إذا كان الغرضُ من المختاراتِ الشِّعريَّةِ أن تعكسَ تجسيداً للتنوُّعِ في تجربةِ الشَّاعرِ ، فإنَّ هذه النُّصوص من شعرِ عبد الأمير خليل مراد تستجيبُ - قراءةً ونقداً - لهذا الغرض ، بمعنى أنَّ موضوعاتِ القصائدِ في هذه المختارات تبدو متباينةً ، مع أنَّها تُشكِّل في سياقِها العامِّ وحدةً كليَّةً . وقد أردتُ بدايةً تسليطَ الضُّوءِ على العتباتِ المُحيطةِ بالنصِّ ، التي ضمَّنها الكاتبُ ديوانَه المنشورَ سنة ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعٍ وتسعين .
وتجدر الإشارةُ بأنَّ مصطلحَ العتباتِ (Seuils) ، هو مصطلح إشكاليٌّ في نظريةِ الأدبِ ، يرتبط بالنَّاقدِ الفرنسي جيرار جينيت (Gérard Genette) .
لن أدخلَ في جدَلٍ حول إشكاليَّاتِ هذا المصطلحِ ، غير أنَّ تلك الإحالاتِ التي جاءت خارجَ المتنِ ، صارت جزءاً من العملِ الأدبيِّ بصورتِه النِّهائيةِ المُكتملةِ ، أي العملِ الأدبيِّ بوصفه كينونةٍ ، أو بوصفهِ حالةِ وجودٍ مُكتمِلةٍ ، وحين أتحدَّثُ عنه كحالةِ وجودٍ ، فهذا يعني هنا أنَّني إزاءَ نصوصٍ تمثَّلَت في حالةِ الكتابةِ ، أو في حالةِ الطِّباعةِ ، والتَّعاملِ معها بحسبِها صورةً كتابيةً ، لا يُعفي النَّاقدَ من البحثِ في مراحلِ وجودِها السَّابقةِ عن تلك الحالةِ الكتابيَّةِ .
وهنا فإنَّنا نواجهُ إشكاليَّةً في التَّلقي ؛ فهل هناكَ فرقٌ في تلقِّي النَّصِّ الأدبي شِفاهيَّاً ، أو تلقِّيه طِباعيَّاً ؟ وهل هناك مشكلةٌ في التَّلقي من حيث قراءةِ العملِ الأدبيِّ من دون عتباتٍ أو بعتباتٍ ؟
فالصَّفحةُ المطبوعةُ تحتوي على عناصرَ كثيرةٍ خارجة عن حيِّز القصيدةِ ، كما يذهبُ أوستن وارين ، ورينيه ويليك ، فحجمُ حرفِ المطبعةِ ونوعِه ، وحجمُ الصَّفحةِ ، وبعضُ الإشاراتِ الأخرى ، قد تُؤثِّرُ في توجيهِ بِنى العملِ الأدبيِّ ومضامينِه .
وعلى العمومِ ، يمكن أن يكونَ عبدالأمير خليل مراد قد تعمَّدَ أن يُخرِجَ ديوانَه المطبوعَ بهذه الهيئة ، ويضعَ إشاراتٍ أشبه بمفهومِ النَّصِّ الموازي ؛ لتكونَ مفاتيحَ قراءةٍ لولوجِ بنيةِ القصائدِ أو النُّصوصِ . فجاءَ الديوانُ موسوماً بعنوانِ : صحيفةِ المُتلمِّس ، ثمَّ أحالنا إلى النَّفري محمد بن عبدالجبار ، وهو من أعلامِ التَّّصوُّفِ ، فوشَّى ديوانَه بعباراتٍ من كتابِ النَّفري المعروفِ ب (المواقفِ والمخاطباتِ) ، وهو كما هو معلومٌ صاحبُ عبارةِ : كلَّما اتَّسعت الرُّؤيةُ ، ضاقت العبارةُ ، كما أتى ببيتٍ للمتنبِّي :
أظمَتْنِيَ الدُّنيا فلمَّا جئتُها مُسْتَسقِياً مَطَرَتْ عليَّ مصائبا .
ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للنَّظرِ ، أنَّ الشَّاعرَ قد ضمَّنَ ديوانَه المطبوعَ ، إشاراتٍ تُخبرنا أين نُشرِت تلك القصائدُ مُنفردَةً ، وفي أيِّ الصُّحفِ ، ولا أعلمُ هنا إلى أيِّ مدى تُثيرُ هذه العلامات إشكالياتٍ في القراءةِ النَّقديَّةِ .
مشكلاتُ قراءةِ النَّصِّ الحداثيِّ :
إنَّ تلك الإشاراتِ التي تصدَّرت ديوانَ الشَّاعرِ ، لا تُساعدُ النَّاقدَ أن يعزلَ النَّصَّ عن المُبدِعِ ، فهو بتلك الإحالات قد قدَّمَ نفسَه بوصفِه متَّصِلاً بموروثِه الأدبيِّ ، والمعرفيِّ ، وهو موروثٌ انتقائيٌّ ، أي أنَّه قد اختارَ الرُّؤى المُغيِّرة في التراثِ - وتحديداً إشارته إلى النَّفري - وكأنَّه يُخبرنا بأنَّه حداثيُّ النَّزعةِ والرُّؤية ؛ كما أنَّه أشارَ إلى المتنبِّي ، والمُتنبِّي من أكثرِ الشُّعراءِ إثارةً للجدلِ ، على مستوى الرُّؤى والأفكارِ ، وكأنِّي بالشَّاعرِ يُوجِّه المُتلقِّي والنَّاقدَ أن يقرآ هذا الدِّيوان وفقَ هذه الإشارت ، باعتبارها إشاراتٍ فعَّالةٍ ، تُحيلُ إلى المحيطِ العامِّ الذي تتحرَّكُ من خلاله النُّصوص .
ولعلَّ إشارتَه إلى النَّفري ، تكفي لكي نُدركَ أنَّنا نُواجه لغةً ذاتَ رمزٍيَّةٍ عاليةٍ ، ففي نصِّه الأولِّ (احتمالات) ، نلحظُ أنَّ البِنيةَ تتكئُ على الحوارِ ، بين ذاتِ الشَّاعرِ والآخرِ ، فهذا الآخر يتجسَّدُ في ضميرِ الخطابِ ، ثمَّ نلحظُ في المقطعِ الأوَّلِ حلولَ الذَّاتِ بالآخر بقوله : أنا أنتَ .. وأنتَ أنا . ولعلَّنا لا نذهبُ بعيداً إذا ما لمحنا في هذا النَّصِّ حضورَ الخِطاب الصوفيِّ ، مع ما يحمله هذا الخِطابُ من لغةٍ مُشفَّرةٍ ، غير أنَّه في المقطعِ التاسعِ يُحيلُ المُتلقِّي إلى أبي حيَّان التوحيدي بقوله : "إذا تمنَّت نفسُكَ بقاءَ الأبدِ ، فلا تسكُن إلى أحد" ، إنَّ نقلَ هذا النَّصِّ خارج وحدةِ الأدبِ تأخذنا إلى حالةٍ من التَّعالقِ بين ذاتِ الشَّاعرِ والتوحيدي ، بفقرِه ، وحياتِه البائسةِ ، وبؤسهِ ، وتشظِّيه . فالشَّاعرُ هنا يتَّخذُ موقفاً من السُّلطةِ ، والذَّاتِ ، ويُحيلنا إلى إشارةٍ أخرى مرتبطةٍ بأبي الطَّيبِ المتنبِّي بقوله : وكلانا مأخوذٌ بحلمٍ لم ينتهِ بعد .
إنَّ تقنيَّةَ تفريغِ الشخصيَّاتِ التَّاريخيَّةِ من زمانِها ، واستدعائِها إلى الحاضرِ ، هي تقنيَّةٌ يلجأُ إليها شعراءُ قصيدةِ النَّثرِ -وهذه التِّقنيةُ لجأ إليها أدونيس في مشروعِه الشِّعري الموسومِ ب : الكتابِ - والشَّاعرُ هنا حين يستدعي تلك الشَّخصيَّاتِ ، فإنَّه يُحيلنا إلى أرشيفه الثَّقافيِّ الخاصِّ ، وتلبسُ لغتُه رداءَ الفلسفةِ والتَّصوُّفِ ، فيظهرُ قلقُه الوجوديُّ ، وإحساسُه بالعدمِ ، والعبثيَّةِ ، كما يبدو من قولِه :
خُذْنِي هذه المرَّةَ
لأُضْرمَ النارَ في جَسَدي الناحِلْ
وَلا أهمَّ بشَيءٍ لمْ ينلْه أبو الطيَّبِ المتنبي
فليسَ عِندي إلا بَقايا جُمْجمةٍ سَوداءَ
وَعِظامٌ لا يكسوها اللْحمُ
وَلكنّني رَغْمَ أفولي
أحلمُ بالقَمَرِ الذي لنْ يُضيءَ شُرْفتَنا
الليّلة
إنَّ النَّزعةَ التَّشاؤميَّةَ تتجلَّى بوضوحٍ في هذا المقطعِ ، فهو لا يملكُ أسبابَ تحقيقِ الحلمِ ، فجمجمتُه سوداء ، وهو هيكلٌ من عظامٍ لا يكسوها اللَّحم ، فالجمجمةُ السَّوداء بما تحمله من دلالةٍ ، تُشيرُ إلى ما يحمله عقلُه من رؤى وأفكار ، لا تتناسبُ مع الأيدولوجية السَّائدةِ ، فضلاً عن فقره وإحساسه بالتَّلاشي ، كلُّ هذا لا يُسعفهُ أن يُحقَّقَ أحلامَه في إحداثِ التَّغيير المطلوبِ ، وتتأكَّدُ حالتا البؤسِ ، واليأسِ اللتان تُلحَّانِ على الشَّاعرِ بقوله :
حينَ يأكلُ خاصِرَتي المِلْحُ
وتَرميني أمّي في فَضَلاتِ الشَّارعْ
وَبعدَ سِنين
تَقْذِفُني في سلَّةِ المُهْمَلات
التي يَخلو منْها شارِعُنا القَديمْ
أعْرفُ ذلكَ يا حَبيبي
لأنّني طِفلٌ لا أفقهُ كلَّ الأَشياء
وقَد أكونُ بعدَ حينٍ رجُلاً مَعْتُوهاً
وفِي يَدي برتقالةٌ
لا أعِرفُ كيَفَ أوزِّعُها
إنَّ هذا المقطعَ لا يمكن أن نفصلَه عن الواقعِ المَعِيش : اجتماعياً ، واقتصادياً ، وأيدولوجياً ، فالشَّاعرُ من خلالِ الخاصِّ يرسمُ صورةً للطبقةِ المُهمَّشةِ ، تلك الطَّبقة التي يأكلُ خواصرَها الملحُ ، وكأنَّها من فضلاتِ الشَّارعِ ، أو من سلَّةِ المُهملاتِ ، تلك السَّلةُ التي هي أشبهُ بوطنٍ لا يُنتجُ إلَّا جهلاً ، وجيلاً معتوهاً ، لا يعرفُ كيف يقتسمُ برتقالةً ، أو يوزِّع برتقالةً .
وفي المقطعِ الرابع :
حِينَ نُغادِرُ دائرةَ الاحْتِمالْ
كي نَسْكنَ في غَيْبوبَتِنا الأبديَّة
حيثُ لا لَيلى تَنْدُبُني
في عِزِّ النوَم
وَلا شَيخُ المَعَّرةِ يُقعدُني عَلى جَرِيدِ النَّخلِ السامِقْ
كيْ نَتَجاذَبَ بحِرَارةٍ
بعضَ أحاديثِ كآبتنِا المعْهودَةِ
دَعْني .....
أَيُّهَا الراكِضُ في حَدَقاتي
و كالسَّرابِ الأَبيضْ
أتملّى في الدَّوحِ المَليءِ بالأحْجارِ الكَرِيَمةِ
وأقيمُ أَعْراسي في بَعْضِ زَواياكَ
الحُبْلى بالأسرارِ العِلّية
يُشعرنا الشَّاعرُ بقسوةِ الابتعادِ والنأي ، وكيف تكونُ تلك الطَّبقة في غيبوبةٍ أبديَّةٍ ، ترنو إلى معتقداتٍ وأسرارٍ لا تُحيلُ إلَّا إلى التَّخلُّفِ . إنَّ الشَّاعرَ هنا يُقدِّمُ لغةً مُشفَّرةً ، تحفلُ بعلاماتٍ ، ووحداتٍ لغويَّةً ، تُحيلُكَ إلى الوهمِ ، كأنَّنا في بلادٍ أشبهُ بنخلةِ عرقوبٍ .
وعبد الأمير حين يتحرَّكُ في فضاء الرَّمزِ ، لا يُجسِّدُ لنا الرُّؤى ، ولا يمنحها شكلاً حيَّاً أو ملموساً وحسب ، وإنَّما يحجبُ وراءها ما يحجبُ ، فثمَّة لغةٌ أخرى خارجَ القصيدةِ ، أو خارجَ النَّصِّ ، هذه الرؤيةُ تنبعُ من تجربته حين تمرُّ تلك التَّجربةُ بوعيه ، فهي مُدركَةٌ بالحواسِّ ، ثمَّ يسعى إلى دمجِها في وعي النَّصِّ ، في إطارٍ من العبثيَّةِ واللامعقولِ ، كما يبدو من قوله في المقطع الثٌَامن من قصيدةِ احتمالات :
دَحْرجْني ما بينَ شِقُوقِ البابِ
أنا كُرةٌ ... لا
لا ... لا أدْري ... !
هلْ أهْبِطُ من تُخُومِ الأبراجِ الوَرقيَّةِ
وأغتسلُ منَ بَراءَتي ...
بماءِ الجَنّاتِ السَّبعِ
كيْ لاَ أتطايرَ كالصَدَفِ على حبّاتِ الرَّملِ
فصَدِيقي ذو العينينِ الرقيقتينِ كثيراً
والذي يَبدو طيِّعاً كالمِغْزَلْ
يُلْقي في عَباءتي بَعْضَ حِجاراتٍ
تَقْطُرُ من ماءِ سَذاجَتهِ
كي يُغرقَني بِلَطافتهِ " الرائعةِ جِداً "
وَلكنّي ..... آهٍ
لمْ أغْرُفْ من بَحْرِ سذاجتهِ " هذه "
إلاّ نَخْلةَ " عُرْقوب "
فآهٍ مِنْ نَخْلةِ " عُرقوب " التي لَنْ تأتيني
وأَنا أنَتظرُ العمْرَ .....
وَلا أدْري
إنَّ هذا العُمْرَ يا صَدِيقي
يَتَدَحْرجُ بَطيئاً على أَعتابِ السُلَّمِ
فالشَّاعرُ يتدحرجُ من بين شقوقِ البابِ ، ثم يصير وفق - مبدأ الحلولِ والاتحادِ - كرةً ، ثمَّ يُدخلكَ بفلسفةِ اللاأدرية ، وتبدو الأبراجُ ورقيَّة ، لا تستطيع أن تواجه الريح ، ثم يتطايرُ كالصُّدف ، فنلحظُ أنَّ العمرَ صار هو الآخرُ كرةً يتدحرجُ على أعتابِ السُّلم .
الشَّاعرُ هنا لا يستدعي رمزاً جاهزاً ، وإنَّما هو مَن يخلقُ رموزَه ليبلورَ رؤيته ، فالرَّمزُ هنا صار جزءاً من بنيةِ الصُّورة ، يخضع لقوانينِ التَّحولِ ، وقوانينِ الحلولِ ، وقوانينِ المجازِ .
إنَّ هذا التَّشكيلَ الشعريَّ على هذا النَّحوِ ، يجعلُ الرَّمزَ خارج الحواسِّ الظَّاهرةِ ، يخضعُ لشروطِ التَّخييلِ ، لذلك تصبحُ قيمتُه الإيحائيَّةِ خارجَ الإيقاعِ ، وخارج الأسلوبِ ، وتخضعُ لقوانينِ الوعي ، وقوانينِ التَّداعي ، فيتقنَّعُ خلف رموزِه نتيجةَ عوائقَ أيدولوجيةٍ ربَّما أو سيكولوجيَّةٍ ، أو سوسيولوجيَّةٍ ، وكأَنِّي به يثورُ على نفسِه أولاً ، وعلى المجتمعِ ثانياً .
وفي نصِّه الثاني الذي جاءَ تحت عنوانِ : سبع قصائد ، سأكتفي بقراءةِ اللوحةِ الأولى التي جاءت تحت عنوانِ : مسافة ، ولن أبحثَ في البعدِ الرَّمزي لهذا العنوانِ ، بل سأكتفي بالإشارةِ إلى أنَّ هذه المسافةَ تجعلُ الرؤيا أوضح ، وهي عندي بمثابةِ (الوقفة) عند النَّفري ، فالشَّاعرُ يستدعي هذه الفلسفةَ لتتوازى مع رؤيتِه ، ومع قلقِه الوجوديِّ ، وضبابيَّةِ المصيرِ ، فتأخذُ هذه اللَّوحةُ بُعدًا صوفيَّاً يتردَّدُ بين الاستفهامِ ، والنَّفي بقوله :
ما الذي يَصْطَفِيكَ لهذي الطَّريقْ
لا المَسَافةُ لَصْقَ الخُطَى
لا المَعابرُ تُفْضِي إلى شاطئٍ آخَرَ
وَالمَدى أبدٌ
غَيرَ أَنِّي أُجَدِّفُ في مَوْجهِ كالغَرِيقْ
فالشَّاعرُ هنا يبتكرُ رموزَه (الطَّريق ، المسافة ، المعابر ، المدى) ، وكلُّها تدورُ حول فكرةِ الخلاصِ .
وثمَّة نوعٌ آخرَ من الرُّموزِ الموروثةِ دينيَّاً أو تاريخيَّاً ، تُتيحُ للشَّاعر حريَّةً أكثر في التعبيرِ عن واقعِه ، الذي يبدو كأنَّه متجذِّرٌ في التَّاريخِ ، فعبدالأمير خليل في نصِّه إيماءاتٌ بعيدة ، يفجؤكَ بقولِه :
مُرْتَدِياً خَوْفِي
أُبْحِرُ فِي يَمِّ الكَلِماتِ .......
وَأَمْضِي
أَتَفَيّأُ كالعَاشِقِ أُرْجُوحَةَ حِلْمي
وَأَنَا بَيْنَهُما طِفلٌ
يَعْصُرُ كُلَّ صَبَاحٍ جَمْرَ السَنَواتِ
فهو منذ البدءِ يحتمي بخوفِه ، ليُعلنَ أنَّه سيخرجُ من جلدِه ، وهذا الخروجُ هو خروجٌ من تاريخِه ، وقوميَّته ، ويُظهِرُ أسبابَ هذا الخروجِ بقولِه :
وَأَنَا أَخُرُجُ مِن جِلْدِي
مَفْتُوناً بِقَمِيصِ الأَمْسِ
لكنْ حِينَ تَدَلّى الرَّأْسُ
قَالوا:
ضَيَّعهُ النادِلُ ما بَيْنَ خُطُوطِ
الكَأْسْ
إنَّ الشَّاعرَ هنا يستخدمُ رموزاً ذات دلالاتٍ تاريخيَّةٍ قارَّةٍ ، من خلالِ إسقاطاتٍ نفسيَّةٍ ، ربَّما تأخذكَ إلى تاريخٍ أحدثَ تحوُّلاتٍ جذريَّةٍ ، في العقلِ العربيِّ على مستوى السِّياسةِ والدِّين ، فعمَدَ الشَّاعرُ إلى تجسيدِ لحظةِ الخروجِ من جلدِه بالقميصِ والكأسِ ، فالرَّمزُ هنا انبثاقٌ عن تاريخٍ عالقٍ في وعي الشَّاعرِ ، ووعي المُتلقِّي ، كما يظهرُ في المقطعِ الرَّابعِ في قصيدتِه شوكةِ المواريث :
أَينَ أَشيَاعي .... ؟
وَنَجْمي غَابَ في جُبٍّ عَميقْ
ها هوَ الشاعِرُ يَرفو ظلَّهُ النافِرَ
حتّى لا يُرَى
أ أ .... خَيْطاً مِنْ شُوَاظِ النارِ يُتلى وَيَلُوحْ .... !
ها هوَ الساكِنُ في أُرْجُوحَةِ الشَرقِ ...
تَجَلَّى
شَجَراً يَشْهَقُ مِنْ غَمْرِ الحَرِيقْ
إنَّ استثمارَ الشَّاعرِ للموروثِ ، واتِّكائه عليه ، يجعلُ النَّصَّ ذا طاقةٍ دلاليَّةٍ مؤثرةٍ ، فالتَّعبيرُ بالموروثِ يجعلُ المُتلقِّي يدورُ في مداراتِ التَّأويلِ ، فيُعيدُ قراءة التَّاريخِ ، ويرسمُ صوراً جديدةً لواقعهِ المَعيشِ ، خصوصاً أنَّ هذه العودةَ إلى ما هو تاريخي ، تعيدُ إنتاجَ الصلةِ بين النَّصِّ والماضي ، وتجعلُ الماضي حاضرًا ، والتُّراثُ حيًّا ، وتتجلَّى تلك الحالةُ حين استدعى الشَّاعرُ شخصيَّاتٍ مثل النَّفري ، وذا النُّونِ ، وجعلهما في مقطعٍ واحدٍ ، ليُعاينَ من خلالِهما الحالَ المُظلمَ الذي آلَ إليه حاضرُنا ، وواقعه الأليم. فالنَّفري وذا النُّون قناعانِ يتماهيانِ مع الشَّاعرِ ، فكلاهما عانى ما عانى وكلاهما عجزَ عن إحداثِ التَّغييرِ المطلوبِ ، فاختار الشَّاعرُ ما يناسبُ رؤيَتَه . فهذانِ الرَّمزانِ صورتانِ عن (القاعِ الغني) ، والقاعُ هنا دالٌّ على الطَّبقةِ المطحونةِ ، وأمَّا البحرُ فهو غنيٌّ باللؤلؤِ والمرجان .فالشَّاعر وهو يرنو للتَّحرُّرِ من واقعِه ، يرتقي نحو القاعِ ، الغنيِّ بأسبابِ الثورةِ ، والتَّمرّدِ ، والتَّغييرِ .
ولعلَّه يحاولُ أن يخرجَ من دائرةِ التَّشاؤمِ والسَّوداويةِ ، ليزفَّ البيدرَ الضَّامر للشَّمسِ ، ويُزحزحَ الصَّخرةَ عن بابِه ، وكأنِّي به يستدعي (سيزيف) ، لا ليُعبِّرَ عن المعاناةِ ، والألمِ ، والعبثيَّةِ ، وإنَّما ليُعبِّرَ عن إصرارِه في زحزحةِ الصَّخرةِ ليفتحَ أبوابَ الألمِ ، كما يظهرُ من قوله :
مَرْكبَي رَخْوٌ
وَهذا المَوْجُ يا رَبِّي ضَنِين
لَمْ يَزَلْ ذو النُّونِ في البَحْرِ سَرِيًّا
وَصُراخي لَنْ يَجوزَ اليمَّ أو يَعُبرَ دِهليزَ الأَلمْ
نَحْنُ مُرْتاحونَ ....
فالقَاعُ غَنِيّ ... !
نَلقُطُ اللؤلؤَ والمَرجانَ مِنْ هذا الخِضَمّْ
وَنَدُقُّ الطَّبْلَ لمّا تَرتَقي
بُرجَنا المائِلَ عَنقاءُ الفَصَاحةْ
وَنَزُفُّ البَيْدرَ الضامِرَ للشَمسِ
وهذا الجوعُ لَمْ ( نَبْرَحْ عَليه عاكِفين )
وفي قصيدتِه صحيفةِ المُتلمِّس ، ينزاحُ الشَّاعرُ كثيراً عمَّا جاء في تلك الصَّحيفةِ ، ويتصلُ بشكلٍ مباشرٍ مع موروثه الشِّعري ، وموروثِه الأسطوريِّ ، ويستخدمُ كلمةَ (أقفُ) ، وهو على وعي تامٍّ بتجليَّاتِ مفهومِ الوقفةِ عند النَّفري ، فيستدعي وعيَه الجمعيَّ ، بأكد وسومر وبابل ، والصَّعاليك ، ليجعلَها مرايا عصرِه ، ففي كلِّ وِقفةٍ تأمُّلٍ ، وفي كلِّ وِقفة إلهامٌ وتحوِّلٌ .
وعلى العمومِ ، فإنَّني أجدُني أحتاجُ إلى وقفةٍ كوِقفةِ النَّفري مع تجربةِ عبدالأمير خليل مراد الشِّعريَّةِ ، فهي تحتاجُ إلى قارئٍ عميقٍ ، بعمقِ شعرِه ، ولذلك وجدتُني ما زلتُ أقفُ على شواطئِ نصوصِه ، التي تميَّزت بإبهامٍ وغموضٍ شفَّافين ، وجملةٍ من الانزياحاتِ والإنحرافاتِ القائمةِ بين الألفاظِ والتَّراكيبِ ، تلك الانزياحاتُ تأخذُكَ نحو غيرِ معنى ، وغيرِ دِلالةٍ ، وكأنَّكَ أمامَ لوحاتٍ سرياليَّةِ التَّشكيلِ ، وأمامَ شاعرٍ يسكنُ الحلمَ والخيالَ ، ويُحيلُكَ إلى إشاراتٍ تحتاجُ إلى مرجعيَّاتٍ دينيَّةٍ ، وأسطوريَّةٍ ، وتاريخيَّةٍ .
فهو يُجبرُ المُتلقِّي أن يُحكِّمَ عقلَه ، وأن يلجأَ إلى تفكيكِ تلك الصُّورِ الشَّبكيَّةِ ، المُعقَّدةِ التَّكوينِ ، والتي تنطوي على تضادٍّ بين المعنوي والحسِّي ، بين الأسطوري والدِّيني ، وبين التَّاريخي والمُعاصر ، فهذا الدِّيوانُ مصدرُ غنى ، فهو خصبٌ برموزِه وشخصيَّاتِه التي شكَّلتْ بِنيةَ القصيدةِ ، وهو لم يكتفِ بتوظيفِ الرَّمزِ التَّاريخيِّ ، وإنَّما نقله من حيِّزِه ، ومن معناهُ الأُحادي إلى معانٍ تُحاكي واقعَه، ونظرتَه إلى السُّلطةِ من نحوٍ ، والمجتمعِ من نحوٍ آخرَ .
فالقيمةُ الشِّعريَّةُ لتلك النُّصوصِ لا تكمنُ في الرُّموزِ ، ولا الكلماتِ وإنَّما في تلك المسافةِ القائمةِ بين الرَّمزِ والبناءِ ، أو بين الصُّورةِ والرَّمزِ فضلاً عمَّا تحملُه من إسقاطاتٍ نفسيَّةٍ ، وأيدولوجيَّةٍ ، واجتماعيَّةٍ ، تجعلُ المُتلقِّي يبحثُ بعيداً في التَّأويلِ وربَّما تأخذكَ إلى آفاقٍ لم تكنْ في ذهنِ المتكلّم .
ولعلَّ الأمرَ الأكثرَ جدلاً هنا هو أنَّ المُتلقِّي يحتاجُ إلى تعديلٍ دائمٍ في آفاقِ التَّوقُّعِ ، ويحتاجُ إلى أن يملأَ كثيراً من الفراغاتِ التي تركها المتكلّم الى لمُتلقي ، وهو حين لجأَ إلى الرَّمزِ ، والإيحاءِ ، ورفضَ الوضوحَ والموضوعيَّةَ ، حمى نفسَه من ممارسةِ النَّقدِ الثقافيِّ عليه ، كما حمى نفسَه في الوقتِ عينه من حساسيَّةِ المُتلقِّي تجاهَ ما تحملُه تلك الرُّموزُ . فالرَّمزيَّةُ هنا ما هي إلَّا ردَّةُ فعلٍ عمَّا هو تاريخيٌّ ، وما هو موضوعيٌّ ، وما هو قارٌّ ، إنَّها باختصارٍ هدمٌ لأيدولوجيَّةٍ ، وبناءٌ لأيدولوجيَّةٍ أخرى ، لذلك فإنَّ هذا الدِّيوانَ ما هو إلا تجسيدٌ حقيقيٌّ للصِّراعِ مع القِيمِ ، والسُّلطةِ والشَّكلِ.
د. عاطف أحمد الدرابسة - الأردن
وتجدر الإشارةُ بأنَّ مصطلحَ العتباتِ (Seuils) ، هو مصطلح إشكاليٌّ في نظريةِ الأدبِ ، يرتبط بالنَّاقدِ الفرنسي جيرار جينيت (Gérard Genette) .
لن أدخلَ في جدَلٍ حول إشكاليَّاتِ هذا المصطلحِ ، غير أنَّ تلك الإحالاتِ التي جاءت خارجَ المتنِ ، صارت جزءاً من العملِ الأدبيِّ بصورتِه النِّهائيةِ المُكتملةِ ، أي العملِ الأدبيِّ بوصفه كينونةٍ ، أو بوصفهِ حالةِ وجودٍ مُكتمِلةٍ ، وحين أتحدَّثُ عنه كحالةِ وجودٍ ، فهذا يعني هنا أنَّني إزاءَ نصوصٍ تمثَّلَت في حالةِ الكتابةِ ، أو في حالةِ الطِّباعةِ ، والتَّعاملِ معها بحسبِها صورةً كتابيةً ، لا يُعفي النَّاقدَ من البحثِ في مراحلِ وجودِها السَّابقةِ عن تلك الحالةِ الكتابيَّةِ .
وهنا فإنَّنا نواجهُ إشكاليَّةً في التَّلقي ؛ فهل هناكَ فرقٌ في تلقِّي النَّصِّ الأدبي شِفاهيَّاً ، أو تلقِّيه طِباعيَّاً ؟ وهل هناك مشكلةٌ في التَّلقي من حيث قراءةِ العملِ الأدبيِّ من دون عتباتٍ أو بعتباتٍ ؟
فالصَّفحةُ المطبوعةُ تحتوي على عناصرَ كثيرةٍ خارجة عن حيِّز القصيدةِ ، كما يذهبُ أوستن وارين ، ورينيه ويليك ، فحجمُ حرفِ المطبعةِ ونوعِه ، وحجمُ الصَّفحةِ ، وبعضُ الإشاراتِ الأخرى ، قد تُؤثِّرُ في توجيهِ بِنى العملِ الأدبيِّ ومضامينِه .
وعلى العمومِ ، يمكن أن يكونَ عبدالأمير خليل مراد قد تعمَّدَ أن يُخرِجَ ديوانَه المطبوعَ بهذه الهيئة ، ويضعَ إشاراتٍ أشبه بمفهومِ النَّصِّ الموازي ؛ لتكونَ مفاتيحَ قراءةٍ لولوجِ بنيةِ القصائدِ أو النُّصوصِ . فجاءَ الديوانُ موسوماً بعنوانِ : صحيفةِ المُتلمِّس ، ثمَّ أحالنا إلى النَّفري محمد بن عبدالجبار ، وهو من أعلامِ التَّّصوُّفِ ، فوشَّى ديوانَه بعباراتٍ من كتابِ النَّفري المعروفِ ب (المواقفِ والمخاطباتِ) ، وهو كما هو معلومٌ صاحبُ عبارةِ : كلَّما اتَّسعت الرُّؤيةُ ، ضاقت العبارةُ ، كما أتى ببيتٍ للمتنبِّي :
أظمَتْنِيَ الدُّنيا فلمَّا جئتُها مُسْتَسقِياً مَطَرَتْ عليَّ مصائبا .
ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للنَّظرِ ، أنَّ الشَّاعرَ قد ضمَّنَ ديوانَه المطبوعَ ، إشاراتٍ تُخبرنا أين نُشرِت تلك القصائدُ مُنفردَةً ، وفي أيِّ الصُّحفِ ، ولا أعلمُ هنا إلى أيِّ مدى تُثيرُ هذه العلامات إشكالياتٍ في القراءةِ النَّقديَّةِ .
مشكلاتُ قراءةِ النَّصِّ الحداثيِّ :
إنَّ تلك الإشاراتِ التي تصدَّرت ديوانَ الشَّاعرِ ، لا تُساعدُ النَّاقدَ أن يعزلَ النَّصَّ عن المُبدِعِ ، فهو بتلك الإحالات قد قدَّمَ نفسَه بوصفِه متَّصِلاً بموروثِه الأدبيِّ ، والمعرفيِّ ، وهو موروثٌ انتقائيٌّ ، أي أنَّه قد اختارَ الرُّؤى المُغيِّرة في التراثِ - وتحديداً إشارته إلى النَّفري - وكأنَّه يُخبرنا بأنَّه حداثيُّ النَّزعةِ والرُّؤية ؛ كما أنَّه أشارَ إلى المتنبِّي ، والمُتنبِّي من أكثرِ الشُّعراءِ إثارةً للجدلِ ، على مستوى الرُّؤى والأفكارِ ، وكأنِّي بالشَّاعرِ يُوجِّه المُتلقِّي والنَّاقدَ أن يقرآ هذا الدِّيوان وفقَ هذه الإشارت ، باعتبارها إشاراتٍ فعَّالةٍ ، تُحيلُ إلى المحيطِ العامِّ الذي تتحرَّكُ من خلاله النُّصوص .
ولعلَّ إشارتَه إلى النَّفري ، تكفي لكي نُدركَ أنَّنا نُواجه لغةً ذاتَ رمزٍيَّةٍ عاليةٍ ، ففي نصِّه الأولِّ (احتمالات) ، نلحظُ أنَّ البِنيةَ تتكئُ على الحوارِ ، بين ذاتِ الشَّاعرِ والآخرِ ، فهذا الآخر يتجسَّدُ في ضميرِ الخطابِ ، ثمَّ نلحظُ في المقطعِ الأوَّلِ حلولَ الذَّاتِ بالآخر بقوله : أنا أنتَ .. وأنتَ أنا . ولعلَّنا لا نذهبُ بعيداً إذا ما لمحنا في هذا النَّصِّ حضورَ الخِطاب الصوفيِّ ، مع ما يحمله هذا الخِطابُ من لغةٍ مُشفَّرةٍ ، غير أنَّه في المقطعِ التاسعِ يُحيلُ المُتلقِّي إلى أبي حيَّان التوحيدي بقوله : "إذا تمنَّت نفسُكَ بقاءَ الأبدِ ، فلا تسكُن إلى أحد" ، إنَّ نقلَ هذا النَّصِّ خارج وحدةِ الأدبِ تأخذنا إلى حالةٍ من التَّعالقِ بين ذاتِ الشَّاعرِ والتوحيدي ، بفقرِه ، وحياتِه البائسةِ ، وبؤسهِ ، وتشظِّيه . فالشَّاعرُ هنا يتَّخذُ موقفاً من السُّلطةِ ، والذَّاتِ ، ويُحيلنا إلى إشارةٍ أخرى مرتبطةٍ بأبي الطَّيبِ المتنبِّي بقوله : وكلانا مأخوذٌ بحلمٍ لم ينتهِ بعد .
إنَّ تقنيَّةَ تفريغِ الشخصيَّاتِ التَّاريخيَّةِ من زمانِها ، واستدعائِها إلى الحاضرِ ، هي تقنيَّةٌ يلجأُ إليها شعراءُ قصيدةِ النَّثرِ -وهذه التِّقنيةُ لجأ إليها أدونيس في مشروعِه الشِّعري الموسومِ ب : الكتابِ - والشَّاعرُ هنا حين يستدعي تلك الشَّخصيَّاتِ ، فإنَّه يُحيلنا إلى أرشيفه الثَّقافيِّ الخاصِّ ، وتلبسُ لغتُه رداءَ الفلسفةِ والتَّصوُّفِ ، فيظهرُ قلقُه الوجوديُّ ، وإحساسُه بالعدمِ ، والعبثيَّةِ ، كما يبدو من قولِه :
خُذْنِي هذه المرَّةَ
لأُضْرمَ النارَ في جَسَدي الناحِلْ
وَلا أهمَّ بشَيءٍ لمْ ينلْه أبو الطيَّبِ المتنبي
فليسَ عِندي إلا بَقايا جُمْجمةٍ سَوداءَ
وَعِظامٌ لا يكسوها اللْحمُ
وَلكنّني رَغْمَ أفولي
أحلمُ بالقَمَرِ الذي لنْ يُضيءَ شُرْفتَنا
الليّلة
إنَّ النَّزعةَ التَّشاؤميَّةَ تتجلَّى بوضوحٍ في هذا المقطعِ ، فهو لا يملكُ أسبابَ تحقيقِ الحلمِ ، فجمجمتُه سوداء ، وهو هيكلٌ من عظامٍ لا يكسوها اللَّحم ، فالجمجمةُ السَّوداء بما تحمله من دلالةٍ ، تُشيرُ إلى ما يحمله عقلُه من رؤى وأفكار ، لا تتناسبُ مع الأيدولوجية السَّائدةِ ، فضلاً عن فقره وإحساسه بالتَّلاشي ، كلُّ هذا لا يُسعفهُ أن يُحقَّقَ أحلامَه في إحداثِ التَّغيير المطلوبِ ، وتتأكَّدُ حالتا البؤسِ ، واليأسِ اللتان تُلحَّانِ على الشَّاعرِ بقوله :
حينَ يأكلُ خاصِرَتي المِلْحُ
وتَرميني أمّي في فَضَلاتِ الشَّارعْ
وَبعدَ سِنين
تَقْذِفُني في سلَّةِ المُهْمَلات
التي يَخلو منْها شارِعُنا القَديمْ
أعْرفُ ذلكَ يا حَبيبي
لأنّني طِفلٌ لا أفقهُ كلَّ الأَشياء
وقَد أكونُ بعدَ حينٍ رجُلاً مَعْتُوهاً
وفِي يَدي برتقالةٌ
لا أعِرفُ كيَفَ أوزِّعُها
إنَّ هذا المقطعَ لا يمكن أن نفصلَه عن الواقعِ المَعِيش : اجتماعياً ، واقتصادياً ، وأيدولوجياً ، فالشَّاعرُ من خلالِ الخاصِّ يرسمُ صورةً للطبقةِ المُهمَّشةِ ، تلك الطَّبقة التي يأكلُ خواصرَها الملحُ ، وكأنَّها من فضلاتِ الشَّارعِ ، أو من سلَّةِ المُهملاتِ ، تلك السَّلةُ التي هي أشبهُ بوطنٍ لا يُنتجُ إلَّا جهلاً ، وجيلاً معتوهاً ، لا يعرفُ كيف يقتسمُ برتقالةً ، أو يوزِّع برتقالةً .
وفي المقطعِ الرابع :
حِينَ نُغادِرُ دائرةَ الاحْتِمالْ
كي نَسْكنَ في غَيْبوبَتِنا الأبديَّة
حيثُ لا لَيلى تَنْدُبُني
في عِزِّ النوَم
وَلا شَيخُ المَعَّرةِ يُقعدُني عَلى جَرِيدِ النَّخلِ السامِقْ
كيْ نَتَجاذَبَ بحِرَارةٍ
بعضَ أحاديثِ كآبتنِا المعْهودَةِ
دَعْني .....
أَيُّهَا الراكِضُ في حَدَقاتي
و كالسَّرابِ الأَبيضْ
أتملّى في الدَّوحِ المَليءِ بالأحْجارِ الكَرِيَمةِ
وأقيمُ أَعْراسي في بَعْضِ زَواياكَ
الحُبْلى بالأسرارِ العِلّية
يُشعرنا الشَّاعرُ بقسوةِ الابتعادِ والنأي ، وكيف تكونُ تلك الطَّبقة في غيبوبةٍ أبديَّةٍ ، ترنو إلى معتقداتٍ وأسرارٍ لا تُحيلُ إلَّا إلى التَّخلُّفِ . إنَّ الشَّاعرَ هنا يُقدِّمُ لغةً مُشفَّرةً ، تحفلُ بعلاماتٍ ، ووحداتٍ لغويَّةً ، تُحيلُكَ إلى الوهمِ ، كأنَّنا في بلادٍ أشبهُ بنخلةِ عرقوبٍ .
وعبد الأمير حين يتحرَّكُ في فضاء الرَّمزِ ، لا يُجسِّدُ لنا الرُّؤى ، ولا يمنحها شكلاً حيَّاً أو ملموساً وحسب ، وإنَّما يحجبُ وراءها ما يحجبُ ، فثمَّة لغةٌ أخرى خارجَ القصيدةِ ، أو خارجَ النَّصِّ ، هذه الرؤيةُ تنبعُ من تجربته حين تمرُّ تلك التَّجربةُ بوعيه ، فهي مُدركَةٌ بالحواسِّ ، ثمَّ يسعى إلى دمجِها في وعي النَّصِّ ، في إطارٍ من العبثيَّةِ واللامعقولِ ، كما يبدو من قوله في المقطع الثٌَامن من قصيدةِ احتمالات :
دَحْرجْني ما بينَ شِقُوقِ البابِ
أنا كُرةٌ ... لا
لا ... لا أدْري ... !
هلْ أهْبِطُ من تُخُومِ الأبراجِ الوَرقيَّةِ
وأغتسلُ منَ بَراءَتي ...
بماءِ الجَنّاتِ السَّبعِ
كيْ لاَ أتطايرَ كالصَدَفِ على حبّاتِ الرَّملِ
فصَدِيقي ذو العينينِ الرقيقتينِ كثيراً
والذي يَبدو طيِّعاً كالمِغْزَلْ
يُلْقي في عَباءتي بَعْضَ حِجاراتٍ
تَقْطُرُ من ماءِ سَذاجَتهِ
كي يُغرقَني بِلَطافتهِ " الرائعةِ جِداً "
وَلكنّي ..... آهٍ
لمْ أغْرُفْ من بَحْرِ سذاجتهِ " هذه "
إلاّ نَخْلةَ " عُرْقوب "
فآهٍ مِنْ نَخْلةِ " عُرقوب " التي لَنْ تأتيني
وأَنا أنَتظرُ العمْرَ .....
وَلا أدْري
إنَّ هذا العُمْرَ يا صَدِيقي
يَتَدَحْرجُ بَطيئاً على أَعتابِ السُلَّمِ
فالشَّاعرُ يتدحرجُ من بين شقوقِ البابِ ، ثم يصير وفق - مبدأ الحلولِ والاتحادِ - كرةً ، ثمَّ يُدخلكَ بفلسفةِ اللاأدرية ، وتبدو الأبراجُ ورقيَّة ، لا تستطيع أن تواجه الريح ، ثم يتطايرُ كالصُّدف ، فنلحظُ أنَّ العمرَ صار هو الآخرُ كرةً يتدحرجُ على أعتابِ السُّلم .
الشَّاعرُ هنا لا يستدعي رمزاً جاهزاً ، وإنَّما هو مَن يخلقُ رموزَه ليبلورَ رؤيته ، فالرَّمزُ هنا صار جزءاً من بنيةِ الصُّورة ، يخضع لقوانينِ التَّحولِ ، وقوانينِ الحلولِ ، وقوانينِ المجازِ .
إنَّ هذا التَّشكيلَ الشعريَّ على هذا النَّحوِ ، يجعلُ الرَّمزَ خارج الحواسِّ الظَّاهرةِ ، يخضعُ لشروطِ التَّخييلِ ، لذلك تصبحُ قيمتُه الإيحائيَّةِ خارجَ الإيقاعِ ، وخارج الأسلوبِ ، وتخضعُ لقوانينِ الوعي ، وقوانينِ التَّداعي ، فيتقنَّعُ خلف رموزِه نتيجةَ عوائقَ أيدولوجيةٍ ربَّما أو سيكولوجيَّةٍ ، أو سوسيولوجيَّةٍ ، وكأَنِّي به يثورُ على نفسِه أولاً ، وعلى المجتمعِ ثانياً .
وفي نصِّه الثاني الذي جاءَ تحت عنوانِ : سبع قصائد ، سأكتفي بقراءةِ اللوحةِ الأولى التي جاءت تحت عنوانِ : مسافة ، ولن أبحثَ في البعدِ الرَّمزي لهذا العنوانِ ، بل سأكتفي بالإشارةِ إلى أنَّ هذه المسافةَ تجعلُ الرؤيا أوضح ، وهي عندي بمثابةِ (الوقفة) عند النَّفري ، فالشَّاعرُ يستدعي هذه الفلسفةَ لتتوازى مع رؤيتِه ، ومع قلقِه الوجوديِّ ، وضبابيَّةِ المصيرِ ، فتأخذُ هذه اللَّوحةُ بُعدًا صوفيَّاً يتردَّدُ بين الاستفهامِ ، والنَّفي بقوله :
ما الذي يَصْطَفِيكَ لهذي الطَّريقْ
لا المَسَافةُ لَصْقَ الخُطَى
لا المَعابرُ تُفْضِي إلى شاطئٍ آخَرَ
وَالمَدى أبدٌ
غَيرَ أَنِّي أُجَدِّفُ في مَوْجهِ كالغَرِيقْ
فالشَّاعرُ هنا يبتكرُ رموزَه (الطَّريق ، المسافة ، المعابر ، المدى) ، وكلُّها تدورُ حول فكرةِ الخلاصِ .
وثمَّة نوعٌ آخرَ من الرُّموزِ الموروثةِ دينيَّاً أو تاريخيَّاً ، تُتيحُ للشَّاعر حريَّةً أكثر في التعبيرِ عن واقعِه ، الذي يبدو كأنَّه متجذِّرٌ في التَّاريخِ ، فعبدالأمير خليل في نصِّه إيماءاتٌ بعيدة ، يفجؤكَ بقولِه :
مُرْتَدِياً خَوْفِي
أُبْحِرُ فِي يَمِّ الكَلِماتِ .......
وَأَمْضِي
أَتَفَيّأُ كالعَاشِقِ أُرْجُوحَةَ حِلْمي
وَأَنَا بَيْنَهُما طِفلٌ
يَعْصُرُ كُلَّ صَبَاحٍ جَمْرَ السَنَواتِ
فهو منذ البدءِ يحتمي بخوفِه ، ليُعلنَ أنَّه سيخرجُ من جلدِه ، وهذا الخروجُ هو خروجٌ من تاريخِه ، وقوميَّته ، ويُظهِرُ أسبابَ هذا الخروجِ بقولِه :
وَأَنَا أَخُرُجُ مِن جِلْدِي
مَفْتُوناً بِقَمِيصِ الأَمْسِ
لكنْ حِينَ تَدَلّى الرَّأْسُ
قَالوا:
ضَيَّعهُ النادِلُ ما بَيْنَ خُطُوطِ
الكَأْسْ
إنَّ الشَّاعرَ هنا يستخدمُ رموزاً ذات دلالاتٍ تاريخيَّةٍ قارَّةٍ ، من خلالِ إسقاطاتٍ نفسيَّةٍ ، ربَّما تأخذكَ إلى تاريخٍ أحدثَ تحوُّلاتٍ جذريَّةٍ ، في العقلِ العربيِّ على مستوى السِّياسةِ والدِّين ، فعمَدَ الشَّاعرُ إلى تجسيدِ لحظةِ الخروجِ من جلدِه بالقميصِ والكأسِ ، فالرَّمزُ هنا انبثاقٌ عن تاريخٍ عالقٍ في وعي الشَّاعرِ ، ووعي المُتلقِّي ، كما يظهرُ في المقطعِ الرَّابعِ في قصيدتِه شوكةِ المواريث :
أَينَ أَشيَاعي .... ؟
وَنَجْمي غَابَ في جُبٍّ عَميقْ
ها هوَ الشاعِرُ يَرفو ظلَّهُ النافِرَ
حتّى لا يُرَى
أ أ .... خَيْطاً مِنْ شُوَاظِ النارِ يُتلى وَيَلُوحْ .... !
ها هوَ الساكِنُ في أُرْجُوحَةِ الشَرقِ ...
تَجَلَّى
شَجَراً يَشْهَقُ مِنْ غَمْرِ الحَرِيقْ
إنَّ استثمارَ الشَّاعرِ للموروثِ ، واتِّكائه عليه ، يجعلُ النَّصَّ ذا طاقةٍ دلاليَّةٍ مؤثرةٍ ، فالتَّعبيرُ بالموروثِ يجعلُ المُتلقِّي يدورُ في مداراتِ التَّأويلِ ، فيُعيدُ قراءة التَّاريخِ ، ويرسمُ صوراً جديدةً لواقعهِ المَعيشِ ، خصوصاً أنَّ هذه العودةَ إلى ما هو تاريخي ، تعيدُ إنتاجَ الصلةِ بين النَّصِّ والماضي ، وتجعلُ الماضي حاضرًا ، والتُّراثُ حيًّا ، وتتجلَّى تلك الحالةُ حين استدعى الشَّاعرُ شخصيَّاتٍ مثل النَّفري ، وذا النُّونِ ، وجعلهما في مقطعٍ واحدٍ ، ليُعاينَ من خلالِهما الحالَ المُظلمَ الذي آلَ إليه حاضرُنا ، وواقعه الأليم. فالنَّفري وذا النُّون قناعانِ يتماهيانِ مع الشَّاعرِ ، فكلاهما عانى ما عانى وكلاهما عجزَ عن إحداثِ التَّغييرِ المطلوبِ ، فاختار الشَّاعرُ ما يناسبُ رؤيَتَه . فهذانِ الرَّمزانِ صورتانِ عن (القاعِ الغني) ، والقاعُ هنا دالٌّ على الطَّبقةِ المطحونةِ ، وأمَّا البحرُ فهو غنيٌّ باللؤلؤِ والمرجان .فالشَّاعر وهو يرنو للتَّحرُّرِ من واقعِه ، يرتقي نحو القاعِ ، الغنيِّ بأسبابِ الثورةِ ، والتَّمرّدِ ، والتَّغييرِ .
ولعلَّه يحاولُ أن يخرجَ من دائرةِ التَّشاؤمِ والسَّوداويةِ ، ليزفَّ البيدرَ الضَّامر للشَّمسِ ، ويُزحزحَ الصَّخرةَ عن بابِه ، وكأنِّي به يستدعي (سيزيف) ، لا ليُعبِّرَ عن المعاناةِ ، والألمِ ، والعبثيَّةِ ، وإنَّما ليُعبِّرَ عن إصرارِه في زحزحةِ الصَّخرةِ ليفتحَ أبوابَ الألمِ ، كما يظهرُ من قوله :
مَرْكبَي رَخْوٌ
وَهذا المَوْجُ يا رَبِّي ضَنِين
لَمْ يَزَلْ ذو النُّونِ في البَحْرِ سَرِيًّا
وَصُراخي لَنْ يَجوزَ اليمَّ أو يَعُبرَ دِهليزَ الأَلمْ
نَحْنُ مُرْتاحونَ ....
فالقَاعُ غَنِيّ ... !
نَلقُطُ اللؤلؤَ والمَرجانَ مِنْ هذا الخِضَمّْ
وَنَدُقُّ الطَّبْلَ لمّا تَرتَقي
بُرجَنا المائِلَ عَنقاءُ الفَصَاحةْ
وَنَزُفُّ البَيْدرَ الضامِرَ للشَمسِ
وهذا الجوعُ لَمْ ( نَبْرَحْ عَليه عاكِفين )
وفي قصيدتِه صحيفةِ المُتلمِّس ، ينزاحُ الشَّاعرُ كثيراً عمَّا جاء في تلك الصَّحيفةِ ، ويتصلُ بشكلٍ مباشرٍ مع موروثه الشِّعري ، وموروثِه الأسطوريِّ ، ويستخدمُ كلمةَ (أقفُ) ، وهو على وعي تامٍّ بتجليَّاتِ مفهومِ الوقفةِ عند النَّفري ، فيستدعي وعيَه الجمعيَّ ، بأكد وسومر وبابل ، والصَّعاليك ، ليجعلَها مرايا عصرِه ، ففي كلِّ وِقفةٍ تأمُّلٍ ، وفي كلِّ وِقفة إلهامٌ وتحوِّلٌ .
وعلى العمومِ ، فإنَّني أجدُني أحتاجُ إلى وقفةٍ كوِقفةِ النَّفري مع تجربةِ عبدالأمير خليل مراد الشِّعريَّةِ ، فهي تحتاجُ إلى قارئٍ عميقٍ ، بعمقِ شعرِه ، ولذلك وجدتُني ما زلتُ أقفُ على شواطئِ نصوصِه ، التي تميَّزت بإبهامٍ وغموضٍ شفَّافين ، وجملةٍ من الانزياحاتِ والإنحرافاتِ القائمةِ بين الألفاظِ والتَّراكيبِ ، تلك الانزياحاتُ تأخذُكَ نحو غيرِ معنى ، وغيرِ دِلالةٍ ، وكأنَّكَ أمامَ لوحاتٍ سرياليَّةِ التَّشكيلِ ، وأمامَ شاعرٍ يسكنُ الحلمَ والخيالَ ، ويُحيلُكَ إلى إشاراتٍ تحتاجُ إلى مرجعيَّاتٍ دينيَّةٍ ، وأسطوريَّةٍ ، وتاريخيَّةٍ .
فهو يُجبرُ المُتلقِّي أن يُحكِّمَ عقلَه ، وأن يلجأَ إلى تفكيكِ تلك الصُّورِ الشَّبكيَّةِ ، المُعقَّدةِ التَّكوينِ ، والتي تنطوي على تضادٍّ بين المعنوي والحسِّي ، بين الأسطوري والدِّيني ، وبين التَّاريخي والمُعاصر ، فهذا الدِّيوانُ مصدرُ غنى ، فهو خصبٌ برموزِه وشخصيَّاتِه التي شكَّلتْ بِنيةَ القصيدةِ ، وهو لم يكتفِ بتوظيفِ الرَّمزِ التَّاريخيِّ ، وإنَّما نقله من حيِّزِه ، ومن معناهُ الأُحادي إلى معانٍ تُحاكي واقعَه، ونظرتَه إلى السُّلطةِ من نحوٍ ، والمجتمعِ من نحوٍ آخرَ .
فالقيمةُ الشِّعريَّةُ لتلك النُّصوصِ لا تكمنُ في الرُّموزِ ، ولا الكلماتِ وإنَّما في تلك المسافةِ القائمةِ بين الرَّمزِ والبناءِ ، أو بين الصُّورةِ والرَّمزِ فضلاً عمَّا تحملُه من إسقاطاتٍ نفسيَّةٍ ، وأيدولوجيَّةٍ ، واجتماعيَّةٍ ، تجعلُ المُتلقِّي يبحثُ بعيداً في التَّأويلِ وربَّما تأخذكَ إلى آفاقٍ لم تكنْ في ذهنِ المتكلّم .
ولعلَّ الأمرَ الأكثرَ جدلاً هنا هو أنَّ المُتلقِّي يحتاجُ إلى تعديلٍ دائمٍ في آفاقِ التَّوقُّعِ ، ويحتاجُ إلى أن يملأَ كثيراً من الفراغاتِ التي تركها المتكلّم الى لمُتلقي ، وهو حين لجأَ إلى الرَّمزِ ، والإيحاءِ ، ورفضَ الوضوحَ والموضوعيَّةَ ، حمى نفسَه من ممارسةِ النَّقدِ الثقافيِّ عليه ، كما حمى نفسَه في الوقتِ عينه من حساسيَّةِ المُتلقِّي تجاهَ ما تحملُه تلك الرُّموزُ . فالرَّمزيَّةُ هنا ما هي إلَّا ردَّةُ فعلٍ عمَّا هو تاريخيٌّ ، وما هو موضوعيٌّ ، وما هو قارٌّ ، إنَّها باختصارٍ هدمٌ لأيدولوجيَّةٍ ، وبناءٌ لأيدولوجيَّةٍ أخرى ، لذلك فإنَّ هذا الدِّيوانَ ما هو إلا تجسيدٌ حقيقيٌّ للصِّراعِ مع القِيمِ ، والسُّلطةِ والشَّكلِ.
د. عاطف أحمد الدرابسة - الأردن
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
Sieh dir auf Facebook Beiträge, Fotos und vieles mehr an.
www.facebook.com