[ 4 ]
كانت قد منحت الخدم إجازة ، بعد أن أنهوا أعمال النظافة بالفيلا ، وإعداد الطعام ، وأخذت حماما ، وتأنقت ، وتعطرت ، وجلست تنتظره
فى تمام الساعة الخامسة مساءاُ ، رن جرس الباب ، همت لتفتح ، وما كادت تفتح الباب حتى وجدته أمامها بطوله الفارع وعطره النفاذ ، وابتسامته العريضة ، لم تستطع أن تدارى فرحة نطت فى عينيها .
احتضنت يدها يده ، وأمطرته بعبارات الترحيب ، قادته عبر ردهة طويلة على جانبيها نباتات الزينة ، وأصص الزهور ، إلى سلالم خشبية ، وتقدمته إلى غرفة واسعة بالطابق الثاني تحوى :
مكتبة كبيرة ، تليفزيون ، فيديو ، جهاز كاسيت ، بيانو ، مكتب فخم أمامه بضع كراسى وثيرة ، وفى جانب من الغرفة سرير .
هو :
= ذوقك جميل .
هى : " بالفرنسية " :
ـ مِرسى
هو " ناظرا لصورة رجل معم على الحائط " :
= أبوك ؟!
هى :
ـ نعم .. من رجال الأزهر !
هو " مبتسما من داخله " :
= من رجال الأزهر يا بنت التربى !
" ملتفتا إليها "
ـ يبدو عليه وقار العلماء ، وسمت العظماء ، وفى طلعته هيبة .
هى :
ـ رحمة الله عليه ، كان مفوها ، وعالما جليلا ، جاب مصر من أقصاها إلى أقصاها لنشر الدعوة ، ولم يكن أبدا متزمتا .
" مستدركة " :
ـ أمازلت واقفا ؟.. أف لى ! .. كم أنا آثمة !.. كيف لم أنتبه إلى أنك مازالت واقفا؟ .. تفضل ، تفضل بالجلوس يا دكتور ، فأنا لا أصدق أنك لبيت دعوتي .. ماذا تشرب ؟
هو :
= أنا ضيفك ، وأي مشروب تحتضنه يدك يكون لذيذاُ ومثيراُ .
هى " مبتسمة " :
ـ أولا أنت لست ضيفا ، أنت صاحب بيت ..
هو " مقاطعا وضاحكا " :
= تقصدين صاحب فيلا ! ثم ماذا عن ثانيا ؟
هى " بدهاء " :
ـ فلنكمل أولا أولا ، فتتمة أولا – الفيلا تزدان بك وتصبح قصراً منيفا .
أما ثانيا : فأنا لست " ديكتاتورة " حتى أفرض عليك مشروبا ، فلك أن تختار !
هو "ضاحكا ُ " :
= "ديكتاتورة " مؤنث ديكتاتور ، أليس كذلك ؟
هى :
ـ نعم ، ولكنى لست هى .
هو :
= يا سيدتى العلم كله مبنى على الديكتاتورية ، فالديكتاتورية هى الأصل ، والحرية والديمقراطية هما الاستثناء .
هى :
ـ أرجوك – لا تفسد جلستنا بالكلام فى السياسة .
هو :
= نفترض أن المشروب الذى أريده ليس متوفرا ، فماذا يكون الموقف ؟
هى :
ـ لو طلبت لبن العصفور سأحضره لك . أو حتى النوق الحمر !
هو " ضاحكا " :
= يا ولد يا عنترة !
هى :
ـ صدقنى أنا فرحانة ، وسعيدة جدا بتشريفك لى .
هو :
= وأنا سعيد جدا بأنني تعرفت عليك ، فأشعر بأن ثمة شيئا ما يشدنى إليك ، وأنك تختلفين عن كل من التقيت بهن .
هى :
ـ هذه المشاعر الجميلة نحوى تسعدنى ، وكلامك يأسرنى .
هو " كان طوال الطريق يفكر ، كيف يجذبها – إلى الفضفضة والبوح ، كيف تُسر له بخيبات نفسها وشروخ روحها ، وتطلعه – دون أن يستخدم الخمر وسيطا – على عالمها الغريب ، عالم غرائبى ومثير ، حالة خاصة جداُ "
ـ كنت أظن أننى ... ، ولكن هناك من هو أسوأ ! ولم لا أفضفض أنا لها ، حتى تأنس لى ، وتفضفض .. ولماذا لا أكون أنا فعلا محتاج للفضفضة
هى " ضاحكة " :
ـ ألو .. نحن هنا .. أين ذهبت يا دكتور ؟
هو " ناظراً إليها " :
= كنت أفكر .. لماذا أنت وحدك – التى أريد أن أفضفض لها ؟
هي " بسعادة " :
ـ فضفض ؟! .. فضفض يا دكتور ؟! .. كلي آذان صاغية !
هو " ضاحكا " :
= الصواب مصغية .
هي :
ـ صاغية أو مصفية ، لا يهم ، المهم أن تفضفض ، والأهم أنك اخترتني من دون النساء جميعا لتفضفض لي .
هو :
= وكيف أفضفض ؟
هي :
ـ مطرقة رأسها قليلا ، ثم قائلة :
ـ وجدتها :
هو " مبتسما " :
= ماذا يا نيوتن ؟
هي :
ـ فكرة رائعة ..
ـ اخلع نعليك ؟
هو " متلفتا ًحوله وضاحكا " :
= هل نحن بالواد المقدس ؟
هي :
ـ اخلع نعليك وتمدد علي هذا السرير !
هو :
= ماذا ؟!
هي :
ـ لا تسيء الظن : ، سأفعل معك كما يفعل أطباء النفس !
هو :
= ناهضا ، وخالعا نعليه ، وفاردا جسمه علي السرير .
= ولكنني أريد أن أتوسد رجليك ، أو أن أدفن رأسي في صدرك وأفضفض .
هي :
ـ دعك من الشقاوة . وتذكر أنني طبيبتك . هل تستطيع أن تفعل هذا مع طبيبتك ؟
هو :
= حين أتوسد رجليك ، قد انكمش وأعود طفلا .. و..
هي " مخرجة أوراقا وقلما ، وتلبس نظارة طبية " :
ـ ها أنذا الطبيبة ! ، تخيل انني الطبيبة ، احك ، فضفض ؟، بح ؟ تفضل .. أوه ـ تصور أنني نسيت أن أحضر لك المشروب.
هو :
= دعك من المشروب ، فإما أن تسقيني من شهد رضا بك أو تأتيني بخمر
هي :
ـ سآتيك بخمر ، فالخمر أرحم من الذى تطلبه !
[ تعود بعد قليل بزجاجة خمر معتقة ، وثلج ، وكأسين ، وتصب له كأسا تلو كأس ..]
هو " وفي ذهنه من البداية ألا يغادر منطقة البين بين ، وأن يظل في المنطقة الفاصلة بين الوعي واللاوعي " :
= أراني !!
هي " فرحة " :
ـ ماذا تراك ؟!
هو " مغمض العينين " :
= أراني ، طفلا صغيرا .
هي :
ـ استرسل ؟ ..استرسل يا دكتور ..
" وتصب له كأسا "
هو :
= ولدت في قرية صغيرة ، لأب كان يعمل كلافا !
هي " في نفسها " :
ـ كلافا !
"وتصب له كأسا تلو الأخر .. "
هو :
= كان يعمل كلاّفاً عند أسرة تنحدر من سلالة عربية ، ذات حسب ونسب
" ويضحك " :
= وطبعا كل الأسر العربية من نسل طاهر !..و..
هي:
ـ وماذا بعد يا دكتور .
هو : " وهو يدفع بما تبقي في الكأس في جوفه " :
= وانحسرت حياة أبي في زرائبهم واسطبلاتهم ، لا يغادرها إلا ساعات قليلة ، يأتينا فيها آخر الليل ، كان راضيا ، وقانعا ، خادما أمينا ، لم يتطلع يوما إلى ما منّ الله به علي مخدومه من خير وفير ورزق كثير .
قبل أن يغادر فراشه كل صباح ، يقبل باطن كفه وظهره ، ويحمد الله ويستغفره " ويضحك " .
ويستغفر من ذنب لم يقترفه ، ومن ذنب قد يقترفه ولن يقترفه أبدا ..
كنت وهند وحيدين بعد موت أمي ، يأخذني في كل صباح من يدي لأساعده ، نطعم البهائم ، ونسقيها ، كنت علي صغرى أسوق ثلاثة حمير ، يحملني إياها بالروث ، ويوصيني ألا أنشغل في الطريق باللعب ، ويحذرني من وقوع " السباخ " علي الأرض أو انحراف الحمير عن مسارها ، " وتُجرِد " في أراضي الجيران ، فتتلف زراعتهم ونقترف إثما .
" تصب له كأسا .."
ـ عندما طلبت الست الكبيرة " هند " للخدمة في البيت الكبير مجاملة لأبي ، ولتقيه عناء همها ، وانشغاله عليها ، ولتكون تحت بصره ، راوغ ، ولم يكن أبدا مراوغاً ، وتعلل بصغر سنها ، وضعف جسمها ، ومرضها ، وما كانت ضعيفة ، ولا عرف المرض الذى يجتث أطفال القرية الغلابة طريقة إليها .
لماذا ناورت ، وراوغت ، وكذبت يا أبي ؟ ..
هل كنت تعلم أن ابنتك ..؟! .. فعصمتها من الخدمة في البيت الكبير ، وأقصي أماني بنات القرية ، أن يخدمن فيه حتى لا يفترس العمل في الحقول جمالهن .. وعلي صغرهن ينهد حيلهن ، ويذبلن وهن في عمر الزهور .
من يدرى ؟ !
.. قد يظن الكثيرون ـ أن الناس الغلابة ـ بينهم وبين الله مسافة بعيدة ، وان الله قريب فقط من الأثرياء والوجهاء .. " ويضحك فتناوله كأسا .."
الوجهاء ! .. الوجهاء!..
الوجهاء يسكنون .. ، الوجهاء يأكلون .. الوجهاء .. الوجهاء .. الوجهاء ـ في الصفوف الأولي في المساجد ! ، وكأنها محجوزة لهم ، وعلي مقاعد الصدارة في سرادقات الأفراح ! ، والعزاء!، يفسحون لهم الطريق إذا ساروا !.. حتى لا تقع عينهم علي قبيح .
لا أذكر ـ حين كنت أصلي ، أن تجرأ فقير، ودخل المسجد ، وتخطي الرقاب ! ، وجلس في الصفوف الأولى !!.
أحيانا يكون المسجد خالي من المصلين ، ولكنه أبدا لا يتجرأ علي التقدم إلي الأمام ، يختار مكانا في مؤخرة المسجد ، وينوى الصلاة ، وإذا فرغ من أداء الفرض ، يتلفت يمينا ويتلفت يسارا ، وكاللص يتقدم بحذر خطوة ، خطوة واحدة ليصلي السنة ، فإذا رجع هذه الخطوة للخلف فمن المؤكد عند الركوع أو السجود .. ستصطدم مؤخرته بالجدار ، وإذا ازدحم المسجد يوم الجمعة بالمصلين ، يخرج الأجراء والبسطاء من المسجد ، ويتراصوا خارجه ، فالأرض لهم فقط " مسجدا وطهورا " !!
" تلاحقه بكأس .."
ـ الولد ابن الشيخ ـ شيخ القبيلة ، وقع في هوى هند ، وهند بنت فلاحة . بنت الكلاف أسرت عقله ، واستعمرت قلبه ، انشغل بها عن بنت العم ، بنت الحسب والنسب .
" لحظة صمت "
ـ جيء بأبي ، علقوه من قدميه في سقف الغرفة ، وظلوا يضربونه بالخيزران بقسوة ، حتى شحب جسده بالدم ، وكووه بالنار . فالولد ـ ابن الحسب والنسب ، حزم أمتعته وبرح مع البنت هند في القرية ، فأرض الله واسعة .
الويل لكم كل الويل يا أهل هند الفقراء ، قالها الشيخ ـ لساكني العشش وألأكواخ الحقيرة التي أشعلوا فيها النيران .
" لا تدرى إن كان يضحك أو يبكي ، اختلط الضحك بالبكاء ، صبت له كأسا ، دفعة في
جوفه مرة واحدة .."
ـ شق صراخ النساء ، وبكاء الصبية الليل ، ولم يرحم الرجل ، شيخ القبيلة يتيما ولا أرملة ، عجوزا أو طفلا !
" ينكمش علي السرير ، وينكمش ، ويضع يديه بين فخديه .. "
وقال الرجل الشيخ ـ قد تصير سُنة عند الفلاحات الحقيرات ، يغوين الواحدة تلو أخرى سباب القبيلة .
" وأضاف مطوحا بعصاه الأبنوس في الهواء " :
ـ ومن يدرى .. قد يتجرأ فلاح في قادم الأيام علي إغواء فتاة من فتياتنا ، ونظر إلي .. وقال هاتوا هذا الولد ، وأخذوني ، وضعوا علي عيني عصابة ..و..
"يضع يده بين فخديه ، ويصرخ :
ـ لا..، لا..
هي " تناوله كأسا " :
ـ وماذا فعلوا بهند يا دكتور ؟
هو :
= طلب من شباب القبيلة أن يطاردهما في المدن وفي القرى ، وفي الحوارى وفي الأزقة ، وفي البحار ، وفي الصحارى .. يجب أن يدركوهما ولو كانا في بطن الحوت " يبتسم " :
ـ هند ، هند شقيقتي الوحيدة ، لا تفارقني ، كانت تكبرني بعشر سنين ، كان بينى وبينها خمس بطون ماتوا ، قليل من الأطفال كانوا يعيشون !
بنت فلاحة ، تحيك الثوب ، وتطعم الطير ، وتكنس الدار ، وتربى الماشية ، عفية كالمهرة ، وسامقة كالنخلة ، ذات عينين سوداويين وشعر أسود فاحم ، هل بارك أبى حب محمد لها ؟!.. لا أظن ، ولكننى متأكد أنه طلبها على شرع الله وسنة نبيه ، وبالتأكيد أبى أمهله ولم يعطه ردا حتى يقنع أهله وعشيرته ، وبالتأكيد كان يعلم أنه المستحيل ! .. ألهذا يا أبى ، ناورت ، وراوغت ، وكذبت ، ورفضت ، أن تخدم هند فى البيت الكبير ، هل أنا أجوب القرى المدن وأجوس خلال الديار ، كل الديار ، بحثا عن مواهب أو بحثا عن هند .
بالتأكيد محمد يعيش باسم غير اسمه ، وهند تعيش باسم غير اسمها ..
" علا نحيبه ، وانهمرت دموعه "
" جففت دمعه بمنديل ومسحت رأسه ، وهزته "
" استفاق ، ونهض قائلا وهو يردد " :
ـ هند .. هند .
هى " مبتسمة وقائلة " :
ـ اهدأ ..؟! اهدأ يا دكتور ؟! .. من هند ؟!
هو " ناظرا حواليه " :
= أنا قلت هند ؟
" مبتسما "
ـ هند وما هند إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تزوجها بغل
هى " فى نفسها " :
ـ مهرة عربية ، وسليلة أفراس يا بن الكلاف !
هل تقرض الشعر يا دكتور ؟
هو :
= أبدا .. أنا فقط أردد ما قالته هند – عندما أخذها الحجاج عنوة وأرغم زوجها على تطليقها وتزوجها !
......
.......
يتبع
كانت قد منحت الخدم إجازة ، بعد أن أنهوا أعمال النظافة بالفيلا ، وإعداد الطعام ، وأخذت حماما ، وتأنقت ، وتعطرت ، وجلست تنتظره
فى تمام الساعة الخامسة مساءاُ ، رن جرس الباب ، همت لتفتح ، وما كادت تفتح الباب حتى وجدته أمامها بطوله الفارع وعطره النفاذ ، وابتسامته العريضة ، لم تستطع أن تدارى فرحة نطت فى عينيها .
احتضنت يدها يده ، وأمطرته بعبارات الترحيب ، قادته عبر ردهة طويلة على جانبيها نباتات الزينة ، وأصص الزهور ، إلى سلالم خشبية ، وتقدمته إلى غرفة واسعة بالطابق الثاني تحوى :
مكتبة كبيرة ، تليفزيون ، فيديو ، جهاز كاسيت ، بيانو ، مكتب فخم أمامه بضع كراسى وثيرة ، وفى جانب من الغرفة سرير .
هو :
= ذوقك جميل .
هى : " بالفرنسية " :
ـ مِرسى
هو " ناظرا لصورة رجل معم على الحائط " :
= أبوك ؟!
هى :
ـ نعم .. من رجال الأزهر !
هو " مبتسما من داخله " :
= من رجال الأزهر يا بنت التربى !
" ملتفتا إليها "
ـ يبدو عليه وقار العلماء ، وسمت العظماء ، وفى طلعته هيبة .
هى :
ـ رحمة الله عليه ، كان مفوها ، وعالما جليلا ، جاب مصر من أقصاها إلى أقصاها لنشر الدعوة ، ولم يكن أبدا متزمتا .
" مستدركة " :
ـ أمازلت واقفا ؟.. أف لى ! .. كم أنا آثمة !.. كيف لم أنتبه إلى أنك مازالت واقفا؟ .. تفضل ، تفضل بالجلوس يا دكتور ، فأنا لا أصدق أنك لبيت دعوتي .. ماذا تشرب ؟
هو :
= أنا ضيفك ، وأي مشروب تحتضنه يدك يكون لذيذاُ ومثيراُ .
هى " مبتسمة " :
ـ أولا أنت لست ضيفا ، أنت صاحب بيت ..
هو " مقاطعا وضاحكا " :
= تقصدين صاحب فيلا ! ثم ماذا عن ثانيا ؟
هى " بدهاء " :
ـ فلنكمل أولا أولا ، فتتمة أولا – الفيلا تزدان بك وتصبح قصراً منيفا .
أما ثانيا : فأنا لست " ديكتاتورة " حتى أفرض عليك مشروبا ، فلك أن تختار !
هو "ضاحكا ُ " :
= "ديكتاتورة " مؤنث ديكتاتور ، أليس كذلك ؟
هى :
ـ نعم ، ولكنى لست هى .
هو :
= يا سيدتى العلم كله مبنى على الديكتاتورية ، فالديكتاتورية هى الأصل ، والحرية والديمقراطية هما الاستثناء .
هى :
ـ أرجوك – لا تفسد جلستنا بالكلام فى السياسة .
هو :
= نفترض أن المشروب الذى أريده ليس متوفرا ، فماذا يكون الموقف ؟
هى :
ـ لو طلبت لبن العصفور سأحضره لك . أو حتى النوق الحمر !
هو " ضاحكا " :
= يا ولد يا عنترة !
هى :
ـ صدقنى أنا فرحانة ، وسعيدة جدا بتشريفك لى .
هو :
= وأنا سعيد جدا بأنني تعرفت عليك ، فأشعر بأن ثمة شيئا ما يشدنى إليك ، وأنك تختلفين عن كل من التقيت بهن .
هى :
ـ هذه المشاعر الجميلة نحوى تسعدنى ، وكلامك يأسرنى .
هو " كان طوال الطريق يفكر ، كيف يجذبها – إلى الفضفضة والبوح ، كيف تُسر له بخيبات نفسها وشروخ روحها ، وتطلعه – دون أن يستخدم الخمر وسيطا – على عالمها الغريب ، عالم غرائبى ومثير ، حالة خاصة جداُ "
ـ كنت أظن أننى ... ، ولكن هناك من هو أسوأ ! ولم لا أفضفض أنا لها ، حتى تأنس لى ، وتفضفض .. ولماذا لا أكون أنا فعلا محتاج للفضفضة
هى " ضاحكة " :
ـ ألو .. نحن هنا .. أين ذهبت يا دكتور ؟
هو " ناظراً إليها " :
= كنت أفكر .. لماذا أنت وحدك – التى أريد أن أفضفض لها ؟
هي " بسعادة " :
ـ فضفض ؟! .. فضفض يا دكتور ؟! .. كلي آذان صاغية !
هو " ضاحكا " :
= الصواب مصغية .
هي :
ـ صاغية أو مصفية ، لا يهم ، المهم أن تفضفض ، والأهم أنك اخترتني من دون النساء جميعا لتفضفض لي .
هو :
= وكيف أفضفض ؟
هي :
ـ مطرقة رأسها قليلا ، ثم قائلة :
ـ وجدتها :
هو " مبتسما " :
= ماذا يا نيوتن ؟
هي :
ـ فكرة رائعة ..
ـ اخلع نعليك ؟
هو " متلفتا ًحوله وضاحكا " :
= هل نحن بالواد المقدس ؟
هي :
ـ اخلع نعليك وتمدد علي هذا السرير !
هو :
= ماذا ؟!
هي :
ـ لا تسيء الظن : ، سأفعل معك كما يفعل أطباء النفس !
هو :
= ناهضا ، وخالعا نعليه ، وفاردا جسمه علي السرير .
= ولكنني أريد أن أتوسد رجليك ، أو أن أدفن رأسي في صدرك وأفضفض .
هي :
ـ دعك من الشقاوة . وتذكر أنني طبيبتك . هل تستطيع أن تفعل هذا مع طبيبتك ؟
هو :
= حين أتوسد رجليك ، قد انكمش وأعود طفلا .. و..
هي " مخرجة أوراقا وقلما ، وتلبس نظارة طبية " :
ـ ها أنذا الطبيبة ! ، تخيل انني الطبيبة ، احك ، فضفض ؟، بح ؟ تفضل .. أوه ـ تصور أنني نسيت أن أحضر لك المشروب.
هو :
= دعك من المشروب ، فإما أن تسقيني من شهد رضا بك أو تأتيني بخمر
هي :
ـ سآتيك بخمر ، فالخمر أرحم من الذى تطلبه !
[ تعود بعد قليل بزجاجة خمر معتقة ، وثلج ، وكأسين ، وتصب له كأسا تلو كأس ..]
هو " وفي ذهنه من البداية ألا يغادر منطقة البين بين ، وأن يظل في المنطقة الفاصلة بين الوعي واللاوعي " :
= أراني !!
هي " فرحة " :
ـ ماذا تراك ؟!
هو " مغمض العينين " :
= أراني ، طفلا صغيرا .
هي :
ـ استرسل ؟ ..استرسل يا دكتور ..
" وتصب له كأسا "
هو :
= ولدت في قرية صغيرة ، لأب كان يعمل كلافا !
هي " في نفسها " :
ـ كلافا !
"وتصب له كأسا تلو الأخر .. "
هو :
= كان يعمل كلاّفاً عند أسرة تنحدر من سلالة عربية ، ذات حسب ونسب
" ويضحك " :
= وطبعا كل الأسر العربية من نسل طاهر !..و..
هي:
ـ وماذا بعد يا دكتور .
هو : " وهو يدفع بما تبقي في الكأس في جوفه " :
= وانحسرت حياة أبي في زرائبهم واسطبلاتهم ، لا يغادرها إلا ساعات قليلة ، يأتينا فيها آخر الليل ، كان راضيا ، وقانعا ، خادما أمينا ، لم يتطلع يوما إلى ما منّ الله به علي مخدومه من خير وفير ورزق كثير .
قبل أن يغادر فراشه كل صباح ، يقبل باطن كفه وظهره ، ويحمد الله ويستغفره " ويضحك " .
ويستغفر من ذنب لم يقترفه ، ومن ذنب قد يقترفه ولن يقترفه أبدا ..
كنت وهند وحيدين بعد موت أمي ، يأخذني في كل صباح من يدي لأساعده ، نطعم البهائم ، ونسقيها ، كنت علي صغرى أسوق ثلاثة حمير ، يحملني إياها بالروث ، ويوصيني ألا أنشغل في الطريق باللعب ، ويحذرني من وقوع " السباخ " علي الأرض أو انحراف الحمير عن مسارها ، " وتُجرِد " في أراضي الجيران ، فتتلف زراعتهم ونقترف إثما .
" تصب له كأسا .."
ـ عندما طلبت الست الكبيرة " هند " للخدمة في البيت الكبير مجاملة لأبي ، ولتقيه عناء همها ، وانشغاله عليها ، ولتكون تحت بصره ، راوغ ، ولم يكن أبدا مراوغاً ، وتعلل بصغر سنها ، وضعف جسمها ، ومرضها ، وما كانت ضعيفة ، ولا عرف المرض الذى يجتث أطفال القرية الغلابة طريقة إليها .
لماذا ناورت ، وراوغت ، وكذبت يا أبي ؟ ..
هل كنت تعلم أن ابنتك ..؟! .. فعصمتها من الخدمة في البيت الكبير ، وأقصي أماني بنات القرية ، أن يخدمن فيه حتى لا يفترس العمل في الحقول جمالهن .. وعلي صغرهن ينهد حيلهن ، ويذبلن وهن في عمر الزهور .
من يدرى ؟ !
.. قد يظن الكثيرون ـ أن الناس الغلابة ـ بينهم وبين الله مسافة بعيدة ، وان الله قريب فقط من الأثرياء والوجهاء .. " ويضحك فتناوله كأسا .."
الوجهاء ! .. الوجهاء!..
الوجهاء يسكنون .. ، الوجهاء يأكلون .. الوجهاء .. الوجهاء .. الوجهاء ـ في الصفوف الأولي في المساجد ! ، وكأنها محجوزة لهم ، وعلي مقاعد الصدارة في سرادقات الأفراح ! ، والعزاء!، يفسحون لهم الطريق إذا ساروا !.. حتى لا تقع عينهم علي قبيح .
لا أذكر ـ حين كنت أصلي ، أن تجرأ فقير، ودخل المسجد ، وتخطي الرقاب ! ، وجلس في الصفوف الأولى !!.
أحيانا يكون المسجد خالي من المصلين ، ولكنه أبدا لا يتجرأ علي التقدم إلي الأمام ، يختار مكانا في مؤخرة المسجد ، وينوى الصلاة ، وإذا فرغ من أداء الفرض ، يتلفت يمينا ويتلفت يسارا ، وكاللص يتقدم بحذر خطوة ، خطوة واحدة ليصلي السنة ، فإذا رجع هذه الخطوة للخلف فمن المؤكد عند الركوع أو السجود .. ستصطدم مؤخرته بالجدار ، وإذا ازدحم المسجد يوم الجمعة بالمصلين ، يخرج الأجراء والبسطاء من المسجد ، ويتراصوا خارجه ، فالأرض لهم فقط " مسجدا وطهورا " !!
" تلاحقه بكأس .."
ـ الولد ابن الشيخ ـ شيخ القبيلة ، وقع في هوى هند ، وهند بنت فلاحة . بنت الكلاف أسرت عقله ، واستعمرت قلبه ، انشغل بها عن بنت العم ، بنت الحسب والنسب .
" لحظة صمت "
ـ جيء بأبي ، علقوه من قدميه في سقف الغرفة ، وظلوا يضربونه بالخيزران بقسوة ، حتى شحب جسده بالدم ، وكووه بالنار . فالولد ـ ابن الحسب والنسب ، حزم أمتعته وبرح مع البنت هند في القرية ، فأرض الله واسعة .
الويل لكم كل الويل يا أهل هند الفقراء ، قالها الشيخ ـ لساكني العشش وألأكواخ الحقيرة التي أشعلوا فيها النيران .
" لا تدرى إن كان يضحك أو يبكي ، اختلط الضحك بالبكاء ، صبت له كأسا ، دفعة في
جوفه مرة واحدة .."
ـ شق صراخ النساء ، وبكاء الصبية الليل ، ولم يرحم الرجل ، شيخ القبيلة يتيما ولا أرملة ، عجوزا أو طفلا !
" ينكمش علي السرير ، وينكمش ، ويضع يديه بين فخديه .. "
وقال الرجل الشيخ ـ قد تصير سُنة عند الفلاحات الحقيرات ، يغوين الواحدة تلو أخرى سباب القبيلة .
" وأضاف مطوحا بعصاه الأبنوس في الهواء " :
ـ ومن يدرى .. قد يتجرأ فلاح في قادم الأيام علي إغواء فتاة من فتياتنا ، ونظر إلي .. وقال هاتوا هذا الولد ، وأخذوني ، وضعوا علي عيني عصابة ..و..
"يضع يده بين فخديه ، ويصرخ :
ـ لا..، لا..
هي " تناوله كأسا " :
ـ وماذا فعلوا بهند يا دكتور ؟
هو :
= طلب من شباب القبيلة أن يطاردهما في المدن وفي القرى ، وفي الحوارى وفي الأزقة ، وفي البحار ، وفي الصحارى .. يجب أن يدركوهما ولو كانا في بطن الحوت " يبتسم " :
ـ هند ، هند شقيقتي الوحيدة ، لا تفارقني ، كانت تكبرني بعشر سنين ، كان بينى وبينها خمس بطون ماتوا ، قليل من الأطفال كانوا يعيشون !
بنت فلاحة ، تحيك الثوب ، وتطعم الطير ، وتكنس الدار ، وتربى الماشية ، عفية كالمهرة ، وسامقة كالنخلة ، ذات عينين سوداويين وشعر أسود فاحم ، هل بارك أبى حب محمد لها ؟!.. لا أظن ، ولكننى متأكد أنه طلبها على شرع الله وسنة نبيه ، وبالتأكيد أبى أمهله ولم يعطه ردا حتى يقنع أهله وعشيرته ، وبالتأكيد كان يعلم أنه المستحيل ! .. ألهذا يا أبى ، ناورت ، وراوغت ، وكذبت ، ورفضت ، أن تخدم هند فى البيت الكبير ، هل أنا أجوب القرى المدن وأجوس خلال الديار ، كل الديار ، بحثا عن مواهب أو بحثا عن هند .
بالتأكيد محمد يعيش باسم غير اسمه ، وهند تعيش باسم غير اسمها ..
" علا نحيبه ، وانهمرت دموعه "
" جففت دمعه بمنديل ومسحت رأسه ، وهزته "
" استفاق ، ونهض قائلا وهو يردد " :
ـ هند .. هند .
هى " مبتسمة وقائلة " :
ـ اهدأ ..؟! اهدأ يا دكتور ؟! .. من هند ؟!
هو " ناظرا حواليه " :
= أنا قلت هند ؟
" مبتسما "
ـ هند وما هند إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تزوجها بغل
هى " فى نفسها " :
ـ مهرة عربية ، وسليلة أفراس يا بن الكلاف !
هل تقرض الشعر يا دكتور ؟
هو :
= أبدا .. أنا فقط أردد ما قالته هند – عندما أخذها الحجاج عنوة وأرغم زوجها على تطليقها وتزوجها !
......
.......
يتبع