سلمان كيوش - الفَرق في الفِرق

(النفعُ الوحيدُ الذي بقي لي في الحياةِ هو البكاءُ..)
ألفريد دي موسيه


بوضوح، أستطيع اختزال أمّي بعبارة "رويحة حلال"، فهي طيّبة، وحميمة جدًا مع الآخرين، لاسيما مع أحزانهم، فقد سمعتها تقول يومًا، وهي تستعدّ للذهاب إلى تهنئة جارتها التي أنجبت ولدًا: احنه كون نبچي على الينولد مو بس عاليموت. وكما توقّعت، فقد نعت في بيت جيراننا!!
غير أن مكيّة تلبّست الحزن، أدمنته، وغدا علامتها الفارقة بعد مقتل أخي كاظم في الحرب مع إيران. لم نعد نرى من وجهها غير عينيها وهما خارجتان للتوّ من نوبة بكاء ساخن، أو وهما تستشرفان، ببريق غيثيّ، وابلًا من دمع غزير.. لا تفارق لطخات الطين شيلتها، وكأنّ كويظم مازال مسجّى في الهول بتابوته اليقطر دمًا، كما وصلنا أوّل مرّة. لم يعد لمكيّة غير حلم هزيل شاحب، بعد أن أرجأت أحلامها كلّها، هو أن تجاور كاظم في قبر على يمينه. الأكل والنوم أصبحا ترفًا تحسدنا عليه حتى مع دنو الذكرى السنويّة الأولى.. هي تنتظر، ولكن لا ملامح لما تنتظره. وتتوقّع حدثًا انفجاريًّا ما، ولا أظنّه غير انفجارها هي بحدّة الاكتئاب. تلفّ الرشّاد بقطعة خبز صغيرة وتدنيها من فمها، فتبعدها فورًا وتقول: "مسعدة آنه وآكل وكويظم حدر التراب". لم نعد نستطيع التفريق بين صمتها ونواعيها، وأيّهما أشدّ صلابة وقسوة علينا. لقد فاقت أمّي هاجرَ في حزنها وسعيها في أشواطها السبعة بيننا، وتضاعف حبّها، فهي عادة ما تضع أنفها في نحري، تشمّني مع نشغة حارّة: "يمّه... بيك ريحة كويظم، يا تفر"، وتفاريتي متأتيّة من كوني لم أعزف عن الطعام والنوم كما تفعل...
****
كنتُ أسبقها بخطوة في ساحة الطيران ونحن نسير باتجاه گراج الچوادر حين تسمّرت مكيّة فجأة في المكان كشجرة راسخة.. فثمة سيّارة حديثة فارهة وقفت أمام باب كنيسة ساحة الطيران. قلتُ لها:
ـ يا الله يمّه.
قالت بثقة:
ـ تهدّالي..
وقفت سيّارة أخرى خلف السيّارة الأولى، ونزل من الاثنتين رجال قليلون ونساء كثيرات متشحات بالسواد. أُنزل تابوت أنيق جدًا وصقيل، ملفوف بعلم، فدنت أمّي من التابوت، وسألت امرأة تقطر أناقة وبياضًا وترفًا:
ـ شهيد؟
اكتفت المرأة بايماءة متكلّفة من رأسها بالإيجاب. عدتُ لاستحثّ أمّي على السير فرفضت باستنكار:
ـ إمش انت كون تريد.
سارت أمّي خلف التابوت المتجه نحو باب الكنيسة الواسع، ودخلت مع النساء الأنيقات السافرات إلّا من أوشحة رقيقة شفّافة تغطّي، بالكاد، شعورهن وأعناقهن البلوريّة. البعض منهن يضعن نظارات سودًا حجبت أعينهن..
دخلتُ مع الحشد، فداهمتني رائحة عطرة أنيقة... رائحة بكر، وأظنّها رائحة الطهر واتساع المكان وأناقته. لم يسبق لي دخول كنيسة من قبل، فبدوتُ موزّع الانتباه بين تفاصيل المكان ومتابعة مكيّة التي تماهى سواد هيأتها مع سواد المعزيّات، اذا استثنينا نصاعة سيقان النسوة وأحذيتهن اللماعة.
وُضع التابوت متقاطعًا أفقيًا مع وقفة النسوة والرجال. وسرعان ما خرج رجل ستينيّ من بهو الكنيسة، متشح بالسواد أيضًا، باستثناء لون قرمزي حول خصره وعرگشينة زادت حمرتُها بهاءَ وجهه. فتح كتابًا وبدأ يتلو ما لا سبيل إلى فهمه. خرجت مكيّة من اصطفاف النسوة الأفقي، ودنت فكانت أقرب منهن إلى التابوت، وعيناها مركوزتان فيه.. بدت كأنّها تنتظر حدثًا ما، ولما طال انتظارها قالت بصوت هامس في البداية:
ـ انتن شوكت الله يهديچن وتبچن؟!
لم ينتبه إليها أحد سوى القس، الذي شملها بنظرة طفحت بالدهشة. اقتربتُ منها جدًا، وهمست:
ـ يمّه، أنت شمتانيه؟
قالت بنبرة أرادتها عالية:
ـ متانية هذن "المعرسات" شوكت يبچن..
ـ يمّه امشينا الله يخليچ.
لم تشأ سماعي، فسرعان ما غادرت وقفتها وجلست بجانب التابوت على الأرض. اتكأت عليه بكوعها، وبسطت كفها الأخرى فوقه، ونعت:
يمّه..... جيتك وردتك تگعد وياي ويردلي شوفي لهاي ولهاي من البواچي وشّلن ماي
ضاع صوت القس، فناقوس أمّي أوضح بكثير، وسرعان ما صمت الرجل، والحيرة تجلّله. من الواضح أن الحزن تسلّل إلى الآذان كلّها، واخترقها ليستقرّ هناك في الشغاف برغم جزمي أن أهل الميّت لا يعرفون ما الذي تقوله مكيّة باستثناء يمّه التي تطيلها عامدة. خلعت "المعرسات" نظاراتهن السود، وتبادلن نظرات شوشها الدمع. ما لم أكن أتوقّعه أبدًا هو أن تنسلّ المرأة البدينة من بينهن، لتجلس بجانب أمّي. حاولت تقليد جلستها، ولأنّ تنورتها قصيرة نسبيًّا فقد انحسرت لتكشف عن بداية فخذين ممتلئين حدّ التراعة. بادرتها مكيّة على الفور:
ـ انت أمّه؟
ـ إي.
قالتها بانتحاب استمدت طاقته المتفجعة مما سمعته من مكيّة، فهبطت كفّ مكيّة لتستقرّ على كتف المرأة البدينة. نشجت:
من دمعي گبرك بلّليته بشعواط چبدي بخّريته ما ظل بخيت وما نخيته بلكت يرد الهوه لريته. هلاه كاظم هلاه يمّه.
خرطت مكيّة سوائل أنفها، ونظرت نحو المرأة التي دنت منها حتى لاصقتها.
ـ هو شسمه؟
ـ اسرافيل.
ـ شنهي؟
ـ اسرافيل.
ـ اسم هذا يو نحوة؟
تحت سياط الحزن المنهمر المجلجل في فضاء الكنيسة تيقّنتُ أن الملائكة قد غادرت القس لتصطفّ مع أمّي. شعرتُ أنّ المسيحيّة بصلبانها وشموعها وايقوناتها قد انحازت لمكيّة الشروگيّة، وأن العذراء ليست بعيدة، مقرّة لها بجدوى حزنها وأرجحيّته. عرفت هذا حين انتحبت النسوة جميعًا، ومعهن القس. أعرف أنهن اكتفين بانتحاب متوجّس حذر لأنّ معنى ما تقوله مكيّة شقّ عليهن.
نعت مكيّة:
بالگبر كون هواي بيبان
وشوفنّك يا يمّه شوكت ما چان
لشوفة رسومك گلبي عطشان.... هلاه "سريّف" هلاه يمّه..
بدا صوت مكيّة فرصة طازجة ذكّرت هؤلاء النسوة والقس بالتراب، وأن عليهم مواجهة مصير إسرافيل الترابي بما يليق به من الحزن والبكاء. نجحت مكيّة في اقناع هؤلاء المسيحيين أن الموت لا يمكن مواجهته إلّا بنبذ ما يشغلنا كلّه والاكتفاء بما يشغل الميّت الآن. ذكّرتهن بأن موت إسرافيل قاس لأنّه مات مبتور العمر، مع امتلاكه من أسباب البقاء الكثير. شعر المسيحيون أن ثمة خطأ ما في الوجود، ذكّرتهم به نعاوي مكيّة، فاسرافيل لم يمت يأسًا، فهو ككويظم، مستقبل للحياة. ذكّرتهم بأن موت اسرافيل كموت الخدّج، يشرفون على الدنيا ونيّاتهم ناصعة في الرحيل عنها.
حين جلست شابّة جميلة على يسار أمي، وتبعتها النسوة جميعًا، شعرتُ أن مكيّة واضحة وبارزة ولديها ما تتقنه. لم يبق إلّا القس وأنا واقفين.. دنا منّي. كان التابوت وما يجري حوله محاطًا بالغموض برغم الصخب الذي أشاعته مكيّة. قال القس:
ـ أتمنى الآن امتلاك قدرتكم على البكاء.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...