د. علي خليفة - المناظرة بين فنون الفرجة عند العرب

(١)
المناظرة تعني وجود سجال حواري بين شخصين أو أكثر، ويحاول كل فرد - أو فريق - في هذا السجال إثبات صحة ما يدعو إليه، وتفنيد وجهات نظر الآخرين.
وقد وضع بعض علماء المسلمين قواعد للمناظرة منذ القرن الثاني الهجري، ورأينا بعض كتب الأدب والتاريخ تذكر أهم القواعد التي تقوم عليها المناظرات، كما نرى هذا في كتاب نقد النثر المنسوب لقدامة بن جعفر، وكتاب صناعة الكلام - الذي صلنا بعض الصفحات منه - للجاحظ.
ونرى في هذه الكتب التي نظرت للمناظرة ذكر أهم مبادئ المناظرة، ومنها أن يكون هدف كل طرف من المتناظرين الوصول للحق من خلال المناظرة، وألا يشغب أو يغضب أو يرفع صوته أحد من المتناظرين خلال المناظرة، وكذلك يجب على المتناظرين أن يضعوا أصولا يعودون إليها عند اختلافهم، إلى غير ذلك من القواعد والأصول التي تم وضعها لفن المناظرة.
والمناظرة تعد نوعا من الجدل المحمود إذا ما كان كل طرف فيها يرغب في الوصول للحق من ورائها، ولا يماري أو يماتن أو يكابر خلالها، عملا يالآية الكريمة"وجادلهم بالتي هي أحسن".
(٢)
والعرب أمة لسنة تحب الحوار والمجادلة، وظهر هذا عندهم منذ العصر الجاهلي؛ ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله"ولتعرفنهم في لحن القول")وقوله"لتنذر به قوما لدا"،.
وقد عرف العرب أنواعا من المناظرات والجدل في العصر الجاهلي، ومنها المفاخرات التي يقتصر النقاش فيها بين المتخاصمين على ذكر المحامد والمناقب، والمنافرات التي يذكر فيها المتنافرون المحامد والعيوب، ويكون في المنافرات حكم يحكم بين هؤلاء المتنافرين.
وكذلك وصلتنا بعض مناظرات لبعض العرب في بلاط كسرى تنسب للعصر الجاهلي، وينتصر فيها هؤلاء الأشخاص العرب للعرب على الفرس، وبالطبع يصعب تصديق صحة هذه المناظرات؛ لضعف شأن العرب وعزة الفرس في ذلك الوقت.
ونرى أمثلة للمناظرات في عصر صدر الإسلام فيما جرى من نقاش وجدال بين بعض المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة فيمن تكون له الأحقية في وجود الخليفة منهم؛ أي من المهاجرين أو الأنصار، واستطاع الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - في هذه المناظرة إقناع المحاورين من الأنصار في أحقية المهاجرين في أن يكون الخليفة منهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعصر الأموي هو العصر الذهبي للخطابة العربية، وكذلك نهضت فيه المناظرات، فقد نشأت فيه عدة مذاهب سياسية ودينية؛ منها الشيعة والخوارج والزبيريون والأمويون، وكثر الجدال بينهم، لا سيما بين الخوراج وخصومهم.
ومع نهاية العصر الأموي نشأ علم الكلام، وظهر من المتكلمين - على وجه الخصوص - المعتزلة الذين عرفوا بتأثرهم بالثقافة اليونانية لا سيما في طرائق الجدال.
وكان العصر العباسي الأول هو العصر الذي ازدهرت فيه المناظرات ازدهارا كبيرا؛ لكثرة الفرق والمذاهب السياسية والدينية، ولكثرة الجدال بينها، خاصة في زمن المأمون الخليفة العباسي العالم الذي أباح الجدال بين مختلف الفرق والأديان في قصره دون أن يتعرض أي من المتجادلين لأي أَذًى، وكان المأمون يشارك بنفسه في تلك المناظرات.
(٣)
وقد تنوعت المناظرات - خاصة في العصر العباسي الأول - ومنها المناظرات الدبنية، كالتي كانت بين محمد بن الحسن المنتمي لمذهب أبي حنيفة، وبين الإمام الشافعي، كذلك كانت هناك مناظرات قوية بين المعتزلة بعضهم البعض وبينهم وبين غيرهم من المنتمين لفرق وأديان أخرى، ومن أشهر رجال المعتزلة غي المناظرة أبو الهذيل العلاف الذي يقال إنه أسلم نحو ثلاثة آلف شخص ممن حضروا مناظرته، وكذلك كان من أبرز رجال المعتزلة في المناظرة إبراهيم بن سيار النظام وثمامة بن أشرس.
وكذلك من أنواع المناظرة المناظرات السياسية، كتلك المناظرة التي عرض الطبري جانبا منها في تاريخه بين الأفشين من ناحية وأحمد بن أبي دواد ومحمد بن عبد الملك الزيات من ناحية أخرى، حين تم التشكيك في إسلام الأفشين، وقيل: إنه كان يعمل في الخفاء لهدم الإسلام مستغلا مكانته الكبيرة في كونه أكبر قواد جيش المسلمين في ذلك الوقت.
وأيضا من أنواع المناظرات تلك المناظرات الأدبية كالتي كانت تحدث للتناظر بين أي شيئين بغرض إظهار قوة الحجة وعرض الأدلة من المتناظرين.
وقد ذكر الجاحظ في مقدمة كتاب الحيوان موضوعات كثيرة كان يتناظر فيها المتناظرون في عصره؛ ليظهرزا قوة حجتهم، ومن ذلك المناظرة التي عرض جانبا منها بين متناظرين تناظرا على من له الأفضلية؛ الذهب أو الزجاج، وأيضا من ذلك المناظرات التي كانت تقوم في تفضيل بعض البلدان على غيرها.
وكان هناك فريق من المتناظرين في العصر العباسي يفضلون المناظرات المكتوبة على المناظرات الشفهية؛ لأن المناظرات الشفهية غالبا ما لا تؤدي لاقتناع أي طرف من الطرفين المتناظرين، حتى المهزوم منهم، في حين أن المناظرات المكتوبة كان المتناظرون فيها يمكنهم أن يتراجعوا عن آرائهم فيها؛ لأنهم لا يشعرون بحرج المواجهات فيها، وكان الجاحظ وأبو علي الجبائي من أنصار المناظرات المكتوبة على المناظرات الشفهية
(٤)
وفي اعتقادي أن المناظرة - كما نرى نماذج لها في كتب الأدب والتاريخ التي وصلتنا عن القدماء خاصة المناظرات الأدبية - فيها - أو في بعضها- مظاهر واضحة للفرجة، ففي هذه المناظرات نرى متناظرين يحاول كل واحد منهم بالحجج والأدلة ومن خلال طريقة عرض هذه الحجج والأدلة التأثير في خصومه، وفي الجمهور الذي يتابع هذه المناظرات.
وبعض المماظرين - في بعض تلك المناظرات - كانوا يلجئون في مناظراتهم للتمثيل خلال استشهادهم بذكر بعض الحكايات والقصص والمواقف الاي تؤيد وجهة نظره، وهم بذلك يحاولون التأثير في الجمهور بطريقتهم هذه.
وأعطي مثالا على أهمية أسلوب المناظر خلال مناظرته لخصمه - بالمناظرة التي جرت بين سيبويه والأصمعي في المسجد الجامع في البصرة في العصر العباسي الأول حول بعض اختلافات في الرأي بين الأصمعي وسيبيويه فيما جاء في كتاب الكتاب لسيبويه.
وأظهر الأصمعي في هذه المناظرة فصاحته الكبيرة، فانجذب حاضرو هذه المناظرة له، وحكموا له بالغلبة، لا سيما ان سيبويه الذي ينتمي لأصول أعجمية لم يكن يمتلك مثل هذه الفصاحة، وبعد انتهاء هذه المناظرة نفض سيبويه يديه في وجه الأصمعي وقال له: أنت تعلم من جدالنا أنني المحق، ولا أعبأ برأي هؤلاء العامة بيننا.
ونرى أمثلة كثيرة المناظرات الشفهية والمكتوبة فيما وصلنا من كتب الجاحظ- على وجه الخصوص - ومنها تلك المناظرات التي كانت تجري بين بعض الكرماء من ناحية وبعض البخلاء من ناحية أخرى، وذكرها الجاجظ في كتاب البخلاء، ونرى في هذه المناظرات سفسطة ومحاولة لقلب حقائق الأمور من قبل هؤلاء البخلاء؛ ولا شك أن هذا مما يدعونا للضحك في هذه المناظرات الطريفة.
وبعض المناظرات التي كانت تجري بين بعض الناس بين بعض الحيوانات أو الثمار - في العصر العباسي - كانت تحمل خلفها رموزا في التعبير عن الصراع بين العرب والفرس، كمناظرة صاحب الديك وصاحب الكلب التي استغرقت أكثر صفحات الجزأين الأولين من كتاب الحيوان للجاحظ، وذكر الجاحظ أن صاحب الكلب فيها هو النظام وأن صاحب الديك هو معبد، وصاحب الكلب ينتصر في هذه المناظرة للعرب؛ لأن الكلب رمز لهم، فهو لا يفارقهم في بواديهم في حين ينتصر صاحب الديك للفرس الذين يرى الكلب كثيرا في قراهم.
وهناك حيوانات أخرى كثيرة جرى التناظر بينها بين المتناظرين في هذا العصر، وكان التناظر حولها يحمل في داخله رموزا تعبر عن الصراع بين الشعوبيين المعادين للعرب وبين العرب ومن يميلون إليهم.
(٥)
وأعتقد أن هذه المناظرات التي جرت في العصر العباسي - على وجه الخصوص ووصلتنا - فيها بذور درامية كثيرة تؤهلها لتكون بالفعل معبرة عن الفرجة.
كذلك أرى أن بعض هذه المناظرات يمكن الاستعانة بها لكتابة مسرحيات فيها شكل الفرجة ذاك العربي، وقد قمت بهذه التجربة في مسرحية المناظرة، واستعنت في صياغتها ببعض المناظرات القديمة.


علي خليفة



1621805135503.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى