عن مشروع (كلمة) للترجمة، وبالتعاون مع (المكتبة الشرقية)، صدرت في أبوظبي الترجمة إلى العربية الأولى لكتاب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماز كتاب (مستقبل الطبيعة الإنسانية) ونهض بالترجمة الدكتور جورج كتوره وراجعها أنطوان الهاشم بمراجعة أنطوان الهاشم. وجاء الكتاب بأربعة فصول مع كلمة مقتضبة للناشر، تبعها بمقال قصير كتبه مترجم الكتاب من اللغة الألمانية إلى الفرنسية كان نشرها في العاشر من شهر شباط/ فبراير سنة 2007، وهذا يعني أن الكتاب ضمَّ جُملة من الكتابات عن قضايا بدت ضاغطة في المشهد الفكري والفلسفي العالمي الراهن ابتداء من الحادي والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر سنة 2001 وما بعد ذلك، وكان نص هذا الكتاب قد صدر باللغة الألمانية في سنة 2003.
الثقة بالمستقبل
في مقالته الأولى التي جاءت إلى عنوان "تحفظ مبرّر"، يتساءل هابرماس بداية عن إمكانيّة وجود إجابة عن الحياة العادلة في زمننا الراهن الذي يتصوّر بأنه تجاوز كل الميتافيزيقيات التقليدية، وهو سؤال يوحي بأكثر من أزمة تعيشها المجتمعات الراهنة.
وهنا يجد هابرماس في الفلسفة أنها المعرفة الكفيلة بالإجابة عن أسئلة من هذا النوع، ولذلك نراه يقول: "طالما أن الفلسفة ما زالت تعتقد بأنها صاحبة رؤية أكيدة تتناول كليّة الطبيعة والتاريخ فهي تنصرف بالإطار الذي نأمل أن تنتظم فيه الحياة الفردية وحياة الجماعات أيضاً".
ويعود هابرماس إلى نصوص راعي الوجودية الأكبر سورين كيركغارد (1813 - 1855)، ويدخل معه في نقاش حام لكونه يعتبره الفيلسوف الذي نظر في مسائل الإيمان والعدالة الإلهيّة بعيداً عن أية رؤى ميتافيزيقية، لكنه يصل، في خاتمة المطاف، إلى ترك أسئلة مصيريّة عن حياتنا إلى العُلماء فقط، وهذا سيوقعنا في متاهات عدة، فالأفضل للبشرية ألا تتخلى عن الفلسفة لعُلماء قد يأخذون قيمنا الأخلاقية إلى هاوية النهايات غير السعيدة.
وفي مقالة تالية، يناقش هابرماس إشكالية فهم الجنس البشري لأخلاقياته العمليّة في ضوء جُملة ما توصّل إليه العلماء في علم الجينوم، خصوصاً منذ سنة 1973 عندما توصّلوا إلى فك ودمج مكوّنات الجينوم، وتطوير التقنيات الوراثية. ومن وجهة نظر سوسيولوجية تطرّق هابرماس إلى العلاقة المتحالفة بين الجينوم والمجتمع فقال في هذا الصدد: "قلما يحتمل أن يرفض المجتمع تقنية قد يكون مبرّراً طيباً من منظور حياة أطول وصحة أفضل".
لم يكتف هابرماس بذلك فقط؛ بل إنه عكف، في مقال آخر، على إعادة النظر من جديد بإشكالية الوراثة وعلاقتها بمستقبل الإنسان، وهو ما سبق وكان ناقشه بين عامي 2001 - 2002 خلال ندوة عُقدت في ألمانيا منطلقاً من فرضيّة أساسية هي أن الغموض ما زال دائراً لدى الناس بحيث يحثّهم على العودة من جديد إلى النظرة العميقة للأشياء، يقول هابرماس: "ما زلتُ أدرك الغموض الذي يستمر، وانطباعي هو أن تفكيرنا لم يبلغ بعد عمق الأشياء، خصوصاً فيما يتعلّق بالرابط بين استحالة الحصول على بدء عرضي لحياة ما والحرية التي على كل فرد أن يحصل عليها ليعطي شكلاً أخلاقياً لحياته".
البحث اللامعقول
في المقال الأخير من الكتاب، والذي جاء إلى عنوان "الإيمان والعقل"، ناقش هابرماس التوتر بين المجتمع العلماني والدين الذي شهد انفجاراً من طبيعة مختلفة إبان حادث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. ويصف هابرماس هذا التوتر على النحو الآتي: إن القتلة الذين صمّموا ذواتهم على الانتحار في ذلك الحادث، والذين حوّلوا أدوات النقل المدنيّة إلى قذائف مسكونة يصار لإطلاقها على قلاع الحضارة الغربية الرأسمالية. إن هؤلاء القتلة، كانوا ومنذ وصيّة "عطا" وتصريحات "ابن لادن"، مدفوعين بقناعات دينية تجسِّد بالنسبة إليهم شعارات المجتمع الحديث. أما نحن فبدورنا كنّا مستغرقين من خلال التكرار المازوشي لانهيار برجي مانهاتن التوأمين بصورة توراتيّة كانت تتجاوب في لغة الثأر التي حملها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ردة فعل على الحدث اللامعقول".
بإزاء ذلك، يعتقد هابرماس أن الأصوليّة وبمعزل عن لغتها الدينية، هي ظاهرة حديثة حصراً، وفيما يخص الإسلاميين الذين اقترفوا تلك الاعتداءات، فإن أكثر ما يلفت الانتباه مباشرة هو لا عصرانيّة الدوافع والغايات، إنها الانعكاس لهذا الاختلال الزمني بين الثقافة والمجتمع، وهذا ما تستطيع معاينته في البلدان الأصل التي ينتمي إليها هؤلاء الإسلاميون منذ اللحظة التي مس فيها التحديث المتسارع جذورهم بعمق.
ربما كان هابرماس، ولا يزال، الفيلسوف الغربي الأكثر إنصافاً للعرب فيما يتعلّق بالإرهاب والعنف؛ فهو يعتقد بأن الحركات الأصوليّة الجذريّة المتحجِّرة ما زالت موجودة في الغرب كما في الشرق الأدنى والأوسط، وبين المسيحيين واليهود كما بين المسلمين.
ويتوغّل هابرماس في نقد الفكر الغربي المعاصر بالقول: "إننا إذا أردنا تحاشي حرب الحضارات فعلينا أن نتذكّر أن طبيعة علمانيتنا الغربية لم تكتمل جدلياً، كما أن الحرب على الإرهاب ليست حرباً، وما يُعبر عنه الإرهاب ليس إلا صدمة مشؤومة بطبيعتها المكبوتة بين عوالم تستعد لتطوير لغة مشتركة إزاء العولمة التي تفرض نفسها عبر أسواق من دون حدود".
د. رسول محمد رسول
نشر في جريدة (الاتحاد - الملحق الثقافي)، الخميس 20 كانون الأول/ ديسمبر 2007. ص 12.
الثقة بالمستقبل
في مقالته الأولى التي جاءت إلى عنوان "تحفظ مبرّر"، يتساءل هابرماس بداية عن إمكانيّة وجود إجابة عن الحياة العادلة في زمننا الراهن الذي يتصوّر بأنه تجاوز كل الميتافيزيقيات التقليدية، وهو سؤال يوحي بأكثر من أزمة تعيشها المجتمعات الراهنة.
وهنا يجد هابرماس في الفلسفة أنها المعرفة الكفيلة بالإجابة عن أسئلة من هذا النوع، ولذلك نراه يقول: "طالما أن الفلسفة ما زالت تعتقد بأنها صاحبة رؤية أكيدة تتناول كليّة الطبيعة والتاريخ فهي تنصرف بالإطار الذي نأمل أن تنتظم فيه الحياة الفردية وحياة الجماعات أيضاً".
ويعود هابرماس إلى نصوص راعي الوجودية الأكبر سورين كيركغارد (1813 - 1855)، ويدخل معه في نقاش حام لكونه يعتبره الفيلسوف الذي نظر في مسائل الإيمان والعدالة الإلهيّة بعيداً عن أية رؤى ميتافيزيقية، لكنه يصل، في خاتمة المطاف، إلى ترك أسئلة مصيريّة عن حياتنا إلى العُلماء فقط، وهذا سيوقعنا في متاهات عدة، فالأفضل للبشرية ألا تتخلى عن الفلسفة لعُلماء قد يأخذون قيمنا الأخلاقية إلى هاوية النهايات غير السعيدة.
وفي مقالة تالية، يناقش هابرماس إشكالية فهم الجنس البشري لأخلاقياته العمليّة في ضوء جُملة ما توصّل إليه العلماء في علم الجينوم، خصوصاً منذ سنة 1973 عندما توصّلوا إلى فك ودمج مكوّنات الجينوم، وتطوير التقنيات الوراثية. ومن وجهة نظر سوسيولوجية تطرّق هابرماس إلى العلاقة المتحالفة بين الجينوم والمجتمع فقال في هذا الصدد: "قلما يحتمل أن يرفض المجتمع تقنية قد يكون مبرّراً طيباً من منظور حياة أطول وصحة أفضل".
لم يكتف هابرماس بذلك فقط؛ بل إنه عكف، في مقال آخر، على إعادة النظر من جديد بإشكالية الوراثة وعلاقتها بمستقبل الإنسان، وهو ما سبق وكان ناقشه بين عامي 2001 - 2002 خلال ندوة عُقدت في ألمانيا منطلقاً من فرضيّة أساسية هي أن الغموض ما زال دائراً لدى الناس بحيث يحثّهم على العودة من جديد إلى النظرة العميقة للأشياء، يقول هابرماس: "ما زلتُ أدرك الغموض الذي يستمر، وانطباعي هو أن تفكيرنا لم يبلغ بعد عمق الأشياء، خصوصاً فيما يتعلّق بالرابط بين استحالة الحصول على بدء عرضي لحياة ما والحرية التي على كل فرد أن يحصل عليها ليعطي شكلاً أخلاقياً لحياته".
البحث اللامعقول
في المقال الأخير من الكتاب، والذي جاء إلى عنوان "الإيمان والعقل"، ناقش هابرماس التوتر بين المجتمع العلماني والدين الذي شهد انفجاراً من طبيعة مختلفة إبان حادث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. ويصف هابرماس هذا التوتر على النحو الآتي: إن القتلة الذين صمّموا ذواتهم على الانتحار في ذلك الحادث، والذين حوّلوا أدوات النقل المدنيّة إلى قذائف مسكونة يصار لإطلاقها على قلاع الحضارة الغربية الرأسمالية. إن هؤلاء القتلة، كانوا ومنذ وصيّة "عطا" وتصريحات "ابن لادن"، مدفوعين بقناعات دينية تجسِّد بالنسبة إليهم شعارات المجتمع الحديث. أما نحن فبدورنا كنّا مستغرقين من خلال التكرار المازوشي لانهيار برجي مانهاتن التوأمين بصورة توراتيّة كانت تتجاوب في لغة الثأر التي حملها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ردة فعل على الحدث اللامعقول".
بإزاء ذلك، يعتقد هابرماس أن الأصوليّة وبمعزل عن لغتها الدينية، هي ظاهرة حديثة حصراً، وفيما يخص الإسلاميين الذين اقترفوا تلك الاعتداءات، فإن أكثر ما يلفت الانتباه مباشرة هو لا عصرانيّة الدوافع والغايات، إنها الانعكاس لهذا الاختلال الزمني بين الثقافة والمجتمع، وهذا ما تستطيع معاينته في البلدان الأصل التي ينتمي إليها هؤلاء الإسلاميون منذ اللحظة التي مس فيها التحديث المتسارع جذورهم بعمق.
ربما كان هابرماس، ولا يزال، الفيلسوف الغربي الأكثر إنصافاً للعرب فيما يتعلّق بالإرهاب والعنف؛ فهو يعتقد بأن الحركات الأصوليّة الجذريّة المتحجِّرة ما زالت موجودة في الغرب كما في الشرق الأدنى والأوسط، وبين المسيحيين واليهود كما بين المسلمين.
ويتوغّل هابرماس في نقد الفكر الغربي المعاصر بالقول: "إننا إذا أردنا تحاشي حرب الحضارات فعلينا أن نتذكّر أن طبيعة علمانيتنا الغربية لم تكتمل جدلياً، كما أن الحرب على الإرهاب ليست حرباً، وما يُعبر عنه الإرهاب ليس إلا صدمة مشؤومة بطبيعتها المكبوتة بين عوالم تستعد لتطوير لغة مشتركة إزاء العولمة التي تفرض نفسها عبر أسواق من دون حدود".
د. رسول محمد رسول
نشر في جريدة (الاتحاد - الملحق الثقافي)، الخميس 20 كانون الأول/ ديسمبر 2007. ص 12.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com