[ 3 ]
” يزيح الستارة التى تفصل غرفة المكتب عن الغرفة الأخرى ويدعوها لتتناول معه مشروبا “
هو ” واضعا يده على بطنه :
= أنا مدين لك بهذا العشاء الفاخر والشهى ، امتلأت بطنى عن أخرها وكأنى لم آكل من قبل !
هى :
ـ بالهناء والشفاء .
” مخرجا زجاجة خمرة من الثلاجة “
هو :
= أتتناولين معى كأسا ؟
هى :
ـ لا بأس . قليل منه يشفى .
” يصب فى كأسين ، يناولها كأسا ، ويتناول كأسا .. قائلا فى صحتك !
” تصب كأسا أخرى له ، وكأسا لها ، تقرع كأسها فى كأسه ، قائلة فى صحتك ! “
” يضحكان ، ويجلسان على أريكة وثيرة بجوار السرير “
هو : ” موزعا نظره بينها وبين السرير “
= هذا السرير ..
هى :
ـ ماذا به ؟!
هو ” وهو يدفع بجوفه ما تبقى فى الكأس “
= شهد معارك عنيفة !
هى ” ناظرة له بجانب من عينها “
ـ يبدو أن مفعول الخمر ظهر! ، أعرف أنك داهية !
هو ” مدعيا أنه مخمور ” :
= تمددت عليه برنسيسات ، وأميرات ، ” ضاحكا ” .. ، وخادمات ، ها ها.. ثيبات وأبكار ، مصريات ، عربيات ، أفريقيات ، أوروبيات ،..
هى ” ضاحكة ضحكة ممطوطة ” :
ـ يخرب بيتك يا دكتور ،كل هؤلاء قدرت عليهن!! ناولنى كأسا ليلتك ” للصبح “
هو “مصفقا بيده “:
= أيوه كده ، اشرب ، قربع ياجميل ؟!
” متماديا فى تمثيل الدور ، ومخرجا من الدولاب ، ملبوسات داخلية أنيقة وجميلة ، ومثيرة ، مختلفة أحجامها ، وأشكالها ، وألوانها ، يفردها أمامها ويمسك قميص تلو قميص ..
= هذا القميص ” ويشم رائحته ” ، لزنجية ، وهذا القميص لخليجية ، وهذا ” ويقربه من أنفه ” : مازالت رائحتها فيه ، عرقها أشتمه عطرا ، تخللت أنوثتها نسيجه وصارت من مكوناته .
وهذا القميص ! ” يحتضنه ويشرد قليلا .. “
= كانت ليلة !
= لا أعتقد أن قضى مثلها واحد من خلفاء أمية أو حتى من بنى العباس
هي ” والخمر تدور في رأسها ” :
ـ وكيف تعرفت عليهن ؟ !
هو ” مقتربا منها ، وواضعا يده علي كتفها ” :
= أقول لك ، شوفي يا ستي ، بعضهن يأتين ليدرسن الأدب العربي ، أو ليحصلن علي الماجستير والدكتوراه ، ولكل شيء ثمنه ! ، ومن يأتين أيضا طالبات للشهرة ، فمصر كما تعلمين هي جواز المرور للشهرة ، والأدب مثل الفن وغيره ، تحتكره مصر ، هل سمعت مثلا عن مطربه أو ممثله أو حتى راقصة حققت شهره إلا من خلال اعتمادها في مصر !
هي ” ضاحكة ” :
ـ وما أكثر اللواتي اعتمدن في مصر
هو “ضاحكا ” :
= والعبد لله هو الذي يعتمد الأديبات اللائى يفدن إلي مصر !
هى ” ضاحكة ” :
ـ هنا .. على هذا السرير !
هو :
= على هذا السرير ، وكل من دخلن هذه الغرفة اعتمدن ! وأصبحن نجمات يملان سماء دنيا الثقافة والأدب .
هى ” متطوحة ” : وهل مازلن يذكرنك ؟
هو ” متطوحا ” : أحيانا ! ، و” شاردا” ..
= غالبا ما يأخذهن الحنين ، ويأتين .
قد أفاجأ بواحدة منهن أحيانا ، تأتى ، بعد مرور سنوات فى محاولة منها لاستعادة الماضى والذكريات .
هى ” وهى تدفع بآخر رشفة فى قاع الكأس فى جوفها “
ـ وتعتمدها من جديد !
هو ” وهو يصب كأسا جديدة “:
= نعم .. واعتمادها هذه المرة يكون أوقع وأمتع وألذ ، فانتفت المصلحة !
هى ” وهى تتناول منه كأسا ” :
ـ ” هى دى مصر !”
هو ” ضاحكا ” :
= من ذقن حلاوتها لا ينسينها أبداُ ، ويعاودهن الحنين بين الفينة والأخرى .
هى ” تناوله كأساُ ” :
ـ صب لى كأسا ، فمازال فى عقلى نبض ، أريد أن يتوقف !
هو ” يصب لها كأسا وله كأسا ” :
[ لحظة صمت ]
” يدير جهاز التسجيل تنبعث منه موسيقى ، هادئة ، ناعمة .. “
هو ” قاطعا الصمت ” :
= لماذا لا تفضفضين ؟!
هى :
ـ فيما أفضفض ؟!
هو :
= تطلعيني على السر أو الأسرار التى تدفنينها فى أعمق أعماقك .
هى :
ـ أى سر وأي أسرار تقصد ؟
هو:
= ما خفى عنى ، وعن كل الناس .
هى :
ـ ليس عندى ما أخفيه ؟
هو :
= بحثت عنك فى قصصك ولم أجدك .
هى :
ـ كيف تجدنى ، وأنا لا أكتب سيرة ذاتية .
هو :
= الكاتب مبثوث بطريقة أو بأخرى فى أعماله ، وأستطيع بحكم دراستى ، وخبرتى ، أن أستخرج الكاتب بسهولة من أعماله .
كل من قرأت له ، حددت ملامحه العامة والخاصة ، وطرائق تفكيره ،وأسلوب حياته ، ومزاجه النفسى و ..
” يوقف جهاز التسجيل ، يفر فى أشرطة أمامه ، ينتقى شريطا ، يضعه فى جهاز التسجيل ، يديره ، تنبث موسيقى أكثر نعومة ، و… يقلل كمية الضوء ، بالكاد تنير الغرفة “
هى : ” تسترخى ” تغمض عينها :
هو :
= لما لا تتمددي على هذا السرير ، وتتحررى ..
هى ” سابحة مع الموسيقى ” :
ـ تريدنى أن أتحرر من ملابسى ! وأصير مثل صديقاتك . مجرد قميص نوم شفاف ، أترك لك فيه رائحتى ، ذكرى لليلة الجميلة أو حتى ليلة خائبة . ويأخذ رقماً ، ويدون عليه تاريخ الليلة ، ويدس فى الدولاب مع غيره من القمصان .
هو ” مقتربا منها وواضعا يده على كتفها ” :
= صدقينى . لم أقصد هذا التحرر ، لكنى أقصد التحرر من الداخل .. تطلعينى على صفحات نفسك المطوية .
من فضلك ، وبنعومة :
ـ هذا السرير . [ يبسط لها يده ، تقرأ فى عينيه رجاء ، تمد له يدها ، شئ خفى يدفعها للنهوض ، مغمضة العينين تسير وكأنها مغيبة ، يتناول يدها برفق ، تخلع حذائها الأبيض ، تصعد إلى السرير ، تحت تأثير الخمر والموسيقى ، وسحر كلامه ، تستلق ]
هو :
= أصغى إلى الموسيقى ، وانظري إلى اللوحات المعلقة على الجدار ، أو أغمض عينيك ، وانظري إلى داخلك ، واسمعيني نبضات قلبك ، وأصداء نفسك ، ولا بأس من كأس تلو كأس ، فالخمر تغيب العقل الذى يحد من الفضفضة ، كلنا بحاجة إلى البوح ، بوحى ؟!.. اشربي حتى الثمالة ، لتخرجى كل المدفون – هناك فى القاع وفى الأغوار ، وتأكدى ، تأكدى أنك لو غبت تماما عن الوعى ، فجسدك فى مأمن.
هى ” مغمضة العينين ” :
ـ نعم .. أحتاج للفضفضة .
هو ” بصوت ناعم ودافئ ” :
= بوحى ؟! .. اتركي نفسك على سجيتها ، لا تقفى فى طريقها ، غيبى العقل أو نحيه جانبا .
هى :
ـ أراني !
هو :
= ماذا ترين ؟
هى :
ـ أراني فى حجرة صغيرة ملحقة بمسجد صغير بجوار مقابر القرية
هو ” مندهشا ” :
= استرسلي ، بوحى .. ؟ .. بوحى ؟! .. بوحى ؟! .
هى :
ـ كنت أحبو بين المقابر .
ويُحكى أن أمي ، كانت تأتى أخر الليل عندما تعود من العمل فى الغيطان أو فى دور الموسرين . تجدنى قد دخلت قبراُ مفتوحاُ ، وغلبنى النعاس ونمت فيه .
وكان أبى كفيفاُ ، حفظ فى طفولته بعض سور القرآن ، كانت كفيلة بأن يوكل إليه الرجل الثرى الذى بنى المسجد – بإقامة الصلاة على وقتها ، وبالصلاة على الميت ، والقراءة عليه ، نظير أجر ، وحراسة المقابر .
” يبدل شريط الموسيقى ، بشريط أخر، تنبعث منه موسيقى أكثر شجناُ .
ـ أذكر أن أبى كثيرا ما كان يقيم الصلاة ، ويصلى بمفرده ، فلم يكن للمسجد من رواد ، إلا عابر سبيل ، ونادرا ما يطرق هذا الطريق عابر .
أحيانا ، أحيانا قليلة ، يرتاد المسجد بعض من يعملون فى الغيطان حينما يريدون قضاء الحاجة أو الهروب من الشمس وقت الظهيرة !
[صدى صوته يتردد فى أركان الحجرة .. بوحى ؟!.. بوحى ؟!.. بوحى ؟! .. ب..و..ح..ى.. ح.. ى..ى..ى …. ]
ـ قـُدر لنا أن نعيش مع الأموات ، فالمسافة بيننا وبين القرية ، تزيد عن الثلاثة كيلومترات .
هناك على طريق غير مأهول ، على أرض كانت فى الزمن البعيد تنكر الزرع ، أقاموا مقابرهم ، كنت أفرح بكل ميت جديد ، فهو بالنسبة لنا فلوسا ، تدس فى يد أبى خفية وجهرا ، أو فى جيبه نظير قراءته ، ولحوما وفاكهة تملأ حجر أمي ، وحكايات النساء عن المتوفى ، زوجته أو أمه ، أخته ، وعمته ، خالته وجارته .
على صغرى كنت أندس بينهن ، وأصغى لحكايتهن عنه ، أعرف تفاصيل حياته ، وأقف على أفعاله ، أعرف الأموات واحدا واحدا ، الشرير والطيب ، الكريم والبخيل ، النبيل واللئيم ، المريض والسليم ، البدين والنحيف ، الجميل والدميم . كنت أعجب بهذا ، وأبغض ذاك .
” وتضحك ضحكا متواصلا لدقائق ، يناولها كأسا ، تتجرعه دفعة واحدة “
ـ أول حب فى حياتى ، كان لواحد ميت . تصور !
اقتحمنى من خلال حكايات أمه وأخته وابنة عمه عنه . اللائى رحن يعدون محاسنه ومآثره ، وينعين جماله وشبابه ، ومن الصدف – كان اسمه يوسف ، واقترن فى ذهنى بيوسف الصديق ، وظللت لأيام أراوده فى نومى عن نفسه !
” وتضحك ، فيناولها كأسا “
ـ فى المدرسة . كنت أجتذب البنات بحكاياتى ، وخيالاتى ، وشطحاتى ، كنت أجذبهن لى ، بل كن يسعين إلى ويخطبن ودى ، ويتمنين لو أظل أحكي لهن طوال العمر ، وكم تكون سعادتهن عندما يتغيب مدرس أو يعتذر عن الحصة ! يتحلقن حولى ، وأنا كل يوم أصنع حكاية جديدة ، فالمدد عندى لا ينفد ، شهرزاد حكت ألف حكاية وأنا حكيت ألف ألف حكاية . حكايات الأموات ، والأحياء .
الأموات الذين يتعاركون ويتصايحون فى الليل ! الذين يخرجون من مقابرهم ، ويحكون لى عن حياتهم الخاصة ، فهم لا يظهرون إلا لى ، ثقة منهم فى ” هئ هئ هئ هئ ” هل فعلا يتصايحون ويتعاركون ؟! .. هل فعلاً يخرجون ؟! .. هل حقا يثقون بي ؟!.. هئ هئ .. هئ ….
من تطلب مني أن أحكي لها عن أبيها ، ومن تطلب منى أن أحكي لها عن أمها أو أخيها ، هذه تسألنى عن عمتها أو خالتها ، وتلك تسألنى عن حبيبها الذى اختطفه الموت ..!
كيف يعيشون ، وماذا يأكلون ؟ وماذا يلبسون ؟ .. عشرات الأسئلة تحتاج إلى إجابات .. عرفت كيف أستقطبهن ، وكيف أستثمرهن . أحكي لهذه همسا بأن أبيها فى الجنة ، وأن أبو البنت التى لا تحبها فى النار ، .. وأطلب منها ألا تخبرها ، فتفرح بما أسررته لها ، فتزيد من عطاياها لى ، كتبا وكشاكيل ، وأقلاما وملابس ، والأخرى أخبرها بعكس ما أخبرت به عزيمتها ، فتكثر من عطاياها لى ، عرفت كيف تكون لحكاياتى ثمن ؟! .. وأصبح على أن أدافع عنها ، فهى تعطينى نوعا من الوجاهة والتميز ، وتدر على دخلا ، ومصدر رزقى ، ومدرس اللغة العربية و التربية الدينية يمثل خطرا لى وعلى ، فيقول للبنات بغير ما أقول .. أحيانا أجدنى لا إراديا ، أقف فى الحصة معترضة ، ومحتدة على ما يقوله ، فيبتسم ، تغيظنى ابتسامته ، وثقته وهدوءه ، أشعر به يعرينى ، ويسفه من أفكارى ، وحكاياتى للبنات .
تطفر الدموع من عينى ، وأنا أقرأ فى كلماته – تلميحا لحياتى مع الأموات ، ونشأتى فى هذه البيئة ، كرهته . نعم كرهته. وزادت كراهيتى له عندما حفرت أصابعه خطوطا على خدى وقال علنا : بأن بنت التربى ستفسد البنات !
” تتحسس خدها ” ، ” يبادر بصب كأس لها “
ـ أول يد تصفعنى ، ابتلعت غيظى ، وأقسمت ألا أعود إلى المدرسة ، وظللت يومين أو أكثر منقطعة عن المدرسة ،حتى زارتنى بعض زميلاتى ، أول مرة يزورنى أحد ، وأول مرة أخجل من غرفة واحدة هى مسكننا ، وحصيرة متآكلة مفروشة ، على أرضيتها ، ولحاف متسخ مثقوب تخرج منه قطع القطن ، و” حِرام ” من الصوف ، الخشن متهرئ ، وبعض أطباق وحلل صدئة ، ووابور جاز، وقلة ماء هى كل متاعنا ، ورجل ضرير ، بالى الثوب ، صامت دائما ، عايرنى به فى المدرسة فى الفصل أمام البنات ، وامرأة عجفاء ، ناحلة ، وطويلة ، تخرج مع أول ضوء للنهار ولا تعود إلا فى منتصف الليل معها الزاد والزواد .
ولأول مرة أشعر بالفارق ، بالمسافة الواسعة بينى وبينهن ، أخذنني من يدي ، وسرن بي بعيدا عن الغرفة الرطبة والنصف مظلمة ، وجلسنا هناك فى ظلال شجرة عند أحد المقابر .
قلن : ولا يهمك يا بنت .. نحن نعلم أنه يغار منك ، لأن حكاياتك أكثر تشويقا وإمتاعا ، تتسلل إلى القلب ، وتدغدغ النفس وتلهب الخيال ، أما هو فحكاياته باردة ، والأحاديث التى يوردها مأخوذة عن فلان .. عن علان .. عشرات العنعنة ، أما أنت ، فتأخذين منهم حكاياتك مباشرة ، تلقى فى روعك ، إنهم يثقون فيك ، يبوحون لك بأسرارهم ، يوقفونك على أحوالهم ، أحيانا يأتى الميت لمن يحب فى المنام ، ويوصيه وصية أو يطلب منه طلبا أو يخبره بأمر أو يسر له بسر ، وأنت هنا ، تعيشين بينهم ..
” وتضحك ، يناولها كأساُ “
ـ أخرجت إحداهن كتاباً كانت قد دسته فى حقيبتها ، لأول مرة أرى كتابا غير كتب وزارة التعليم ، كتابا أكثر أناقة وأكثر فخامة ، قلبت الكتاب بين يديها وقالت : هذا الكتاب يتحدث مؤلفه ، وهو بالمناسبة رجل مشهور – عن الأرواح والأشباح والجن والعفاريت والأموات !
وراحت تقرأ من الكتاب بعض الحكايات – كانت قد خطت تحته بالقلم ، تتفق فى مضمونها ، وفى معظم تفاصيلها مع ما أحكيه لهن ، الفارق هو اللغة الأنيقة ،والساحرة التى يكتب بها،وتناولت منها الكتاب بفرح،واستأذنتها فى استعارته كنت أتعجل انصرافهن حتى أخلو بالكتاب ، وانفردت به بعد انصرافهن ولم أقم ، إلا بعد أن أتيت عليه جملة ، التهمته كلمة ،كلمة،وسطرا ، سطرا..رد لى هذا الكتاب اعتباري ، وحضنته ،وقبلته ،وقبلت صورة مؤلفه الوسيم على ظهر الغلاف ، وفى الصباح ، ذهبت إلى المدرسة ، وقد أعاد لى هذا المؤلف المشهور كبريائى أمام هذا المدرس المغرور والمغمور ، وقلت للبنات بزهو وأنا أقرأ لهن صفحات من الكتاب : احكمن أنتن ، ومن الذى يوثق فيه ، هذا المدرس المغمور ، الذى لا يعرفه أحد أم هذا المؤلف المشهور الذى تعرفه الدنيا كلها.
وانحزن إلى المؤلف المشهور ، وبالطبع انحزن لى ، وأعدت الكتاب لزميلتى التى أخذته من مكتبة أخيها لتعيده ، ورجوتها أن تبحث لى عن كتب أخرى لهذا المؤلف ، وفاجأتنى فى اليوم التالى بكتابين آخرين له ، وسعدت بهما سعادة لا توصف ، ومن يومها عرفت القراءة ، وأحببتها ، وأدمنتها ، وهذا الكاتب – بنى إمبراطوريته من حكايات تشبه حكاياتى ، ورحت أوثق صلتى بالأموات ، أجلس أمام مقابرهم – فى أوقات متفرقة من الليل والنهار ، أتصنت على قبورهم ، أرهف السمع وأدقق النظر ، أعيش بالكلية معهم ، ومع حكاياتهم التى تتناثر من أفواه المشيعين والزوار ، صرت أسمع نحيبهم وضحكهم ، أنينهم ونجواهم ، يخرجون .. نعم .. أراهم يخرجون ، ويمرقون بسرعة تفوق سرعة الريح ، وبعضهم يومض كالبرق الخاطف ، كالشهب ، دربت أذني على سماع دبة النملة ، وعيني على رؤية كف يدي فى الظلام ، وأنقى على الشم دون أخذ الشهيق ، خففت جسدى بالامتناع عن الأكل والصوم لفترات طويلة ، حتى دق ، ورق ، وشف ، وصرت من النحافة ، بحيث تذرونى الرياح ، فى الليل تستطيل أذناى وأشعر بها وأنا أستعيد صورتي في ذلك الزمان ـ كأنهما طبقان هوائيان مثل تلك الأطباق التي تملأ الآن أسطح عمارات القاهرة ، ويتمدد أنفي ويصبح بطول ذراع ، وتستدير العينان ، وتتسع الحدقتان ، وانشغلت بها لفترات طويلة عن كل ما حولي ، عالم غريب وعجيب ولجته ، وعشته ، كل قبر دخلته ، أتحول إلي عينين كبيرتين أو أتحول إلي أذنين ، أتعذب بما أري وبما أسمع ، قصص مثيره وعجيبة ، تجاوزت حدود العقل ، وفاقت الخيال .
[ كانت تتحدث ، وجسدها كله ينتفض ]
[ الناقد ناظرا لها ، مأخوذا ومذهولا ، بالرعشة العنيفة التي ترج السرير ]
” مد يده إلى جبينها ، غاصت يده في عرق مالح ، وكأنها محمومة ، راحت تهذي ، تذكر أسماء غريبة ، ومصطلحات لم يسمع بها من قبل ، وتحول لسانها فجأة إلي لغة . ليست بالعربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية ولا الفارسية ولا الألمانية ، ولا أي لغة يعرفها ، قال في نفسه : لابد أنها لغة …. ، ارتعدت فرائصه ، أخذ يهزها بعنف ، هزت رأسها ، فتحت عينها ، دعكتهما بيديها ، وقالت :
ـ دكتور ! .. أنا تعبانه يا دكتور
[ يمد يده ، يربت علي كتفها ، يصب لها كأسا ، تدفعه في جوفها دفعه واحدة ]
ـ هل يمكن أن تجد لي علاجا يا دكتور ؟! ..
” هو قائلا في نفسه : ماذا تظنني ؟! “
= شهورا انقضت يا دكتور ولا أمل في الشفاء ، مرتين في الأسبوع ،
وأحيانا ثلاث مرات ، أتردد علي عيادتك .. قالوا أنك أفضل طبيب للأمراض العصبية والنفسية في مصر ، صارحني ، صارحني يا دكتور
هو ” في نفسه ” :
= طبيب ،طبيب نفسي ، لا بأس !
هو ” متقمصا دور الطبيب النفسي “
هي :
ـ لا أدري يا دكتور ـ لماذا يقفز إليّ ، من هوة سحيقة في أعماقي ، يبدأ بحجم القزم ، يتنطط أمام عيني ، ويتنامي شيئا فشيئا حتى يصبح عملاقا يقطع علي الطريق ، ويسد كل منافذ الرؤية ، شبحا أسود قاتما رهيبا ، يقلق مضجعي ، ويعكر صفو تفكيري وحياتي ، يصارعني وأصارعه ، في النوم وفي اليقظة
هو :
= ومنذ متي يأتيك هذا الشبح ؟!
هى :
ـ تحديدا منذ أن مات بهاء !
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى ملامحه ؟
هى :
ـ أصوات تتعارك ، وتتصايح ، لا أتبين لها ملامح ، تتداخل ، وتنمو ، وتكبر ، شيئا فشيئا ، وتصير شبحا واحدا ، عملاقا ورهيبا ، يجثم فوق صدرى ويكاد يزهق روحى .
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى من أين تأتى هذه الأشباح الصغيرة قبل أن تتحد فى شكل واحد ؟
هى :
ـ من فوهة قبر !.. من مشرحة فى مستشفى !.. وربما لقمة فى حنك أرملة تصير شبحا .. أو جنيها فى جيب موظف .. أو .. أو ..
هو :
= استرخى أكثر .. وارجعى إلى القبر .
هى :
ـ القبر .. القبر لا يفارقنى .
هو ” متخابثا ” :
= هل تعرفين القبر ؟
هى :
ـ أعرفه ؟ نعم أعرفه .. لا أحد يعرفه مثلى .. إنه يسكننى وأسكنه .
هو :
= أتخافين عذابه ؟
هى :
ـ ليس فيه عذاب .
هو :
= وما أدراك أن ليس فيه عقاب ؟
هى :
ـ كنت أعيش فى المقابر ، لم أر الثعبان الأقرع ، ولم أسمع طقطقة العظام ولا اختلاف الأضلاع ، ولا رأيت ملائكة العذاب ولا حتى ملائكة الرحمة .
هو :
= ما دينك ؟
هى :
ـ دينى ؟! ” لحظة صمت “
هو :
= لا بأس . هل تستطيعين أن تتذكرى تاريخ ميلادك ؟
هى :
ـ ميلادى !
[ لحظة صمت ]
ـ ميلادى الحقيقى – مع قرار الانفتاح الذى اتخذه الرئيس السادات
هو :
= والسنوات التى قبلها .
هى :
ـ الانفتاح يجب ما قبله !
هو :
= أهجرة جديدة إذن ؟!
” تفرط يدها ، وبصوت مرتفع “
هى :
ـ نعم .. بزغ عصر جديد ، ودين جديد .
هو :
= ودخلت فى الدين الجديد ، والعصر الجديد ؟
هى :
ـ نعم .. كنا من الطلائع !
هو :
= الطلائع ؟!
هى :
ـ نعم .. فلكل دين طلائع ومبشرين .
هو :
= وكيف دخلت هذا الدين الجديد .
هى :
ـ زارني لأول مرة .
هو :
= من ..؟
هى :
ـ بهاء .
هو :
= زوجك ؟
هى :
ـ نعم ، كان يكبرنى بثلاثة أعوام ، تعرفت عليه فى كلية التجارة ، قابلته لأول مرة فى مبنى شئون الطلبة ، كنت أسأل عن استمارات الإعانة الاجتماعية ، ساعدنى ، وسهل لى مأموريتي ، سرعان ما تصادقنا ، وتحاببنا ، كنت مبهورة بثقافته ، فمع الناصريين كان يعرف عن ناصر وثورته أكثر من الناصريين ، ومع الشيوعيين يعرف عن ماركس ولينين والثورة البلشفية أكثر مما يعرفون ، ومع الإسلاميين ، يعرف عن حسن البنا وسيد قطب والإخوان أكثر مما يعرفون ، ولأن الناس على دين ملوكهم .. اختار الملك !
وزارنى لأول مرة ، فالقرية التي يعيش فيها لا تبعد عن القرية أو المقابر التي نعيش فيها غير بضعة كيلو مترات ، فاجأني ، وأسعدني بزيارته ، جلسنا بجوار مقبرة وقال : ـ اسمعي يا هنومة ،
هو :
= أكان اسمك هنومة ؟
هى :
ـ نعم .. كان اسمي ” هنومة ” واستبدلته بنجوى وكانت أمي تدعى على ألسنة الناس بشيتا وكان إسمه ” شرخبيل ” واستبدله ببهاء ، وكما غادرنا إسمينا ، غادرنا قريتنا ، والمحافظة كلها ، وسرنا بإسمينا الجديدين إلى محافظة أخرى بعيدة نبدأ فيها من جديد !
قال لى : لا اشتراكية ، ولا شيوعية ، ولا ناصرية بعد اليوم .
قلت : كيف ؟
قال : الرئيس سيفتح المنافذ .
قلت : إمبريالية أم رأسمالية ؟
قال : إمبريالية ، رأسمالية ، لا يهم !.. المهم أن الرياح ستأتى من الغرب ، وهذه فرصتنا !
قلت : كيف ؟
قال : دائما – تكون هناك قرارات مصيرية فى حياة كل مجتمع ، قرارات – تحول المجتمع مائة وثمانون درجة ، المهم من يكون مؤهلا لاستقبال هذه القرارات ، واحتضانها ، والاستفادة منها . ” وأضاف “
منذ عام 1952م والمجتمع المصرى معبأ بشعارات ، وأحلام ، وحدة عربية ، قومية عربية ، ثوار يا عرب ثوار ، أمجاد يا عرب أمجاد ..
من الصعب أن يتقبل الشعب المصرى هذه القرارات ، أو يتحول بين عشية وضحاها ، قد تحتاج معظم شرائح المجتمع إلى وقت أطول ، كل حسب قناعته وإيمانه بمبادئه ، والتخلص من ناصر صعب ويحتاج إلى وقت ، فتحول المبادئ وإحلال القناعات ، مبدأ بمبدأ وقناعة بقناعة يحتاج إلى زمن ، ونحن مقبلون على قرار ، سيتحول فيه المجتمع من الضد إلى الضد ، وحتى يستقر النظام الجديد ، سيحتاج إلى وقت ، وقد تكون هناك حالات ارتباك ، وهنا فرصتنا !
قلت وأنا مبهورة بتطلعاته وتحليلاته :
ولكن ما هى بشائر هذا الانفتاح ، وكيف نتعامل معه ، وما الأدوات التى سنستخدمها ، كنت أقصد الآليات التى نتعامل بها مع النظام الجديد .
قال : أنا لا أكف عن المتابعة ، والقراءة ، والبحث . فى الدول التى تحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالى إلى النظام الديمقراطى ، إلى الاقتصاد الحر ..
قلت : إذن سنجعل النموذج الغربى نبراسا لنا .
قال : أمامنا وقت طويل حتى نصل إلى النموذج الغربى ، فالنموذج الغربى نضج وإكتمل واستقر . أما هنا فالأمر يختلف .
قلت : ولماذا لا تكون المسالة كلها لا تعدو أن تكون مناورة سياسية .
قال : لا أظن ، فالمسألة تبدو لي عند الرئيس ، مسألة قناعة ، ومنذ أن طرد الخبراء الروس وقام على الناصريين فى مايو ، وأنا أرى فى أفق خياله وفى مرامى كلماته البعيدة بذرة التحول ، وعندما وافق على وقف إطلاق النار فى 1973 م ، وزار إسرائيل ، وعقد الصلح ، خرج الأمر من حيز الظن إلى حيز اليقين ، وها هو الأمر يتحقق بقرار الانفتاح السعيد ، السعيد علينا ، ” ونظر إلى مبتسما “
والسعيد على أولادنا !
فرحة قلت : أولادنا !
قال وهو يداعب وجنتيّ : نعم أولادنا .. هل عندك شك ؟
وسرقنا الوقت ، وسرقتنا الأحلام ، ودخل الليل ، ولم نشعر بالبرد إلا عندما برقت الدنيا ورعدت ، وهطلت بالمطر…
أسرعنا بالدخول إلى المقبرة ، نحتمى بها من العواصف والأمطار .
فى ظلام القبر ، جلسنا القرفصاء ، نرتعد ، التصق بي ، والتصقت به ، كل منا ينشد الدفء فى الآخر ، ورحنا نلتصق أكثر . وكانت تلك الليلة الأولى التى أسلمه فيها جسدى .
ولا أدرى لماذا بعد سنوات ، رحت أربط بين الانفتاح هنا والانفتاح هناك !!
http://www.facebook.com/sharer.php?u=https://thakafamag.com/?p=46856
” يزيح الستارة التى تفصل غرفة المكتب عن الغرفة الأخرى ويدعوها لتتناول معه مشروبا “
هو ” واضعا يده على بطنه :
= أنا مدين لك بهذا العشاء الفاخر والشهى ، امتلأت بطنى عن أخرها وكأنى لم آكل من قبل !
هى :
ـ بالهناء والشفاء .
” مخرجا زجاجة خمرة من الثلاجة “
هو :
= أتتناولين معى كأسا ؟
هى :
ـ لا بأس . قليل منه يشفى .
” يصب فى كأسين ، يناولها كأسا ، ويتناول كأسا .. قائلا فى صحتك !
” تصب كأسا أخرى له ، وكأسا لها ، تقرع كأسها فى كأسه ، قائلة فى صحتك ! “
” يضحكان ، ويجلسان على أريكة وثيرة بجوار السرير “
هو : ” موزعا نظره بينها وبين السرير “
= هذا السرير ..
هى :
ـ ماذا به ؟!
هو ” وهو يدفع بجوفه ما تبقى فى الكأس “
= شهد معارك عنيفة !
هى ” ناظرة له بجانب من عينها “
ـ يبدو أن مفعول الخمر ظهر! ، أعرف أنك داهية !
هو ” مدعيا أنه مخمور ” :
= تمددت عليه برنسيسات ، وأميرات ، ” ضاحكا ” .. ، وخادمات ، ها ها.. ثيبات وأبكار ، مصريات ، عربيات ، أفريقيات ، أوروبيات ،..
هى ” ضاحكة ضحكة ممطوطة ” :
ـ يخرب بيتك يا دكتور ،كل هؤلاء قدرت عليهن!! ناولنى كأسا ليلتك ” للصبح “
هو “مصفقا بيده “:
= أيوه كده ، اشرب ، قربع ياجميل ؟!
” متماديا فى تمثيل الدور ، ومخرجا من الدولاب ، ملبوسات داخلية أنيقة وجميلة ، ومثيرة ، مختلفة أحجامها ، وأشكالها ، وألوانها ، يفردها أمامها ويمسك قميص تلو قميص ..
= هذا القميص ” ويشم رائحته ” ، لزنجية ، وهذا القميص لخليجية ، وهذا ” ويقربه من أنفه ” : مازالت رائحتها فيه ، عرقها أشتمه عطرا ، تخللت أنوثتها نسيجه وصارت من مكوناته .
وهذا القميص ! ” يحتضنه ويشرد قليلا .. “
= كانت ليلة !
= لا أعتقد أن قضى مثلها واحد من خلفاء أمية أو حتى من بنى العباس
هي ” والخمر تدور في رأسها ” :
ـ وكيف تعرفت عليهن ؟ !
هو ” مقتربا منها ، وواضعا يده علي كتفها ” :
= أقول لك ، شوفي يا ستي ، بعضهن يأتين ليدرسن الأدب العربي ، أو ليحصلن علي الماجستير والدكتوراه ، ولكل شيء ثمنه ! ، ومن يأتين أيضا طالبات للشهرة ، فمصر كما تعلمين هي جواز المرور للشهرة ، والأدب مثل الفن وغيره ، تحتكره مصر ، هل سمعت مثلا عن مطربه أو ممثله أو حتى راقصة حققت شهره إلا من خلال اعتمادها في مصر !
هي ” ضاحكة ” :
ـ وما أكثر اللواتي اعتمدن في مصر
هو “ضاحكا ” :
= والعبد لله هو الذي يعتمد الأديبات اللائى يفدن إلي مصر !
هى ” ضاحكة ” :
ـ هنا .. على هذا السرير !
هو :
= على هذا السرير ، وكل من دخلن هذه الغرفة اعتمدن ! وأصبحن نجمات يملان سماء دنيا الثقافة والأدب .
هى ” متطوحة ” : وهل مازلن يذكرنك ؟
هو ” متطوحا ” : أحيانا ! ، و” شاردا” ..
= غالبا ما يأخذهن الحنين ، ويأتين .
قد أفاجأ بواحدة منهن أحيانا ، تأتى ، بعد مرور سنوات فى محاولة منها لاستعادة الماضى والذكريات .
هى ” وهى تدفع بآخر رشفة فى قاع الكأس فى جوفها “
ـ وتعتمدها من جديد !
هو ” وهو يصب كأسا جديدة “:
= نعم .. واعتمادها هذه المرة يكون أوقع وأمتع وألذ ، فانتفت المصلحة !
هى ” وهى تتناول منه كأسا ” :
ـ ” هى دى مصر !”
هو ” ضاحكا ” :
= من ذقن حلاوتها لا ينسينها أبداُ ، ويعاودهن الحنين بين الفينة والأخرى .
هى ” تناوله كأساُ ” :
ـ صب لى كأسا ، فمازال فى عقلى نبض ، أريد أن يتوقف !
هو ” يصب لها كأسا وله كأسا ” :
[ لحظة صمت ]
” يدير جهاز التسجيل تنبعث منه موسيقى ، هادئة ، ناعمة .. “
هو ” قاطعا الصمت ” :
= لماذا لا تفضفضين ؟!
هى :
ـ فيما أفضفض ؟!
هو :
= تطلعيني على السر أو الأسرار التى تدفنينها فى أعمق أعماقك .
هى :
ـ أى سر وأي أسرار تقصد ؟
هو:
= ما خفى عنى ، وعن كل الناس .
هى :
ـ ليس عندى ما أخفيه ؟
هو :
= بحثت عنك فى قصصك ولم أجدك .
هى :
ـ كيف تجدنى ، وأنا لا أكتب سيرة ذاتية .
هو :
= الكاتب مبثوث بطريقة أو بأخرى فى أعماله ، وأستطيع بحكم دراستى ، وخبرتى ، أن أستخرج الكاتب بسهولة من أعماله .
كل من قرأت له ، حددت ملامحه العامة والخاصة ، وطرائق تفكيره ،وأسلوب حياته ، ومزاجه النفسى و ..
” يوقف جهاز التسجيل ، يفر فى أشرطة أمامه ، ينتقى شريطا ، يضعه فى جهاز التسجيل ، يديره ، تنبث موسيقى أكثر نعومة ، و… يقلل كمية الضوء ، بالكاد تنير الغرفة “
هى : ” تسترخى ” تغمض عينها :
هو :
= لما لا تتمددي على هذا السرير ، وتتحررى ..
هى ” سابحة مع الموسيقى ” :
ـ تريدنى أن أتحرر من ملابسى ! وأصير مثل صديقاتك . مجرد قميص نوم شفاف ، أترك لك فيه رائحتى ، ذكرى لليلة الجميلة أو حتى ليلة خائبة . ويأخذ رقماً ، ويدون عليه تاريخ الليلة ، ويدس فى الدولاب مع غيره من القمصان .
هو ” مقتربا منها وواضعا يده على كتفها ” :
= صدقينى . لم أقصد هذا التحرر ، لكنى أقصد التحرر من الداخل .. تطلعينى على صفحات نفسك المطوية .
من فضلك ، وبنعومة :
ـ هذا السرير . [ يبسط لها يده ، تقرأ فى عينيه رجاء ، تمد له يدها ، شئ خفى يدفعها للنهوض ، مغمضة العينين تسير وكأنها مغيبة ، يتناول يدها برفق ، تخلع حذائها الأبيض ، تصعد إلى السرير ، تحت تأثير الخمر والموسيقى ، وسحر كلامه ، تستلق ]
هو :
= أصغى إلى الموسيقى ، وانظري إلى اللوحات المعلقة على الجدار ، أو أغمض عينيك ، وانظري إلى داخلك ، واسمعيني نبضات قلبك ، وأصداء نفسك ، ولا بأس من كأس تلو كأس ، فالخمر تغيب العقل الذى يحد من الفضفضة ، كلنا بحاجة إلى البوح ، بوحى ؟!.. اشربي حتى الثمالة ، لتخرجى كل المدفون – هناك فى القاع وفى الأغوار ، وتأكدى ، تأكدى أنك لو غبت تماما عن الوعى ، فجسدك فى مأمن.
هى ” مغمضة العينين ” :
ـ نعم .. أحتاج للفضفضة .
هو ” بصوت ناعم ودافئ ” :
= بوحى ؟! .. اتركي نفسك على سجيتها ، لا تقفى فى طريقها ، غيبى العقل أو نحيه جانبا .
هى :
ـ أراني !
هو :
= ماذا ترين ؟
هى :
ـ أراني فى حجرة صغيرة ملحقة بمسجد صغير بجوار مقابر القرية
هو ” مندهشا ” :
= استرسلي ، بوحى .. ؟ .. بوحى ؟! .. بوحى ؟! .
هى :
ـ كنت أحبو بين المقابر .
ويُحكى أن أمي ، كانت تأتى أخر الليل عندما تعود من العمل فى الغيطان أو فى دور الموسرين . تجدنى قد دخلت قبراُ مفتوحاُ ، وغلبنى النعاس ونمت فيه .
وكان أبى كفيفاُ ، حفظ فى طفولته بعض سور القرآن ، كانت كفيلة بأن يوكل إليه الرجل الثرى الذى بنى المسجد – بإقامة الصلاة على وقتها ، وبالصلاة على الميت ، والقراءة عليه ، نظير أجر ، وحراسة المقابر .
” يبدل شريط الموسيقى ، بشريط أخر، تنبعث منه موسيقى أكثر شجناُ .
ـ أذكر أن أبى كثيرا ما كان يقيم الصلاة ، ويصلى بمفرده ، فلم يكن للمسجد من رواد ، إلا عابر سبيل ، ونادرا ما يطرق هذا الطريق عابر .
أحيانا ، أحيانا قليلة ، يرتاد المسجد بعض من يعملون فى الغيطان حينما يريدون قضاء الحاجة أو الهروب من الشمس وقت الظهيرة !
[صدى صوته يتردد فى أركان الحجرة .. بوحى ؟!.. بوحى ؟!.. بوحى ؟! .. ب..و..ح..ى.. ح.. ى..ى..ى …. ]
ـ قـُدر لنا أن نعيش مع الأموات ، فالمسافة بيننا وبين القرية ، تزيد عن الثلاثة كيلومترات .
هناك على طريق غير مأهول ، على أرض كانت فى الزمن البعيد تنكر الزرع ، أقاموا مقابرهم ، كنت أفرح بكل ميت جديد ، فهو بالنسبة لنا فلوسا ، تدس فى يد أبى خفية وجهرا ، أو فى جيبه نظير قراءته ، ولحوما وفاكهة تملأ حجر أمي ، وحكايات النساء عن المتوفى ، زوجته أو أمه ، أخته ، وعمته ، خالته وجارته .
على صغرى كنت أندس بينهن ، وأصغى لحكايتهن عنه ، أعرف تفاصيل حياته ، وأقف على أفعاله ، أعرف الأموات واحدا واحدا ، الشرير والطيب ، الكريم والبخيل ، النبيل واللئيم ، المريض والسليم ، البدين والنحيف ، الجميل والدميم . كنت أعجب بهذا ، وأبغض ذاك .
” وتضحك ضحكا متواصلا لدقائق ، يناولها كأسا ، تتجرعه دفعة واحدة “
ـ أول حب فى حياتى ، كان لواحد ميت . تصور !
اقتحمنى من خلال حكايات أمه وأخته وابنة عمه عنه . اللائى رحن يعدون محاسنه ومآثره ، وينعين جماله وشبابه ، ومن الصدف – كان اسمه يوسف ، واقترن فى ذهنى بيوسف الصديق ، وظللت لأيام أراوده فى نومى عن نفسه !
” وتضحك ، فيناولها كأسا “
ـ فى المدرسة . كنت أجتذب البنات بحكاياتى ، وخيالاتى ، وشطحاتى ، كنت أجذبهن لى ، بل كن يسعين إلى ويخطبن ودى ، ويتمنين لو أظل أحكي لهن طوال العمر ، وكم تكون سعادتهن عندما يتغيب مدرس أو يعتذر عن الحصة ! يتحلقن حولى ، وأنا كل يوم أصنع حكاية جديدة ، فالمدد عندى لا ينفد ، شهرزاد حكت ألف حكاية وأنا حكيت ألف ألف حكاية . حكايات الأموات ، والأحياء .
الأموات الذين يتعاركون ويتصايحون فى الليل ! الذين يخرجون من مقابرهم ، ويحكون لى عن حياتهم الخاصة ، فهم لا يظهرون إلا لى ، ثقة منهم فى ” هئ هئ هئ هئ ” هل فعلا يتصايحون ويتعاركون ؟! .. هل فعلاً يخرجون ؟! .. هل حقا يثقون بي ؟!.. هئ هئ .. هئ ….
من تطلب مني أن أحكي لها عن أبيها ، ومن تطلب منى أن أحكي لها عن أمها أو أخيها ، هذه تسألنى عن عمتها أو خالتها ، وتلك تسألنى عن حبيبها الذى اختطفه الموت ..!
كيف يعيشون ، وماذا يأكلون ؟ وماذا يلبسون ؟ .. عشرات الأسئلة تحتاج إلى إجابات .. عرفت كيف أستقطبهن ، وكيف أستثمرهن . أحكي لهذه همسا بأن أبيها فى الجنة ، وأن أبو البنت التى لا تحبها فى النار ، .. وأطلب منها ألا تخبرها ، فتفرح بما أسررته لها ، فتزيد من عطاياها لى ، كتبا وكشاكيل ، وأقلاما وملابس ، والأخرى أخبرها بعكس ما أخبرت به عزيمتها ، فتكثر من عطاياها لى ، عرفت كيف تكون لحكاياتى ثمن ؟! .. وأصبح على أن أدافع عنها ، فهى تعطينى نوعا من الوجاهة والتميز ، وتدر على دخلا ، ومصدر رزقى ، ومدرس اللغة العربية و التربية الدينية يمثل خطرا لى وعلى ، فيقول للبنات بغير ما أقول .. أحيانا أجدنى لا إراديا ، أقف فى الحصة معترضة ، ومحتدة على ما يقوله ، فيبتسم ، تغيظنى ابتسامته ، وثقته وهدوءه ، أشعر به يعرينى ، ويسفه من أفكارى ، وحكاياتى للبنات .
تطفر الدموع من عينى ، وأنا أقرأ فى كلماته – تلميحا لحياتى مع الأموات ، ونشأتى فى هذه البيئة ، كرهته . نعم كرهته. وزادت كراهيتى له عندما حفرت أصابعه خطوطا على خدى وقال علنا : بأن بنت التربى ستفسد البنات !
” تتحسس خدها ” ، ” يبادر بصب كأس لها “
ـ أول يد تصفعنى ، ابتلعت غيظى ، وأقسمت ألا أعود إلى المدرسة ، وظللت يومين أو أكثر منقطعة عن المدرسة ،حتى زارتنى بعض زميلاتى ، أول مرة يزورنى أحد ، وأول مرة أخجل من غرفة واحدة هى مسكننا ، وحصيرة متآكلة مفروشة ، على أرضيتها ، ولحاف متسخ مثقوب تخرج منه قطع القطن ، و” حِرام ” من الصوف ، الخشن متهرئ ، وبعض أطباق وحلل صدئة ، ووابور جاز، وقلة ماء هى كل متاعنا ، ورجل ضرير ، بالى الثوب ، صامت دائما ، عايرنى به فى المدرسة فى الفصل أمام البنات ، وامرأة عجفاء ، ناحلة ، وطويلة ، تخرج مع أول ضوء للنهار ولا تعود إلا فى منتصف الليل معها الزاد والزواد .
ولأول مرة أشعر بالفارق ، بالمسافة الواسعة بينى وبينهن ، أخذنني من يدي ، وسرن بي بعيدا عن الغرفة الرطبة والنصف مظلمة ، وجلسنا هناك فى ظلال شجرة عند أحد المقابر .
قلن : ولا يهمك يا بنت .. نحن نعلم أنه يغار منك ، لأن حكاياتك أكثر تشويقا وإمتاعا ، تتسلل إلى القلب ، وتدغدغ النفس وتلهب الخيال ، أما هو فحكاياته باردة ، والأحاديث التى يوردها مأخوذة عن فلان .. عن علان .. عشرات العنعنة ، أما أنت ، فتأخذين منهم حكاياتك مباشرة ، تلقى فى روعك ، إنهم يثقون فيك ، يبوحون لك بأسرارهم ، يوقفونك على أحوالهم ، أحيانا يأتى الميت لمن يحب فى المنام ، ويوصيه وصية أو يطلب منه طلبا أو يخبره بأمر أو يسر له بسر ، وأنت هنا ، تعيشين بينهم ..
” وتضحك ، يناولها كأساُ “
ـ أخرجت إحداهن كتاباً كانت قد دسته فى حقيبتها ، لأول مرة أرى كتابا غير كتب وزارة التعليم ، كتابا أكثر أناقة وأكثر فخامة ، قلبت الكتاب بين يديها وقالت : هذا الكتاب يتحدث مؤلفه ، وهو بالمناسبة رجل مشهور – عن الأرواح والأشباح والجن والعفاريت والأموات !
وراحت تقرأ من الكتاب بعض الحكايات – كانت قد خطت تحته بالقلم ، تتفق فى مضمونها ، وفى معظم تفاصيلها مع ما أحكيه لهن ، الفارق هو اللغة الأنيقة ،والساحرة التى يكتب بها،وتناولت منها الكتاب بفرح،واستأذنتها فى استعارته كنت أتعجل انصرافهن حتى أخلو بالكتاب ، وانفردت به بعد انصرافهن ولم أقم ، إلا بعد أن أتيت عليه جملة ، التهمته كلمة ،كلمة،وسطرا ، سطرا..رد لى هذا الكتاب اعتباري ، وحضنته ،وقبلته ،وقبلت صورة مؤلفه الوسيم على ظهر الغلاف ، وفى الصباح ، ذهبت إلى المدرسة ، وقد أعاد لى هذا المؤلف المشهور كبريائى أمام هذا المدرس المغرور والمغمور ، وقلت للبنات بزهو وأنا أقرأ لهن صفحات من الكتاب : احكمن أنتن ، ومن الذى يوثق فيه ، هذا المدرس المغمور ، الذى لا يعرفه أحد أم هذا المؤلف المشهور الذى تعرفه الدنيا كلها.
وانحزن إلى المؤلف المشهور ، وبالطبع انحزن لى ، وأعدت الكتاب لزميلتى التى أخذته من مكتبة أخيها لتعيده ، ورجوتها أن تبحث لى عن كتب أخرى لهذا المؤلف ، وفاجأتنى فى اليوم التالى بكتابين آخرين له ، وسعدت بهما سعادة لا توصف ، ومن يومها عرفت القراءة ، وأحببتها ، وأدمنتها ، وهذا الكاتب – بنى إمبراطوريته من حكايات تشبه حكاياتى ، ورحت أوثق صلتى بالأموات ، أجلس أمام مقابرهم – فى أوقات متفرقة من الليل والنهار ، أتصنت على قبورهم ، أرهف السمع وأدقق النظر ، أعيش بالكلية معهم ، ومع حكاياتهم التى تتناثر من أفواه المشيعين والزوار ، صرت أسمع نحيبهم وضحكهم ، أنينهم ونجواهم ، يخرجون .. نعم .. أراهم يخرجون ، ويمرقون بسرعة تفوق سرعة الريح ، وبعضهم يومض كالبرق الخاطف ، كالشهب ، دربت أذني على سماع دبة النملة ، وعيني على رؤية كف يدي فى الظلام ، وأنقى على الشم دون أخذ الشهيق ، خففت جسدى بالامتناع عن الأكل والصوم لفترات طويلة ، حتى دق ، ورق ، وشف ، وصرت من النحافة ، بحيث تذرونى الرياح ، فى الليل تستطيل أذناى وأشعر بها وأنا أستعيد صورتي في ذلك الزمان ـ كأنهما طبقان هوائيان مثل تلك الأطباق التي تملأ الآن أسطح عمارات القاهرة ، ويتمدد أنفي ويصبح بطول ذراع ، وتستدير العينان ، وتتسع الحدقتان ، وانشغلت بها لفترات طويلة عن كل ما حولي ، عالم غريب وعجيب ولجته ، وعشته ، كل قبر دخلته ، أتحول إلي عينين كبيرتين أو أتحول إلي أذنين ، أتعذب بما أري وبما أسمع ، قصص مثيره وعجيبة ، تجاوزت حدود العقل ، وفاقت الخيال .
[ كانت تتحدث ، وجسدها كله ينتفض ]
[ الناقد ناظرا لها ، مأخوذا ومذهولا ، بالرعشة العنيفة التي ترج السرير ]
” مد يده إلى جبينها ، غاصت يده في عرق مالح ، وكأنها محمومة ، راحت تهذي ، تذكر أسماء غريبة ، ومصطلحات لم يسمع بها من قبل ، وتحول لسانها فجأة إلي لغة . ليست بالعربية ولا الإنجليزية ولا الفرنسية ولا الفارسية ولا الألمانية ، ولا أي لغة يعرفها ، قال في نفسه : لابد أنها لغة …. ، ارتعدت فرائصه ، أخذ يهزها بعنف ، هزت رأسها ، فتحت عينها ، دعكتهما بيديها ، وقالت :
ـ دكتور ! .. أنا تعبانه يا دكتور
[ يمد يده ، يربت علي كتفها ، يصب لها كأسا ، تدفعه في جوفها دفعه واحدة ]
ـ هل يمكن أن تجد لي علاجا يا دكتور ؟! ..
” هو قائلا في نفسه : ماذا تظنني ؟! “
= شهورا انقضت يا دكتور ولا أمل في الشفاء ، مرتين في الأسبوع ،
وأحيانا ثلاث مرات ، أتردد علي عيادتك .. قالوا أنك أفضل طبيب للأمراض العصبية والنفسية في مصر ، صارحني ، صارحني يا دكتور
هو ” في نفسه ” :
= طبيب ،طبيب نفسي ، لا بأس !
هو ” متقمصا دور الطبيب النفسي “
هي :
ـ لا أدري يا دكتور ـ لماذا يقفز إليّ ، من هوة سحيقة في أعماقي ، يبدأ بحجم القزم ، يتنطط أمام عيني ، ويتنامي شيئا فشيئا حتى يصبح عملاقا يقطع علي الطريق ، ويسد كل منافذ الرؤية ، شبحا أسود قاتما رهيبا ، يقلق مضجعي ، ويعكر صفو تفكيري وحياتي ، يصارعني وأصارعه ، في النوم وفي اليقظة
هو :
= ومنذ متي يأتيك هذا الشبح ؟!
هى :
ـ تحديدا منذ أن مات بهاء !
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى ملامحه ؟
هى :
ـ أصوات تتعارك ، وتتصايح ، لا أتبين لها ملامح ، تتداخل ، وتنمو ، وتكبر ، شيئا فشيئا ، وتصير شبحا واحدا ، عملاقا ورهيبا ، يجثم فوق صدرى ويكاد يزهق روحى .
هو :
= هل تستطيعين أن تحددى من أين تأتى هذه الأشباح الصغيرة قبل أن تتحد فى شكل واحد ؟
هى :
ـ من فوهة قبر !.. من مشرحة فى مستشفى !.. وربما لقمة فى حنك أرملة تصير شبحا .. أو جنيها فى جيب موظف .. أو .. أو ..
هو :
= استرخى أكثر .. وارجعى إلى القبر .
هى :
ـ القبر .. القبر لا يفارقنى .
هو ” متخابثا ” :
= هل تعرفين القبر ؟
هى :
ـ أعرفه ؟ نعم أعرفه .. لا أحد يعرفه مثلى .. إنه يسكننى وأسكنه .
هو :
= أتخافين عذابه ؟
هى :
ـ ليس فيه عذاب .
هو :
= وما أدراك أن ليس فيه عقاب ؟
هى :
ـ كنت أعيش فى المقابر ، لم أر الثعبان الأقرع ، ولم أسمع طقطقة العظام ولا اختلاف الأضلاع ، ولا رأيت ملائكة العذاب ولا حتى ملائكة الرحمة .
هو :
= ما دينك ؟
هى :
ـ دينى ؟! ” لحظة صمت “
هو :
= لا بأس . هل تستطيعين أن تتذكرى تاريخ ميلادك ؟
هى :
ـ ميلادى !
[ لحظة صمت ]
ـ ميلادى الحقيقى – مع قرار الانفتاح الذى اتخذه الرئيس السادات
هو :
= والسنوات التى قبلها .
هى :
ـ الانفتاح يجب ما قبله !
هو :
= أهجرة جديدة إذن ؟!
” تفرط يدها ، وبصوت مرتفع “
هى :
ـ نعم .. بزغ عصر جديد ، ودين جديد .
هو :
= ودخلت فى الدين الجديد ، والعصر الجديد ؟
هى :
ـ نعم .. كنا من الطلائع !
هو :
= الطلائع ؟!
هى :
ـ نعم .. فلكل دين طلائع ومبشرين .
هو :
= وكيف دخلت هذا الدين الجديد .
هى :
ـ زارني لأول مرة .
هو :
= من ..؟
هى :
ـ بهاء .
هو :
= زوجك ؟
هى :
ـ نعم ، كان يكبرنى بثلاثة أعوام ، تعرفت عليه فى كلية التجارة ، قابلته لأول مرة فى مبنى شئون الطلبة ، كنت أسأل عن استمارات الإعانة الاجتماعية ، ساعدنى ، وسهل لى مأموريتي ، سرعان ما تصادقنا ، وتحاببنا ، كنت مبهورة بثقافته ، فمع الناصريين كان يعرف عن ناصر وثورته أكثر من الناصريين ، ومع الشيوعيين يعرف عن ماركس ولينين والثورة البلشفية أكثر مما يعرفون ، ومع الإسلاميين ، يعرف عن حسن البنا وسيد قطب والإخوان أكثر مما يعرفون ، ولأن الناس على دين ملوكهم .. اختار الملك !
وزارنى لأول مرة ، فالقرية التي يعيش فيها لا تبعد عن القرية أو المقابر التي نعيش فيها غير بضعة كيلو مترات ، فاجأني ، وأسعدني بزيارته ، جلسنا بجوار مقبرة وقال : ـ اسمعي يا هنومة ،
هو :
= أكان اسمك هنومة ؟
هى :
ـ نعم .. كان اسمي ” هنومة ” واستبدلته بنجوى وكانت أمي تدعى على ألسنة الناس بشيتا وكان إسمه ” شرخبيل ” واستبدله ببهاء ، وكما غادرنا إسمينا ، غادرنا قريتنا ، والمحافظة كلها ، وسرنا بإسمينا الجديدين إلى محافظة أخرى بعيدة نبدأ فيها من جديد !
قال لى : لا اشتراكية ، ولا شيوعية ، ولا ناصرية بعد اليوم .
قلت : كيف ؟
قال : الرئيس سيفتح المنافذ .
قلت : إمبريالية أم رأسمالية ؟
قال : إمبريالية ، رأسمالية ، لا يهم !.. المهم أن الرياح ستأتى من الغرب ، وهذه فرصتنا !
قلت : كيف ؟
قال : دائما – تكون هناك قرارات مصيرية فى حياة كل مجتمع ، قرارات – تحول المجتمع مائة وثمانون درجة ، المهم من يكون مؤهلا لاستقبال هذه القرارات ، واحتضانها ، والاستفادة منها . ” وأضاف “
منذ عام 1952م والمجتمع المصرى معبأ بشعارات ، وأحلام ، وحدة عربية ، قومية عربية ، ثوار يا عرب ثوار ، أمجاد يا عرب أمجاد ..
من الصعب أن يتقبل الشعب المصرى هذه القرارات ، أو يتحول بين عشية وضحاها ، قد تحتاج معظم شرائح المجتمع إلى وقت أطول ، كل حسب قناعته وإيمانه بمبادئه ، والتخلص من ناصر صعب ويحتاج إلى وقت ، فتحول المبادئ وإحلال القناعات ، مبدأ بمبدأ وقناعة بقناعة يحتاج إلى زمن ، ونحن مقبلون على قرار ، سيتحول فيه المجتمع من الضد إلى الضد ، وحتى يستقر النظام الجديد ، سيحتاج إلى وقت ، وقد تكون هناك حالات ارتباك ، وهنا فرصتنا !
قلت وأنا مبهورة بتطلعاته وتحليلاته :
ولكن ما هى بشائر هذا الانفتاح ، وكيف نتعامل معه ، وما الأدوات التى سنستخدمها ، كنت أقصد الآليات التى نتعامل بها مع النظام الجديد .
قال : أنا لا أكف عن المتابعة ، والقراءة ، والبحث . فى الدول التى تحولت من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالى إلى النظام الديمقراطى ، إلى الاقتصاد الحر ..
قلت : إذن سنجعل النموذج الغربى نبراسا لنا .
قال : أمامنا وقت طويل حتى نصل إلى النموذج الغربى ، فالنموذج الغربى نضج وإكتمل واستقر . أما هنا فالأمر يختلف .
قلت : ولماذا لا تكون المسالة كلها لا تعدو أن تكون مناورة سياسية .
قال : لا أظن ، فالمسألة تبدو لي عند الرئيس ، مسألة قناعة ، ومنذ أن طرد الخبراء الروس وقام على الناصريين فى مايو ، وأنا أرى فى أفق خياله وفى مرامى كلماته البعيدة بذرة التحول ، وعندما وافق على وقف إطلاق النار فى 1973 م ، وزار إسرائيل ، وعقد الصلح ، خرج الأمر من حيز الظن إلى حيز اليقين ، وها هو الأمر يتحقق بقرار الانفتاح السعيد ، السعيد علينا ، ” ونظر إلى مبتسما “
والسعيد على أولادنا !
فرحة قلت : أولادنا !
قال وهو يداعب وجنتيّ : نعم أولادنا .. هل عندك شك ؟
وسرقنا الوقت ، وسرقتنا الأحلام ، ودخل الليل ، ولم نشعر بالبرد إلا عندما برقت الدنيا ورعدت ، وهطلت بالمطر…
أسرعنا بالدخول إلى المقبرة ، نحتمى بها من العواصف والأمطار .
فى ظلام القبر ، جلسنا القرفصاء ، نرتعد ، التصق بي ، والتصقت به ، كل منا ينشد الدفء فى الآخر ، ورحنا نلتصق أكثر . وكانت تلك الليلة الأولى التى أسلمه فيها جسدى .
ولا أدرى لماذا بعد سنوات ، رحت أربط بين الانفتاح هنا والانفتاح هناك !!
http://www.facebook.com/sharer.php?u=https://thakafamag.com/?p=46856