محمد عيد ابراهيم - أوهام أيمن مارديني

يحدد إيهاب حسن في مصنّفه (منعطف مابعد الحداثة)، أن الانتهاك "ينحو إلى اللاشكلانية والفوضى، بما يؤكد جدلية العنف، فالأدب فعل شيطاني ورد فعل شيطاني، لكنه يحتاج في النهاية إلى نزعة رؤيوية". وقد ارتأينا مصداقاً لهذا رواية (سيرة الانتهاك) للمبدع السوري أيمن مارديني، طبعة دار (أكد) التي أساءت للنص للأسف، سواءً بالقطع العجيب أو أخطاء الطبع العجيبة.
تنقسم الرواية إلى فصول بأرقام، يروي خلالها عدداً من الحكايات أو الرؤى القصصية على لسان شخص واحد، هو أيمن نفسه، لكن لا يخدعنّك هذا، فهو متعدد الأقنعة، أو الأوهام، كلّ فصل بوهم، يفصّله على مقاسه، وأحياناً بل دائماً باسم جديد، وقد يكون حتى اسم امرأة، فهو الراوي الدائم، لكنه ليس العليم، حيث لا يعلم الكثيرعن شخوصه، بل ويستطلع هذه المعرفة، مثلك يا قارئ، من سرد الحدث ومعاقرة المكان وروح ساكنيه وكيف تتطور مشاعرهم وإلى ماذا تفضي، من دون أن يضع ولو نهاية واحدة تامة لإرضاء القارئ (العليم) الذي يستكمل مابدأه المبدع، ولو كان على غير هواه.
يبدأ مارديني أوهامه على يد فاتن، وهي خالة عزباء تنتهك طفولته، يراها مرةً مع أبيه ليلاً، ثم يتشكك في نسبه: هل هو ابن خطيئة من أمه، وذاك ليس أباه، وهل انتحرت فاتن في النهاية، بعدما حملَت سفاحاً؟ ويعود الراوي إلى حكاية أمه، وسيرته المبكرة، وانتهاك الأب لأمه فقد تزوجها طفلة، وأجبرها على ترك اللعب، لكن أسرقت خالته أباه من أمه، يظلّ السؤال معلقاً.
فاتن وهم كبير، سيظلّ في وعي الكاتب طويلاً، اغتصبها الجميع، ولم يرحمها الجميع، تقول: (يا من ترجمونني اليوم، نلتم ماتظنون، لكني من أخضعكم ونال منكم)، ويعقّب (هي لم تقل، لكني رأيت، وكنت شاهداً).
ثمة وهمٌ آخر هو منال، الابنة المتبناة لشيخ لا يُنجب، وكان صوفياً متجرّداً يعشق امرأته، وذات ليلة تأتيها أم الراوي بطفلة وجدتها عند باب الجامع، فهل هي للشيخ أيام شبابه من زوجة أوروبية، أم بنت سفاح فعلاً، لكنها تصبح (زرقاء اليمامة) تتنبأ من بعيد بما هو قادم، وتكتمل (الواقعية السحرية) حين تحمل منال وهي فتاة صغيرة، مع أن الداية تؤكد أنها عذراء، فمِمّن الحمل، هل ركبها الجنّ؟ ويظلّ الوهم وهماً.
ثمة وهم جديد، فما أن تملّ وهماً حتى يوقعك في غيره، علاقة الراوي بشيخ صوفي زاهد مسنّ، يستبطن الألم، بمعادلة كمتوالية حسابية (نص حكيم له سرّ قاطع، سرٌّ حكيم له نصٌّ قاطع) إلخ. فما السرّ ومَن الحكيم وأين الرؤيا، وكلكم كاذبون!
نكتشف هنا لعبة أخرى، أن أيمن الراوي ليس أيمن، بل أنس توأمه، فقد مات أيمن في حادثة، وحلّ محله أنس، لكن بإسم أيمن. ثم وهم جديد، نسيم المسيحي، يبدأ السرد، يعمل في حمّام شعبي، ويتعرّف إلى باشا ثريّ، يلحقه بخدمته في بيته، وتتوالى الأحداث إلى أن يقتل نسيم مخدومه (الكلاب ليس لها إلا الموت مثل الكلاب).
الوهم الأخير، في الفصل التاسع والأخير، وهو أطولها. تتداخل الأوهام، بعضها فوق بعض: أبو الصباح، تاجر بيع وشراء المكتبات، مبروكة التي اغتُصبت وطردت، عمته التي لاتريد أن تبوح بالسرّ، وأيُّ سرّ؟!، حيّ الحسين كمكان بطل، د.المملوكي أول من نال دكتوراه من أكسفورد ومكتبته، زوجة أبيه الثانية وسرقة الإرث، رمزية الأم التي تتعامل مع الإبن كالزوج، نسيم الذي يغيب في إشارات القدر، وأيمن مارديني بطل النص وكاتبه نفسه، حيث يتّصل الأنا بالآخر، على أمل أن يكمل القارئ مابدأ، ولو بضمير آخر، يقول: (هنا، يكمن الخلاص)!







تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...