إن الغريب في ما قدمه النقد الادبي لأعمال جان جينيه، هو تلصصه على جان جينيه نفسه. في حقبة المجد البنيوي، وموت المؤلف، انغمس النقد، في الاشتغال على الأنساق النفسية لنصوص جينيه. المجرم الأديب.
جان جينيه، ابن سفاح، ألقته أمه من رحمها إلى الملجأ. وتحول إلى مجرم، مضاد للمجتمع. غير أن كل شيء تغير عندما دخل في تحد حول كتابة الشعر مع أحد السجناء المتنطعين. ثم أدمن الكتابة، في صنوف الأدب المختلفة، ومنها المسرح. غير أن النقلة الجوهرية التي حدثت كانت بفضل لقائه بكوكتو وسارتر. يمكننا أن نقول أنه شخص التقى بالعظماء فعرفوا فيه ما هو خافٍ عن القضاة والسجانين والمجتمع. ليتحول جان جينيه بعد ذلك إلى أسطورة في ذاته وليس في كتاباته فقط.
لماذا أكتب عنه الآن، في هذه اللحظة؟ إنني أدرك أنني أقل تأهيلاً من أن أقحم نفسي في طلاسم النقد، لذلك يجب أن اقول دوما (كنوع من التحايل) بأنني قارئ جيد. وبهذا فأنا أطوِّح بدرعٍ وقائي أمام وجهي، لأذكر أن حوارات أبطال مسرحيات جينيه هي التي لفتت انتباهي نحوه فبحثت أكثر بقليل عن هذا المؤلف البارع. ولماذا كانت حوارات جينيه لافتة لنظري؟ الإجابة ببساطة، هي تأثري بالمدرسة العبثية آدموف وببيكيت على وجه الخصوص. لا يتعلق الأمر بالنسبة لي بالفلسفة الوجودية ولا بتوجهات كامو، بل هو إحساس داخلي بعظمة تلك العبثية. إن أحاسيسي لا تخيب، بل أثق بها، ثقة نصف عمياء ونصف بصيرة. سنجد ببساطة تلك القفزة عن جينيه في مسرحية حارس الموت. اللغة التي تبدو مفككة، التي تعتصر الموت والجنس والجريمة، والسلطة والقهر والقمع. لقد خيل لي لوهلة أن الأبطال الثلاثة في هذه المسرحية، بما فيهم عشيقة البطل الرئيسي (قرين آيس)، هم في الواقع شخص واحد. تبدو المسألة أكثر منطقية لو وضعنا كل شخصيات تلك المسرحية داخل جسد إنساني. إن الإطار العام للمسرحية، هو حياة المساجين، هذا ما يبدو، لكن المسرحية لا علاقة لها بالمساجين في زنزانات السجون، بل تلك الزنزانة التي تدعى جسد. الزنزانة المظلمة، حيث تستقر فيها كل القاذورات البشرية. بكل تناقضاتها المتعفنة، (الخوف والقوة ، الحب والشذوذ، الصراع مع الذات)، الصراع الذي مثله جورجي السجين القوي، المدعي والذي يزيف نفسه، لينافس البطل "الأعين الخضر". أما السجين الوسيم الذي لا تكاد تتلمس شذوذه بوضوح، فهو تلك الرغبات المتمردة، والتي قمعها الزيف وأنهى حياتها بخنقها حتى الموت (الجنسانية عند فوكو). في نهاية المسرحية، يصرخ جورج بأنه سيبقى وحيداً، بعد أن قتل الفتى ذو الشفاه الجميلة، وأبلغ عنه البطل قرين آيس حراس السجن. إن البقاء وحيداً هو في واقعه الإنتصار المهزوم للإنسان المزيف، على حساب (حقيقاته) المتناقضة. هذا ما توارد بذهني منذ أول وهلة للحوار داخل المسرحية التي تدور أحداثها بين ثلاثة مساجين. سجين قوي يقود المساجين مع سجين آخر لا يظهر في المسرحية إلا بالإسم، وسجين شاب وسيم تبدو فيه علامات الشذوذ الجنسي، وسجين قوى البنية يحاول سرقة حبيبة القائد والحلول محله. نعم فالزيف هو دائما مهزوم في باطن الوعي، والرغبة في القوة والقيادة لا يسعفها الزيف لكي تتحقق. تبدو الشخصيات كلها كما اسلفت -شخصية واحدة- بما في ذلك الروح الأنثوية والتي ترمز إلى اللطف، تلك الروح التي يتم خنقها وهجرها من أجل مواجهة الحياة بقوة وبلا لين. في روايتي "الجذمور" كنت قد أستخدمت هذا المعنى العام بشقيه؛ التفكك والقمع الذاتي. إذ يجب على الإنسان دوما أن يقمع عناصر من شخصيته لحساب عناصر أخرى يرى أنها الأجدر بالوجود والأولى بالرعاية والإستثمار. وهكذا تُلغى تلك الثنائية المتناطحة منذ فجر التاريخ حول الطبيعة الخيرة والشريرة للإنسان. لأن الصراع بينهما ليس صراعاً خارجيا فلسفياً ترفياً، بل هو صراع داخلي عميق، ومكلف جداً. ذلك الصراع الذي يجعل الإنسان غير محل للثقة. ويجعل النضالات من أجل القضايا التي كانت مصيرية تنقلب إلى ما يبدو خيانة لها. لذلك فإن الشاب الشاذ والذي يلتصق بالقائد انفلتت منه تلك الجملة من عمق الصدق: "خائن". حينما اكتشف أن قرين آيس ليس عدواً لاسنوبول المجرم الزنجي الأقوى والذي يقود النصف الآخر من السجناء. إننا سنلاحظ هنا أن الأعين الخضراء والزنجي هما انقسام الصراع العنصري بين البيض والسود. يقول جان جينيه -كما أتصور- أنه لا فرق بين الأبيض والأسود. إن ما يحدث هنا يحدث هناك. للزنوج وللبيض. فالأصل الإنساني واحد محملاً دوما بأبطال حقيقيين ومزيفيين وشواذ داخل الجسد الواحد.
يا لها من رؤية كئيبة تلك التي يعكسها جان جينيه عن ذاته وعن الإنسان. وأقول عن ذاته، لأنه لا يستمد تلك الرؤية من عين الآخرين بل من عينه هو، ولا من أعماق الآخرين بل من عمقه هو، ولذلك يمكننا أن نعرف لماذا مات "موت المؤلف" ولماذ تبخرت البنيوية من امام نقاد جان جينيه. لأنك حتما ستتساءل عن ذلك الكم من الألم والوحشة التي عاناها شخص يكتبها نصوصاً أدبية. ولأنه كبيكيت أيضاً والذي يتركنا غائبين عن الوعي في السطر الأخير من مسرحياته. لذلك أحببت المدرسة العبثية في المسرح. ولذلك يمكن لشخص أكثر مثابرة أن يدير قراءة مقارنة بينها وبين مدرسة جيمس جويس ليكشف لنا البنيان المتصور عن الإنسان المهزوم دائماً.
جان جينيه، ابن سفاح، ألقته أمه من رحمها إلى الملجأ. وتحول إلى مجرم، مضاد للمجتمع. غير أن كل شيء تغير عندما دخل في تحد حول كتابة الشعر مع أحد السجناء المتنطعين. ثم أدمن الكتابة، في صنوف الأدب المختلفة، ومنها المسرح. غير أن النقلة الجوهرية التي حدثت كانت بفضل لقائه بكوكتو وسارتر. يمكننا أن نقول أنه شخص التقى بالعظماء فعرفوا فيه ما هو خافٍ عن القضاة والسجانين والمجتمع. ليتحول جان جينيه بعد ذلك إلى أسطورة في ذاته وليس في كتاباته فقط.
لماذا أكتب عنه الآن، في هذه اللحظة؟ إنني أدرك أنني أقل تأهيلاً من أن أقحم نفسي في طلاسم النقد، لذلك يجب أن اقول دوما (كنوع من التحايل) بأنني قارئ جيد. وبهذا فأنا أطوِّح بدرعٍ وقائي أمام وجهي، لأذكر أن حوارات أبطال مسرحيات جينيه هي التي لفتت انتباهي نحوه فبحثت أكثر بقليل عن هذا المؤلف البارع. ولماذا كانت حوارات جينيه لافتة لنظري؟ الإجابة ببساطة، هي تأثري بالمدرسة العبثية آدموف وببيكيت على وجه الخصوص. لا يتعلق الأمر بالنسبة لي بالفلسفة الوجودية ولا بتوجهات كامو، بل هو إحساس داخلي بعظمة تلك العبثية. إن أحاسيسي لا تخيب، بل أثق بها، ثقة نصف عمياء ونصف بصيرة. سنجد ببساطة تلك القفزة عن جينيه في مسرحية حارس الموت. اللغة التي تبدو مفككة، التي تعتصر الموت والجنس والجريمة، والسلطة والقهر والقمع. لقد خيل لي لوهلة أن الأبطال الثلاثة في هذه المسرحية، بما فيهم عشيقة البطل الرئيسي (قرين آيس)، هم في الواقع شخص واحد. تبدو المسألة أكثر منطقية لو وضعنا كل شخصيات تلك المسرحية داخل جسد إنساني. إن الإطار العام للمسرحية، هو حياة المساجين، هذا ما يبدو، لكن المسرحية لا علاقة لها بالمساجين في زنزانات السجون، بل تلك الزنزانة التي تدعى جسد. الزنزانة المظلمة، حيث تستقر فيها كل القاذورات البشرية. بكل تناقضاتها المتعفنة، (الخوف والقوة ، الحب والشذوذ، الصراع مع الذات)، الصراع الذي مثله جورجي السجين القوي، المدعي والذي يزيف نفسه، لينافس البطل "الأعين الخضر". أما السجين الوسيم الذي لا تكاد تتلمس شذوذه بوضوح، فهو تلك الرغبات المتمردة، والتي قمعها الزيف وأنهى حياتها بخنقها حتى الموت (الجنسانية عند فوكو). في نهاية المسرحية، يصرخ جورج بأنه سيبقى وحيداً، بعد أن قتل الفتى ذو الشفاه الجميلة، وأبلغ عنه البطل قرين آيس حراس السجن. إن البقاء وحيداً هو في واقعه الإنتصار المهزوم للإنسان المزيف، على حساب (حقيقاته) المتناقضة. هذا ما توارد بذهني منذ أول وهلة للحوار داخل المسرحية التي تدور أحداثها بين ثلاثة مساجين. سجين قوي يقود المساجين مع سجين آخر لا يظهر في المسرحية إلا بالإسم، وسجين شاب وسيم تبدو فيه علامات الشذوذ الجنسي، وسجين قوى البنية يحاول سرقة حبيبة القائد والحلول محله. نعم فالزيف هو دائما مهزوم في باطن الوعي، والرغبة في القوة والقيادة لا يسعفها الزيف لكي تتحقق. تبدو الشخصيات كلها كما اسلفت -شخصية واحدة- بما في ذلك الروح الأنثوية والتي ترمز إلى اللطف، تلك الروح التي يتم خنقها وهجرها من أجل مواجهة الحياة بقوة وبلا لين. في روايتي "الجذمور" كنت قد أستخدمت هذا المعنى العام بشقيه؛ التفكك والقمع الذاتي. إذ يجب على الإنسان دوما أن يقمع عناصر من شخصيته لحساب عناصر أخرى يرى أنها الأجدر بالوجود والأولى بالرعاية والإستثمار. وهكذا تُلغى تلك الثنائية المتناطحة منذ فجر التاريخ حول الطبيعة الخيرة والشريرة للإنسان. لأن الصراع بينهما ليس صراعاً خارجيا فلسفياً ترفياً، بل هو صراع داخلي عميق، ومكلف جداً. ذلك الصراع الذي يجعل الإنسان غير محل للثقة. ويجعل النضالات من أجل القضايا التي كانت مصيرية تنقلب إلى ما يبدو خيانة لها. لذلك فإن الشاب الشاذ والذي يلتصق بالقائد انفلتت منه تلك الجملة من عمق الصدق: "خائن". حينما اكتشف أن قرين آيس ليس عدواً لاسنوبول المجرم الزنجي الأقوى والذي يقود النصف الآخر من السجناء. إننا سنلاحظ هنا أن الأعين الخضراء والزنجي هما انقسام الصراع العنصري بين البيض والسود. يقول جان جينيه -كما أتصور- أنه لا فرق بين الأبيض والأسود. إن ما يحدث هنا يحدث هناك. للزنوج وللبيض. فالأصل الإنساني واحد محملاً دوما بأبطال حقيقيين ومزيفيين وشواذ داخل الجسد الواحد.
يا لها من رؤية كئيبة تلك التي يعكسها جان جينيه عن ذاته وعن الإنسان. وأقول عن ذاته، لأنه لا يستمد تلك الرؤية من عين الآخرين بل من عينه هو، ولا من أعماق الآخرين بل من عمقه هو، ولذلك يمكننا أن نعرف لماذا مات "موت المؤلف" ولماذ تبخرت البنيوية من امام نقاد جان جينيه. لأنك حتما ستتساءل عن ذلك الكم من الألم والوحشة التي عاناها شخص يكتبها نصوصاً أدبية. ولأنه كبيكيت أيضاً والذي يتركنا غائبين عن الوعي في السطر الأخير من مسرحياته. لذلك أحببت المدرسة العبثية في المسرح. ولذلك يمكن لشخص أكثر مثابرة أن يدير قراءة مقارنة بينها وبين مدرسة جيمس جويس ليكشف لنا البنيان المتصور عن الإنسان المهزوم دائماً.