تتفق اللسانيات المعاصرة على نقطة، هي أن الكلمات لا معنى لها ، وليس لها إلا وظائفها . وهذا يعني أن علاقات الكلمة ضمن الخطاب مع الكلمات الأخرى في السلسلة الكلامية ، هي التي تحدد معنى الكلمة ولا معنى للكلمة خارج الخطاب .
إن هذا الفهم للنحو هو الذي يضمن الكشف عن المعنى الدلالي النحوي في الخطاب وعن الوظيفة الشعرية للنحو في النص ، إلا أن هذا الفهم قد ابتعد عنه النحاة العرب قديما الا ما ندر منهم وخير مثال على ذلك هو عبد القاهر الجرجاني الذي سعى إلى كشف أهمية النظم، وما النظم إلا توخي معاني النحو . فسلط الأضواء على بعض النصوص القرآنية والشعرية التي تمثل طبقة عليا من الفصاحة والبلاغة وحاول البحث عن سر جماليتها ، وقرر انه في النظم مدركا بذلك الوظيفة الشعرية والدلالية للنحو.
وقد ترددت فكرة نحو الشعر وشعر النحو، التي تدور في الفلك نفسه عند جاكبسون في كتابه قضايا الشعرية، فلفت انتباهي ذلك التقارب في الأفكار بين عالمين تباعدا زمانا ومكانا .
وقد افتتحت هذا البحث بتوطئة تحدثت فيها عن النحو قبل الجرجاني ثم عن الطفرة التي أحدثها الجرجاني في منهج البحث النحوي. ثم أجريت موازنة بين أفكار الجرجاني وجاكبسون حول الوظيفة الشعرية والدلالية للنحو وأوجه الاتفاق والافتراق بينهما ، ثم عمدت إلى اختيار بعض النصوص الشعرية التي طبق عليها الجرجاني أفكاره هذه في دلائل الإعجاز.
توطئة
مر النحو العربي قبل عبد القاهر بمراحل كبيرة بعد أن وضع سيبويه كتابه الشهير وصنف المبرد كتاب (المقتضب) ، وألـّف النحاة موسوعاتهم ، وقد ركز العلماء في دراساتهم للنحو على الأساليب الرصينة والعبارات البليغة إلى جانب عنايتهم بالإعراب والبناء.
كان حدهم للنحو لا يتجاوز أحوال أواخر الكلم من إعراب وبناء وفي هذا التحديد تضييق للبحث النحوي
وظل هذا الحد للنحو مستمرا ، وظل النحاة منشغلين بالعلل والاّقيسة وأحوال البناء والإعراب ، وانشغلوا بالقواعد النحوية والخلافات النحوية . حتى جاء عبد القادر الجرجاني ففتح بابا جديدا لدراسة النحو وقد أنكر على النحاة اهتمامهم بأحوال الإعراب والبناء دون جوانب النحو الأخرى ، وأتهمهم بالتكلف والتعسف ، إذ قال (وأما النحو فظننته ضربا من التكلف وبابا من التعسف وشيئا لا يستند إلى أصل ولا يعتمد فيه على عقل . وان ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب وما يتصل لذلك مما تجده في المبادئ فهو فضل لا يجدي نفعا ولا تحصل منه فائدة … وأراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بذلك…) (1)
قد تنبه عدد من المحدثين للطفرة التي أحدثها الجرجاني في منهج البحث النحوي العربي ، إذ قال د . إبراهيم مصطفى : "ولقد آن لمذهب عبد القادر أن يحيا وأن يكون هو سبيل البحث النحوي ، فإن من العقول ما أفاق لحظة من التفكير والتحرر وان الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب ويزنها بقدراتها على رسم المعاني والتأثير بها من بعد ما عاف الصناعات اللفظية وسئم زخارفها" (2)
وقال د. أحمد مطلوب : "يختلف منهجه عن منهج النحاة في بحثه الأساليب النحوية كما يختلف في فهمه وتفسيره لهذه الأساليب اختلافا كبيرا فقد أعطى هذه الموضوعات حياة فقدتها على يد الذين قللوا من قيمة النحو وزهدوا فيه أو نظروا إليه نظرة ضيقة تنحسر في الإعراب والبناء" (3)
ومنهم من رأى أن النحو هو : (قانون تأليف الكلام وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة والجملة مع الجمل ، حتى تتسق العبارة ، ويمكن أن تؤدي معناها ) (4)
وبناء على ذلك تظهر خصوصية نظرة الجرجاني للنحو إذ انه تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب وبين أن الكلام نظم ، وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة وإلإفهام .
موازنة بين الجرجاني وجاكبسون في الوظيفة الشعرية
لما كان الشعر هو اللغة في وظيفتها الجمالية –بحسب جاكسون –وأن موضوع علم الأدب ليس الأدب وإنما الأدبية وهي التي تجعل من إنتاج ما إنتاجا أدبيا . فلابد أن يكون لكل مستوى من مستويات اللغة دور ووظيفة شعرية يدعم بها شعرية النص وجماليته. (5)
النحو أحد مستويات اللغة إذ هو العلاقة التركيبية بين الألفاظ ولا جمال لنص جمعت ألفاظه دون ترتيب ومراعاة العلاقات بين الألفاظ وما هذه العلاقات إلا معاني النحو بحسب الجرجاني .
في أي صياغة لممارسة لغوية لابد من استحضار عمليتي الاختيار والتأليف وهي الثنائية التي تنبه لها سويسر من قبل (6)، فالوظيفة الشعرية تعرض مبدأ التعادل للحدث ، فهي إسقاط محور الاختيار الاستبدالي على محور التأليف السياقي المعتمد على التجاور المكاني. (7)
وتلعب هذه الثنائية دورا مهما في اللغة الشعرية وما يميزها عن اللغة المعيارية ، ولما كان الشعر كلاما يتأسس على لغة تختلف عن اللغة المعيارية ، فصار لكل مستوى من مستويات اللغة وظيفة تصب في شعرية النص.
تلتزم اللغة المعيارية بهذه المستويات والقواعد الصوتية ، والصرفية ، والنحوية المتواضع عليها فهي تتسم بالانضباط والاستقرار والالتزام بها لتحقق الهدف من اللغة ألا وهو التوصيل .
أما اللغة الشعرية فقد تعتمد على إحداث خروقات في هذه الضوابط والقواعد جريا وراء الوظيفة الجمالية التي تنبع من القول نفسه من تركبيها الذاتي (8). إذ لا يخلو الشعر من الانزياح عن قوانين اللغة ، سواء كانت حرفية أم نحوية ؟ وذلك لأن هذا الانزياح يمثل وظيفة جمالية تصب في شعرية النص. (9)
وقد تنبه الجرجاني إلى ثنائية اللغة الشعرية واللغة المعيارية لكن لم يصرح بها بشكل مباشر إلا إنه أومأ إلى مستويات الكلام التي بدأها من الكلام العادي وصولا إلى الكلام المعجز ، ولا يمكن التفرقة بين هذه المستويات من الكلام دون الوقوف على المستوى الأدبي. (10)
ومما تقدم نخلص إلى أن الشعر كلام ، ولدراسته لابد من الاستعانة بعلوم اللغة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية للكشف عن أسرار النص الشعري ، وبذا يكون لكل من مستويات اللغة وظيفة شعرية يخدم بها جمالية النص الشعري . سواء كان متماشيا مع القواعد اللغوية أو خارقا لها .
ويصدق هذا الكلام على النحو بوصفه أحد مستويات اللغة إذ تظهر وظيفته الشعرية بتوخي القواعد والضوابط النحوية أو بخرقها والإنزياح عنها ، ولا يكون هذا الاستعمال أو ذاك غير مقصود من المبدع بل هو استعمال مقصود منه الخرق لقوانين النحو المعياري ليزيد النص جمالا .
وقد سبق الكلام عن الوجه الجديد للنحو العربي الذي كشفه الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) إذ انه رأى في النحو ذاك الأساس الذي يفرق بين الأساليب المختلفة من الكلام فتبدو من منظور النحو المعياري أساليب متساوية كالتقديم والتأخير والإخبار بالوصف أو الإخبار بالفعل. (11)
وقد اقترب مفهوم الجرجاني للنحو وعلاقته بالأساليب اللغوية من مفهوم جاكبسون ، وما قاله عن الوظيفة الشعرية للنحو ، ويظهر هذا التقارب في جملة أمور منها :
أولا: التفريق بين المستوى المعجمي والمستوى النحوي للغة ،إذ يقـــول الجرجاني: (الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض لدلالة الفظ وحده … وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض لدلالة اللفظ وحده) (12)
وقال في موضع آخر: (إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها من الفوائد) (13)
فهو يفرق في كلامه المتقدم بين المعنى المعجمي للفظ وما يدل عليه الكلام بدلالة اللفظ وحده وبين المعنى النحوي الذي يتحقق من خلال فهم الكلام بضم بعضه إلى بعض بحسب العلاقات النحوية بين الألفاظ ، فيظهر المعنى بواسطة المستوى النحوي للغة .
أما جاكبسون فقد تنبه إلى هذه الثنائية القائمة بين المستوى المعجمي المادي للغة وبين المستوى النحوي لها وقد وصفها جاكبسون بأنها واقعة بنيوية موضوعية. (14)
ثانيا: ترجيح النحو على ضروب المجاز، إذ قال الجرجاني في هذا المعنى: إن المزية في قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا) (15) ليس للاستعارة وحدها ولكن لنظم العبارة ومجيء الرأس فاعلا و (الشيب) تمييزا ، ولو قيل (اشتعل شيب الرأس) لذهبت تلك المزية. (16)
انتهى إلى أن الاستعارة والتشبيه وسائر ضروب المجاز لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيها حكم من أحكام النحو. (17)
أما جاكبسون فقد اقترب من هذا المعنى كثيرا إذ رأى أن صور النحو تحل محل المجازات ، وضرب مثلا لذلك قصيدة (بلا صور) إذ قال: (إن صور النحو في قصيدة (بلا صور) هي التي تصير مهيمنة وهي التي تحل محل المجازات . وتعتبر {كذا} القصائد الغنائية لبوشكن... شأنها شأن أنشودة معركة هوسيت ، أمثلة بليغة عن الاستخدام المحتكر للأدوات النحوية. (18)
ثالثا: الوظيفة الشعرية للنحو، لقد تحدث الجرجاني عن النظم وصلته بالنحو لكنه لم يرد النحو الجامد والقوانين والحدود التي وضعها علماء النحو –كما تقدم – بل أراد ذلك العلم الذي يكون الأساس في التفريق بين الأساليب اللغوية من فصل ووصل ، وتقديم وتأخير، وذكر وحذف وغيرها فالفرلق بين هذه الأساليب ليس فرقا في الحركات وما يطرأ على الكلمات وإنما في معاني هذه العبارات يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق لذا لم يكن هدفه معرفة قوانين النحو وحسب بل فيما تؤدي اليه هذه القوانين. (19). وقد طبق الجرجاني كلامه السابق على بعض النصوص وأروع ما حلل قول بشار بن برد :
كأن مثار النقع ِ فوق رؤوسـِنَا وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبـُه
وفيه بيـّن الجرجاني دور العلاقات النحوية في صياغة المفردات في الجملة إذ قال: (هل يتصور أن يكون بشار قد أحضر معاني هذه الكلم بباله أفرادا عارية من معاني النحو التي نراها فيها وأن يكون أوقع {كأن} في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء ، وأن يكون فكر في (مثار النقع) من غير أن يكون قد أراد أن يضيف (فوق) إلى (الرؤوس) وفي (الأسياف) من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على (مثار) وفي الواو من دون أن يكون أراد العطف بها ، وأن يكون كذلك فكر في (الليل) من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا لـ (كان) وفي (تهاوى كواكبه) من دون أن يكون أراد أن يجعل (تهاوى) فعلا (للكواكب) ثم يجعل الجملة صفة الأشياء بباله إلا مرادا فيها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها ؟
ليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعنى القصد الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه؟ ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها ، فلا تقول (خرج زيد) تتعلمه معنى (خرج) في اللغة ، ومعنى (زيد) كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف معانيها كما تعرف. (20)
ان النص السالف الذكر يؤكد خضوع الكلمة عند الجرجاني – لمحوري الاختيار والتأليف وما يضيفه النظم من معاني جديدة للكلمة تكتسبها بفعل العلاقة النحوية بين الألفاظ ، وهو بذلك يؤكد منابع التفسير الدلالي المتكامل للجملة (21). فالنظم بين ألفاظ البيت أخرجه هذا المخرج ولو غيرت الألفاظ عن مواقعها لفسد التشبيه.
أما جاكبسون فقد أشار إلى الوظيفة الشعرية للنحو من خلال اختلاف الشكل النحوي للخطاب من نص لآخر ومن جملة لأخرى ضاربا لذلك أمثلة كثيرة من بينها قوله: ( إننا حينما نقرأ… الحياة جميلة ، ويجمل أن نحيا فإنه من الصعب أن نجد في المستوى المعرفي فرقا بين هاتين الجملتين … إلا أن الاختلاف اللساني الذي يضطلع بمهمة التسمية ومن ثم بمهمة التجوز النحوي النقلي إلى صورة كنائية عن الحياة بوصفها كذلك … فهي في حد ذاتها مستبدلة بالناس الأحياء) (22)
وهكذا أخذ جاكبسون يدقق في النصوص الشعرية مسلطا الضوء على الكيانات النحوية وما لها من أثر واضح في بلاغة هذه الأبيات وشعريتها .
امتد نظر جاكبسون أبعد من نظر الجرجاني إذ قصره الجرجاني على البيت الشعري الواحد أو المقطع إلا أن جاكبسون مد نظره إلى النص برمته فلم يقصر نظره على البيت الواحد بل امتد إلى القصيدة بأسرها متتبعا ما أسماه (بالزخارف النحوية في الشعر) ومنها التكرار ويريد تكرار الصور النحوية ، الذي كثيرا ما يكثر في القصائد الملحمية الطويلة.
نخلص مما سبق إلى أن الرجلين قد اتفقا على أن أي تغير يلحق بالجملة من شأنه أن يغير المعنى ويحيله عن جهته ، وأن النحو هو الركيزة التي تستند إليها الدلالة .
إلاّ أن جاكبسون افترق عن الجرجاني بأنه تتبع التماثلات النحوية وجعل منها أداة لافتة للنظر إذ يرى أن كل عودة إلى المفهوم النحوي نفسه جديرة بشد الانتباه إليها بأنها أداة شعرية فعالة. (23)
وتنبه أيضا إلى سلوك الشاعر سلوكا نحويا مخالفا ، أي يبتعد عن التماثلات والتناظرات النحوية ، وقد أسماه (الفوضى الجميلة) وهو ما عرفه بالنحوية والنحوية المضادة، ويريد بها المجاورة بين تراكيب متضادة في نسيجها النحوي لكن ليست مجردة من البنية النحوية. (24)
أو قد أظهرت الموازنة بين الرجلين أنهما اتفقا في بعض الوجوه واختلفا في وجوه أخرى ، وليس الغاية من هذا الكلام الموازنة بين عالمين عاشا في زمانين وبيئتين وثقافتين مختلفتين وإنما ما أثاره كل منهما من نشاط فكري يكاد يقرب بينهما فكلاهما نهض بالنحو وحرره من جموده وصيره أداة فنية جميلة تعين على فهم النص وكشف خفاياه وأسراره .
من خلال الدراسة المتقدمة للوظيفة الشعرية والدلالية للنحو بين الجرجاني وجاكبسون ظهرت جملة أمور منها :
1- ان ما أثاره جاكبسون من اهتمام العلماء واللغويين بأفكاره التي طرحها عن شعر النحو ونحو الشعر ، وكشفه الحجاب عن شعرية النحو ، فقد سبق أن أشار إليه الجرجاني في كتابة دلائل الإعجاز إشارة مجملة وهذه نقطة التقاء كبيرة بين الجرجاني وجاكبسون نتج عنها نقاط التقاء أخرى منها:
أ - التفريق بين المستوى المعجمي والمستوى النحوي للغة .
ب- ترجيح الصور النحوية وشعريتها على ضروب المجاز.
2- لقد أخرج الجرجاني البحث النحوي من جموده وحرره من قيود الصواب والخطأ وأضاف له سمة جديدة تحفظ له الديمومة والتجدد . وهي علاقة النحو بالدلالة.
3- حاول الجرجاني الكشف عن الدلالة النحوية في بعض النصوص القرآنية والنصوص الشعرية إلا أنه لم يكثف هذه الجهود فكانت إشاراته عند تحليل بعض الأبيات الشعرية إشارات مجملة غير مفصلة ، ومع هذا فقد حاول تطبيق أفكاره في الوظيفة الفنية والبلاغية للنحو في هذه المختارات التي انتقاها .
4- امتد نظر جاكبسون إلى البحث عن التماثلات النحوية في النص الأدبي كاملا وليس البحث عن شعرية النحو في البيت الواحد وبحث أيضا ما يعرف بالنحو المضاد ، أو الفوضى الجميلة وكان هو السباق إلى ذلك .
الهوامش :
(1) دلائل الإعجاز / عبد القاهر الجرجاني /6-7 .
(2) احياء النحو/د. ابراهيم مصطفى /16-20.
(3) عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده /58 .
(4) النحو الجديد :عبد المتعال الصعيدي /10
(5) ينظر اللغة العليا /9.
(6) ينظر علم اللغة العام /118،163.
(7) ينظر النظرية البنائية /389 .
(8) ينظر اللغة المعيارية واللغة الشعرية /يان موكاروفسكي /39- 40 .
(9) ينظر بنية اللغة الشعرية /192 .
(10) ينظر مفهوم النظم عند عبد القادر الجرجاني /نصر حامد ابو زيد /13.
(11) ينظر مفهوم النظم عند عبد القادر الجرجاني /15 .
(12) ينظر دلائل الإعجاز /173 .
(13) م . ن /273 .
(14) ينظر قضايا الشعرية /64 3.
(15) سورة مريم.
(16) ينظر دلائل الإعجاز /69 .
(17) ينظر عبد القادر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية / أحمد بدوي /87 .
(18) قضايا الشعرية /71
(19) ينظر دلائل الإعجاز /64 * وينظر عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده / 68 ، وينظر نظرية النظم / حاتم الضامن /50 .
(20) دلائل الإعجاز :267 .
(21) ينظر النحو والدلالة /محمد حماسة /102 وينظر بحوث لغوية : 97 ..
(22) قضايا الشعرية /65.
(23) ينظر قضايا الشعرية /69
(24) ينظر م.ن /71.
المصادر :
1- إحياء النحو / د. إبراهيم مصطفى / القاهرة 1959 م .
2- بحوث لغوية / د. أحمد مطلوب / دار الفكر / عمان 1985 .
3- بنية اللغة الشعرية / جان كوهن / ترجمة محمد الول ومحمد العربي / دار توبقال للنشر ضمن سلسلة المعرفة الأدبية/ ط 1 / 1986 م .
4- دلائل الإعجاز في علم المعاني / عبد القاهر الجرجاني / تصحيح السيد محمد رشيد رضا / مكتبة القاهرة 1961 م .
5- ديوان أمرؤ القيس / تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم / دار المعارف بمصر / ط3 /1969م .
6- عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده / د. أحمد مطلوب / وكالة المطبوعات / الكويت / ط1 /1973م .
7- عبد القاهر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية / د. أحمد أحمد بدوي / ط2 / د.ت. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر .
8- علم اللغة العام / فردينان دي سوسور / ترجمة د. يوئيل يوسف / مراجعة مالك المطلبي / بيت الموصل /1988 م .
9- قضايا الشعرية / رومان جاكبسون / ترجمة محمد الولي ومبارك حنون / دار توبقال للنشر 1988 م .
10- اللغة العليا النظرية الشعرية / جون كوهن / ترجمة د. أحمد درويش / المجلس الأعلى للثقافة 1995
11- النحو الجديد / عبد المتعال الصعيدي / دار الفكر العربي 1947 م
12- النحو والدلالة مدخل إلى دراسة المعنى النحوي / د. محمد حماسة / ط1 /1983 م
13- النظرية البنائية في النقد الأدبي / صلاح فضل / دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / ط3/ 1987 م
14- نظرية النظم / د. حاتم صالح الضامن / منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1979م
15- النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري / د. نعمة رحيم العزاوي / منشورات وزارة الثقافة والفنون / العراق 1978م
الدوريات :
16- مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني قراءة في ضوء نصر حامد أبو زيد /
17 - مجلة فصول: المجلد الخامس :العدد الأول : 1984 : للغة المعيارية واللغة الشعرية / يان موكاروفسكي: ت ألفت كمال .
بشرى تاكفراست
إن هذا الفهم للنحو هو الذي يضمن الكشف عن المعنى الدلالي النحوي في الخطاب وعن الوظيفة الشعرية للنحو في النص ، إلا أن هذا الفهم قد ابتعد عنه النحاة العرب قديما الا ما ندر منهم وخير مثال على ذلك هو عبد القاهر الجرجاني الذي سعى إلى كشف أهمية النظم، وما النظم إلا توخي معاني النحو . فسلط الأضواء على بعض النصوص القرآنية والشعرية التي تمثل طبقة عليا من الفصاحة والبلاغة وحاول البحث عن سر جماليتها ، وقرر انه في النظم مدركا بذلك الوظيفة الشعرية والدلالية للنحو.
وقد ترددت فكرة نحو الشعر وشعر النحو، التي تدور في الفلك نفسه عند جاكبسون في كتابه قضايا الشعرية، فلفت انتباهي ذلك التقارب في الأفكار بين عالمين تباعدا زمانا ومكانا .
وقد افتتحت هذا البحث بتوطئة تحدثت فيها عن النحو قبل الجرجاني ثم عن الطفرة التي أحدثها الجرجاني في منهج البحث النحوي. ثم أجريت موازنة بين أفكار الجرجاني وجاكبسون حول الوظيفة الشعرية والدلالية للنحو وأوجه الاتفاق والافتراق بينهما ، ثم عمدت إلى اختيار بعض النصوص الشعرية التي طبق عليها الجرجاني أفكاره هذه في دلائل الإعجاز.
توطئة
مر النحو العربي قبل عبد القاهر بمراحل كبيرة بعد أن وضع سيبويه كتابه الشهير وصنف المبرد كتاب (المقتضب) ، وألـّف النحاة موسوعاتهم ، وقد ركز العلماء في دراساتهم للنحو على الأساليب الرصينة والعبارات البليغة إلى جانب عنايتهم بالإعراب والبناء.
كان حدهم للنحو لا يتجاوز أحوال أواخر الكلم من إعراب وبناء وفي هذا التحديد تضييق للبحث النحوي
وظل هذا الحد للنحو مستمرا ، وظل النحاة منشغلين بالعلل والاّقيسة وأحوال البناء والإعراب ، وانشغلوا بالقواعد النحوية والخلافات النحوية . حتى جاء عبد القادر الجرجاني ففتح بابا جديدا لدراسة النحو وقد أنكر على النحاة اهتمامهم بأحوال الإعراب والبناء دون جوانب النحو الأخرى ، وأتهمهم بالتكلف والتعسف ، إذ قال (وأما النحو فظننته ضربا من التكلف وبابا من التعسف وشيئا لا يستند إلى أصل ولا يعتمد فيه على عقل . وان ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب وما يتصل لذلك مما تجده في المبادئ فهو فضل لا يجدي نفعا ولا تحصل منه فائدة … وأراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بذلك…) (1)
قد تنبه عدد من المحدثين للطفرة التي أحدثها الجرجاني في منهج البحث النحوي العربي ، إذ قال د . إبراهيم مصطفى : "ولقد آن لمذهب عبد القادر أن يحيا وأن يكون هو سبيل البحث النحوي ، فإن من العقول ما أفاق لحظة من التفكير والتحرر وان الحس اللغوي أخذ ينتعش ويتذوق الأساليب ويزنها بقدراتها على رسم المعاني والتأثير بها من بعد ما عاف الصناعات اللفظية وسئم زخارفها" (2)
وقال د. أحمد مطلوب : "يختلف منهجه عن منهج النحاة في بحثه الأساليب النحوية كما يختلف في فهمه وتفسيره لهذه الأساليب اختلافا كبيرا فقد أعطى هذه الموضوعات حياة فقدتها على يد الذين قللوا من قيمة النحو وزهدوا فيه أو نظروا إليه نظرة ضيقة تنحسر في الإعراب والبناء" (3)
ومنهم من رأى أن النحو هو : (قانون تأليف الكلام وبيان لكل ما يجب أن تكون عليه الكلمة في الجملة والجملة مع الجمل ، حتى تتسق العبارة ، ويمكن أن تؤدي معناها ) (4)
وبناء على ذلك تظهر خصوصية نظرة الجرجاني للنحو إذ انه تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب وبين أن الكلام نظم ، وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة وإلإفهام .
موازنة بين الجرجاني وجاكبسون في الوظيفة الشعرية
لما كان الشعر هو اللغة في وظيفتها الجمالية –بحسب جاكسون –وأن موضوع علم الأدب ليس الأدب وإنما الأدبية وهي التي تجعل من إنتاج ما إنتاجا أدبيا . فلابد أن يكون لكل مستوى من مستويات اللغة دور ووظيفة شعرية يدعم بها شعرية النص وجماليته. (5)
النحو أحد مستويات اللغة إذ هو العلاقة التركيبية بين الألفاظ ولا جمال لنص جمعت ألفاظه دون ترتيب ومراعاة العلاقات بين الألفاظ وما هذه العلاقات إلا معاني النحو بحسب الجرجاني .
في أي صياغة لممارسة لغوية لابد من استحضار عمليتي الاختيار والتأليف وهي الثنائية التي تنبه لها سويسر من قبل (6)، فالوظيفة الشعرية تعرض مبدأ التعادل للحدث ، فهي إسقاط محور الاختيار الاستبدالي على محور التأليف السياقي المعتمد على التجاور المكاني. (7)
وتلعب هذه الثنائية دورا مهما في اللغة الشعرية وما يميزها عن اللغة المعيارية ، ولما كان الشعر كلاما يتأسس على لغة تختلف عن اللغة المعيارية ، فصار لكل مستوى من مستويات اللغة وظيفة تصب في شعرية النص.
تلتزم اللغة المعيارية بهذه المستويات والقواعد الصوتية ، والصرفية ، والنحوية المتواضع عليها فهي تتسم بالانضباط والاستقرار والالتزام بها لتحقق الهدف من اللغة ألا وهو التوصيل .
أما اللغة الشعرية فقد تعتمد على إحداث خروقات في هذه الضوابط والقواعد جريا وراء الوظيفة الجمالية التي تنبع من القول نفسه من تركبيها الذاتي (8). إذ لا يخلو الشعر من الانزياح عن قوانين اللغة ، سواء كانت حرفية أم نحوية ؟ وذلك لأن هذا الانزياح يمثل وظيفة جمالية تصب في شعرية النص. (9)
وقد تنبه الجرجاني إلى ثنائية اللغة الشعرية واللغة المعيارية لكن لم يصرح بها بشكل مباشر إلا إنه أومأ إلى مستويات الكلام التي بدأها من الكلام العادي وصولا إلى الكلام المعجز ، ولا يمكن التفرقة بين هذه المستويات من الكلام دون الوقوف على المستوى الأدبي. (10)
ومما تقدم نخلص إلى أن الشعر كلام ، ولدراسته لابد من الاستعانة بعلوم اللغة الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية للكشف عن أسرار النص الشعري ، وبذا يكون لكل من مستويات اللغة وظيفة شعرية يخدم بها جمالية النص الشعري . سواء كان متماشيا مع القواعد اللغوية أو خارقا لها .
ويصدق هذا الكلام على النحو بوصفه أحد مستويات اللغة إذ تظهر وظيفته الشعرية بتوخي القواعد والضوابط النحوية أو بخرقها والإنزياح عنها ، ولا يكون هذا الاستعمال أو ذاك غير مقصود من المبدع بل هو استعمال مقصود منه الخرق لقوانين النحو المعياري ليزيد النص جمالا .
وقد سبق الكلام عن الوجه الجديد للنحو العربي الذي كشفه الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) إذ انه رأى في النحو ذاك الأساس الذي يفرق بين الأساليب المختلفة من الكلام فتبدو من منظور النحو المعياري أساليب متساوية كالتقديم والتأخير والإخبار بالوصف أو الإخبار بالفعل. (11)
وقد اقترب مفهوم الجرجاني للنحو وعلاقته بالأساليب اللغوية من مفهوم جاكبسون ، وما قاله عن الوظيفة الشعرية للنحو ، ويظهر هذا التقارب في جملة أمور منها :
أولا: التفريق بين المستوى المعجمي والمستوى النحوي للغة ،إذ يقـــول الجرجاني: (الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض لدلالة الفظ وحده … وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض لدلالة اللفظ وحده) (12)
وقال في موضع آخر: (إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها من الفوائد) (13)
فهو يفرق في كلامه المتقدم بين المعنى المعجمي للفظ وما يدل عليه الكلام بدلالة اللفظ وحده وبين المعنى النحوي الذي يتحقق من خلال فهم الكلام بضم بعضه إلى بعض بحسب العلاقات النحوية بين الألفاظ ، فيظهر المعنى بواسطة المستوى النحوي للغة .
أما جاكبسون فقد تنبه إلى هذه الثنائية القائمة بين المستوى المعجمي المادي للغة وبين المستوى النحوي لها وقد وصفها جاكبسون بأنها واقعة بنيوية موضوعية. (14)
ثانيا: ترجيح النحو على ضروب المجاز، إذ قال الجرجاني في هذا المعنى: إن المزية في قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا) (15) ليس للاستعارة وحدها ولكن لنظم العبارة ومجيء الرأس فاعلا و (الشيب) تمييزا ، ولو قيل (اشتعل شيب الرأس) لذهبت تلك المزية. (16)
انتهى إلى أن الاستعارة والتشبيه وسائر ضروب المجاز لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيها حكم من أحكام النحو. (17)
أما جاكبسون فقد اقترب من هذا المعنى كثيرا إذ رأى أن صور النحو تحل محل المجازات ، وضرب مثلا لذلك قصيدة (بلا صور) إذ قال: (إن صور النحو في قصيدة (بلا صور) هي التي تصير مهيمنة وهي التي تحل محل المجازات . وتعتبر {كذا} القصائد الغنائية لبوشكن... شأنها شأن أنشودة معركة هوسيت ، أمثلة بليغة عن الاستخدام المحتكر للأدوات النحوية. (18)
ثالثا: الوظيفة الشعرية للنحو، لقد تحدث الجرجاني عن النظم وصلته بالنحو لكنه لم يرد النحو الجامد والقوانين والحدود التي وضعها علماء النحو –كما تقدم – بل أراد ذلك العلم الذي يكون الأساس في التفريق بين الأساليب اللغوية من فصل ووصل ، وتقديم وتأخير، وذكر وحذف وغيرها فالفرلق بين هذه الأساليب ليس فرقا في الحركات وما يطرأ على الكلمات وإنما في معاني هذه العبارات يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق لذا لم يكن هدفه معرفة قوانين النحو وحسب بل فيما تؤدي اليه هذه القوانين. (19). وقد طبق الجرجاني كلامه السابق على بعض النصوص وأروع ما حلل قول بشار بن برد :
كأن مثار النقع ِ فوق رؤوسـِنَا وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبـُه
وفيه بيـّن الجرجاني دور العلاقات النحوية في صياغة المفردات في الجملة إذ قال: (هل يتصور أن يكون بشار قد أحضر معاني هذه الكلم بباله أفرادا عارية من معاني النحو التي نراها فيها وأن يكون أوقع {كأن} في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء ، وأن يكون فكر في (مثار النقع) من غير أن يكون قد أراد أن يضيف (فوق) إلى (الرؤوس) وفي (الأسياف) من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على (مثار) وفي الواو من دون أن يكون أراد العطف بها ، وأن يكون كذلك فكر في (الليل) من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا لـ (كان) وفي (تهاوى كواكبه) من دون أن يكون أراد أن يجعل (تهاوى) فعلا (للكواكب) ثم يجعل الجملة صفة الأشياء بباله إلا مرادا فيها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها ؟
ليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعنى القصد الكلم أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه؟ ومعلوم أنك أيها المتكلم لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلمه بها ، فلا تقول (خرج زيد) تتعلمه معنى (خرج) في اللغة ، ومعنى (زيد) كيف ومحال أن تكلمه بألفاظ لا يعرف معانيها كما تعرف. (20)
ان النص السالف الذكر يؤكد خضوع الكلمة عند الجرجاني – لمحوري الاختيار والتأليف وما يضيفه النظم من معاني جديدة للكلمة تكتسبها بفعل العلاقة النحوية بين الألفاظ ، وهو بذلك يؤكد منابع التفسير الدلالي المتكامل للجملة (21). فالنظم بين ألفاظ البيت أخرجه هذا المخرج ولو غيرت الألفاظ عن مواقعها لفسد التشبيه.
أما جاكبسون فقد أشار إلى الوظيفة الشعرية للنحو من خلال اختلاف الشكل النحوي للخطاب من نص لآخر ومن جملة لأخرى ضاربا لذلك أمثلة كثيرة من بينها قوله: ( إننا حينما نقرأ… الحياة جميلة ، ويجمل أن نحيا فإنه من الصعب أن نجد في المستوى المعرفي فرقا بين هاتين الجملتين … إلا أن الاختلاف اللساني الذي يضطلع بمهمة التسمية ومن ثم بمهمة التجوز النحوي النقلي إلى صورة كنائية عن الحياة بوصفها كذلك … فهي في حد ذاتها مستبدلة بالناس الأحياء) (22)
وهكذا أخذ جاكبسون يدقق في النصوص الشعرية مسلطا الضوء على الكيانات النحوية وما لها من أثر واضح في بلاغة هذه الأبيات وشعريتها .
امتد نظر جاكبسون أبعد من نظر الجرجاني إذ قصره الجرجاني على البيت الشعري الواحد أو المقطع إلا أن جاكبسون مد نظره إلى النص برمته فلم يقصر نظره على البيت الواحد بل امتد إلى القصيدة بأسرها متتبعا ما أسماه (بالزخارف النحوية في الشعر) ومنها التكرار ويريد تكرار الصور النحوية ، الذي كثيرا ما يكثر في القصائد الملحمية الطويلة.
نخلص مما سبق إلى أن الرجلين قد اتفقا على أن أي تغير يلحق بالجملة من شأنه أن يغير المعنى ويحيله عن جهته ، وأن النحو هو الركيزة التي تستند إليها الدلالة .
إلاّ أن جاكبسون افترق عن الجرجاني بأنه تتبع التماثلات النحوية وجعل منها أداة لافتة للنظر إذ يرى أن كل عودة إلى المفهوم النحوي نفسه جديرة بشد الانتباه إليها بأنها أداة شعرية فعالة. (23)
وتنبه أيضا إلى سلوك الشاعر سلوكا نحويا مخالفا ، أي يبتعد عن التماثلات والتناظرات النحوية ، وقد أسماه (الفوضى الجميلة) وهو ما عرفه بالنحوية والنحوية المضادة، ويريد بها المجاورة بين تراكيب متضادة في نسيجها النحوي لكن ليست مجردة من البنية النحوية. (24)
أو قد أظهرت الموازنة بين الرجلين أنهما اتفقا في بعض الوجوه واختلفا في وجوه أخرى ، وليس الغاية من هذا الكلام الموازنة بين عالمين عاشا في زمانين وبيئتين وثقافتين مختلفتين وإنما ما أثاره كل منهما من نشاط فكري يكاد يقرب بينهما فكلاهما نهض بالنحو وحرره من جموده وصيره أداة فنية جميلة تعين على فهم النص وكشف خفاياه وأسراره .
من خلال الدراسة المتقدمة للوظيفة الشعرية والدلالية للنحو بين الجرجاني وجاكبسون ظهرت جملة أمور منها :
1- ان ما أثاره جاكبسون من اهتمام العلماء واللغويين بأفكاره التي طرحها عن شعر النحو ونحو الشعر ، وكشفه الحجاب عن شعرية النحو ، فقد سبق أن أشار إليه الجرجاني في كتابة دلائل الإعجاز إشارة مجملة وهذه نقطة التقاء كبيرة بين الجرجاني وجاكبسون نتج عنها نقاط التقاء أخرى منها:
أ - التفريق بين المستوى المعجمي والمستوى النحوي للغة .
ب- ترجيح الصور النحوية وشعريتها على ضروب المجاز.
2- لقد أخرج الجرجاني البحث النحوي من جموده وحرره من قيود الصواب والخطأ وأضاف له سمة جديدة تحفظ له الديمومة والتجدد . وهي علاقة النحو بالدلالة.
3- حاول الجرجاني الكشف عن الدلالة النحوية في بعض النصوص القرآنية والنصوص الشعرية إلا أنه لم يكثف هذه الجهود فكانت إشاراته عند تحليل بعض الأبيات الشعرية إشارات مجملة غير مفصلة ، ومع هذا فقد حاول تطبيق أفكاره في الوظيفة الفنية والبلاغية للنحو في هذه المختارات التي انتقاها .
4- امتد نظر جاكبسون إلى البحث عن التماثلات النحوية في النص الأدبي كاملا وليس البحث عن شعرية النحو في البيت الواحد وبحث أيضا ما يعرف بالنحو المضاد ، أو الفوضى الجميلة وكان هو السباق إلى ذلك .
الهوامش :
(1) دلائل الإعجاز / عبد القاهر الجرجاني /6-7 .
(2) احياء النحو/د. ابراهيم مصطفى /16-20.
(3) عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده /58 .
(4) النحو الجديد :عبد المتعال الصعيدي /10
(5) ينظر اللغة العليا /9.
(6) ينظر علم اللغة العام /118،163.
(7) ينظر النظرية البنائية /389 .
(8) ينظر اللغة المعيارية واللغة الشعرية /يان موكاروفسكي /39- 40 .
(9) ينظر بنية اللغة الشعرية /192 .
(10) ينظر مفهوم النظم عند عبد القادر الجرجاني /نصر حامد ابو زيد /13.
(11) ينظر مفهوم النظم عند عبد القادر الجرجاني /15 .
(12) ينظر دلائل الإعجاز /173 .
(13) م . ن /273 .
(14) ينظر قضايا الشعرية /64 3.
(15) سورة مريم.
(16) ينظر دلائل الإعجاز /69 .
(17) ينظر عبد القادر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية / أحمد بدوي /87 .
(18) قضايا الشعرية /71
(19) ينظر دلائل الإعجاز /64 * وينظر عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده / 68 ، وينظر نظرية النظم / حاتم الضامن /50 .
(20) دلائل الإعجاز :267 .
(21) ينظر النحو والدلالة /محمد حماسة /102 وينظر بحوث لغوية : 97 ..
(22) قضايا الشعرية /65.
(23) ينظر قضايا الشعرية /69
(24) ينظر م.ن /71.
المصادر :
1- إحياء النحو / د. إبراهيم مصطفى / القاهرة 1959 م .
2- بحوث لغوية / د. أحمد مطلوب / دار الفكر / عمان 1985 .
3- بنية اللغة الشعرية / جان كوهن / ترجمة محمد الول ومحمد العربي / دار توبقال للنشر ضمن سلسلة المعرفة الأدبية/ ط 1 / 1986 م .
4- دلائل الإعجاز في علم المعاني / عبد القاهر الجرجاني / تصحيح السيد محمد رشيد رضا / مكتبة القاهرة 1961 م .
5- ديوان أمرؤ القيس / تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم / دار المعارف بمصر / ط3 /1969م .
6- عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده / د. أحمد مطلوب / وكالة المطبوعات / الكويت / ط1 /1973م .
7- عبد القاهر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية / د. أحمد أحمد بدوي / ط2 / د.ت. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر .
8- علم اللغة العام / فردينان دي سوسور / ترجمة د. يوئيل يوسف / مراجعة مالك المطلبي / بيت الموصل /1988 م .
9- قضايا الشعرية / رومان جاكبسون / ترجمة محمد الولي ومبارك حنون / دار توبقال للنشر 1988 م .
10- اللغة العليا النظرية الشعرية / جون كوهن / ترجمة د. أحمد درويش / المجلس الأعلى للثقافة 1995
11- النحو الجديد / عبد المتعال الصعيدي / دار الفكر العربي 1947 م
12- النحو والدلالة مدخل إلى دراسة المعنى النحوي / د. محمد حماسة / ط1 /1983 م
13- النظرية البنائية في النقد الأدبي / صلاح فضل / دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد / ط3/ 1987 م
14- نظرية النظم / د. حاتم صالح الضامن / منشورات وزارة الثقافة والإعلام 1979م
15- النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري / د. نعمة رحيم العزاوي / منشورات وزارة الثقافة والفنون / العراق 1978م
الدوريات :
16- مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني قراءة في ضوء نصر حامد أبو زيد /
17 - مجلة فصول: المجلد الخامس :العدد الأول : 1984 : للغة المعيارية واللغة الشعرية / يان موكاروفسكي: ت ألفت كمال .
بشرى تاكفراست