوعي النقدي الروائي في السرد ورسم الصورة.
الموضوع طريف.
(6)
خيبة العائد
في الفصل المعنون "هل كنت هنا " ص55-71 يكتب حسن خضر عن أيامه اﻷخيرة في تونس وعن تأخر عودته قليلا ،ويأتي على تصوره الوطن في المنفى:الوطن في المنفى هو الجنة المنتظرة.وكلما جابهه في المنفى سؤال الهوية وما ينجم عنه من إشكالات تذكر معنى أن يكون له وطن.وحين عاد إلى غزة رأى الوطن على حقيقته.لم ير الوطن المؤمثل ولم ير الوطن كما تقترحه اﻷيديولوجيا.رأى وطنا من لحم ودم ورأى وطنا واقعيا.
هل صدم الكاتب بما رأى؟
كان حسن خضر ترك خانيونس وغزة في 1974 وعاد إليهما في 1994 -أي بعد غياب 20عاما،وكم كانت اﻷمور مختلفة.النساء اللاتي كن متحررات في زمن المد الناصري والصعود القومي حلت بناتهن محلهن بالحجاب والنقاب،وأستاذ اﻷدب العربي يعالج الممسوس بالضرب ليخرج منه الجن اليهودي اللئيم،ولما كانت الانتفاضة في نهاياتها فقد رأى بؤس ما وصلت إليه اﻷحوال حيث الرعب والتشويه بماء النار.
يقارن حسن خضر هنا بين زمنين؛زمن ال 70 يوم كان في بيروت وكانت تراود الشباب في حينه أحلام ثورية بالتحرر والثورة والتقدم نحو مجتمع علماني ويوم عاد في 90 ق20 -زمن ال 90 حيث النكوص والعشائرية وغياب اﻷفق نحو مستقبل أفضل.
يتذكر حسن هنا سعدي يوسف واللاجئين العرب الذين احتضنتهم الثورة الفلسطينية.كان هؤلاء يرون في الفلسطينيين نموذجا مختلفا عن العرب ، وأنهم هم من سيقدمون البديل للنظام العربي البائس،ولهذا كان يخشى النظام العربي قيام دولة فلسطينية.ويقارن حسن هذا التصور بتصور الغربيين للفلسطينيين وتحديدا موظفي المنظمات الدولية الذين قدموا إلى مناطق السلطة ليعلموا الفلسطينيين الديموقراطية وأشياء أخرى.الفلسطينييون في نظر هؤلاء فاسدون بائسون.
طبعا يأتي حسن هنا على العائدين ويميز بين ما كانوا عليه في المنفى من عزة وكبرياء وثورة وما آلوا إليه حيث غدوا موظفين بائسين حيارى.
شيء مهم يفتقده الفلسطينيون وهو أنهم لا يمارسون النقد الذاتي ،كأنهم لا يعرفونه.وما لفت نظر الكاتب هو سرعة تأقلم العائدين مع ألفاظ كانوا يحاربونها.كأن الفلسطينيين في بلادهم اكتشفوا العرب فيهم.كيف تحولوا من إخوة ورفاق بسهولة وبسرعة إلى بشر يمارسون ما كانوا يرفضونه وأخذوا يستخدمون مفردات صاحب السيادة والمعالي و..و..
يلجأ حسن خضر لتفسير هذا الانقلاب إلى علم النفس عله يزوده بالسبب.
شيء مهم غاب عن الكاتب هنا وهو دور الرئيس ياسر عرفات نفسه في الوصول إلى هذه الحالة،وأجزم أنه هو المسؤول اﻷول عن هذه الحالة ،فلقد نسي ما كان عليه وغدا يتصرف تصرف حاكم ورئيس .ولا أنسى طبعا دور المنافقين والوصوليين والانتهازيين.
أول ما جاء الرئيس أبو مازن إلى السلطة حاول رفض أمور رسمية كهذه ولكن....
حين أشاهد تلفازنا واﻷغاني التي تغنى ﻷبي مازن أتذكر التلفزيون اﻷردني زمن الملك حسين.
كأننا ..كأننا...وحقا علينا أن نبحث عن العرب فينا.
هناك نصوص عديدة كتبها العائدون أقرب إلى السيرة الذاتية، وأهمها ما كتبه مريد البرغوثي وفاروق وادي، ولن أنسى كتاب محمود درويش المتأخر "في حضرة الغياب" .
يعد كتاب حسن خضر واحداً من هذه الكتب، وقد صدر في 2003، وإن كان أنجز أكثره قبل هذا العام، وهو ما يقر به كاتبه في التقديم: "كتبت نصوص هذا الكتاب في فترات مختلفة".
ويدرج الكاتب تحت العنوان، على الغلاف، عنواناً فرعياً آخر هو "ما يشبه السيرة"، ولا يترك توضيح الأمر للقارئ أو الناقد، فهو في التقديم يأتي على تصنيف كتابه، وإشكالات هذا التصنيف: "يحيل كل كلام عن السيرة إلى نوع من التعاقد الضمني بين القارئ والكاتب يفترض الأول أن الثاني يروي أحداثاً وقعت بالفعل، ويتوقع منها أن تكون على قدرٍ من الصدق...".
ولكن حسن خضر، كما يتضح من التقديم، لم يخطط أصلاً لكتابة سيرة ذاتية، وإنما كتب نصوصاً في فترات مختلفة "وما يجمع بينها يتمثل في مدى ما يتسم به العام من دلالة شخصية في كثير من الأحيان، ومدى ما في الخاص من دلالة عامة تتجاوز حدود التجربة الفردية في أحيان أخرى، لتسم مرحلة معينة بميسمها"، وهذا هو كتاب "أرض الغزالة" الذي ينطلق من الشخصي ليعبر عن العام، ويكتب عن العام ليفسر الشخصي ويؤوّله أيضاً.
ولن يقرأ القارئ هنا سيرة ذاتية فيها تسلسل منطقي للأحداث، فقد "كانت الكتابة أقرب إلى التفكير بصوت مرتفع، وإلى تأمل للزمن، أكثر مما هي قراءة موضوعية ومحايدة للواقع".
إن الكتابة هنا تنجز كما يحدث في أحلام النوم واليقظة حيث تداخل الزمن وتشظّيه.
ويقر حسن خضر في تقديمه بأنه لم يفكر في كتابة سيرة، قدر ما أراد القبض على المعنى كما يتجلى في الواقع المعيش، "فلا خطة مسبقة، بل سلسلة من الاستجابات في لحظات متفاوتة الحدّة والكثافة، وفي ظل ظروف نفسية وسياسية واجتماعية مختلفة، وربما متناقضة".
وسيقرأ المرء، تبعاً لهذا، كتابة عن أشخاص "تركوا في القلب والذاكرة، بعض ما اتسم به وجودهم في الدنيا من بلاغة الحضور" ولهؤلاء يدين حسن خضر بالكثير.
وهنا يمكن أن يشير المرء إلى نوعي السيرة: السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، وإلى ما أورده الكاتب تحت العنوان الرئيس "ما يشبه السيرة"، ليتساءل إن كان حسن خضر جمع بين نوعي السيرة في كتابه، وهو ما يبرز في فصول عديدة، فتارة يكتب عن أبيه وجده وقريتهما، وطوراً يكتب عن قادة سياسيين ومفكرين وأدباء يرسم لهم صوراً، ما يذكرنا بالناقد الفرنسي "سانت بيف" الذي عرف بأنه كان صانع صور.
لا نقول إن حسن خضر كتب سيراً غيرية لكثيرين في كتابه، وإنما الأصحّ أن نقول إنه رسم لهم صورة ما كما تحققت في ذهنه من خلال المتابعة أو المعايشة أو القراءة، ويعد الفصل الأخير من الكتاب "ظل بعد الغياب" أفضل فصل في الكتاب لتمثيل هذا الجانب، علماً بأنه ليس الفصل الوحيد الذي يرسم فيه صوراً لأشخاص تركوا أثراً فيه.
في هذا الفصل يكتب الكاتب عن عشرة أشخاص، منهم تسعة فلسطينيون، وأما العاشر فهو الإسرائيلي (إسرائيل شاحاك). وأرى أن كل فصل من فصول كتاب "أرض الغزالة" (2003) يستحق وقفة متأملة، بل إن كل قسم من أقسام الفصل يستحق كتابة خاصة، لأنه يثير أسئلة عديدة، ويلفت النظر إلى قضايا مهمة.
و"أرض الغزالة" كتاب ليست قراءته سهلة للقارئ العادي، فالكاتب مولع بالمجاز والتأويل واللغة الاستعارية، وهو قارئ ممتاز ومثقف ثقافة واسعة. لأنه يكتب لنخبة النخبة غالباً، فهناك تفاوت ما بين النصوص، وتبدو تلك التي أتى فيها على قرية جده وأبيه "الجلدية" أوضح من غيرها للقارئ غير المثقف ثقافة الكاتب.
وتجدر الإشارة إلى أن حسن خضر من مواليد المنفى، فقد ولد في خان يونس، وغادر غزة في العام 1974 وعاد إليها في العام 1994، ومثل كثيرين من الأدباء العائدين لجأ إلى المقارنة بين زمنين كان شاهداً عليهما، زمن 60 و70 ق20 وزمن أوسلو، زمن 90 ق20.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن والد حسن خضر استشهد إثر حرب حزيران وهو يقاوم الاحتلال.
هوامش أخرى
(1) حسن خضر وكتابة المقالة :
حسن خضر من اﻷدباء العائدين اﻷكثر حضورا تقريبا،مع حسن البطل،من كتاب المقالة،وكلاهما ينشر مقالته في جريدة اﻷيام.وتختلف مقالة كل منهما ،من حيث البساطة والوضوح والكم،فالبطل يكتب مقالا يوميا وخضر يكتب مقالا أسبوعيا،والبطل يكتب مقالا واضحا بلغة بسيطة وخضر يكتب مقالا يحتاج المرء ليفهمه إلى غير قراءة وكان المقال قبل سنوات يميل إلى التجريد والفلسفة وأخذ بعد ذلك يتخفف من هذا ويميل صاحبه إلى ملامسة الواقع والغرف من وقائعه وبدا مقروءا من فئة أوسع على ما أرى فقد تخلص من جفاف التجريد والفلسفة.
أصدر حسن خضر في (2003) كتاب "أرض الغزالة..ما يشبه السيرة "وكان نشره في مجلة الكرمل وجريدة اﻷيام.
ما يشبه السيرة أعتقد أنه ما يشبه سيرة ذاتية سياسية فكرية،يقل فيها الكتابة عن الذات وتكتب السياسة من منظور أيديولوجي بلغة مفكر.وأرى أن هناك فرقا كبيرا في اﻷسلوب والعرض بين جبرا وفدوى طوقان وبين حسن خضر ينعكس بدوره على تلقي سيرة كل منهم،والطريف أن مفكرا وأستاذا جامعيا وكاتب مقالة سياسية هو ادوارد سعيد كتب سيرته بلغة بسيطة واضحة وكان أقل تجريدا في أسلوبه من أسلوب حسن خضر.
(2)
حنا بطاطو :مثقف فريد
قلت:يبدو حسن خضر هنا مثل (سانت بيف)الناقد الفرنسي في ق19.إنه صانع صور.
لعل المثال الذي هو خير دليل على ما أذهب إليه هو ما كتبه عن الباحث، ابن القدس ،حنا بطاطو.هنا يتكيء خضر على آراء معارف بطاطو فيه، ويقتبس رأيهم فيه ،لرسم صورة له.
وأعتقد أنها صورة ممتازة لفلسطيني يبدو لنا مجهولا ،ولم أعرف أنا عنه إلا من كتاب حسن خضر.
ليس فيما كتبه الكاتب أي شيء عن سيرته الشخصية ،إلا اطلاعه على كتابات بطاطو ومنهجه وحياته وهو اطلاع واسع وممتاز ،وتحليله ورسمه صورة للمكتوب عنه.وأرى أنها صورة جيدة وتنم على عقلية نقدية تحليلية .
(3)
الياس مرقص قدوة ثانية لحسن خضر:
كلما قرأت فصلا أو مقطعا من كتاب حسن خضر قلت :هذا كتاب لم ينل حقه من الجدل،ولا أعرف كتابا آخر -ربما لقلة اطلاعي-ناقش موضوعات كتلك التي يناقشها.
هل كتب آميل حبيبي أو محمود درويش أو سميح القاسم عن علاقته بالحزب وتركه له؟
هل كتب يساريون تركوا جبهاتهم /الشعبية والديمقراطية عن علاقتهم بالفصيل ؟لا شك أن هناك من كتب ولكن الذين يتكلمون كثر ،وكنت أتيت على كلامهم في (ليل الضفة الطويل)ولكني لم أكتب عن حنينهم إلى فصائلهم التي تركوها ،علما بأن كثيرين منهم أخذوا يعبرون عن حنينهم إليها.
حسن خضر يكتب في "رجع الصدى "من "أرض الغزالة "عن تجربة بيروت 1982 وعن الحياة في ظل الحرب ،وعن تجربة الخروج،ولكن ما يلفت هو ما كتبه عن الياس مرقص تمهيدا لكتابته عن تجربته مع الفصيل وتركه له وحنينه إليه ،وهذا يقوده للكتابة عن إعجابه بنايف حواتمة رغم أنه كان مع الحكيم والجبهة الشعبية ،وهناك إعجاب ولكن ليس هناك قناعة.
ما كتبه حسن خضر عن تجربة إلياس مرقص يعد مدخلا للكتابة عن تجربته ،فمرقص ترك أثرا كبيرا في حياة خضر الذي سار في الطريق نفسه :ترك الفصيل والبحث عن المعرفة والقناعة بدور المثقف المستقل.
وخضر مثل كثير من الحزبيين /الفصيليين الذين تركوا فصيلهم /عائلتهم ،ولكنه وهو يكتب بعد 20عاما عت تجربته يكتب عن حنينه إلى العائلة /الفصيل ،شأنه شأن كثيرين.ثمة نوستولوجي لزمن مضى وللعائلة التي انتقدها ،حيث بدا الفصيل ضرورة تنوب عن الوطن.يسأل إلياس مرقص خضر :لو قدمنا فلسطين ﻷمينك العام /حبش وقلنا له :ها هي فلسطينك.خذها فماذا ستفعل فيها؟ﻷجاب :بديش فلسطين.بدي أناضل.
اليوم وقبل سنوات كنت ألتقي برفاق تركوا فصيلهم وكانوا أيضا يحنون إلى فصائلهم وغالبا ما يقترحون أن يلملم المنفلشون أنفسهم من جديد وأن يشكلوا شيئا ما اجتماعيا.
الكتاب قابل لنقاشات كثيرة على أية حال ،ولكنه يلامس أفكارا مهمة ويغوص فيها ويعبر عن تجربة جيل ال70 من ق20 ،الجيل الذي انتمى للمقاومة ولفصائل يسارية ثم ترك الفصيل.بعضهم واصل الحياة فغدا كاتبا وبعضهم صار كومبرادور للغرب وبعضهم غدا موظفا في السلطة يأخذ منها الراتب وينتقدها أو يدافع عنها و..و..والكتابة تطول.
(4) حسن خضر ومحمود درويش
كان الكاتب حسن خضر ،بعد أوسلو ،قريبا من الشاعر محمود درويش ،وكان له حضور لافت في مجلة الكرمل.عرف خضر كاتب مقالة وعرف محاورا لﻷدباء الإسرائيليين وقارئا جيدا لهم ،فقد قرأهم بالإنجليزية وكتب عن نصوصهم أيضا وأظن أنه أصدر كتابا عن اﻷدب الذي قرأ.
والسؤال هو:ما مقدار تأثر حسن خضر بمحمود درويش ،لغة وأسلوبا وأفكارا؟
ذهبت إلى أن أكثر مجايلي درويش ومعاصريه من الفلسطينيين لم ينجوا من التأثر بنصوصه،وأقر بأنني أنا شخصيا وقعت تحت سطوة أشعاره في مقالاتي،إذ قلما خلا لي مقال من أسطر شعرية له.
في "أرض الغزالة "(2003) وفي نص أرض الغزالة تحديدا يتعثر المرء بأفكار قرأها في نصوص محمود درويش الشعرية والنثرية.ويمكن القول إن أسلوب حسن خضر خارج من معطف أسلوب محمود درويش ،فكتابة خضر تحفل بالمجاز والاستعارة أيضا والبعد عن المباشرة.هنا يتذكر المرء المقالات التي كتبها درويش ونشرها في كتبه النثرية :وداعا أيتها الحرب..وداعا أيها السلم وفي وصف حالتنا و عابرون في كلام عابر،وهي كلها كتب صدرت قبل العام 2003تاريخ صدور كتاب خضر.
هل اختلفت اﻷفكار كثيرا؟
في أجزاء كان الاختلاف بينا ،وفي أجزاء أخرى لم يكن كذلك،حتى أن اﻷمر ليكاد يلتبس على القاريء. خذ مثلا المقاطع 5+6+8 من أرض الغزالة.
إن فكرة الضحية التي تحولت إلى جلاد في كتاب خضر بدت واضحة في كتابات كثيرة لدرويش وتحديدا في مديح الظل العالي...
وإن كتابة خضر عن النحن والهم في هذه المقاطع تعيدنا مرارا إلى كتابات درويش وإلى قصائده الشهيرة :خطبة الجندي اﻷحمر ما قبل اﻷخيرة ..وعابرون في كلام عابر..الخ.
هل أظلم حسن خضر؟هل أحسنت القراءة ؟هل أسأتها؟
ربما. (بعد كتابة هذه الفقرة كتب لي الكاتب انه ينتمي الى العصر الذي ينتمي اليه محمود درويش ،واذا اخذنا بمقولة روح العصر فان ما كتبه هو ومحمود درويش واخرون وتشابه ما كتبوا لا يعود لكونه خرج من معطف الشاعر قدر ما هو تاثر بمعطيات العصر.وهنا يذكر حسن خضر مقولات البنيويين التي تربط بين نصوص العصر وتذهب الى ما هو ابعد من ذلك.وانا لا انكر هذا ،واحيانا كثيرة اخذ بمقولات بنيوية تؤكد هذا،وحين امعن النظر في المعلقات ارى قدرا من التشابه في بنائها ،واكثر الشعراء كان له علاقة بالمكان والوقوف عليه ثانية.)
(5)
الوقوف على اﻷطلال :
في الفصل المعنون ""خبز العرب"يأتي حسن خضر على قرية أبيه وجده "الجلدية" وزيارته لها وما ألم بها.
ذكرني الكاتب بزيارات الفلسطينيين بيوتهم بعد هزيمة 1967،وكان غسان كنفاني ،فيما أعرف،أول كاتب فلسطيني توقف أمام هذه الظاهرة،هذا إذا غضضنا الطرف عن قصيدة فدوى طوقان "على أبواب يافا".كتبت فدوى التي زارت يافا قصيدتها بعد زيارة يافا وعبرت عن تجربة ،خلافا لكنفاني الذي كان في بيروت وكتب عن تجارب سمعها.
كان حسن خضر حين زار قرية أبيه وجده شابا وزار مكانا لم يولد فيه ولكنه سمع عنه هو المولود في المنفى في خان يونس.
على أن الزيارة التي قام بها عن وعي بضياع المكان ودلالة فقدانه هي تلك التي قام بها وحيدا بعد عودته من المنفى إثر اتفاقات (أوسلو)،وقد تمت بعد 27 عاما من زيارته اﻷولى.
يستطيع المرء أن يقارن بين تجربتي محمود درويش وحسن خضر في هذا المجال.وقد يتذكر قصيدة درويش "سجل أنا عربي "حين يقرأ عن اﻷصول الريفية ﻷسرة حسن خضر،فقد كان جده أيضا من أسرة المحراث.
على أن المقارنة تكمن فيما ألم بالمكان اﻷول وما حل محله.وإذا كان درويش كتب "طللية البروة"في 2008 وخضر كتب "خبيزة العرب "قبل 2002،فإن على المرء ألا ينسى رسائل محمود مع سميح ،وفيها أتى على البروة وما أقيم على أنقاضها.
عموما ثمة ما هو متشابه ،وثمة ما هو مختلف.القريتان لم تبق منهما إلا أنقاض،وقد أقيم على أرضهما مستوطنات أقام فيها قادمون جدد.
ولكن ما هو الاختلاف ؟
ولد درويش في البروة وأقام فيها 7سنوات ثم هجر منها ،ولما عاد إليها وأهله متسللين رأوها سويت باﻷرض وأقاموا في قرية قريبة منها،أما حسن خضر ،فكما ذكرت،فقد ولد في المنفى ولم تكتحل عيناه في طفولته بأجواء قريته وبيوتها ،ولسوف يكتشف بقاياها مع شقيق جده وسيتعرف على بعض معالمها إصغاء وملامسة،وسيعرف عنها أكثر وأكثر من خلال البحث المعرفي عن تاريخها وسيلجأ إلى المخيلة لرسم صورة ﻷهلها وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة عيشهم فيها وعلاقتهم ببعضهم البعض.وسيكتب بوعي الناقد الروائي ،وسيوظف هذا الوعي النقدي الروائي في السرد ورسم الصورة.
الموضوع طريف.
(6)
خيبة العائد
في الفصل المعنون "هل كنت هنا " ص55-71 يكتب حسن خضر عن أيامه اﻷخيرة في تونس وعن تأخر عودته قليلا ،ويأتي على تصوره الوطن في المنفى:الوطن في المنفى هو الجنة المنتظرة.وكلما جابهه في المنفى سؤال الهوية وما ينجم عنه من إشكالات تذكر معنى أن يكون له وطن.وحين عاد إلى غزة رأى الوطن على حقيقته.لم ير الوطن المؤمثل ولم ير الوطن كما تقترحه اﻷيديولوجيا.رأى وطنا من لحم ودم ورأى وطنا واقعيا.
هل صدم الكاتب بما رأى؟
كان حسن خضر ترك خانيونس وغزة في 1974 وعاد إليهما في 1994 -أي بعد غياب 20عاما،وكم كانت اﻷمور مختلفة.النساء اللاتي كن متحررات في زمن المد الناصري والصعود القومي حلت بناتهن محلهن بالحجاب والنقاب،وأستاذ اﻷدب العربي يعالج الممسوس بالضرب ليخرج منه الجن اليهودي اللئيم،ولما كانت الانتفاضة في نهاياتها فقد رأى بؤس ما وصلت إليه اﻷحوال حيث الرعب والتشويه بماء النار.
يقارن حسن خضر هنا بين زمنين؛زمن ال 70 يوم كان في بيروت وكانت تراود الشباب في حينه أحلام ثورية بالتحرر والثورة والتقدم نحو مجتمع علماني ويوم عاد في 90 ق20 -زمن ال 90 حيث النكوص والعشائرية وغياب اﻷفق نحو مستقبل أفضل.
يتذكر حسن هنا سعدي يوسف واللاجئين العرب الذين احتضنتهم الثورة الفلسطينية.كان هؤلاء يرون في الفلسطينيين نموذجا مختلفا عن العرب ، وأنهم هم من سيقدمون البديل للنظام العربي البائس،ولهذا كان يخشى النظام العربي قيام دولة فلسطينية.ويقارن حسن هذا التصور بتصور الغربيين للفلسطينيين وتحديدا موظفي المنظمات الدولية الذين قدموا إلى مناطق السلطة ليعلموا الفلسطينيين الديموقراطية وأشياء أخرى.الفلسطينييون في نظر هؤلاء فاسدون بائسون.
طبعا يأتي حسن هنا على العائدين ويميز بين ما كانوا عليه في المنفى من عزة وكبرياء وثورة وما آلوا إليه حيث غدوا موظفين بائسين حيارى.
شيء مهم يفتقده الفلسطينيون وهو أنهم لا يمارسون النقد الذاتي ،كأنهم لا يعرفونه.وما لفت نظر الكاتب هو سرعة تأقلم العائدين مع ألفاظ كانوا يحاربونها.كأن الفلسطينيين في بلادهم اكتشفوا العرب فيهم.كيف تحولوا من إخوة ورفاق بسهولة وبسرعة إلى بشر يمارسون ما كانوا يرفضونه وأخذوا يستخدمون مفردات صاحب السيادة والمعالي و..و..
يلجأ حسن خضر لتفسير هذا الانقلاب إلى علم النفس عله يزوده بالسبب.
شيء مهم غاب عن الكاتب هنا وهو دور الرئيس ياسر عرفات نفسه في الوصول إلى هذه الحالة،وأجزم أنه هو المسؤول اﻷول عن هذه الحالة ،فلقد نسي ما كان عليه وغدا يتصرف تصرف حاكم ورئيس .ولا أنسى طبعا دور المنافقين والوصوليين والانتهازيين.
أول ما جاء الرئيس أبو مازن إلى السلطة حاول رفض أمور رسمية كهذه ولكن....
حين أشاهد تلفازنا واﻷغاني التي تغنى ﻷبي مازن أتذكر التلفزيون اﻷردني زمن الملك حسين.
كأننا ..كأننا...وحقا علينا أن نبحث عن العرب فينا.