"ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟" هو عنوان الرواية الأخيرة لسليم بركات السوري الكردي الذي غادر بلاده قبل خمسة عقود ليقيم في بيروت منضويا تحت ظلال منظمة التحرير الفلسطينية حتى مغادرتها بيروت في آب ١٩٨٢ ، ليقيم في قبرص ويعمل في مجلة " الكرمل " قبل أن يستقر في السويد .
يكتب بركات في العامين ٢٠١٨ و ٢٠١٩ رواية تجري أحداثها في القامشلي في سورية في العامين ١٩٦٧ و ١٩٦٨ ، وهكذا يفصل بين الزمنين الكتابي والروائي حوالي خمسين عاما ، وأرجح أن زمن الكتابة وزمن السرد ، وليس هناك دليل على أنهما زمنان مختلفان ، تركا أثرهما الكبير في النظر إلى الزمن الروائي ومحاكمته ، إذ لا يعقل أن يمتلك ( كيهات ) الكردي المولود ، مثل بركات ، في العام ١٩٥١ ، الوعي الذي بدا عليه في الرواية وهو في سن السادسة عشرة . هنا يبدو بركات مثل جبرا ابراهيم جبرا ينطق شخصيته الروائية بوعي كاتبها ، لا بوعيها وهي شابة .
ما سبق يقودنا إلى التأمل في ثلاثة أزمنة ؛ الزمن الروائي وزمن السرد وزمن الكتابة - أي زمن الشخصية ( كيهات ) - ١٩٦٧ إلى ١٩٦٨ وزمن السارد - غير محدد - وزمن الكتابة وهو ٢٠١٨ و٢٠١٩ . والفروق بين الأزمنة الثلاثة تبدو منعدمة ، ما يعني أن لا فرق بين الشخصية والسارد والروائي ، وهنا يصح ما يذهب إليه المنهج الوضعي في النقد وهو " وحدة النص وكاتبه " - أي أننا في النهاية نقرأ رواية تعبر عن رؤية كاتبها في زمن كتابتها في موضوعات عديدة أبرزها سؤال الهوية للأقليات في ظل نظام بعثي ، والأقليات هي اليهودية والكردية والأرمنية ، أقليات يجب أن تنسى هويتها الخاصة المجسدة في لغتها الخاصة وفي تراثها ، فلا يحق للكردي أن ينظر إلى الكردية على أنها لغته الأم ولا يجوز لليهودي أن يتعلم العبرية إلا في نطاق محدود يقتصر على العبادات وبعض المناحي في الدولة كالجامعات .
إن تركيز السارد وشخصياته على دوال كردي وأرمني ويهودي ومسيحي والحوارات الساخرة جدا بينها ، وسخريته من حزب البعث وشعاراته تبدو واضحة وضوحا تاما ، من ذلك على سبيل المثال الحوار الذي جرى بين كيهات الكردي وبوغوس الأرمني في أثناء قيامهما برحلة الصيد ويمكن اقتطاف النص الآتي لتبيان ذلك :
"
" أيفضل العقل الأرمني المسافات البعيدة على القريبة ؟" ، سأله كيهات.
" يفضل المسافات المضمونة " ، رد بوغوس .
" لو كنت سوريا لفضلت المسافات القريبة المضمونة " ، عقب كيهات .
أوقف بوغوس دراجته متفاجئا . تساءل :
- لو كنت سوريا ؟!!
" أعني لو لم يكن لك أي حظ في الهجرة إلى بلد آخر " ، رد كيهات يتدبر تبريرا . أردف :" السوري الحقيقي هو من لا يقدر على مغادرة هذا البلد ".
" أأنا أرمني سوري ، أم لست سوريا ، يا كيهات ؟" ، سأله بوغوس.
" أنت أرمني سوري يستطيع أن يوحد أرمينيا وسوريا ، مثل تلك الوحدة بين سوريا ومصر " ، رد كيهات .
" أنت تخلط أحيانا ، يا كيهات " ، عقب بوغوس وهو يعيد دفع دراجته بقدمه اليسرى دعسا على دواسة قيادتها .
" نحن الأكراد نخلط دائما "، قال كيهات . أردف :" لم نعد نعرف لماذا على الكردي أن يكون كرديا إلى الأبد ؟" .
" أن تكون كرديا يعني أن تكون سمكة ، أو ريحا ، أو نهرا ، أو مطارا ، أو رحلة على دراجة ، أو أن تكون أبا التعب وأمه من قيادة دراجة هوائية "، عقب بوغوس . " .
ويستمر الحوار ليسأل كيهات بوغوس :
"- أيهمك كثيرا ، يا بوغوس ، إن كنت سوريا أم لم تكن ؟"
" أيهمك أنت ؟" عقب بوغوس .
" يهمني أن أكون سوريا أحيانا ، ولا يهمني أن أكون أحيانا "، رد كيهات .
" متى يهمك أن تكون سوريا ؟ " سأله بوغوس ، فرد كيهات :
- حين تذكرني دجاجاتي أنهن سوريات .
ضحك بوغوس ذو الأنف الكبير . سأله كرة ثانية :
- متى لا يهمك أن تكون سوريا ؟
" حين لا تعترف الدولة السورية بموهبة دجاجاتي في الغناء "، رد كيهات " .
ومع أن الرواية كانت ذا عنوان يحيل إلى أقلية واحدة هي اليهود " اليهودية راحيل " إلا أن الكتابة عن معاناة الأقلية الكردية والأرمنية تحضر في المتن الروائي بالقدر نفسه . كأن بركات في زمن الكتابة بوعيه وهو في الثامنة والستين من العمر ، وبعد إقامته في المنفى ما يقارب الخمسة عقود تابع خلالها ما جرى في سورية ، كأنه يقدم خلاصة تجربته ويقدم موقفه من حزب البعث الذي تجسد منذ العام ١٩٧٠ في حكم حافظ الأسد ووريثه بشار . إنه بذلك لا يختلف عن روائي آخر هو خالد خليفة في روايته " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " مع فارق أساس هو أن الأخير كتب روايته ، وهو في سورية ، عن زمن روائي بدأ في العام ١٩٧٠ واستمر عقودا ، وأنه لا يكتب عن الأقليات ، بل عن تأثير أقلية تقلدت نظام الحكم ، هي الأقلية العلوية التي حكمت الأكثرية السنية والأقليات الأخرى الباقية ، وإن كان خليفة لا يأتي على يهود سوريا إن بقي منهم أحد بعد هجرتهم التي أتى عليها بركات ، واختار خليفة حلب .
الكتابة عن الأقليات ومعاناتها انحازت من خلال العنوان الروائي إلى الطائفة اليهودية ، علما بأن الكتابة عن العائلة الكردية شغل النصيب الأكبر من الرواية ، ما يدفع إلى إثارة أسئلة عديدة حول الكتابة عن اليهود الآن ؟
هناك ما لا يقل عن ثلاثين رواية صدرت في العقدين الأخيرين احتل " دال " يهود / يهودي / اسم يهودي ، عنوانا بارزا في عتبة الرواية ، وغالبا ما تعاطف الروائيون فيما كتبوا مع شخصياتهم اليهودية ورأوا فيها ضحايا أنظمة الحكم العربية .
هل ثمة تواز بين إيقاع الأنظمة السياسية العربية التي أخذت تقيم علاقات سياسية مع دولة إسرائيل وإيقاع الأدب ؟ هل الأمر مخطط له ، أم أنه لا يعدو أكثر من اجتهاد شخصي ورغبة في التنويع في موضوعات الكتابة ، أم أنه رغبة في إعادة الاعتبار لليهود العرب والحنين إلى ماض عربي كانت فيه الشعوب العربية أكثر انسجاما مما صارت إليه تحت أنظمة شمولية دكتاتورية وفي زمن استعماري أدى إلى نشوء دولة إسرائيل ؟
في حالة بركات الذي خصه محمود درويش بقصيدة " لا بيت للكردي إلا الريح " ، بركات المتزوج من فلسطينية والذي حمل السلاح في حرب ١٩٨٢ وقاتل إلى جانب الفلسطينيين ، يقارب المرء الرواية بقدر من الحذر .
عموما تثير الرواية سؤالا عن هجرة يهود القامشلي وعدم الالتفات إلى وضعهم الخاص ، وهو سؤال ينسحب أيضا على أرمن سوريا الذين يهجسون بعد عقود من إقامتهم فيها بالعودة إلى بلادهم التي جاؤوا منها ، وعلى الأكراد الذين لم يلتفت إلى خصوصيتهم فشعروا بالاضطهاد والخوف ودفعوا ثمن عدم انضوائهم تحت راية حزب البعث الحاكم .
الكتابة تطول والمساحة محدودة .
( لعل الكتابة عن اليهود والنماذج اليهودية تحتاج إلى مقال آخر ، وقد تناولها عموما الكاتب المصري Mamdouh Elnaby في مقال موسع نشره في مجلة " الجديد " التي تصدر في لندن في العدد ٥٩ من كانون الأول ٢٠١٩ ) .
الجمعة
٢١ أيار ٢٠٢١
(مقال يوم الأحد ٢٣ أيار ٢٠٢١ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )
عادل الاسطة
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2849212248665659
يكتب بركات في العامين ٢٠١٨ و ٢٠١٩ رواية تجري أحداثها في القامشلي في سورية في العامين ١٩٦٧ و ١٩٦٨ ، وهكذا يفصل بين الزمنين الكتابي والروائي حوالي خمسين عاما ، وأرجح أن زمن الكتابة وزمن السرد ، وليس هناك دليل على أنهما زمنان مختلفان ، تركا أثرهما الكبير في النظر إلى الزمن الروائي ومحاكمته ، إذ لا يعقل أن يمتلك ( كيهات ) الكردي المولود ، مثل بركات ، في العام ١٩٥١ ، الوعي الذي بدا عليه في الرواية وهو في سن السادسة عشرة . هنا يبدو بركات مثل جبرا ابراهيم جبرا ينطق شخصيته الروائية بوعي كاتبها ، لا بوعيها وهي شابة .
ما سبق يقودنا إلى التأمل في ثلاثة أزمنة ؛ الزمن الروائي وزمن السرد وزمن الكتابة - أي زمن الشخصية ( كيهات ) - ١٩٦٧ إلى ١٩٦٨ وزمن السارد - غير محدد - وزمن الكتابة وهو ٢٠١٨ و٢٠١٩ . والفروق بين الأزمنة الثلاثة تبدو منعدمة ، ما يعني أن لا فرق بين الشخصية والسارد والروائي ، وهنا يصح ما يذهب إليه المنهج الوضعي في النقد وهو " وحدة النص وكاتبه " - أي أننا في النهاية نقرأ رواية تعبر عن رؤية كاتبها في زمن كتابتها في موضوعات عديدة أبرزها سؤال الهوية للأقليات في ظل نظام بعثي ، والأقليات هي اليهودية والكردية والأرمنية ، أقليات يجب أن تنسى هويتها الخاصة المجسدة في لغتها الخاصة وفي تراثها ، فلا يحق للكردي أن ينظر إلى الكردية على أنها لغته الأم ولا يجوز لليهودي أن يتعلم العبرية إلا في نطاق محدود يقتصر على العبادات وبعض المناحي في الدولة كالجامعات .
إن تركيز السارد وشخصياته على دوال كردي وأرمني ويهودي ومسيحي والحوارات الساخرة جدا بينها ، وسخريته من حزب البعث وشعاراته تبدو واضحة وضوحا تاما ، من ذلك على سبيل المثال الحوار الذي جرى بين كيهات الكردي وبوغوس الأرمني في أثناء قيامهما برحلة الصيد ويمكن اقتطاف النص الآتي لتبيان ذلك :
"
" أيفضل العقل الأرمني المسافات البعيدة على القريبة ؟" ، سأله كيهات.
" يفضل المسافات المضمونة " ، رد بوغوس .
" لو كنت سوريا لفضلت المسافات القريبة المضمونة " ، عقب كيهات .
أوقف بوغوس دراجته متفاجئا . تساءل :
- لو كنت سوريا ؟!!
" أعني لو لم يكن لك أي حظ في الهجرة إلى بلد آخر " ، رد كيهات يتدبر تبريرا . أردف :" السوري الحقيقي هو من لا يقدر على مغادرة هذا البلد ".
" أأنا أرمني سوري ، أم لست سوريا ، يا كيهات ؟" ، سأله بوغوس.
" أنت أرمني سوري يستطيع أن يوحد أرمينيا وسوريا ، مثل تلك الوحدة بين سوريا ومصر " ، رد كيهات .
" أنت تخلط أحيانا ، يا كيهات " ، عقب بوغوس وهو يعيد دفع دراجته بقدمه اليسرى دعسا على دواسة قيادتها .
" نحن الأكراد نخلط دائما "، قال كيهات . أردف :" لم نعد نعرف لماذا على الكردي أن يكون كرديا إلى الأبد ؟" .
" أن تكون كرديا يعني أن تكون سمكة ، أو ريحا ، أو نهرا ، أو مطارا ، أو رحلة على دراجة ، أو أن تكون أبا التعب وأمه من قيادة دراجة هوائية "، عقب بوغوس . " .
ويستمر الحوار ليسأل كيهات بوغوس :
"- أيهمك كثيرا ، يا بوغوس ، إن كنت سوريا أم لم تكن ؟"
" أيهمك أنت ؟" عقب بوغوس .
" يهمني أن أكون سوريا أحيانا ، ولا يهمني أن أكون أحيانا "، رد كيهات .
" متى يهمك أن تكون سوريا ؟ " سأله بوغوس ، فرد كيهات :
- حين تذكرني دجاجاتي أنهن سوريات .
ضحك بوغوس ذو الأنف الكبير . سأله كرة ثانية :
- متى لا يهمك أن تكون سوريا ؟
" حين لا تعترف الدولة السورية بموهبة دجاجاتي في الغناء "، رد كيهات " .
ومع أن الرواية كانت ذا عنوان يحيل إلى أقلية واحدة هي اليهود " اليهودية راحيل " إلا أن الكتابة عن معاناة الأقلية الكردية والأرمنية تحضر في المتن الروائي بالقدر نفسه . كأن بركات في زمن الكتابة بوعيه وهو في الثامنة والستين من العمر ، وبعد إقامته في المنفى ما يقارب الخمسة عقود تابع خلالها ما جرى في سورية ، كأنه يقدم خلاصة تجربته ويقدم موقفه من حزب البعث الذي تجسد منذ العام ١٩٧٠ في حكم حافظ الأسد ووريثه بشار . إنه بذلك لا يختلف عن روائي آخر هو خالد خليفة في روايته " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " مع فارق أساس هو أن الأخير كتب روايته ، وهو في سورية ، عن زمن روائي بدأ في العام ١٩٧٠ واستمر عقودا ، وأنه لا يكتب عن الأقليات ، بل عن تأثير أقلية تقلدت نظام الحكم ، هي الأقلية العلوية التي حكمت الأكثرية السنية والأقليات الأخرى الباقية ، وإن كان خليفة لا يأتي على يهود سوريا إن بقي منهم أحد بعد هجرتهم التي أتى عليها بركات ، واختار خليفة حلب .
الكتابة عن الأقليات ومعاناتها انحازت من خلال العنوان الروائي إلى الطائفة اليهودية ، علما بأن الكتابة عن العائلة الكردية شغل النصيب الأكبر من الرواية ، ما يدفع إلى إثارة أسئلة عديدة حول الكتابة عن اليهود الآن ؟
هناك ما لا يقل عن ثلاثين رواية صدرت في العقدين الأخيرين احتل " دال " يهود / يهودي / اسم يهودي ، عنوانا بارزا في عتبة الرواية ، وغالبا ما تعاطف الروائيون فيما كتبوا مع شخصياتهم اليهودية ورأوا فيها ضحايا أنظمة الحكم العربية .
هل ثمة تواز بين إيقاع الأنظمة السياسية العربية التي أخذت تقيم علاقات سياسية مع دولة إسرائيل وإيقاع الأدب ؟ هل الأمر مخطط له ، أم أنه لا يعدو أكثر من اجتهاد شخصي ورغبة في التنويع في موضوعات الكتابة ، أم أنه رغبة في إعادة الاعتبار لليهود العرب والحنين إلى ماض عربي كانت فيه الشعوب العربية أكثر انسجاما مما صارت إليه تحت أنظمة شمولية دكتاتورية وفي زمن استعماري أدى إلى نشوء دولة إسرائيل ؟
في حالة بركات الذي خصه محمود درويش بقصيدة " لا بيت للكردي إلا الريح " ، بركات المتزوج من فلسطينية والذي حمل السلاح في حرب ١٩٨٢ وقاتل إلى جانب الفلسطينيين ، يقارب المرء الرواية بقدر من الحذر .
عموما تثير الرواية سؤالا عن هجرة يهود القامشلي وعدم الالتفات إلى وضعهم الخاص ، وهو سؤال ينسحب أيضا على أرمن سوريا الذين يهجسون بعد عقود من إقامتهم فيها بالعودة إلى بلادهم التي جاؤوا منها ، وعلى الأكراد الذين لم يلتفت إلى خصوصيتهم فشعروا بالاضطهاد والخوف ودفعوا ثمن عدم انضوائهم تحت راية حزب البعث الحاكم .
الكتابة تطول والمساحة محدودة .
( لعل الكتابة عن اليهود والنماذج اليهودية تحتاج إلى مقال آخر ، وقد تناولها عموما الكاتب المصري Mamdouh Elnaby في مقال موسع نشره في مجلة " الجديد " التي تصدر في لندن في العدد ٥٩ من كانون الأول ٢٠١٩ ) .
الجمعة
٢١ أيار ٢٠٢١
(مقال يوم الأحد ٢٣ أيار ٢٠٢١ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )
عادل الاسطة
https://www.facebook.com/adel.alosta.9/posts/2849212248665659