- الطبيب:
«أنت تجاوزت كل احتمالات الطب فى العلاج»!
ـ أمل:
كيف؟
-الطبيب:
«لقد امتلكت إرادة انتصرت على احتمالات الطب»!
ـ أمل يبتسم فى سخرية قائلًا:
«أنا أقاوم.. لأننى لا أملك سوى المقاومة»!
(الغرفة ( - 1982)
•••
•• «لا تصالح..
ولو توجوك بتاج الإمارة»
(محطة القطار - 1982)
أجلس فى محطة السفر، فى طريقى لزيارة الشاعر أمل دنقل فى القاهرة بمعهد الأورام، الساعة تقترب من العاشرة من صباح ذلك اليوم الغائم، أحمل معى باقة ورد اشتراها طلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة المنيا، وفوضونى - لأننى أحب أمل وشعره - بالقيام بهذه الزيارة وتقديم باقة الورد إليه. بعد دقائق سيتحرك القطار وبعد ثلاث ساعات تقريبًا سأكون فى حضرة هذا الشاعر العظيم الذى باغته المرض اللعين منذ سنوات قليلة! وبالفعل تحرك القطار!
•••
•• «لا تصالح..
ولو منحوك الذهب»
(القاهرة - شارع قصر العينى)
الساعة اقتربت من الثانية من بعد ظهر نفس اليوم، عندما غادرت محطة مصر واتجهت إلى شارع قصر العيني. وصلت بالقرب من ذلك المبنى الضخم، الكئيب الذى يحجز وراء حيطانه الموت والحياة معًا خلف أبواب صماء، مغلقة. جلست على مقهى أشرب الشاى قبل الصعود إلى غرفته التى يُعالج فيها. رواد المقهى بجوارى يتسامرون، ويتحدثون، ويطلقون ضحكات بلهاء وهم لا يعلمون أنه يوجد على مقربة منهم يتمدد جسد أمل دنقل على سرير أبيض وتحت ستائر بيضاء ونوافذ سوداء. جسد من قال عنه يوسف إدريس:« موقعه - كما سيقول التاريخ - هو موقع المتنبى»! ومن قال عنه جابر عصفور:«لم يعرف التفاؤل القومى الساذج الذى عرفه شعر غيره» ومن قال عنه لويس عوض:«إنه يحمل إلى قارئه عبق الشعر العظيم».
«الحساب يا أستاذ» بهذا الطلب العاجل باغتنى القهوجى لأنه حسب قوله ينهى وردية عمله الصباحى.. وقد كان!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل رأس برأس»
( المستشفى - بعد مرور ساعة)
ترجلت فى الشارع حتى وصلت للبوابة الرئيسية، وبدأت الصعود على سلم متهالك بعض الشيء. الجو كئيب، مقبض، ورائحة الموت فى كل مكان. فى الممر.. فى الطرقات.. وعلى وجوه العاملين، والزائرين، وأنا لا أعرف بالتحديد إلى أين المصير وكيف الوصول إلى حجرته!
ـ «يا ابنى أنت.. رايح فين»؟
ـ أبحث عن غرفة الشاعر أمل دنقل؟
ـ «آه بتاع قصيدة لا تصالح وزرقاء اليمامة وكده! عارفاه.. شوف انزل السلم الجاى وامشى فى طرقة كبيرة وبعدها اركب الأسانسير ثم انزل الدور السابع هتلاقى ممر طويل.. فى نهايته ستجد غرفته»! بهذه الكلمات وصفت لى ممرضة تعمل فى المستشفى المكان ثم قالت لى:« أنا كنت بحب أعدى عليه لأنه شاعر كبير وكفايه إنه قال لنا أوعوا تتصالحوا مع الصهاينة.. بس يا خسارة الرئيس السادات الله يرحمه مسمعش كلامه! ياريت كان الرئيس السادات قرأ القصيدة دى.. مش جايز لو قراها كان سابه من حكاية الصلح مع الصهاينة دى؟ أنا كنت دايما أقول لزوجى كده كل ما أسمعه بيقراها فى بلكونة بيتنا. قلت وأنا أبتسم لها: جايز برضه.. ثم ودعتنى مسرعة وهى تقول بصوت مسموع : « آه..ابقى بلغه سلامى.. وقوله.. أنا مقطعنيش عن الطلوع ليه إلا الشديد القوى بعد ما اتنقلت إلى قسم التحاليل» ثم قالت وهى تشيح بيدها التى تحتضن حزمة دوسيهات وملفات: «ابقى قوله كمان خالتك بهية.. بتقولك: احنا مصدقينك يا غالى.. ومش هنصالح»! قلت وأنا أبتسم مرة أخرى: حاضر يا خالة بهية.. يوصل!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام»
(الغرفة بعد 10 دقائق)
أقف على باب الغرفة وأطرق طرقات خفيفة، لا أحد يرد.. مرة..اثنين.. الباب بدأ يفتح بهدوء. الورد فى يدى وكأنه يهتز طربًا.. خلف الباب تظهر رأس طفل جاء صوته قائلًا: «اتفضل يا عمو.. أمل بيقولك اتفضل»!
- أمل...هكذا بدون أستاذ؟
تحركت ببطء. أشعر بجسدى يرتعش، والعرق يتصبب من وجهى. تقدمت خطوة.. خطوتين حتى رأيته يجلس على سريره ويسند ظهره للخلف وفى يده قلم وأوراق صفراء. نظر ناحيتى وبعد لحظات من الصمت ابتسم قائلًا:« ادخل.. تعالى.. أنت مين؟ بعد لحظات أخرى من الدهشة والحيرة، والارتباك، والخوف، قلت اسمى ولماذا جئت من مدينتى التى تبعد عن العاصمة 278 كم. قال: «اتفضل..أجلس» وأشار إلى مقعد بالقرب منه. الطفل مازال يلهو بجوارنا وعرفت فيما بعد أنه مريض أيضًا ويعانى من نفس المرض ويأتى للجلوس معه كل فترة حتى أصبح الشاعر والطفل صديقين والمرض ثالثهما. بعد 30 دقيقة من الحديث المتبادل تركته وغادرت الغرفة التى قال لى فيها وكأنها وصية للشعر والشعراء قال: «أهم شعراء العالم العربي ( أدونيس وأحمد عبد المعطى حجازى وسلمى الخضراء وسعدى يوسف) أما فى جيلى فأنا أحب محمود درويش وحسب الشيخ جعفر وممدوح عدوان وأحمد دحبور» ثم صمت بعض الوقت قبل أن يقول: «الشاعر يجب أن يكون له موقف فى المجتمع. والشاعر الحقيقى فى جوهره هو الشاعر المعارض. والشاعر الحقيقى هو الذى يرفض الواقع لأنه يحلم بواقع أحسن. والشاعر الحقيقى هو الذى يحلم دائمًا أن يجعل الشعر واقعًا وأن يجعل الواقع شعرًا. والشاعر الحقيقى هو الذى يحمل رؤية اجتماعية وسياسية» وبعدما انتهى من حديثه الهادئ قمت ووضعت باقة الورد أمامه ثم نظر لى نظرة حانية لحظة وداعى له فى الوقت الذى كان الطفل ( صديقه المريض ) قد غادر الغرفة وعاد إلى حجرته! ودعته وأنا أدعو الله أن ينقذه من ذلك المرض العين.. لكن للأسف لم يستجب الله إلى دعائى ودعاء كل محبيه ومات بعد شهور. مات بعد سنوات من التمرد، والسفر، والشعر، والمرض، والصبر، والمقاومة!
•••
•• «لا تصالح..
فما ذنب تلك اليمامة»
(المنيا - بعد مرور عام)
اليوم 21 مايو 1983 من ذلك العام سمعت نبأ وفاته.. خبر محزن.. ومؤلم.. كنت أعرف مثل غيرى - حتمية النهاية وكنت أعرف أن الموت يقف بجواره متأهبًا وشاهرًا سيفه وهو على سريره ممددًا ومستسلمًا. كنت أعرف منذ زيارتى له قبل عام أن الموت منه يقترب.. رغم أنه أمام زائريه ومحبيه يتماسك ويبتسم!
ليلة أمس اقترب الموت منه حتى التصق به.. وهو مازال مقاومًا، وباسمًا، وصابرًا، وساخرًا من تلك الحياة! ألم يقل له طبيبه ذات يوم:«لقد امتلكت يا أمل إرادة انتصرت على احتمالات الطب»! نعم من الممكن أن نقاوم المرض وقد ننتصر عليه بالإيمان والإرادة، لكننا نعجز عن الانتصار على الموت.. وتلك هى أقدارنا مع الحياة! لقد تابعت فى الأيام الماضية من خلال ما تنشره الصحف وأحاديث الأصدقاء عن أيامه الأخيرة وساعاته الحزينة قبل ومع الموت. قالوا: انهارت التقارير، والمحاليل، والتحاليل، والأدوية قبل ساعات من ذلك اليوم المشهود والموعود. والموت يقترب.. الموت الذى ربما لا يعرف أنه الآن فى زيارة أحد أكبر شعراء مصر والوطن العربى فى عصرنا الحديث.
•••
•• «لا تصالح..
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام»
(الغرفة ( - ليلة الوفاة)
«أمل» الآن ينظر للموت بلا خوف. والأهل والأصدقاء وجماهير الأمة العربية، يرسلون له الدعاء والكلمات: «يا أمل لن نراك مريضًا». ويرددون ما كتبه يوسف إدريس فى الأهرام: «بالله يا أمل لا تمت.. فكلنا فداؤك». وأمل.. بقدر ما يستطيع يستجيب ويقاوم. الوقت يمر. والموت يقترب.. وقبل وفاته بعشر ساعات زاره الكاتب والصحفى السعودى خالد الهميل. يقول خالد عن تلك اللحظات: سألنى» لماذا تقف هكذا؟ قلت: أحب الوقوف بجوارك يا أمل. ابتسم ثم قال: «أخاف عليك من التعب»..فبكيت وتركت الحجرة مسرعًا. ومنذ ساعات زاره ناصر الخطيب مدير مكتب جريدة الرياض بالقاهرة فى ذلك الحين.. الذى مَالَ عليه باكيًا، واقترب من أذنه هامسًا: «قاوم.. يا أمل»! وبعد لحظات من غيبوبة الموت انتبه ثم قال:« لا ملك سوى المقاومة»!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل إن التصالح حيلة»
(الغرفة( - بعد منتصف الليل)
عندما وصلت الساعة إلى الثالثة صباحًا - كما تقول عبلة الروينى- «نظر لى.. ولم يكن يقوى على الصراخ.. عيناه كانتا تطلبان الراحة.. بعد دقائق أغمض عينيه فى هدوء. ودخل فى غيبوبة أخيرة. وبعد خمس ساعات من تلك الغيبوبة كان وجهه هادئًا. وجسده مستسلمًا، بعدما قال للمرة الأولى فى حياته: نعم! قالها للموت فقط»!
كل هذا عرفته مثل غيرى وتابعته بالدموع والشموع والورود على روحه لذلك قررت السفر لمسقط رأسه وحضور مراسم دفنه، لأننى تذكرت رسالة / وصية كانت له معى ويجب إيصالها إليه حيًا أو ميتًا!
•••
•• «لا تصالح..
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ»
(قنا - يوم وصول جثمانه)
بعدما توقف بى القطار فى محطة السكة الحديد بميدان المحطة خرجت مسرعاَ إلى الساحة الرئيسية لمدينة قنا تبعد عن القاهرة 676 كم جنوباَ واستقللت سيارة أجرة رفض صاحبها أن يتقاضى منى أى أجر عندما عرف سبب زيارتى العاجلة. وصلت مبكرًا للمقابر فى قرية تسمى (القلعة) مسقط رأسه فى انتظار وصول جثمانه. ثم وقفت بعيدا بعض الشيء حتى انتهت مراسم الدفن وانصرف مشيعوه الكثر محملين بتراب الأرض والدموع. وعندما بدأت الساحة بجوار قبره تهدأ بصورة واضحة تقدمت إلى قبره ومددت يدى حتى أسندت ظهرى وأنا أقاوم تعبى الشديد قدر المستطاع ونجحت بالفعل فى هذا وإن كنت قد فشلت فى كبح دموعى التى بدأت تتساقط بشدة وأنا أخاطبه بصوتى الحزين المبحوح قائلًا: « يا أملنا الذى رحل، هل تسمعنى؟ أرجوك أن تسمعنى: عندما زرتك فى فراش مرضك قبل عام نسيت أن أقول لك ربما من رهبة اللقاء بك أن الست الحكيمة/ الممرضة « بهية أم عبد الودود » التى دلتنى على غرفتك فى المعهد قد أوصتنى بوصية إليك قالت فيها:
"ابقى بلغه سلامى..وقوله كمان.. احنا مصدقينك يا غالى..ومش هنصالح"!
[بقلم / خيرى حسن]
•• الخميس 20 مايو/ 2021 .. صحيفة الوفد ( العدد الإسبوعى)
•••
• الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
المصادر:
•• مجلات:
«الحوادث» اللبنانية
المصور
الهلال
آخر ساعة
•• الصحف:
الأهرام
الأخبار
الجمهورية
الوفد
الكتب:
الأعمال الكاملة - أمل دنقل- الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1997
كتاب «الجنوبي» - عبلة الروينى طبعة الشروق - 1985
خيري حسن
«أنت تجاوزت كل احتمالات الطب فى العلاج»!
ـ أمل:
كيف؟
-الطبيب:
«لقد امتلكت إرادة انتصرت على احتمالات الطب»!
ـ أمل يبتسم فى سخرية قائلًا:
«أنا أقاوم.. لأننى لا أملك سوى المقاومة»!
(الغرفة ( - 1982)
•••
•• «لا تصالح..
ولو توجوك بتاج الإمارة»
(محطة القطار - 1982)
أجلس فى محطة السفر، فى طريقى لزيارة الشاعر أمل دنقل فى القاهرة بمعهد الأورام، الساعة تقترب من العاشرة من صباح ذلك اليوم الغائم، أحمل معى باقة ورد اشتراها طلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة المنيا، وفوضونى - لأننى أحب أمل وشعره - بالقيام بهذه الزيارة وتقديم باقة الورد إليه. بعد دقائق سيتحرك القطار وبعد ثلاث ساعات تقريبًا سأكون فى حضرة هذا الشاعر العظيم الذى باغته المرض اللعين منذ سنوات قليلة! وبالفعل تحرك القطار!
•••
•• «لا تصالح..
ولو منحوك الذهب»
(القاهرة - شارع قصر العينى)
الساعة اقتربت من الثانية من بعد ظهر نفس اليوم، عندما غادرت محطة مصر واتجهت إلى شارع قصر العيني. وصلت بالقرب من ذلك المبنى الضخم، الكئيب الذى يحجز وراء حيطانه الموت والحياة معًا خلف أبواب صماء، مغلقة. جلست على مقهى أشرب الشاى قبل الصعود إلى غرفته التى يُعالج فيها. رواد المقهى بجوارى يتسامرون، ويتحدثون، ويطلقون ضحكات بلهاء وهم لا يعلمون أنه يوجد على مقربة منهم يتمدد جسد أمل دنقل على سرير أبيض وتحت ستائر بيضاء ونوافذ سوداء. جسد من قال عنه يوسف إدريس:« موقعه - كما سيقول التاريخ - هو موقع المتنبى»! ومن قال عنه جابر عصفور:«لم يعرف التفاؤل القومى الساذج الذى عرفه شعر غيره» ومن قال عنه لويس عوض:«إنه يحمل إلى قارئه عبق الشعر العظيم».
«الحساب يا أستاذ» بهذا الطلب العاجل باغتنى القهوجى لأنه حسب قوله ينهى وردية عمله الصباحى.. وقد كان!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل رأس برأس»
( المستشفى - بعد مرور ساعة)
ترجلت فى الشارع حتى وصلت للبوابة الرئيسية، وبدأت الصعود على سلم متهالك بعض الشيء. الجو كئيب، مقبض، ورائحة الموت فى كل مكان. فى الممر.. فى الطرقات.. وعلى وجوه العاملين، والزائرين، وأنا لا أعرف بالتحديد إلى أين المصير وكيف الوصول إلى حجرته!
ـ «يا ابنى أنت.. رايح فين»؟
ـ أبحث عن غرفة الشاعر أمل دنقل؟
ـ «آه بتاع قصيدة لا تصالح وزرقاء اليمامة وكده! عارفاه.. شوف انزل السلم الجاى وامشى فى طرقة كبيرة وبعدها اركب الأسانسير ثم انزل الدور السابع هتلاقى ممر طويل.. فى نهايته ستجد غرفته»! بهذه الكلمات وصفت لى ممرضة تعمل فى المستشفى المكان ثم قالت لى:« أنا كنت بحب أعدى عليه لأنه شاعر كبير وكفايه إنه قال لنا أوعوا تتصالحوا مع الصهاينة.. بس يا خسارة الرئيس السادات الله يرحمه مسمعش كلامه! ياريت كان الرئيس السادات قرأ القصيدة دى.. مش جايز لو قراها كان سابه من حكاية الصلح مع الصهاينة دى؟ أنا كنت دايما أقول لزوجى كده كل ما أسمعه بيقراها فى بلكونة بيتنا. قلت وأنا أبتسم لها: جايز برضه.. ثم ودعتنى مسرعة وهى تقول بصوت مسموع : « آه..ابقى بلغه سلامى.. وقوله.. أنا مقطعنيش عن الطلوع ليه إلا الشديد القوى بعد ما اتنقلت إلى قسم التحاليل» ثم قالت وهى تشيح بيدها التى تحتضن حزمة دوسيهات وملفات: «ابقى قوله كمان خالتك بهية.. بتقولك: احنا مصدقينك يا غالى.. ومش هنصالح»! قلت وأنا أبتسم مرة أخرى: حاضر يا خالة بهية.. يوصل!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام»
(الغرفة بعد 10 دقائق)
أقف على باب الغرفة وأطرق طرقات خفيفة، لا أحد يرد.. مرة..اثنين.. الباب بدأ يفتح بهدوء. الورد فى يدى وكأنه يهتز طربًا.. خلف الباب تظهر رأس طفل جاء صوته قائلًا: «اتفضل يا عمو.. أمل بيقولك اتفضل»!
- أمل...هكذا بدون أستاذ؟
تحركت ببطء. أشعر بجسدى يرتعش، والعرق يتصبب من وجهى. تقدمت خطوة.. خطوتين حتى رأيته يجلس على سريره ويسند ظهره للخلف وفى يده قلم وأوراق صفراء. نظر ناحيتى وبعد لحظات من الصمت ابتسم قائلًا:« ادخل.. تعالى.. أنت مين؟ بعد لحظات أخرى من الدهشة والحيرة، والارتباك، والخوف، قلت اسمى ولماذا جئت من مدينتى التى تبعد عن العاصمة 278 كم. قال: «اتفضل..أجلس» وأشار إلى مقعد بالقرب منه. الطفل مازال يلهو بجوارنا وعرفت فيما بعد أنه مريض أيضًا ويعانى من نفس المرض ويأتى للجلوس معه كل فترة حتى أصبح الشاعر والطفل صديقين والمرض ثالثهما. بعد 30 دقيقة من الحديث المتبادل تركته وغادرت الغرفة التى قال لى فيها وكأنها وصية للشعر والشعراء قال: «أهم شعراء العالم العربي ( أدونيس وأحمد عبد المعطى حجازى وسلمى الخضراء وسعدى يوسف) أما فى جيلى فأنا أحب محمود درويش وحسب الشيخ جعفر وممدوح عدوان وأحمد دحبور» ثم صمت بعض الوقت قبل أن يقول: «الشاعر يجب أن يكون له موقف فى المجتمع. والشاعر الحقيقى فى جوهره هو الشاعر المعارض. والشاعر الحقيقى هو الذى يرفض الواقع لأنه يحلم بواقع أحسن. والشاعر الحقيقى هو الذى يحلم دائمًا أن يجعل الشعر واقعًا وأن يجعل الواقع شعرًا. والشاعر الحقيقى هو الذى يحمل رؤية اجتماعية وسياسية» وبعدما انتهى من حديثه الهادئ قمت ووضعت باقة الورد أمامه ثم نظر لى نظرة حانية لحظة وداعى له فى الوقت الذى كان الطفل ( صديقه المريض ) قد غادر الغرفة وعاد إلى حجرته! ودعته وأنا أدعو الله أن ينقذه من ذلك المرض العين.. لكن للأسف لم يستجب الله إلى دعائى ودعاء كل محبيه ومات بعد شهور. مات بعد سنوات من التمرد، والسفر، والشعر، والمرض، والصبر، والمقاومة!
•••
•• «لا تصالح..
فما ذنب تلك اليمامة»
(المنيا - بعد مرور عام)
اليوم 21 مايو 1983 من ذلك العام سمعت نبأ وفاته.. خبر محزن.. ومؤلم.. كنت أعرف مثل غيرى - حتمية النهاية وكنت أعرف أن الموت يقف بجواره متأهبًا وشاهرًا سيفه وهو على سريره ممددًا ومستسلمًا. كنت أعرف منذ زيارتى له قبل عام أن الموت منه يقترب.. رغم أنه أمام زائريه ومحبيه يتماسك ويبتسم!
ليلة أمس اقترب الموت منه حتى التصق به.. وهو مازال مقاومًا، وباسمًا، وصابرًا، وساخرًا من تلك الحياة! ألم يقل له طبيبه ذات يوم:«لقد امتلكت يا أمل إرادة انتصرت على احتمالات الطب»! نعم من الممكن أن نقاوم المرض وقد ننتصر عليه بالإيمان والإرادة، لكننا نعجز عن الانتصار على الموت.. وتلك هى أقدارنا مع الحياة! لقد تابعت فى الأيام الماضية من خلال ما تنشره الصحف وأحاديث الأصدقاء عن أيامه الأخيرة وساعاته الحزينة قبل ومع الموت. قالوا: انهارت التقارير، والمحاليل، والتحاليل، والأدوية قبل ساعات من ذلك اليوم المشهود والموعود. والموت يقترب.. الموت الذى ربما لا يعرف أنه الآن فى زيارة أحد أكبر شعراء مصر والوطن العربى فى عصرنا الحديث.
•••
•• «لا تصالح..
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام»
(الغرفة ( - ليلة الوفاة)
«أمل» الآن ينظر للموت بلا خوف. والأهل والأصدقاء وجماهير الأمة العربية، يرسلون له الدعاء والكلمات: «يا أمل لن نراك مريضًا». ويرددون ما كتبه يوسف إدريس فى الأهرام: «بالله يا أمل لا تمت.. فكلنا فداؤك». وأمل.. بقدر ما يستطيع يستجيب ويقاوم. الوقت يمر. والموت يقترب.. وقبل وفاته بعشر ساعات زاره الكاتب والصحفى السعودى خالد الهميل. يقول خالد عن تلك اللحظات: سألنى» لماذا تقف هكذا؟ قلت: أحب الوقوف بجوارك يا أمل. ابتسم ثم قال: «أخاف عليك من التعب»..فبكيت وتركت الحجرة مسرعًا. ومنذ ساعات زاره ناصر الخطيب مدير مكتب جريدة الرياض بالقاهرة فى ذلك الحين.. الذى مَالَ عليه باكيًا، واقترب من أذنه هامسًا: «قاوم.. يا أمل»! وبعد لحظات من غيبوبة الموت انتبه ثم قال:« لا ملك سوى المقاومة»!
•••
•• «لا تصالح..
ولو قيل إن التصالح حيلة»
(الغرفة( - بعد منتصف الليل)
عندما وصلت الساعة إلى الثالثة صباحًا - كما تقول عبلة الروينى- «نظر لى.. ولم يكن يقوى على الصراخ.. عيناه كانتا تطلبان الراحة.. بعد دقائق أغمض عينيه فى هدوء. ودخل فى غيبوبة أخيرة. وبعد خمس ساعات من تلك الغيبوبة كان وجهه هادئًا. وجسده مستسلمًا، بعدما قال للمرة الأولى فى حياته: نعم! قالها للموت فقط»!
كل هذا عرفته مثل غيرى وتابعته بالدموع والشموع والورود على روحه لذلك قررت السفر لمسقط رأسه وحضور مراسم دفنه، لأننى تذكرت رسالة / وصية كانت له معى ويجب إيصالها إليه حيًا أو ميتًا!
•••
•• «لا تصالح..
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ»
(قنا - يوم وصول جثمانه)
بعدما توقف بى القطار فى محطة السكة الحديد بميدان المحطة خرجت مسرعاَ إلى الساحة الرئيسية لمدينة قنا تبعد عن القاهرة 676 كم جنوباَ واستقللت سيارة أجرة رفض صاحبها أن يتقاضى منى أى أجر عندما عرف سبب زيارتى العاجلة. وصلت مبكرًا للمقابر فى قرية تسمى (القلعة) مسقط رأسه فى انتظار وصول جثمانه. ثم وقفت بعيدا بعض الشيء حتى انتهت مراسم الدفن وانصرف مشيعوه الكثر محملين بتراب الأرض والدموع. وعندما بدأت الساحة بجوار قبره تهدأ بصورة واضحة تقدمت إلى قبره ومددت يدى حتى أسندت ظهرى وأنا أقاوم تعبى الشديد قدر المستطاع ونجحت بالفعل فى هذا وإن كنت قد فشلت فى كبح دموعى التى بدأت تتساقط بشدة وأنا أخاطبه بصوتى الحزين المبحوح قائلًا: « يا أملنا الذى رحل، هل تسمعنى؟ أرجوك أن تسمعنى: عندما زرتك فى فراش مرضك قبل عام نسيت أن أقول لك ربما من رهبة اللقاء بك أن الست الحكيمة/ الممرضة « بهية أم عبد الودود » التى دلتنى على غرفتك فى المعهد قد أوصتنى بوصية إليك قالت فيها:
"ابقى بلغه سلامى..وقوله كمان.. احنا مصدقينك يا غالى..ومش هنصالح"!
[بقلم / خيرى حسن]
•• الخميس 20 مايو/ 2021 .. صحيفة الوفد ( العدد الإسبوعى)
•••
• الأحداث حقيقية.. وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
المصادر:
•• مجلات:
«الحوادث» اللبنانية
المصور
الهلال
آخر ساعة
•• الصحف:
الأهرام
الأخبار
الجمهورية
الوفد
الكتب:
الأعمال الكاملة - أمل دنقل- الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1997
كتاب «الجنوبي» - عبلة الروينى طبعة الشروق - 1985
خيري حسن