[الجيزة ـ 2021]
"لما أبو العلا البشري يقول إنه چاي.. يبقى لازم ييچي"...وفى ذكرى رحيلك - التى توافق 28 مايو - جئت أزورك في قبرك، وأقف بين يديك وأقول لك: "إن الرحلة التي قدمناها عام 1986 ـ فى إطار إنساني كوميدي ـ كانت رحلة للبحث عن الإنسان والأخلاق في ذلك الزمان..بحثنا - وللأسف - مازال البحث جارياً ومستمراً. واليوم (يا عم أسامة) أقف أمام قبرك ـ الذي وصلت إليه بصعوبة ـ هنا في مقابر أسرتك بـ "مدينة 6 أكتوبر"، غرب القاهرة، والذكريات تطارد ذهني، وتهاجم عقلي، وتهد جسدي. الذكريات التي جمعتنا معاً أمام ضفاف نهر النيل في صعيد مصر قبل سنوات، عندما التقيت بك بالصدفة ـ حيث كنت أعمل مفتشاً للري ـ وشعرت وقتها بموهبتك، وثقافتك، وثقتك بذاتك، وحلمك بالجمال، والحرية، والعدل، وأملك الكبير لمصر والعرب والإنسانية بحياة حرة كريمة. ولا أنسى كلامك عن جمال عبد الناصر وحبك للمرحلة الناصرية، وأحلامها الكبيرة التي عشنا معها - وعشنا بها - وعشنا لها - في هذه الحقبة التاريخية، في ذلك الزمان البريء!
•••
ـ "ليه يا زمان ما سبتناش أبريه
ووخدنا ليه؟ في طريق ممنوش رجوع..
أقسى همومنا يفجر السخرية..
وأصفى ضحكة.. تتوه في بحر الدموع"
[محافظة أسيوط ـ 1963]
- الدموع.. يا عم "أبو العلا" التي كانت للفرح تحولت بعد سنوات إلى دموع للحزن في نهاية تلك المرحلة التي نتحدث عنها الآن، بعدما تحولنا من التقدم إلى الرجوع، ومن الشبع إلى الجوع! والآن تُعيد معي ذكريات أسيوط وناسها الطيبين وأيامي الجميلة التي عشتها هناك، في جنوب الصعيد، حيث القسوة والحرارة الشديدة، بين أحضان عالم إنساني شديد البساطة والجمال. لقد عشت في مدينة ديروط في بداية حياتي الوظيفية. حياتي التي بدأت عندما ولدت في مدينة طنطا، وهي بلد أمي. أمي التي ماتت وعمري 6 سنوات. فهل جربت فقد أمك وأنت طفل يا "أبو العلا"!
- لا...
- أنا جربت وتعذبت وتألمت ليالي طويلة. كنت أنام فيها وحدي، وأحزن فيها وحدي، وأبكي فيها وحدي، إلى أن قرر أبي الانتقال بنا إلى مدينة كفر الشيخ - (تبعد عن القاهرة 250كم) - لنعيش فيها. تركت في طنطا دموعي بجوار قبر أمي وحملت معي حزني الذي لم يفارقني طيلة حياتي، رغم محاولات شقيقتي الكبرى - التي عملت واجتهدت كثيراً على رعايتي، حتى استطاعت مساعدتي في الصمود أمام أحزاني!
- أنت ولدت في طنطا .. أليس كذلك؟
- نعم، في "محافظة الغربية"، عام 1941، وقضيت طفولتي في "محافظة كفر الشيخ"، ثم عشت مرحلة شبابي الحالم في منطقة"الحلمية"- الحلمية القديمة - بالقاهرة، أيام دراستي في "كلية الآداب جامعة عين شمس". ثم انتقلت إلى الإسكندرية بعد سنوات.. كل هذه المدن مررت بها وعشت فيها قبل أن أجد نفسي ذات صباح في قطار الصعيد جالساً بين ركابه مسافراً لاستلام عملي بمدرسة ديروط الثانوية للبنين مدرساً لمادة الفلسفة. وبعد عام من وصولي، شعرت انني (فاشل) لا اصلح في مهنة التدريس أصلاً، وتحملت هذه الفترة بصعوبة شديدة، إلى أن اتخذت قراري بترك التدريس والعودة إلى "كفر الشيخ" والبحث عن وظيفة جديدة. وواقع الأمر أنني لم أكن ابحث عن وظيفة، بل كنت أبحث عن الحلم الساكن بداخلي!
•••
" لو مش هـ تحلم معايا
مضطر أحلم بنفسي
لكني في الحلم حتى
عمري ما هحلم لنفسي"
[محافظة كفر الشيخ ـ 1964]
وبالفعل عدت إلى مدينتي الأولى التي عشت فيها طفولتي حيث الوحدة والدموع. وهذا جعلني أعيش في حالة عزلة شديدة، وانصب اهتمامي على القراءة، التي كانت، بلا شك، هي نقطة انطلاقي للحياة.. فالتوحد الذي عشته منذ الصغر لم يكن لي فيه صديق إلا الكتاب، واستطعت بسهولة أن أصل إلى مواطن الجمال في اللغة العربية، وكنت تلميذاً مجتهداً في "المدرسة الابتدائية". ولقد شعرت بأن اللغة العربية بالنسبة لي شيء مختلف وساعدني في ذلك مُدرسها الذي طالما قال لي : "ولد يا أسامة.. بكره سيكون لك شأن كبير".. ومن حسن حظي أن أبي ـ رغم عمله بالتجارة ـ كان شغوفاً بالقراءة، ولا أنسى اليوم الذي عاد فيه سعيداً ومبهوراً ومسحوراً عندما سمع نبأ استيلاء "الضباط الأحرار" على مقاليد الحكم ليلة 23 يوليو 1952. وكان عمري وقتها 11 عاماً. يومها قال: "وعرفنا الطريق.. ومسكنا السكة يا ولاد"!
•••
"دنياك سكك حافظ على مسلك
وامسك في نفسك / لا العلل تمسكك
وتقع فـ" خية" تملكك.. تهلكك
أهلك.. يا تهلك/ دانت بالناس تكون"
[القاهرة ـ يوليو ـ 1952]
ـ ومين ينسى هذا الزمن وهذا العصر.. الناس التي عاشته تذكره جيداً، فنحن جيل الأحلام العظيمة، والانكسارات العظيمة! وأنا شخصياً كبرت وتشكل وعيي على كلمات: الجيش، والخونة، والفساد، والأسلحة، والاستقلال، والجلاء، ومارس 54، وحل الأحزاب، واستقالة محمد نجيب ـ وعزله واعتقاله، وحادث المنشية، وتأميم القناة، وحرب 56، والقومية العربية، والوحدة مع سوريا، وحرب اليمن، وصوت أحمد سعيد، وعدم الانحياز، والتحرر الوطني ..و.. و.. و.. "إرفع رأسك يا أخي فلقد مضى عصر الاستعباد"! ثم جاءت الهزيمة، وحرب الاستنزاف، وموت عبد الناصر، ووصول السادات إلى الحكم، ومراكز القوى، والعبور، والانتصار، والثغرة، والمباحثات، و"نيكسون بابا"، و"كامپ ديڤيد"، وعصر الانفتاح... وما أدراك بعصر الانفتاح "يا عم أبو العلا".. وما حدث لنا فيه؟! وما حدث لنا منه..الدنيا فيه تغيرت..
•••
"الدنيا ما لها / وإلا احنا ما لنا
وإلا الزمان/ نسانا إيه چرى لنا
بقينا نحبس في الصدور سؤالنا
ونحسد الصادق على صدقه
ونقف بين العاشق وبين عشقه"
[ القاهرة ـ 1976 ]
بعدما عدت لمدينة "كفر الشيخ" عملت سنتين في "الادارة المحلية" ثم تركتها وسافرت للقاهرة التي التحقت فيها موظفاً في "رعاية الشباب بجامعة الأزهر" ثم حصلت عام 1974 على منحة تفرغ من "وزارة الثقافة" لكتابة رواية وكان راتبي 50 چنيهًا في الشهر، فقررت الاستقالة، لتشتد الحياة صعوبة خاصة مع تداعيات الانفتاح وتراكمت الديون عليّ من كل جانب، ثم جاءت لي فرصة للسفر إلى دولة خليجية، وتصورت أن السفر هو الانقاذ لحياتي المادية لكنني لم استطع تحمله سوى 7 شهور كانت كافية للتعرف على حياة المصريين هناك بحثاً عن لقمة العيش. إنها حالة اعتصار آدمية للإنسان المصرى، فعجزت عن التأقلم معها، وقررت العودة حتى لو تسولت في شوارع القاهرة. وبعد منتصف إحدى الليالي وعدت أصحاب العمل أننا سنلتقي في الصباح.. وفي الصباح كنت في بيتي بالجيزة!! بعد شهور التقيت بالمخرج فخر الدين صلاح، زميل الدراسة والزمن الجميل، ليتحول خط سير حياتي بعد هذه المقابلة تماماً.
•••
"ويرفرف العمر الجميل الحنون
ويفر ويفرفر في رفة قانون
وندور نلف ما بين حقيقة وظنون
وبين قسى هفهاف/ وهفة جنون"
[ الجيزة ـ 1976 ]
- "أخبارك ايه يا عم أسامة؟".
ـ زفت يا "فخر" !
ـ "طالما (زفت) لماذا لا تكتب دراما؟"
- هكتب إزاي يا عم "فخر"..أنا بكتب قصص أدبية. ونشرت أول مجموعة قصصية لي عام 67 بعنوان (خارج الدنيا) وحتى الآن المجموعة لم يهتم بها أحد. وهذا معناه انني وكتاباتي خارج الدنيا!
ـ "وعلشان كده بقولك أكتب دراما تليفزيونية، وهذ مجموعة سيناريوهات جئت لك بها لتقرأها ثم نتكلم".
أخذتها وقرأتها وبدأت كتابة أول أعمالي وكانت بعنوان (الإنسان والحقيقة) من إنتاج وإخراج فخر الدين صلاح الذي آمن بي وتحمس لي وساعدني، ولا أنسى فضله. ولعب بطولتها توفيق رشوان وعبدالله غيث وفردوس عبد الحميد وصلاح قابيل .. وتقاضيت عليه أجر 420 چنيه سددت منها ديوني واشتريت منها أول ثلاجة تدخل بيتي.. الثلاجة التي كان يوم دخولها حدثا تاريخياً للأسرة وللأسر المجاورة!
ـ هل تذكر هذه الأيام (يا عم أبو العلا)؟
ـ فاكرها يا أسامة.. وفاكر أيضاً ما بشروا به عن عصر الانفتاح عندما قالوا لنا : (الخير چاي).
ـ للأسف الذي جاء هو الشر.. بعدما تم العمل على تفكيك المجتمع المصرى، ودفن طموحه، وقتل أحلامه، بدخول ما سمي بالانفتاح، على يد سماسرة الأوطان المستغلين، ومصاصي الدماء الذين نهشوا جسد البلد. ونتيجة لهذه السياسات وقع المجتمع تحت حذاء الطبقة الرأسمالية المتوحشة التي اعتمدت على أسلحة ثلاثة هي : (الهبش، والسمسرة، والوساطة).. هذا الثلاثي الملعون ترك لنا حلفاً مقدساً بين البيروقراطية والفساد ليتسلق بواسطته أنصاف الموهوبين ليصبحوا حتى اليوم ـ وبعد اليوم ـ وفي كل يوم ـ هم كارثة مصر الحقيقية.. لأنهم يعوضون نقص موهبتهم بالتسلق الاجتماعي ليتصدروا كل المناصب ويحصلوا على كل المكاسب في شتى المجالات. والحقيقة أنا لا أعرف متى ستتعدل هذه الأوضاع المقلوبة في المجتمع بعدما تسببت في انهيار الطبقة الوسطى، وتوحش وتوغل الطبقة الرأسمالية البشعة، وسحق الطبقة الدنيا؟
ـ هل تعرف متى سيحدث ذلك يا حضرة المفتش أبو العلا؟ .... فى المشمش!
•••
ـ "في المشمش.. يا سي مشمش.. سؤال بنسجله
هيطرح وإلا مش.. عمال بنأجله
حلم العاشق وليف.. ولا يبقى في يوم ضعيف
وصيف بيجيب خريف.. والناس يستعجلوا"
[الجيزة ـ 2021]
ـ فى نهاية هذا اللقاء دعني قبل وداعك أقول لك إنك مازلت حتى اليوم متهماً بهجومك الشديد على الرئيس السادات وعصره لصالح الرئيس عبد الناصر وزمنه؟
ـ لحظة من فضلك يا ( أبو العلا).. قول لهم إذا سألوك : "على الرغم من إنني ناصري، بحكم النشأة والتكوين، فإنني لست من درويش الناصرية، ولقد تناولت مرحلة الهزيمة في أعمالي ولم أرحم عبد الناصر، ووجهت له اتهاماً صريحاً وقلت له: "أنت المسئول عن الهزيمة"!!
ـ والسادات هو صاحب الانتصار.. أليس كذلك؟
ـ لا أنكر إنه صاحب قرار "العبور".. ولكن صاحب الانتصار هم رجال القوات المسلحة والشعب المصري كله. وأنا كتبت وسجلت ما عشته، وشاهدته، وصدقته.. وفي النهاية لست مؤرخاً، ولكني استخدمت التاريخ كخلفية فقط لأحداثي.
•••
"منين بيچي الشجن.. من اختلاف الزمن
ومنين بيچي الهوى.. من ائتلاف الهوى
ومنين بيچي السواد.. من الطمع والعناد"
[المقابر ـ بعد مرور ساعة]
ـ الوداع يا أسامة!
ـ إلى أين ذاهب يا حضرة المفتش؟
ـ راجع.. لأني قلت لهم إني (چاي)! وأبو العلا البشري لما يقول (چاي).. يبقى (چاي)!
ـ هل مازلت تعمل مفتشاً للري في الدولة المصرية؟
ـ نعم.. فليس لي مهنة أُخرى، ولا أريد أن يكون لي غيرها مهنة .. مكاني هناك على ضفاف النهر، في تفتيش الري بمدينة ديروط التي عرفتك فيها أول مرة عام 1963.
- الوداع يا صديقي..
- قبل الوداع.. خذ معك (باقة الورد) التي جئت بها. خذ الورد يا (أبو العلا).. وازرعه على شط النيل.. فنحن (هنا) لسنا بحاجة إليها.. فربما تحتاجه أنت (هناك) في رحلتك الجديدة..
•••
... والرحلة مازالت مستمرة!!
حضر الزيارة:
خيري حسن
•••
•• الأحداث حقيقية... وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
•• يُنشر غداً الخميس فى صحيفة الوفد المصرية { العدد الإسبوعى } عدد 26 مايو 2021
•• الشعر الغنائى المصاحب تأليف: أحمد فؤاد نجم/ سيد حجاب/ عبد الرحمن الأبنودى
•• الصور:
أسامة أنور عكاشة
البورترية:
إهداء من الفنان محمد أبو طالب
•••
•• المصادر:
المجلات:
الأهرام الاقتصادى/ حواء/ الكواكب/ آخر ساعة/ نصف الدنيا.
الصحف:
الأهرام/ الأخبار/ الأهالى/ الأحرار/ الوفد/ الجمهورية.
"لما أبو العلا البشري يقول إنه چاي.. يبقى لازم ييچي"...وفى ذكرى رحيلك - التى توافق 28 مايو - جئت أزورك في قبرك، وأقف بين يديك وأقول لك: "إن الرحلة التي قدمناها عام 1986 ـ فى إطار إنساني كوميدي ـ كانت رحلة للبحث عن الإنسان والأخلاق في ذلك الزمان..بحثنا - وللأسف - مازال البحث جارياً ومستمراً. واليوم (يا عم أسامة) أقف أمام قبرك ـ الذي وصلت إليه بصعوبة ـ هنا في مقابر أسرتك بـ "مدينة 6 أكتوبر"، غرب القاهرة، والذكريات تطارد ذهني، وتهاجم عقلي، وتهد جسدي. الذكريات التي جمعتنا معاً أمام ضفاف نهر النيل في صعيد مصر قبل سنوات، عندما التقيت بك بالصدفة ـ حيث كنت أعمل مفتشاً للري ـ وشعرت وقتها بموهبتك، وثقافتك، وثقتك بذاتك، وحلمك بالجمال، والحرية، والعدل، وأملك الكبير لمصر والعرب والإنسانية بحياة حرة كريمة. ولا أنسى كلامك عن جمال عبد الناصر وحبك للمرحلة الناصرية، وأحلامها الكبيرة التي عشنا معها - وعشنا بها - وعشنا لها - في هذه الحقبة التاريخية، في ذلك الزمان البريء!
•••
ـ "ليه يا زمان ما سبتناش أبريه
ووخدنا ليه؟ في طريق ممنوش رجوع..
أقسى همومنا يفجر السخرية..
وأصفى ضحكة.. تتوه في بحر الدموع"
[محافظة أسيوط ـ 1963]
- الدموع.. يا عم "أبو العلا" التي كانت للفرح تحولت بعد سنوات إلى دموع للحزن في نهاية تلك المرحلة التي نتحدث عنها الآن، بعدما تحولنا من التقدم إلى الرجوع، ومن الشبع إلى الجوع! والآن تُعيد معي ذكريات أسيوط وناسها الطيبين وأيامي الجميلة التي عشتها هناك، في جنوب الصعيد، حيث القسوة والحرارة الشديدة، بين أحضان عالم إنساني شديد البساطة والجمال. لقد عشت في مدينة ديروط في بداية حياتي الوظيفية. حياتي التي بدأت عندما ولدت في مدينة طنطا، وهي بلد أمي. أمي التي ماتت وعمري 6 سنوات. فهل جربت فقد أمك وأنت طفل يا "أبو العلا"!
- لا...
- أنا جربت وتعذبت وتألمت ليالي طويلة. كنت أنام فيها وحدي، وأحزن فيها وحدي، وأبكي فيها وحدي، إلى أن قرر أبي الانتقال بنا إلى مدينة كفر الشيخ - (تبعد عن القاهرة 250كم) - لنعيش فيها. تركت في طنطا دموعي بجوار قبر أمي وحملت معي حزني الذي لم يفارقني طيلة حياتي، رغم محاولات شقيقتي الكبرى - التي عملت واجتهدت كثيراً على رعايتي، حتى استطاعت مساعدتي في الصمود أمام أحزاني!
- أنت ولدت في طنطا .. أليس كذلك؟
- نعم، في "محافظة الغربية"، عام 1941، وقضيت طفولتي في "محافظة كفر الشيخ"، ثم عشت مرحلة شبابي الحالم في منطقة"الحلمية"- الحلمية القديمة - بالقاهرة، أيام دراستي في "كلية الآداب جامعة عين شمس". ثم انتقلت إلى الإسكندرية بعد سنوات.. كل هذه المدن مررت بها وعشت فيها قبل أن أجد نفسي ذات صباح في قطار الصعيد جالساً بين ركابه مسافراً لاستلام عملي بمدرسة ديروط الثانوية للبنين مدرساً لمادة الفلسفة. وبعد عام من وصولي، شعرت انني (فاشل) لا اصلح في مهنة التدريس أصلاً، وتحملت هذه الفترة بصعوبة شديدة، إلى أن اتخذت قراري بترك التدريس والعودة إلى "كفر الشيخ" والبحث عن وظيفة جديدة. وواقع الأمر أنني لم أكن ابحث عن وظيفة، بل كنت أبحث عن الحلم الساكن بداخلي!
•••
" لو مش هـ تحلم معايا
مضطر أحلم بنفسي
لكني في الحلم حتى
عمري ما هحلم لنفسي"
[محافظة كفر الشيخ ـ 1964]
وبالفعل عدت إلى مدينتي الأولى التي عشت فيها طفولتي حيث الوحدة والدموع. وهذا جعلني أعيش في حالة عزلة شديدة، وانصب اهتمامي على القراءة، التي كانت، بلا شك، هي نقطة انطلاقي للحياة.. فالتوحد الذي عشته منذ الصغر لم يكن لي فيه صديق إلا الكتاب، واستطعت بسهولة أن أصل إلى مواطن الجمال في اللغة العربية، وكنت تلميذاً مجتهداً في "المدرسة الابتدائية". ولقد شعرت بأن اللغة العربية بالنسبة لي شيء مختلف وساعدني في ذلك مُدرسها الذي طالما قال لي : "ولد يا أسامة.. بكره سيكون لك شأن كبير".. ومن حسن حظي أن أبي ـ رغم عمله بالتجارة ـ كان شغوفاً بالقراءة، ولا أنسى اليوم الذي عاد فيه سعيداً ومبهوراً ومسحوراً عندما سمع نبأ استيلاء "الضباط الأحرار" على مقاليد الحكم ليلة 23 يوليو 1952. وكان عمري وقتها 11 عاماً. يومها قال: "وعرفنا الطريق.. ومسكنا السكة يا ولاد"!
•••
"دنياك سكك حافظ على مسلك
وامسك في نفسك / لا العلل تمسكك
وتقع فـ" خية" تملكك.. تهلكك
أهلك.. يا تهلك/ دانت بالناس تكون"
[القاهرة ـ يوليو ـ 1952]
ـ ومين ينسى هذا الزمن وهذا العصر.. الناس التي عاشته تذكره جيداً، فنحن جيل الأحلام العظيمة، والانكسارات العظيمة! وأنا شخصياً كبرت وتشكل وعيي على كلمات: الجيش، والخونة، والفساد، والأسلحة، والاستقلال، والجلاء، ومارس 54، وحل الأحزاب، واستقالة محمد نجيب ـ وعزله واعتقاله، وحادث المنشية، وتأميم القناة، وحرب 56، والقومية العربية، والوحدة مع سوريا، وحرب اليمن، وصوت أحمد سعيد، وعدم الانحياز، والتحرر الوطني ..و.. و.. و.. "إرفع رأسك يا أخي فلقد مضى عصر الاستعباد"! ثم جاءت الهزيمة، وحرب الاستنزاف، وموت عبد الناصر، ووصول السادات إلى الحكم، ومراكز القوى، والعبور، والانتصار، والثغرة، والمباحثات، و"نيكسون بابا"، و"كامپ ديڤيد"، وعصر الانفتاح... وما أدراك بعصر الانفتاح "يا عم أبو العلا".. وما حدث لنا فيه؟! وما حدث لنا منه..الدنيا فيه تغيرت..
•••
"الدنيا ما لها / وإلا احنا ما لنا
وإلا الزمان/ نسانا إيه چرى لنا
بقينا نحبس في الصدور سؤالنا
ونحسد الصادق على صدقه
ونقف بين العاشق وبين عشقه"
[ القاهرة ـ 1976 ]
بعدما عدت لمدينة "كفر الشيخ" عملت سنتين في "الادارة المحلية" ثم تركتها وسافرت للقاهرة التي التحقت فيها موظفاً في "رعاية الشباب بجامعة الأزهر" ثم حصلت عام 1974 على منحة تفرغ من "وزارة الثقافة" لكتابة رواية وكان راتبي 50 چنيهًا في الشهر، فقررت الاستقالة، لتشتد الحياة صعوبة خاصة مع تداعيات الانفتاح وتراكمت الديون عليّ من كل جانب، ثم جاءت لي فرصة للسفر إلى دولة خليجية، وتصورت أن السفر هو الانقاذ لحياتي المادية لكنني لم استطع تحمله سوى 7 شهور كانت كافية للتعرف على حياة المصريين هناك بحثاً عن لقمة العيش. إنها حالة اعتصار آدمية للإنسان المصرى، فعجزت عن التأقلم معها، وقررت العودة حتى لو تسولت في شوارع القاهرة. وبعد منتصف إحدى الليالي وعدت أصحاب العمل أننا سنلتقي في الصباح.. وفي الصباح كنت في بيتي بالجيزة!! بعد شهور التقيت بالمخرج فخر الدين صلاح، زميل الدراسة والزمن الجميل، ليتحول خط سير حياتي بعد هذه المقابلة تماماً.
•••
"ويرفرف العمر الجميل الحنون
ويفر ويفرفر في رفة قانون
وندور نلف ما بين حقيقة وظنون
وبين قسى هفهاف/ وهفة جنون"
[ الجيزة ـ 1976 ]
- "أخبارك ايه يا عم أسامة؟".
ـ زفت يا "فخر" !
ـ "طالما (زفت) لماذا لا تكتب دراما؟"
- هكتب إزاي يا عم "فخر"..أنا بكتب قصص أدبية. ونشرت أول مجموعة قصصية لي عام 67 بعنوان (خارج الدنيا) وحتى الآن المجموعة لم يهتم بها أحد. وهذا معناه انني وكتاباتي خارج الدنيا!
ـ "وعلشان كده بقولك أكتب دراما تليفزيونية، وهذ مجموعة سيناريوهات جئت لك بها لتقرأها ثم نتكلم".
أخذتها وقرأتها وبدأت كتابة أول أعمالي وكانت بعنوان (الإنسان والحقيقة) من إنتاج وإخراج فخر الدين صلاح الذي آمن بي وتحمس لي وساعدني، ولا أنسى فضله. ولعب بطولتها توفيق رشوان وعبدالله غيث وفردوس عبد الحميد وصلاح قابيل .. وتقاضيت عليه أجر 420 چنيه سددت منها ديوني واشتريت منها أول ثلاجة تدخل بيتي.. الثلاجة التي كان يوم دخولها حدثا تاريخياً للأسرة وللأسر المجاورة!
ـ هل تذكر هذه الأيام (يا عم أبو العلا)؟
ـ فاكرها يا أسامة.. وفاكر أيضاً ما بشروا به عن عصر الانفتاح عندما قالوا لنا : (الخير چاي).
ـ للأسف الذي جاء هو الشر.. بعدما تم العمل على تفكيك المجتمع المصرى، ودفن طموحه، وقتل أحلامه، بدخول ما سمي بالانفتاح، على يد سماسرة الأوطان المستغلين، ومصاصي الدماء الذين نهشوا جسد البلد. ونتيجة لهذه السياسات وقع المجتمع تحت حذاء الطبقة الرأسمالية المتوحشة التي اعتمدت على أسلحة ثلاثة هي : (الهبش، والسمسرة، والوساطة).. هذا الثلاثي الملعون ترك لنا حلفاً مقدساً بين البيروقراطية والفساد ليتسلق بواسطته أنصاف الموهوبين ليصبحوا حتى اليوم ـ وبعد اليوم ـ وفي كل يوم ـ هم كارثة مصر الحقيقية.. لأنهم يعوضون نقص موهبتهم بالتسلق الاجتماعي ليتصدروا كل المناصب ويحصلوا على كل المكاسب في شتى المجالات. والحقيقة أنا لا أعرف متى ستتعدل هذه الأوضاع المقلوبة في المجتمع بعدما تسببت في انهيار الطبقة الوسطى، وتوحش وتوغل الطبقة الرأسمالية البشعة، وسحق الطبقة الدنيا؟
ـ هل تعرف متى سيحدث ذلك يا حضرة المفتش أبو العلا؟ .... فى المشمش!
•••
ـ "في المشمش.. يا سي مشمش.. سؤال بنسجله
هيطرح وإلا مش.. عمال بنأجله
حلم العاشق وليف.. ولا يبقى في يوم ضعيف
وصيف بيجيب خريف.. والناس يستعجلوا"
[الجيزة ـ 2021]
ـ فى نهاية هذا اللقاء دعني قبل وداعك أقول لك إنك مازلت حتى اليوم متهماً بهجومك الشديد على الرئيس السادات وعصره لصالح الرئيس عبد الناصر وزمنه؟
ـ لحظة من فضلك يا ( أبو العلا).. قول لهم إذا سألوك : "على الرغم من إنني ناصري، بحكم النشأة والتكوين، فإنني لست من درويش الناصرية، ولقد تناولت مرحلة الهزيمة في أعمالي ولم أرحم عبد الناصر، ووجهت له اتهاماً صريحاً وقلت له: "أنت المسئول عن الهزيمة"!!
ـ والسادات هو صاحب الانتصار.. أليس كذلك؟
ـ لا أنكر إنه صاحب قرار "العبور".. ولكن صاحب الانتصار هم رجال القوات المسلحة والشعب المصري كله. وأنا كتبت وسجلت ما عشته، وشاهدته، وصدقته.. وفي النهاية لست مؤرخاً، ولكني استخدمت التاريخ كخلفية فقط لأحداثي.
•••
"منين بيچي الشجن.. من اختلاف الزمن
ومنين بيچي الهوى.. من ائتلاف الهوى
ومنين بيچي السواد.. من الطمع والعناد"
[المقابر ـ بعد مرور ساعة]
ـ الوداع يا أسامة!
ـ إلى أين ذاهب يا حضرة المفتش؟
ـ راجع.. لأني قلت لهم إني (چاي)! وأبو العلا البشري لما يقول (چاي).. يبقى (چاي)!
ـ هل مازلت تعمل مفتشاً للري في الدولة المصرية؟
ـ نعم.. فليس لي مهنة أُخرى، ولا أريد أن يكون لي غيرها مهنة .. مكاني هناك على ضفاف النهر، في تفتيش الري بمدينة ديروط التي عرفتك فيها أول مرة عام 1963.
- الوداع يا صديقي..
- قبل الوداع.. خذ معك (باقة الورد) التي جئت بها. خذ الورد يا (أبو العلا).. وازرعه على شط النيل.. فنحن (هنا) لسنا بحاجة إليها.. فربما تحتاجه أنت (هناك) في رحلتك الجديدة..
•••
... والرحلة مازالت مستمرة!!
حضر الزيارة:
خيري حسن
•••
•• الأحداث حقيقية... وسيناريو المقال من خيال الكاتب.
•• يُنشر غداً الخميس فى صحيفة الوفد المصرية { العدد الإسبوعى } عدد 26 مايو 2021
•• الشعر الغنائى المصاحب تأليف: أحمد فؤاد نجم/ سيد حجاب/ عبد الرحمن الأبنودى
•• الصور:
أسامة أنور عكاشة
البورترية:
إهداء من الفنان محمد أبو طالب
•••
•• المصادر:
المجلات:
الأهرام الاقتصادى/ حواء/ الكواكب/ آخر ساعة/ نصف الدنيا.
الصحف:
الأهرام/ الأخبار/ الأهالى/ الأحرار/ الوفد/ الجمهورية.