"أنا وحاييم" رواية للكاتب الجزائري الحبيب السائح وهو من مواليد العام ١٩٥١ ، وقد صدرت في العام ٢٠١٨ .
الكاتب ليس معروفا لقراء فلسطين المحتلة ، خلافا لكتاب جزائريين آخرين التفت إلى أعمالهم قراءة وطباعة مثل الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج الذين صارت أسماؤهم جزءا من مشهدنا الثقافي ، وبدرجة أقل منهم الكتاب الجزائريون الذين كتبوا بالفرنسية مثل كاتب ياسين " نجمة " ومحمد ديب " ثلاثية البيت الكبير والحريق والنول " وآخرون كتبوا بالعربية مثل فضيلة الفاروق " اكتشاف الشهوة " وعبد الحميد بن هدوقة " ريح الجنوب " وبعض من رشحوا لجائزة البوكر مثل بشير مفتي " دمية النار ".
بعض الروائيين تعاطفوا مع الفلسطينيين وأبرزوا لهم صورة إيجابية مثل مستغانمي في ثلاثيتها " ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير " ، ووطار في " تجربة عن العشق " والأعرج في " سوناتا لأشباح القدس " .
وقسم منهم كتب عن يهود الجزائر مثل وطار في " الزلزال " والأعرج في " سوناتا لأشباح القدس " و" البيت الأندلسي " وأمين الزاوي / ياسمين خضرة في " اليهودي الأخير من تمنطيط " وأعمال أخرى .
لم أقرأ أعمال الحبيب السائح كلها لأعرف إن كان كتب عن الفلسطينيين أو عن اليهود ، وروايته هذه " أنا وحاييم " هي العمل الوحيد الذي قرأته له وقرأت عنه مراجعات عديدة وملخصات كثيرة لأبحاث ستتناول صورة اليهود فيه ، ففي حزيران ٢٠٢١ سيعقد مؤتمر ، أعد له الدكتور الفلسطيني حسين المناصرة ، عنوانه " تمثيلات الشخصية اليهودية في الرواية العربية " وسيشارك فيه أكثر من ثمانين باحثا وباحثة ، حظيت رواية " أنا وحاييم " بنصيب كبير منها ، والرواية وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الروايةالعربية " بوكر " وحصلت على جائزة كتارا للرواية العربية .
تقع " أنا وحاييم " في ٣٣٣ صفحة ، وأنجزها كاتبها في آذار ٢٠١٨ ، ويعود زمنها الروائي إلى منتصف القرن ٢٠ - ثلاثة عقود منه تنتهي باستقلال الجزائر وانقلاب المرحوم هواري بومدين على الرئيس الأول للجزائر أحمد بن بللا . وترصد علاقة أنا السارد أرسلان بصديق طفولته حاييم بنميمون حتى وفاة الأخير بالسرطان في النصف الثاني من ٦٠ القرن ٢٠ .
كما هو واضح فإن الزمن الكتابي يبتعد حوالي خمسين عاما عن الزمن الروائي ، وإذا كان الكاتب من مواليد ١٩٥١ ، فهذا يعني أنه كان ، وهو طفل ، شاهدا على أحداث الزمن الروائي . لقد كان عمره أيام انقلاب بومدين - اللحظة التي انتهت أحداث الرواية عنده - خمسة عشر عاما ، وبذلك يكون شهد سنوات الاستقلال وسنوات انطلاق الثورة في ١٩٥٤ .
يهدي السائح روايته " إلى وليام سبورتيس William Sportisse مواطني الذي عرفته في " جنان الزيتون Ie camp des Olivier's " " ، ويعرف المرء عن الأخير من مقال نشرته سلمى قويدر في ١٨ /١٢/ ٢٠١٩ تحت عنوان " ويليام سبورتس .. جزائري يهودي مناهض للاستعمار والصهيونية والاستبداد " ( تويتر/ الترا جزائر ) . في مقال سلمى نقرأ عن حياته قراءة تقودنا إلى الإجابة عن أسئلة تتبادر إلى ذهننا ونحن نقرأ رواية يفارق زمنها الكتابي زمنها الروائي .
أول سؤال خطر ببالي وأنا أقرأ الرواية سؤال ينسحب على هذه الرواية وروايات أخرى كثيرة كتبت في العقدين الأخيرين أبرز فيها كتابها صورة إيجابية لليهود ولم يلتفتوا الالتفات نفسه إلى الفلسطيني والفلسطينيين ، وترافق هذا مع بداية موجة تطبيع عربية مع الدولة العبرية ، وغالبا ما كانت مخيلة الفلسطيني تذهب مذاهب شتى تنال من الكتاب .
في التوقف أمام الإهداء والقراءة عن ( سبورتيس ) يعثر المرء على سبب آخر للكتابة المتأخرة ، وهو أن ( سبورتيس ) يهودي وطني جزائري شيوعي من أسرة فقيرة مناضلة ضد النازية ، وأنه كتب رسالة إلى الرئيس هواري بومدين بعد الانقلاب على الرئيس أحمد بن بللا ، وظلت هذه الرسالة حبيسة الأدراج ولم يفرج عنها إلا في العام ٢٠١٢ . ويقرأ المرء عن معاناة (سبورتيس ) وسجنه وتركه الجزائر وعدم هجرته إلى إسرائيل ، بل ومشاركته في حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي ، وهذا كله أوحى للكاتب بشخصية حاييم في روايته ، فالتطابق بين ( سبوريتس ) وحاييم في المواقف تطابق كبير ، وإن اختلفت التفاصيل الجزئية ، وحاييم أيضا من أسرة فقيرة ، وكان يسهم من خلال صيدليته بمساعدة الثوار الجزائريين ويمدهم بالأدوية ، بل إنه خبأ قسما منهم وعالجه ، معرضا حياته للخطر ، وهو لم يعتبر نفسه يوما فرنسيا ، ومثله والدته التي ظلت مثله لا تشعر بأنها فرنسية " وأنا طفل كنت لا أجد لها شبها يقربها من نساء الأقدام السوداء والأوروبيات .
مات حاييم في العام ١٩٦٧ ولم يقترن بصديقته جولدا الصهيونية التي حثته على الهجرة إلى فلسطين وتخلى عنها ، أما ( سبورتيس ) فقد امتد به العمر وما زال يعيش في فرنسا مع زوجته التي ناضلت معه .
وعموما فإن السائح لا يشيطن اليهود كلهم . إنه يميز بين يهودي شيوعي وآخر صهيوني ، ويقدم شخصية يهودية جزائرية وطنية ناضلت ضد الاستعمار تعرضت في زمن الاستقلال إلى التضييق عليها من التيار الإسلامي الذي رمى إلى أسلمة الجزائر .
ما سبق لا يعني أن اليهود كلهم بدوا في الرواية على شاكلته ، فثمة يهود كانوا يقفون إلى جانب الإدارة الاستعمارية ويؤيدون كل فعل عقابي منها بحق الأهالي عند تسليط الضرائب والغرامات عليهم ، التجار الصغار منهم والحرفيين خاصة .
بقيت نقطة أود لفت النظر إليها .
في أدبيات عصر التنوير في أوروبا أخذ الكتاب يرسمون صورة إيجابية لليهود مغايرة للصورة التقليدية لهم ، ولكن الصورة التقليدية لم تختف من الكتابات الجديدة التي انبثقت من فلسفة عصر التنوير ، وأعتقد أن هذا يبرز أيضا في كتابات الكتاب العرب الذين يبرزون لليهود صورة إيجابية ، فاليهودي التقليدي المرابي والمكار والخبيث ومحب المال يحضر في رواياتهم ، وهو ما يظهر في " أنا وحاييم " فلو تتبعنا ما كتب عن اليهود كمجموع وكأفراد فإننا نقرأ عنهم ما قرأناه في أعمال أدبية شيطنتهم ، من ذلك مثلا الآتي :
- اليهودي المرابي سمير مردوخ ، فهذا اليهودي لا يهمه إلا المال :
" لم يشفع لوالدي عند مردوخ أنه من ملته ودينه لما تجاوز الأجل المحدد لتخليص رهن مجوهرات والدتي من أجل مصاريف تسجيلي في الجامعة !"
ويبلغ الأمر بحاييم أن بلغت به الرغبة في أن يمسك مردوخ من لحيته التي تشبه لحية تيس ويسحبه من فوق النضد ويسقطه أرضا عند قدميه ثم يجره إلى الرصيف ويعود فيأخذ الولاعة ويشعل النار في محتويات المكتب البائس .
- اليهودي المحتكر والمستغل ، فإنتاج القمح كانت سوقه بيد عائلتين يهوديتين قدمتا من إيطاليا واستقرتا في مدينة الجزائر " يلقبان بملكي الجزائر ، كما أخبرني الوالد يوما وهو يحدثني عن تاريخ العائلات اليهودية المهاجرة
- بكري كوهين وبوشناق نفطالي " وهؤلاء اليهود هم من غادروا الجزائر مع الفرنسيين حين تركها الأخيرون مهزومين .
اليهودي المتعالي الذي يحتقر الآخرين وينظر إليهم على أنهم حثالات ، ويتجسد هؤلاء في جولدا رفائيل صديقة حاييم التي كثفت من اتصالاتها بيهود المدينة لدفعهم إلى الهجرة " وكان تعجلها إقناع حاييم بحسم مسألة مغادرته إلى فلسطين قد تحول عندها إلى هوس .
كانت جولدا هذه إحدى أشد خيبات حاييم وأقساها ، وكانت تخاطبه إذ يرفض الانصياع لها بالآتي :
" أنتم معشر التوشافيم الأهالي ما أجبنكم ! أنتم عار اليهود في هذا البلد !"
و
" كيف ليهودي مثلك أن يرهن شرفه ودينه وحياته لهؤلاء الحثالات ، وفوق ذلك أن يتواطأ مع قتلهم من الفلاكة!" - تقصد من المقاومين الجزائريين الذين تعاطف حاييم معهم وساعدهم .
و
" ابق أنت ومن معك من التوشافيم !
وهنا يرد عليها :
"- لأنكم اشكيناز فأنتم تعتقدون أنفسكم مثل الأوروبيين! فقط لأنكم لبستم لباسهم وتعودتم عاداتهم !" .
- المكر والميل إلى الفكاهة :
يتشابه حاييم مع اليهود التقليديين في أمرين هما الميل إلى الفكاهة والمزاح والمكر . إنه على الرغم من الصفات الإيجابية كلها وعلى الرغم من أنه جزائري وطني يقف إلى جانب استقلال الجزائر ويدعو إلى العدالة الاجتماعية ويتبرع للثورة بسخاء ويبدو صديقا حميما ، إلا أنه أحيانا لا يخلو من مكر غالبا ما ينعت المسلمون اليهود به " فطمأني ، بمكره ، على أننا كذلك " .
********************************
يمكن اقتباس الفقرات الآتية من صفحتي ١٨٧و١٨٨ لمعرفة الصفات التي يتمتع بها حاييم :
" حاييم كان يعرف أنه لن يحرجني - وذلك لصداقتنا التي ضرب عليها سور مودة يمنع كل تشويش على حميميتها ... "
" لبرهة تخيلت حاييم في قبضة جلاديه بجسده غير الصلب كيف يكون انكساره مؤلما لأول ضربة يتلقاها . كنت أعرفه أكثر مما كان لأي أحد غيري أن يعرفه ؛ لا سي فراجي ولا الضابط زياد ؛ فهو الآخر سألني عنه ليطمئن علي منه فأجبته بأنه أوثق مما يتصوره " .
" تعرف يا أرسلان ؟ كل يوم ازداد شعورا بأن مكاني يجب أن يكون إلى جانبك . أحمل السلاح مثلك من أجل شعب يستحق الحياة !"
" فهو لم يزايد يوما في شيء .يتحفظ ويزن كلماته وتلك كانت رغبته في أن يكون إلى جانبي في الجبل . قال لي مرة ، مثل حكيم ، إن الكلمة التي لا تشعر بثقلها على لسانك ابتلعها لأنها لا تستحق أن تخرج " .
وهكذا يبدو حاييم انسانا وطنيا وصديقا ومحل ثقة ومضحيا بنفسه من أجل بلده الجزائر ، لا يزايد ولا يقوم إلا بواجبه ، وهذه الصفات الإيجابية نادرا عموما ما كانت تظهر لليهودي في الأدب العربي قديمه وحديثه . إنها عموما الصفات التي عرف بها ( وليم اسبورتيس ) الذي أهديت الرواية إليه ، كما قرأناها في مقال سلمى المذكور .
قبل أشهر اتصل بي اليهودي الفتحاوي الانتماء ( أوري ديفز / ديفيس ) وسألني :
- هل تعرفني ؟
هل تعرفون أوري ديفز / ديفيس عضو المجلس الثوري في حركة فتح الذي نظمه أبوجهاد في العام ١٩٨٤ ؟
إنه يعرف نفسه على أنه يهودي عبري فلسطيني معاد للصهيونية .
وربما يكتب روائي فلسطيني ذات يوم رواية عنوانها " أنا و أوري " . من يدري ؟!
( مقالي ليوم الأحد ٩ أيار ٢٠٢١ لدفاتر الأيام الفلسطينية في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )
الجمعة والسبت
٧ و ٨ آيار ٢٠٢١
الكاتب ليس معروفا لقراء فلسطين المحتلة ، خلافا لكتاب جزائريين آخرين التفت إلى أعمالهم قراءة وطباعة مثل الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج الذين صارت أسماؤهم جزءا من مشهدنا الثقافي ، وبدرجة أقل منهم الكتاب الجزائريون الذين كتبوا بالفرنسية مثل كاتب ياسين " نجمة " ومحمد ديب " ثلاثية البيت الكبير والحريق والنول " وآخرون كتبوا بالعربية مثل فضيلة الفاروق " اكتشاف الشهوة " وعبد الحميد بن هدوقة " ريح الجنوب " وبعض من رشحوا لجائزة البوكر مثل بشير مفتي " دمية النار ".
بعض الروائيين تعاطفوا مع الفلسطينيين وأبرزوا لهم صورة إيجابية مثل مستغانمي في ثلاثيتها " ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير " ، ووطار في " تجربة عن العشق " والأعرج في " سوناتا لأشباح القدس " .
وقسم منهم كتب عن يهود الجزائر مثل وطار في " الزلزال " والأعرج في " سوناتا لأشباح القدس " و" البيت الأندلسي " وأمين الزاوي / ياسمين خضرة في " اليهودي الأخير من تمنطيط " وأعمال أخرى .
لم أقرأ أعمال الحبيب السائح كلها لأعرف إن كان كتب عن الفلسطينيين أو عن اليهود ، وروايته هذه " أنا وحاييم " هي العمل الوحيد الذي قرأته له وقرأت عنه مراجعات عديدة وملخصات كثيرة لأبحاث ستتناول صورة اليهود فيه ، ففي حزيران ٢٠٢١ سيعقد مؤتمر ، أعد له الدكتور الفلسطيني حسين المناصرة ، عنوانه " تمثيلات الشخصية اليهودية في الرواية العربية " وسيشارك فيه أكثر من ثمانين باحثا وباحثة ، حظيت رواية " أنا وحاييم " بنصيب كبير منها ، والرواية وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الروايةالعربية " بوكر " وحصلت على جائزة كتارا للرواية العربية .
تقع " أنا وحاييم " في ٣٣٣ صفحة ، وأنجزها كاتبها في آذار ٢٠١٨ ، ويعود زمنها الروائي إلى منتصف القرن ٢٠ - ثلاثة عقود منه تنتهي باستقلال الجزائر وانقلاب المرحوم هواري بومدين على الرئيس الأول للجزائر أحمد بن بللا . وترصد علاقة أنا السارد أرسلان بصديق طفولته حاييم بنميمون حتى وفاة الأخير بالسرطان في النصف الثاني من ٦٠ القرن ٢٠ .
كما هو واضح فإن الزمن الكتابي يبتعد حوالي خمسين عاما عن الزمن الروائي ، وإذا كان الكاتب من مواليد ١٩٥١ ، فهذا يعني أنه كان ، وهو طفل ، شاهدا على أحداث الزمن الروائي . لقد كان عمره أيام انقلاب بومدين - اللحظة التي انتهت أحداث الرواية عنده - خمسة عشر عاما ، وبذلك يكون شهد سنوات الاستقلال وسنوات انطلاق الثورة في ١٩٥٤ .
يهدي السائح روايته " إلى وليام سبورتيس William Sportisse مواطني الذي عرفته في " جنان الزيتون Ie camp des Olivier's " " ، ويعرف المرء عن الأخير من مقال نشرته سلمى قويدر في ١٨ /١٢/ ٢٠١٩ تحت عنوان " ويليام سبورتس .. جزائري يهودي مناهض للاستعمار والصهيونية والاستبداد " ( تويتر/ الترا جزائر ) . في مقال سلمى نقرأ عن حياته قراءة تقودنا إلى الإجابة عن أسئلة تتبادر إلى ذهننا ونحن نقرأ رواية يفارق زمنها الكتابي زمنها الروائي .
أول سؤال خطر ببالي وأنا أقرأ الرواية سؤال ينسحب على هذه الرواية وروايات أخرى كثيرة كتبت في العقدين الأخيرين أبرز فيها كتابها صورة إيجابية لليهود ولم يلتفتوا الالتفات نفسه إلى الفلسطيني والفلسطينيين ، وترافق هذا مع بداية موجة تطبيع عربية مع الدولة العبرية ، وغالبا ما كانت مخيلة الفلسطيني تذهب مذاهب شتى تنال من الكتاب .
في التوقف أمام الإهداء والقراءة عن ( سبورتيس ) يعثر المرء على سبب آخر للكتابة المتأخرة ، وهو أن ( سبورتيس ) يهودي وطني جزائري شيوعي من أسرة فقيرة مناضلة ضد النازية ، وأنه كتب رسالة إلى الرئيس هواري بومدين بعد الانقلاب على الرئيس أحمد بن بللا ، وظلت هذه الرسالة حبيسة الأدراج ولم يفرج عنها إلا في العام ٢٠١٢ . ويقرأ المرء عن معاناة (سبورتيس ) وسجنه وتركه الجزائر وعدم هجرته إلى إسرائيل ، بل ومشاركته في حرب التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي ، وهذا كله أوحى للكاتب بشخصية حاييم في روايته ، فالتطابق بين ( سبوريتس ) وحاييم في المواقف تطابق كبير ، وإن اختلفت التفاصيل الجزئية ، وحاييم أيضا من أسرة فقيرة ، وكان يسهم من خلال صيدليته بمساعدة الثوار الجزائريين ويمدهم بالأدوية ، بل إنه خبأ قسما منهم وعالجه ، معرضا حياته للخطر ، وهو لم يعتبر نفسه يوما فرنسيا ، ومثله والدته التي ظلت مثله لا تشعر بأنها فرنسية " وأنا طفل كنت لا أجد لها شبها يقربها من نساء الأقدام السوداء والأوروبيات .
مات حاييم في العام ١٩٦٧ ولم يقترن بصديقته جولدا الصهيونية التي حثته على الهجرة إلى فلسطين وتخلى عنها ، أما ( سبورتيس ) فقد امتد به العمر وما زال يعيش في فرنسا مع زوجته التي ناضلت معه .
وعموما فإن السائح لا يشيطن اليهود كلهم . إنه يميز بين يهودي شيوعي وآخر صهيوني ، ويقدم شخصية يهودية جزائرية وطنية ناضلت ضد الاستعمار تعرضت في زمن الاستقلال إلى التضييق عليها من التيار الإسلامي الذي رمى إلى أسلمة الجزائر .
ما سبق لا يعني أن اليهود كلهم بدوا في الرواية على شاكلته ، فثمة يهود كانوا يقفون إلى جانب الإدارة الاستعمارية ويؤيدون كل فعل عقابي منها بحق الأهالي عند تسليط الضرائب والغرامات عليهم ، التجار الصغار منهم والحرفيين خاصة .
بقيت نقطة أود لفت النظر إليها .
في أدبيات عصر التنوير في أوروبا أخذ الكتاب يرسمون صورة إيجابية لليهود مغايرة للصورة التقليدية لهم ، ولكن الصورة التقليدية لم تختف من الكتابات الجديدة التي انبثقت من فلسفة عصر التنوير ، وأعتقد أن هذا يبرز أيضا في كتابات الكتاب العرب الذين يبرزون لليهود صورة إيجابية ، فاليهودي التقليدي المرابي والمكار والخبيث ومحب المال يحضر في رواياتهم ، وهو ما يظهر في " أنا وحاييم " فلو تتبعنا ما كتب عن اليهود كمجموع وكأفراد فإننا نقرأ عنهم ما قرأناه في أعمال أدبية شيطنتهم ، من ذلك مثلا الآتي :
- اليهودي المرابي سمير مردوخ ، فهذا اليهودي لا يهمه إلا المال :
" لم يشفع لوالدي عند مردوخ أنه من ملته ودينه لما تجاوز الأجل المحدد لتخليص رهن مجوهرات والدتي من أجل مصاريف تسجيلي في الجامعة !"
ويبلغ الأمر بحاييم أن بلغت به الرغبة في أن يمسك مردوخ من لحيته التي تشبه لحية تيس ويسحبه من فوق النضد ويسقطه أرضا عند قدميه ثم يجره إلى الرصيف ويعود فيأخذ الولاعة ويشعل النار في محتويات المكتب البائس .
- اليهودي المحتكر والمستغل ، فإنتاج القمح كانت سوقه بيد عائلتين يهوديتين قدمتا من إيطاليا واستقرتا في مدينة الجزائر " يلقبان بملكي الجزائر ، كما أخبرني الوالد يوما وهو يحدثني عن تاريخ العائلات اليهودية المهاجرة
- بكري كوهين وبوشناق نفطالي " وهؤلاء اليهود هم من غادروا الجزائر مع الفرنسيين حين تركها الأخيرون مهزومين .
اليهودي المتعالي الذي يحتقر الآخرين وينظر إليهم على أنهم حثالات ، ويتجسد هؤلاء في جولدا رفائيل صديقة حاييم التي كثفت من اتصالاتها بيهود المدينة لدفعهم إلى الهجرة " وكان تعجلها إقناع حاييم بحسم مسألة مغادرته إلى فلسطين قد تحول عندها إلى هوس .
كانت جولدا هذه إحدى أشد خيبات حاييم وأقساها ، وكانت تخاطبه إذ يرفض الانصياع لها بالآتي :
" أنتم معشر التوشافيم الأهالي ما أجبنكم ! أنتم عار اليهود في هذا البلد !"
و
" كيف ليهودي مثلك أن يرهن شرفه ودينه وحياته لهؤلاء الحثالات ، وفوق ذلك أن يتواطأ مع قتلهم من الفلاكة!" - تقصد من المقاومين الجزائريين الذين تعاطف حاييم معهم وساعدهم .
و
" ابق أنت ومن معك من التوشافيم !
وهنا يرد عليها :
"- لأنكم اشكيناز فأنتم تعتقدون أنفسكم مثل الأوروبيين! فقط لأنكم لبستم لباسهم وتعودتم عاداتهم !" .
- المكر والميل إلى الفكاهة :
يتشابه حاييم مع اليهود التقليديين في أمرين هما الميل إلى الفكاهة والمزاح والمكر . إنه على الرغم من الصفات الإيجابية كلها وعلى الرغم من أنه جزائري وطني يقف إلى جانب استقلال الجزائر ويدعو إلى العدالة الاجتماعية ويتبرع للثورة بسخاء ويبدو صديقا حميما ، إلا أنه أحيانا لا يخلو من مكر غالبا ما ينعت المسلمون اليهود به " فطمأني ، بمكره ، على أننا كذلك " .
********************************
يمكن اقتباس الفقرات الآتية من صفحتي ١٨٧و١٨٨ لمعرفة الصفات التي يتمتع بها حاييم :
" حاييم كان يعرف أنه لن يحرجني - وذلك لصداقتنا التي ضرب عليها سور مودة يمنع كل تشويش على حميميتها ... "
" لبرهة تخيلت حاييم في قبضة جلاديه بجسده غير الصلب كيف يكون انكساره مؤلما لأول ضربة يتلقاها . كنت أعرفه أكثر مما كان لأي أحد غيري أن يعرفه ؛ لا سي فراجي ولا الضابط زياد ؛ فهو الآخر سألني عنه ليطمئن علي منه فأجبته بأنه أوثق مما يتصوره " .
" تعرف يا أرسلان ؟ كل يوم ازداد شعورا بأن مكاني يجب أن يكون إلى جانبك . أحمل السلاح مثلك من أجل شعب يستحق الحياة !"
" فهو لم يزايد يوما في شيء .يتحفظ ويزن كلماته وتلك كانت رغبته في أن يكون إلى جانبي في الجبل . قال لي مرة ، مثل حكيم ، إن الكلمة التي لا تشعر بثقلها على لسانك ابتلعها لأنها لا تستحق أن تخرج " .
وهكذا يبدو حاييم انسانا وطنيا وصديقا ومحل ثقة ومضحيا بنفسه من أجل بلده الجزائر ، لا يزايد ولا يقوم إلا بواجبه ، وهذه الصفات الإيجابية نادرا عموما ما كانت تظهر لليهودي في الأدب العربي قديمه وحديثه . إنها عموما الصفات التي عرف بها ( وليم اسبورتيس ) الذي أهديت الرواية إليه ، كما قرأناها في مقال سلمى المذكور .
قبل أشهر اتصل بي اليهودي الفتحاوي الانتماء ( أوري ديفز / ديفيس ) وسألني :
- هل تعرفني ؟
هل تعرفون أوري ديفز / ديفيس عضو المجلس الثوري في حركة فتح الذي نظمه أبوجهاد في العام ١٩٨٤ ؟
إنه يعرف نفسه على أنه يهودي عبري فلسطيني معاد للصهيونية .
وربما يكتب روائي فلسطيني ذات يوم رواية عنوانها " أنا و أوري " . من يدري ؟!
( مقالي ليوم الأحد ٩ أيار ٢٠٢١ لدفاتر الأيام الفلسطينية في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )
الجمعة والسبت
٧ و ٨ آيار ٢٠٢١